سبلة العرب
سبلة عُمان الصحيفة الإلكترونية الأسئلة الشائعة التقويم البحث مواضيع اليوم جعل المنتديات كمقروءة

العودة   سبلة العرب > سبلة الثقافة والفكر

ملاحظات

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع تقييم الموضوع
  #1  
قديم 10/03/2004, 03:46 AM
رياض سالم عمر رياض سالم عمر غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 26/06/2000
المشاركات: 243
صنعاء ...***** جميل!!(قصّة غير قصيرة)(2)

قبل القراءة
كانت هذه القصّة أوّل تجربة لي , ولمّا كنت أعلم بالمجاملات التي ترقص في منتدياتنا , أنزلتها تحت اسم (الفتى الكندي) , إذ أنتسب إلى هذه القبيلة , لأستفيد من آراء الإخوة .
وقد توقّفت عن الكتابة بهذا الاسم بعد إحساسي أنّني أعيش شيئاً من (الانفصام) . وقد حسبت أنّ سطور وكوابيس صنعاء قد انتهت , لكنّ صنعاء لا تني ترسل سطورها وكوابيسها , وقد شعرت بالقلم يأبى إلا اهتزازاً , وشفاء قلمي أن أزور به ربيع الصّفحات , وقد فعلت , راجياً من كل قارىء أن يفيدني بملاحظاته , وسأكون شاكراً من أعماق الفؤاد.
أمّا (صنعاء) فمعشوقتي التي همت بها , رغم أنّني لست ممّن نشأ فيها , ولم تكن قبلاتي لصنعاء إلا زيارة من عام لآخر , ولكنّها قبلات نُحتت في القلب , وزاد حب صنعاء فوق الحب الأوّل أنّ من أهدي إليها هذه السّطور , هناك ....في قلبي الكبير....فإلى (زوجتي) أم الحسنين أهدي إليها ما تملكه هي من قبل ومن بعد , وما إهدائي لها سوى ماء حياة أحيا به في بيداء (البعد).

رياض
ديربورن-متشجن.
  مادة إعلانية
  #2  
قديم 10/03/2004, 03:47 AM
رياض سالم عمر رياض سالم عمر غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 26/06/2000
المشاركات: 243
((عزيزيّ
ليس الذنب بذنب صنعاء , مأساتكما أنّكما خرجتما من قرية واحدة إلى عالم يجمع المئات من القرى , المئات من الألوان المختلفة بل المتناقضة. كنتما تتمتّعان بعالم صغير لا تحمل أيّامه جديداً , يهنأ بانسجام تام حدّ الرتابة التي لا يشعر بها أحد هنا لأنّهم لم يروا غيرها.
وفجأةً وجدتما نفسيكما في مصب كبير , تتلاقى فيه أنهار عدّة , كلٌ منها يحمل لونه وماءه الخاص به!!
لم تستطع روح القرية الصّمود أمام هذا السّيل الجارف , فلم تستطع فعل شيء سوى (النّـفور) و(الهجاء)!!
........
تذكّرا أنّ هذا المصب الكبير , تصب فيه آمالنا جميعاً , وتتلاقى فيه أحلام هذا الوطن الجميل.
تذكّرا أنّه الجسد الذي رجع إليه (عضوه) الذي فصم عنه يوماً ما!!
وافخرا به .....
افخرا به ...كفخرنا نحن وجميع النّبلاء بهذا القلب الكبير
..........تحيّاتي.))
كانت هذه بعض رسالة أستاذنا جواباً على رسالتنا تلك.
غير أنّ رسالته لم تعمل فينا شيئاً سوى السّخط على أستاذنا , واتّهامه بأنّه من المتآمرين مع صنعاء أو عليها....حقّاً لم ندرِ ساعتها!!
كانت مشاعرنا كأتون مضطرم تلتهم ناره كل محاولة تريد إقناعنا أنّ ثمّة (أماكن باردة)!!
كانت النّار تشتعل بداخلنا ولا نرى العالم إلا من وراء وهج جعل كلّ شيء يتماوج في عيوننا , فلم نرَ شيئاً على طبيعته!!
وعندما نأوي إلى البيت الطّيني(عرفنا قيمة الطّين هنالك)الصّغير في الصّافية الجنوبيّة , كنّا ننشر قائمة الهجاء طويلة...
ونتذمّر على كل شيء!!
ولو أنّ حجم المنازل كان حسب حجم (الكلام) المتفرقع بداخلها , إذن لما وسعتنا الأرض بأكملها , ولكنّا بحاجة إلى أن نستعير (كوكباً) آخر إلى أجل مسمّى!!
لكنّ البيت كان صغيراً جدّاً , وقد كان صدمةً لنا , وعندما رأى نبيل المطبخ قال :
-إنّنا لن نستطيع الطّباخة إلا (بالريموت كنترول) أو الطّباخة عن بعد!!
إذ أنّ حجم المطبخ لا يسمح بجمعنا والطّعام في مكان واحد!!
**********
وفي الكلّية كانت صدمتنا أكبر من صدمتنا (بالمطبخ)!!
فبعد أن تمّ التعارف بيننا وبين بعض الطّلبة , سألَنا أحدُهم:
-لأيّ (حزب) تنتمون؟!
تبادلت ونبيل النظر بغرابة برعنا فيها.
-نحن من اليمن!!. أجاب نبيل.
-أعلم ذلك , لكن لأي (حزب) تنتمون؟!
حينها تيقّنّا أنّ (يمنيّتنا) لا تكفي للانتماء إلى (الوطن) , وأنّ علينا أن نبحث عن (صلة) أخرى (ننتمي) بها إلى (وطننا)!!!
ومشينا مردّدين أبيات البردّوني:
يمانيّون في المنفى**** ومنفيّون في اليمن!!
ودعونا له ساعتها كما تدعو العجائز عندنا!!
وفي الجامعة رأينا أنّ الطّلبة لا يكتفون بأنسابهم , بل يلحقون بها أنساباً أخرى , بدت (أكثر) أهميّة من الأنساب نفسها ؛ بل هي التي تصنع (وجود) الطّالب أو (عدمه)!!
فهذا فلان بن فلان (المؤتمري) وذاك (الاشتراكي) أو (الإصلاحي) أو (البعثي) إلى غيرها من أسماء (القبائل) التي لم نسمع بها من قبل!!
وتبرّع صديقنا , الذي سبقنا إلى هنا , بإفهامنا أنّها أسماء (أحزاب) وليست (قبائل) , وبعد ان أطنب في الشّرح اتّضح لنا أنّها لا تختلف عن (القبائل) , والفرق أنّها فقدت أخلاق القبيلة المقدّسة جيلاً بعد جيل!!
ولمّا أخبرناه بـ(المعنى) الذي اكتشفناه بكل فخر , ضحك ساخراً وقال:
-هكذا( تمشي) الدنيا هنا!!
لكنّنا قلنا له أنّه من العار أن ينتمي (القبيلي) إلى قبيلتين في آن واحد!!
وعبثاً حاول الشّرح , وعبثاً حاولنا إقناعه , وذكرنا له حديث النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم , والذي نحفظه جيّداً لتعلّقه بالأنساب:
((من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه , فالجنّة عليه حرامٌ))
وقبل أن يفارقنا حذّرنا بجدّيّة مخيفة , من أن نذكر شيئاً من كلامنا هذا , أمام الطّلبة , وقال:
-ستخرجون: شيوعيّين , رجعيّين , كافرين , خائنين .....الخ أوصاف كثيرة لم نستطع حفظها لكثرتها , لكنّنا أخذنا تحذيره مأخذ الجد , إذ أدركنا مأساة أن يجتمع الجميع (على شتمك)!!
آوينا إلى أسرّتنا , حاملين همّ إيجاد (رابطة) نرتبط بها إلى هذا الوطن , إذ اتّضح لنا أنّ ما ولدنا به ليس (كافياً)!!.
لكن لم تكن هذه كل الهموم , فعند النّوم يزورك كلّ شيء , كلّ شيء....ولا أدري لماذا؟ ألأنّ النوم فضاء حر , ولذلك تتحرّر أحلامنا من كل القيود التي تثقل كواهل أذهاننا الكليلة!!
وضعت رأسي على الوسادة محاولاً استجداء النّوم...لكن هيهات!!
  #3  
قديم 10/03/2004, 03:52 AM
رياض سالم عمر رياض سالم عمر غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 26/06/2000
المشاركات: 243
ثمّة ركن في القلب أحرص على بقائه مظلماً. بركان أجهد في إبقائه خامداً. لسنا بحاجة إلى النّور على الدّوام . ثمّة أحوال يجب أن (نستأنس) فيها بالظّلام , كجريح لا يريد للنّور أن يفضح جرحه.
الرؤية تزيد الشعور ألماً!!
لم يكن جرحاً أحاول تطبيبه , أو الصّبر عليه حتّى يبرأ , لا....لم يكن كذلك....آه ...بل ليته كان كذلك...إذن لاسترحت.
آه...يا نبيل....كنتُ أنصحك وبداخلي (صرخة) أداريها....أكتمها , أتزعزع لها من الدّاخل....أشعر بكلّ شيء يتصدّع , ويأبى كبريائي وعنادي أن أظهر ذلك , ولو بكآبة تمرّ على وجهي!!
((الحب لا يغزو سوى قلوب النّساء , لأنّهن فارغات عقول وقلوب))
أوّاه...ياعم أحمد...ليتك تعلم ....أي ملء فينا نفخر به على فراغهن!!
هاأنا ذا ألوك الكلمات ولا أقدر لها مضغاً!!
آه...لا....لم أحفل بتلك الكائنات التي رأيتها في الجامعة.
الكأس مترع....مترعٌ حدّ النّضح ؛ والقلب لا يتّسع إلا لدم واحد....واحد لا غير!!
ماالذي أحيا هذا الوخز من اجداث النّسيان؟!
ماالذي أتى بهذا البصيص من أقاصي المجهول؟!
مساكين نحن . نحسب أنّنا في حصانة من أشياء كثيرة ؛ وسرعان ما نكتشف أنّنا لسنا سوى فريسة لأوهام كاذبة!!
وعند أن دسستُ يدي , لأتحسّس ذاك الذي حسبته توارى , تحت (رماد) النّسيان , وجدته ما يزال (جمراً) ينبض بالحياة!!
تذكرّت جلستي مع أبي ذات يوم , وقد أتيته بغدائه , والقلب يومئذ يتصدّع....والحبُّ أصبح مرضاً...يااااه.....ما أجمل هذا المرض (اللعين)...ومن وراء مشكلة (نبيل) كنت أبحث عن (حل) لمصيبتي.
وخاطبت أبي يومها:
-أبي . ألا تستطيع إقناع العمّ أحمد بشأن نبيل؟
-آه...ذاك الفتى المحب , أما يزال غريقاً؟
-إنّه يحبّها يا أبي...ومالعيب في أن....
لكنّه قاطعني قائلاً:
-اسمع ياولدي....دعني أسألك شيئاً , فأنتم جيل لا نفهمه . هل سمعت بفلاّح يعشق (أرضاً) بمجرّد أن رآها؟!
-لكن ياأبي.....
-إصغِ إليّ...هل سمعت بفلاّح رأى أرضاً (فهام) بها حبّاً؟ أنا لا أعرف هذا الخبل , نحن لا نعشق سوى الأرض التي نعرفها وتعرفنا , هذه الأرض ترابها يجري في دمي , وآثاري محفورة على كل شبر منها.
لكنّكم , ياولدي , مثل ذاك المخبول الذي رأى أرضاً فعشقها قبل أن يلمسها وتلمسه , وذهب ليشتريها وفي عقله صورة عنها كصورة عن جنّة , وما إن ذهب(المخبول) ليزرعها , وجدها (صلباً) , أرضاً بوراً....لا نبت ولاتراب!!
لقد ألجمني , وخاصّة بتكراره كلمة (المخبول) , فزعت أن أفقد عقلي ؛ فلذت بالصّمت.
أمّا هو فواصل الكلام:
-اسمع....الحب لا ينشأ إلاّ بعد الزواج...ولذلك يدوم ....انظر إلينا ..نحن (حبّنا) صناعة (يابانيّة) أمّا أنتم (فتايوان) ما إن يبني أحدكم على مرْأة حتّى تسقطوا بأسرع من صعودكم....تبّاً لكم!!
ثمّ ابتسم وأمسك بكتفي وقال:
-لكن قل لي : هل الأمر بخصوص نبيل , أم أنّ هناك (مخبول) آخر يتوارى خلف نبيل؟!!
أصابني الارتباك , ويومها دستُ على قلبي , انتصاراً لعناد مجنون , وحاولت رسم الابتسامة , ولم ادرِ إلا بجوابي يفضحني:
-لا...لا يا أبي . اطمئنّ لستُ من هؤلاء (المخابيل)!!
وانفجر , ساعتها , ضاحكاً وردّد الوادي ضحكاته المجلجلة ؛ ورجع إليّ الصّدى بحزني الذي يصرخ بداخلي!!
حسبتُ الأمر وهماً , وساعدني الشك الذي أواجه به كل شيء في حياتنا , ولم يشفع شعوري بأنّ ذاك (القلب) يكنّ لي نفس ما أكنّ له , وأمسكت بالمعول أهدم كل محاولة للإقناع ....ولمَ لا؟....إنّنا نرى في الأحلام عوالم ونشعر بها كحقيقة وسرعان ما تتلاشى عند أن يرحل الكرى من جفون حالمة , ونعود إلى الحقيقة , وكأنّ شيئاً
لم يحدث ألبتّة!!
ومافائدة العيش في وهم ؟ ونحن أحياناً نكتشف ألاّ فائدة من بعض (الحقيقة) . وهل (الحبُّ) , في الحالة هذه , سوى (وهم) كبير , يشيّده (ضعفنا) للهروب إليه من واقع أقوى منّا , ومن قدراتنا.
ألا يعدو (الحب) , حينها , شيئاً سوى مخدّر نلجأ إليه؟
أو شيئاً كعادة (الحك) لدى الجريح , يحكُّ (جرحه) ويجد لذلك لذّة غريبة ممتعة!!!
آه...لكنّي الآن أبحث عن رشفة سهاد , أروي بها روحاً منهكة....وهذا الليل يتطاول.....(تطاول حتى قلت ليس بمنقضٍ)....ولابد لي من النّوم...نعم...ليس لي من (همٍ) سواه....وليؤجّل كل شيء إلى أوقات أخر...وهل أوقاتنا لشيء سوى (همومنا)....إذن فليأتِ النوم....لكنّ أنّى له بالمجيء إلى رأس تشتعل ناراً؟
لكنّي سأحاول....وليذهب كل شيء إلى الجحيم....نعم إلى الحجيم.
  #4  
قديم 10/03/2004, 03:53 AM
رياض سالم عمر رياض سالم عمر غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 26/06/2000
المشاركات: 243
******
حارتنا. تلك البقعة التي لا تنسى. حيث الطّين يجاور الحجارة , والماضي ماتزال أنفاسه تجوب المكان . وبرغم غربتنا عن المكان , كانت الألفة وجه النّاس هناك . الحاج عبدالكريم , جارنا الطيّب , والشّيخ العزّي , إمام المسجد , وجمال ولد الحاج عبدالكريم , المثقّف الواعي , وبائعة الشّفوت , والعم سيف , صاحب البقالة , وغيرهم من وجوه مازالت ترتع في الذاكرة , فتثير فيها الشّجن .
كان الحاج عبدالكريم رجلاً يحثّ الخطى إلى نهاية عقده السّادس , قصيراً بديناً , ووجهه الأبيض ينضح بالبشر دوماً , له شارب خفيف يتّصل بذقن (سعودي) كما كان يحلو له تسميته , وكان يخبرنا أنّه أبقاه ليذكّره بغنيمته من غربته في السّعوديّة :
-أنظر إلى المرآة ياأولادي , فأقول : هذا ما جنيته من غربتي (سكسوكة) !!
لكنّ الحقّ أنّ الحاج , وهذا لقبه المفضّل , لم تقتصر غنيمته على تلك (السكسوكة) , بل إنّ لديه بيتين كبيرين في الأصبحي , يدرّان عليه دخلاً شهريّاً , زيادة على بيته الحجري الفخم في الحارة.
ولدى الحاج ولد كبير , يعمل مدرّساً خارج العاصمة , كان يحدّثنا عنه الحاج قائلاً:
-مجنون . قلت له أنّه لا يحتاج إلى مثل هذا العمل , لكنّه أصر.
وكان الحاج كريماً حدّ السّرف , وكلّما سنحت له فرصة في دعوتنا إلى الغداء أو العشاء , فعل بإصرار عجيب . وكانت فرصتنا عادة هي يوم الجمعة , وفي غيرها كنّا نفاجأ به أحياناً حاملاً إلينا الطّعام هو وأحد أبنائه الصّغار , ولقد احتلّ بخلقه هذا مكانة رائعة في قلوب
أهل الحارة جميعاً.
غير أنّ هناك شيء واحد , أثار استغرابنا في الحاج . إذ كان صوته يعلو , في بعض الليالي , إلى حدّ الصّراخ , بسلسلة من (الشّتائم) ينزلها على زوجته وبناته , في تسلسل فريد (بل وفنّي) , وقد كانت مفاجأتنا بذلك كبيرة ومأساويّة , كانت مفاجأة لم نستطع استيعابها , تماماً كالمفاجأة التي تصعقك إذا علمت –مثلاً- أنّ الرئيس يتحدّث (الفصحى)!!
لقد حسبنا في أوّل ليلة , أنّ مكانة الحاج في الحارة , ستهبط إلى الحضيض , لكنّنا صعقنا (أي نعم :صعقنا) عندما رأينا النّاس يحيّون الحاج , بنفس التبجيل والاحترام المعهودين!!
لذلك رجّحنا أنّنا كنّا (نحلم) , وتذكّرنا مثلنا المشهور:
(بين إخوتي مخطي(مخطىء) ولا وحدي مصيب)!!
ولم نجزم أنّ الأمر ليس حلماً , إلاّ بعد أن تكرّر , كنشرة الأخبار , أكثر من ليلة , حتّى أنّنا حفظنا(سلسلة) الشّتائم كلها!!
واحتمينا بها ضد (خبثاء) الصّناعنة , في الجامعة , وحينها(حينها فقط) جزمنا أنّ الأمر حقيقة وليس حلماً.
إذ أنّى لنا أن نحفظ أي شيء , رأيناه أو سمعناه في المنام؟
وكيف يتكرّر الحلم معنا الاثنين , أكثر من مرّة , وبنفس الدقّة التي (حفرت) سلسلة الشتائم في أذهاننا؟
بمثل هذه (الحقائق) , وحقائق غيرها , نفينا أن يكون الأمر حلماً . وقد استعنّا , زيادة في الطّمأنينة , بكتاب علمي عن الأحلام
قرأناه في الكلّيّة.
بعدها تغيّرت نظرتنا إلى الحاج , وبدأنا نتنصّل من دعواته إيّانا لتناول الطّعام (وكانت هذه خسارة كبيرة) , واستمرّ موقفنا هذا حتّى أتى ابنه الكبير لزيارته , وعرّفنا الحاج به في المسجد , ودعانا إلى الغداء بمناسبة قدوم ولده , ولم نرَ بدّاً من الاستجابة (مع المحافظة على مبدأنا). وقد كان ولده في الثّلاثين , حصل على بكالوريوس لغة عربيّة , وكان عالي الثّقافة بشكل يثير الإعجاب.
وقد دعونا جمالاً , وهذا اسمه , لزيارتنا , فأتى وتكرّرت زياراته .
وقد كانت جلساته متعة ثقافيّة عالية , فتح لنا فيها الباب واسعاً , إلى عالم رحب جميل (عالم الأدب) . إذ بالرّغم من التحاقنا بكلّيّة الآداب , لكنّنا استفدنا منه فوائد لا يمكننا الحصول عليها هنالك.
وبمساعدته ولجنا إلى عالم القراءة الجادّة , وكان يشير علينا بأسماء كتب ستنمّي فينا ثقافة قويّة.
وعلّمنا كيفيّة التعامل مع الكتب , كيف نحمل , عند قراءة أي كتاب , مشاعر الرفض والقبول , الإعجاب والنّفور , وأن نقرأ بأكثر من عين , وأكثر من عقل , نمسك الكتاب (كقضاة) لا كأوعية تتلقّى ما يصبّ فيها.
لكنّه طالما كرّر علينا هذه الجملة:
-إنّ أروع الكتب , وأكثرها ثراءاً وفائدة , هي تلك الّتي تحيا وتمشي وتخاطب وتصمت وتنهض وتنام : إنّهم (النّاس) !!
فلا تسمحوا للأوراق بأخذكم بعيداً , عن الذين تحيون معهم!!
أي ندرة من النّاس كان ذاك الرجل؟!!
لكنّنا , والحق يقال , كنّامانزال مشغولين بإيجاد تفسير , لتصرّف الحاج.
ولمّا لمسنا من جمال أنساً , فاتحناه في الموضوع , فابتسم وقال:
-نعم.لكم الحق في أن تعجبوا . إنّ أبي لايقصد شيئاً ممّا سمعتموه , وأحسبكم لاحظتم أنّه طيّب العشرة مع كل النّاس....
-نعم . وهو ما أذهلنا في الأمر...
-نعم.نعم. إنّني أشعر أنّ أبي أحياناً , يحمّل نفسه فوق طاقتها , أي أنّه يجعلها فوق طبيعتها , لذلك فما إن يغضب في البيت , بل وأحياناً بدون غضب , حتى يخرج ما في نفسه المحبوسة بمجاملاته , وتكلّفه الطيبة بشكل مبالغ فيه . وهو لا يعمل شيئاً غير الشّتم....وكأنّه يريح شيئاً ما في نفسه بهذا التصرّف . لذلك فهمت أمّي طبعه ؛ فكانت أذكى من الحكومة في هذا الجانب , فتتركه يشتم حتى يسكت من تلقاء نفسه , لأنّها تعلم أنّه لن يتجاوز شتمه , إلى أي شيء آخر , إذن فليشتم...فليرح نفسه المجهدة!!
كان تفسيراً مقنعاً . وأقوى جوانب الإقناع فيه أنّه أعاد لنا مكانة الحاج في نفوسنا , ومع مكانته عادت أشياء كثيرة كنّا نتعذّب بالحرمان منها!!
لكنّ جمال أعرب , يومها , عن قلقه على والده . إذ قال : أنّه لاحظ في الفترة الأخيرة , أنّ أباه بدأ (ينسى) فقرات مهمّة من السلسلة , وأنّ هذا ليس بعلامة جيّدة!!
والحق أنّنا عجبنا لذلك , لأنّنا لم نلحظ هذا التغيير , ولكنّ جمالاً أكّد لنا ذلك , لذلك أرجعنا عدم انتباهنا بأنّنا كنّا , بمجرّد سماع الجملة الأولى من شتائم الحاج , كنّا نكمل الباقي , الذي نحفظه جيّداً , بطريقة لا شعوريّة , معتقدين أنّه لم يحدث أي تغيير , مع أنّنا لم نكن نسمع صوت الحاج , بل أصواتنا نحن , وضربنا مثلاً : بالنّشيد الوطني , وكيف أنّنا كنّا عند سماعه , لا نركّز حقيقة على كلّ جملة فيه , وقد يستطيع أي إنسان البداية بأوّل فقرة من النّشيد , ليشد انتباهنا , ثمّ يبدأ بشتمنا مثلاً , دون أن ننتبه نحن إلى ذلك , بل إنّه قد يشتمنا ونحن نردّد( ردّدي أيّتها الدّنيا نشيـدي)!!!
  #5  
قديم 16/03/2004, 03:49 AM
رياض سالم عمر رياض سالم عمر غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 26/06/2000
المشاركات: 243
********
الشيخ العزّي , إمام المسجد , وجه منحوت في الذاكرة , لايمكن لريح النسيان , أن تعصف بأوراق تلك الشّجرة الوارفة.
كان الشّيخ في بداية عقده الثّامن , وكان ربعة نحيلاً , ذا لحية بيضاء تعطي وجهه مهابة وألفة عجيبة. وحركته النّشيطة , وذاكرته الفذّة , تطوي عنك الكثير من السّنين من عمره المديد , وقد وجد الشيخ على سطح الأرض قبل وجود مسجده . وكان إلى جانب قيامه بالإمامة والخطابة , يقوم بدور ملحّ في الحارة ؛ فهو ساعي إصلاح متى ماحدثت قطيعة بين زوجين , أو مشكلة بين أخوين أو جارين , وغير ذلك من (ملح الحياة) كما يحلو للنّاس تسمية هذا النّوع
من النّشاط الإنساني .
وقد خيّل إليّ أنّ هذه المشاكل , كانت حقّاً جزءاً من الحياة هناك , وأنّها كانت طوق نجاة من الغرق في رتابة الحياة المملّة ؛ فكان لا بدّ من حدوثها , لا لأنّ النّاس قد فسدت علاقاتهم , ولكن لأنّها (ركدت)!!
وكانت هذه الهزّات , شيئاً أشبه بتحريك السكّر السّاكن , في قاع
كوب الليمون.
نعم . كان لا بدّ من وجودها ؛ لتتجدّد علاقات النّاس , إذ أنّ المصالحة تتبعها فترة , تغدو المشاعر فيها جيّاشة , وصلة النّاس ببعضهم , تموج بالحياة . وكانت ضرورة ؛ حتّى لا ينسى النّاس (أدبيّات) الخصومة والصّلح , ولكي لا ينسى الشّيخ العزّي قواعد وأصول
صناعة هذا (الصّلح)!!
وتخيّل الوضع دون مشاكل , ينسى فيها النّاس (طعم) الاختلاف , وينسى الشّيخ طعم لمّ الشّمل وكيفيّته , كيف ستكون الحياة حينئذ؟
لابدّ أنّها ستغدو ميّتة , لا تساوي ممارستها.
تخيّل أن تصبح فتجد نفسك تقول: صباح الخير ؛ فيُردّ عليك : صباح النّور , ويتكرّر هذا الأمر , آلاف المرّات حتّى يتسلّل الشّعور بأنّه لاحاجة لهذا أيضاً , فنتخلّى عنه , حتّى يُصاب النّاس بـ(الصّمت) المطبق ؛ فلا يميّزون بين (المقبرة) و (الحارة) !!
إنّه وضع مأساوي , نحمد الله أنّ النّاس فهموا خطورته ؛ فحافظوا
على مشاكلهم .
إذن كان لابدّ من المشاكل , لأنّ الشّيخ والآخرين , كانوا
ببساطة (أناساً).
وقد كانت الحارة , والحق يقال , لا تخيّب ظنّ الشّيخ العزّي قط , وتبقي عليه , وهو الذي يحتاج إلى نوع من الحركة في ذاك السّنّ , تبقي عليه مشغولاً بشكل دائم , وقد كان مسموع الكلمة لدى أهل الحارة جميعاً , ومع ذلك كانوا يتلكّأون في قبول الصّلح , وأحسبهم كانوا مشفقين على الشّيخ , أن يذهب استعداده للإصلاح سدى , بموافقتهم الفوريّة عند أوّل كلمة منه , وهو ما زال في فورة نشاطه , لذلك كانوا يحسنون صنعاً بهذا التلكّؤ . وكان الشّيخ راضياً بهذا الوضع , لذلك كان أشدّ ما يكون غضبه , إذا ذهب إلى الخصمين , وتصالحا في بضع دقائق , بمجرّد سماعهم كلامه , وكان يصرخ:
-هذا لعب عيال . وأنا لاوقت لديّ لمثل هذا العبث !!
ويلعن هذا الجيل , أحياناً , قائلاً:
-إنّه جيل فاسد . أفسد كلّ شيء حتّى (الخصومة) . على الجميع
لعنة الله !!
لكنّ نشاط الشّيخ لا يفتر , فيقوم بكل أعماله , في المسجد وخارجه.
وكان ذا صوت شجيّ جميل , في قراءة القرآن , والذي يحفظه كاملاً.
لكنّ الشيء الغريب في الشّيخ , على الأقل بالنّسبة لنا , خطبته التي لايغيّرها , يكرّرها علينا كلّ جمعة , وعندما سئل أن يغيّر , أجاب:
-فلتتغيّروا أوّلاً , ثمّ نغيّر الخطبة !!
وقد حفظناها عن ظهر قلب , واجتمعت في عقولنا خطبتان :
خطبة الحاج , وخطبة الشّيخ !!
لذلك كنّا نشعر , بنوع من الانفصام في الشّخصيّة.
وللهرب من هذا التّكرار , كنّا نذهب إلى مساجد أخرى , فكنّا نغنم قدراً من الفائدة طوراً , وطوراً نتمنّى أن لو كنّا قنوعين بخطبة الشّيخ.
ولم نلاحظ على الشّيخ , أثناء الجمع التي كنّا نحضرها , تغيّبه عن جمعة واحدة , بل لم يتغيّب قط , بشهادة الذين يحضرون بشكل دائم.
إذ كانت الخطبة بالنّسبة للشّيخ , شيئاً مقدّساً , لا يمكن التّفريط فيه.
إلا أنّه ذات جمعة , تأخّر حضور الشّيخ , وبدأت العيون تتبادل النّظرات فيما بينها , واستبدّ بنا القلق , إلى أقصى درجة . قلقنا على الشّيخ , وقلقنا على جمعتنا بدون خطبة .
ثمّ سمعنا وشوشة البعض , بأنّ الشّيخ لن يحضر اليوم , فسقطت قلوبنا , حتّى صارت بداخل أحذيتنا عند الباب. واستبدّ بنا الكرب , وأمسك بخناقنا , إذ كنّا قبل نعلّل أنفسنا بشيء من الأمل في قدومه , أمّا الآن....فما الحل لهذه المعضلة؟
وفجأة رأينا المؤذّن يتشاور مع أحد شباب الحارة , ولم ندرِ بالشّاب إلا وهو يعتلي المنبر , ويلقي علينا السّلام.
لقد كان حالنا , يصعب وصفه , كان حالاً يتأرجح بين الفرح والخوف , الفرح أنّ أزمة الخطبة قد حلّت , والخوف على الشّاب من أن يخفق , إذ أنّ غياب الشّيخ المفاجىء , لم يترك أيّ استعداد عند أحد . والشّاب عند أن اعتلى المنبر , لم يكن في يده , كتاب ولا ورقة , وكنّا نعلم أنّ معرفته الشرعيّة , لا تختلف عن أي فرد في المسجد .
لقد كانت قلوبنا ترقص بعنف , لكنّنا تفاجأنا بخطبة الشّاب , الذي بدأها بخجل , ثمّ سرعان ما انفكّ صوته من عقاله , وغدا هادراً في أرجاء المسجد , ولم يتلعثم في شيء , وكان يخطب وقلوبنا (تطبّل) مع كل كلمة تنساب من فيه . لقد كان موفّقاً بشكل عظيم يثير الإعجاب , وكانت خطبته رائعة , انتهت وقد نضبت دموعنا التي سارت بلا قيود.
وشكرناه كلّنا بعد الصّلاة , ودعونا له , وأصاب من الثّناء الكثير , من النّاس كلّهم , ما يؤهّله للفوز في الانتخابات , بدون (دعم )
الحزب الحاكم له.
أمّا أنا ونبيل , فبعد أن صافحناه بودّ خالص , وأثنينا عليه كالآخرين , صلّينا ركعتين شكراً على أنّ الإسلام مايزال بخير.
وفي طريقنا إلى البيت , كانت الخطبة هي محور حديثنا , وكنّا نناقش كل فقرة فيها بإعجاب , مشيرين إلى فصاحتها وبلاغتها بنشوة عظيمة.
ومن روعة الخطبة , اكتشفنا أثناء الحديث عنها , أنّنا نحفظها فقرة ..فقرة , وعجبنا لتأثيرها القوي الخرافي علينا , إلى هذه الدّرجة.
وعندما لفت نبيل نظري إلى ذلك , بدأنا نستعيدها كلّها , ولشدّ
ما ذهلنا عندما اكتشفنا , أنّ الخطبة لم تكن سوى
( خطبة الشّيخ العزّي)!!
نعم. كانت هي (بشحمها ولحمها) , وكان الشّاب يحفظها مثلنا
عن ظهر قلب!!
لم نصب بالخيبة , لهذا الاكتشاف . بل أصبنا بها لأنّنا لم نعرف
ذلك أثناء الخطبة . وتناقشنا الأسباب , أنا ونبيل , فقلت ُ: أنّ السّبب هو تغيّر الصّوت والصّورة , وأنّ خطبة الشّيخ ارتبطت في أذهاننا , بصوته وصورته , وماإن غابتا معاً لم نستطع معرفة الفرق , لأنّ اللوحة كانت ناقصة.
أمّا رأي نبيل فكان : أنّ الخطبة ارتبطت باسم الشّيخ , كماركة مسجّلة , فلمّا غاب غابت معه من أذهاننا بشكل تلقائي.
وقد اختلفنا كثيراً حول أيّ الرأيين هو الصّواب , لكنّنا اتّفقنا أخيراً , أنّ الخلاف بيننا (خلاف لفظي) , وكنّا قد سمعنا هذه الجملة , في إحدى الحلقات التي كنّا نحضرها , بأحد المساجد , وفرحنا بها فرحاً عظيماً.
ولكي نجمع بين فوائد الحلقات , وبين فوائد الجامعة , أضفنا هذه العبارة , لتفسير خلافنا:
(أنّ العداء بين رأيينا لم يكن عداءً أيدولوجيّاً)
وفرحنا حقّاً بالجمع بين الأصالة والمعاصرة , بجمعنا لهذين الوصفين , (خلاف لفظي ) (وليس عداءً أيدولوجيّاً) , وهنّأنا نفسينا بهذا
النّجاح العظيم.
  #6  
قديم 17/03/2004, 04:06 AM
رياض سالم عمر رياض سالم عمر غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 26/06/2000
المشاركات: 243
الجزء الأخير.
*******
لم نرَ (جامع الشّهداء)(1) إلا يوم وصولنا , أو أثناء عبورنا منطقة باب اليمن , لذلك اتّفقنا وجمال , في إحدى زياراته , بالذّهاب إلى هذا الجامع . وكانت فكرة جمال أن نذهب إلى باب اليمن , بعد صلاة العصر , ونتجوّل قليلاً هناك , ثمّ نصلّي المغرب في الجامع.
وأخذنا (لدبّاب) (2) إلى الباب , وكان أغرب مافي الدبّاب , هو سائقه .
لقد كان غريب الأطوار بشكل يثير الضّحك , فعندما ركبنا , كان يلهج بالدّعاء , بطريقة غريبة:
-يالله افتح علينا , يافتّاح.....نصرٌ من الله وفتحٌ قريب
انزل علينا بركاتك ياكريم.....ولو أنّ أهل القرى آمنوا....
ثمّ فجأة يخرج رأسه من النّافذة , ويصرخ بأعلى صوته:
-ياهيلوكس.....ياجنّي ياابن الجنّي....حاسب على أمّك لعنة الله!!
ثمّ يعود وينظر إلى الأمام , ويبدأ بالغناء:
-شنشني...شنشني ....يا مطر رشّني....
ويلتفت إلى الركّاب باسماً:
-حيّا الله الرّجال...
-حيّاك الله.
ثمّ يبدأ يدندن :
-بـــــــسم الله...آآآآه.....بـــــسم الله....الله ياالله
بأوّل القول....نَــــبدأ.....الله
ثمّ نفاجأ به يخرج رأسه من النّافذة , باتّجاه بعض النّسوة على الجانب الآخر من الشّارع , ويصرخ:
-خدعوها بقولهم حسناااااءُ !!
ويعود مرّة أخرى قائلاً:
-على أهلكن لعنة الله.....أنا عارف أيش معهن للخرجه هذه ....لكن لم يعد في البلد رجال!!
ويغضب أحد الركّاب , فيقول:
-الرّجال تملأ البلد , لكنّ النّسوان كثرْن يا صاحبي!!
-لا...لا...والله ما في رجال ....يمشين هكذا لا حسيب ولا رقيب...
واشتدّ بينهم النّقاش , والنّسوة كنّ قد دخلن إلى محل بيع أشرطة الأغاني , ولاحظ السّائق ذلك فصرخ:
-هيّا شف...لا حياء ولا ....إلى محلاّت الأغاني....
-وماذا في ذلك , مادمن يدخلن بالنّقاب ولله الحمد!!
ردّ عليه أحد الركّاب , فما كان من السّائق إلا أن أخرج الشتائم , ولعن اليمن والنّاس والحكومة......لقد تركناه يسخط على الجميع , وتمثّلنا بحكمة جمال(فليشتم....فليرح روحه المجهدة).
وصلنا إلى باب اليمن , وبدأنا الجولة بالدّخول إلى صنعاء القديمة , عبر هذا الفم الكبير . كانت جموع النّاس هناك , مزيجاً غريباً متعدّد الألوان والملامح واللهجات . وللمكان رائحة غريبة أعجز عن وصفها , إنّها خليط من روائح الشّواء , شواء الذرة والكبدة , وغير ذلك , وروائح النّاس التي تشويهم هذه الحياة بهمومها اليوميّة . أصوات متعدّدة :صوت صرّاف , بائع ساعات , بائع كتب مبسوطة على الرّصيف , بيّاعي الحراج التي تأتي أصواتهم , عبر الميكروفونات , أغنية من مكان قريب , شيخ يخطب , سائق يشتم , امرأة تتسوّل , شيخ يسعل , أطفال يمرحون , أعمى يقرأ القرآن , امرأة تحدّث رفيقتها , شاب يضحك مع أصحابه , أنين أطفال في أحضان أمّهاتهم المتسوّلات. لقد كان نسيجاً عجيباً.
والجموع تموج بالحركة , لا أحد يتوقّف إلا ليشتري , أو يغازل , أو يشتم . وفي كل بقعة احتضن الرّصيف جموع الذين يبحثون عن لقمة , يحفرون الصّخر بحثاً عن حياة . طفل لم يبقَ فيه سوى العظام والجلد الرقيق الذي يحويهنّ , تمدّد في حضن أمّه , وقد تسمّرت عيناه بالسّماء , وأمّه تبحث بعينين منطفئتين , بين هؤلاء العابرين , عن أمل...تنظر إليه فترتدّ نظرتها إلى قلبها , حاملة خنجر الألم.
وشيخ انسدلت حواجبه على عينيه , وتكوّم مادّاً يداً تنطق بالأسى , وإلى جانبه نسوة , وقد تلفّعن بالبؤس , وعجائز رسم الزّمان على وجوههن , لوحة تئنّ بالوجع والحرمان.
ومن بعيد تأتي الأغنية ......(بنت البادية حبّك سباني)
وصوت الشّيخ يحذّر من النّظام العالمي الجديد!!
والميكرفون بيد أحد المتسوّلين....(ساعدونا....الل� � يوسّع عليكم.....)
وصور (الرئيس) تناثرت على جدران المباني , بهيئات مختلفة , إحداها كان فيها (مبتسماً) وتحته كانت امرأة وأطفالها يفترشون الرصيف , وينظرون إلى من يعطيهم مايتبلّغون به إلى يوم آخر , الصّورة باسمة والحقيقة تحتها تصرخ حزناً وألماً .
(لا عليك.....ابتسم.....صورة لا روح فيها ....ومتى سترى من يُطحنون كلّ يوم.....لا عليك.....احبس نفسك في صور ملوّنة....حتى يرى النّاس أنّ في حياتنا (ألواناً)....)
لم أشعر بالوقت.....لم أدرِ ما قيل , ولا ما رأيت.....فعيني لم ترَ سوى مسيرة العذاب , نحياها كلّ يوم .
فتاة صغيرة , بين يديها وعاء من الخزف , تناثرت فيه بطاطات مقليّة بشكل باهت , وعيناها جمعت حزناً لا يوصف , وخدّاها جرت عليهما الدّموع , تنظر إلى الوعاء , ثمّ تنظر إلى المارّة , تكرّر النّظر.....ومعه تجري الدموع , وما إن رآها جمال حتّى قدم إليها , وانحنى على ركبتيه إلى الأرض , وسألها : لمَ تبكي يا صغيرتي؟
وأشارت إلى الوعاء الملآن , ونظرت إلى الشّمس المنحدرة , وقالت له بصوت متهدّج , زعزع كياني وبعثر كلّ معنى للحياة:
-بمَ سأعود....وأنا لم أبع شيئاً.....ومن يريد شراء هذه البطاطا؟
-نحن سنشتريها . فقط لا تبكي .
-......
وأخرج جمال نقوداً , ثمّ التفت إلينا , فوضعنا النّقود في يده , وأعطاها النّقود:
-لكنّ يا عم .....هذا كثير....هـ...
-لا عليك , وسنبقي على البطاطا معك , لتبيعيها لغيرنا , أو تأكليها عند عودتك....
نظرت إلينا , وقد ارتسمت على وجهها الطفولي , ابتسامة خلاّبة , ابتسامة البراءة والنّقاء , وقالت:
-لكن ياعم...لا بد أن تأخذوها ....أم أنّها لم تعجبكم....
-لا.لا. بل أعجبتنا , لكنّنا نوكّلك أنت في بيعها.....أو أكلها نيابة عنّا.
أقسم....أنّني لا أستطيع رسم السرور الذي لمع على ذلك الوجه الصّغير , ولا تلك السّعادة التي تألّقت في تينك العينين الواسعتين , ورفعت رأسها إلى السّماء , وجمعت بين اليدين الصّغيرتين , ورفعتهما وقالت:
-يا رب.....احفظ هؤلاء الأعمام الطّيّبين , وحوّل لهم بخير....ياآآآرب
والتفتت إلينا , وسألت : أعندكم أطفال...
-لا
فرفعت بصرها كرّة أخرى إلى السّماء:
-ارزقهم بخير , ولا تجعلهم يحتاجون إلى أحد....يارب.
غادرناه وهي تتابعنا بعينيها , وتشع من وجهها ابتسامة أضاءت المكان الذي انسكب عليه الغروب .
اتّجهنا إلى الجامع , وقد ابتلعنا الصّمت , فلم ننبس ببنت شفة , حتّى وصلنا إلى جامع الشّهداء , وقد حملنا أكياساً بلاستيكية , لنضع فيها أحذيتنا , حتّى لا تذهب غنيمة للصوص الأحذية .
وعندما دخلنا , رأينا رجلاً يقف إلى جانب خزانة الأحذية , أخبرنا جمال أنّه الحارس , وتعجّبنا لذلك .
دخلنا المسجد , فأذهلنا منظره من الدّاخل , ثريّات اقتسمت السّقف , وزخارف انتشرت على الجدران , بشكل يبهر , ونوع السجّاد الذي جعلنا نشك أنّ الصّلاة تتمّ عليه , وما إن رأى جمال تردّدنا , قال:
-ماالذي دهاكم , لماذا تقفون هكذا...
-أين نصلّي؟
-هنا....سبحان الله ...وأين تريدون ؟
ضحك لهذين القرويين , وبدأنا نحن الصّلاة ولم ندرِ كم صلّينا , تحيّة المسجد , وتفاجأنا ونحن نجد أنفسنا مسلّمَين , ولم يعلق من روح الصّلاة فينا شيء.
ثمّ صلّينا المغرب , أمّا أنا فلم أعرف بانتهاء الصّلاة , إلا عندما أحسست بصوت نبيل , يخترق أذني اليمنى , بالسّلام ...فسلّمت.
بعد ذلك , ببضع دقائق , سمعنا جلبة تأتي من الخارج . كانت صرخات من عدّة أفراد , ولم نفهم شيئاً , وقمنا وكل الموجودين , وقد ضاق المخرج بالجموع , التي تريد معرفة ما يحدث , فضولاً أو خوفاً.
وسمعنا بعضهم يقول : إنّه سارق أمسك به بعض الشّباب.
خرجنا من المسجد , وصرنا في السّاحة التي بجانبه , والتي يحيط بها سياج حديدي , ورأينا أنّ النّاس تجمهرت , في ناحية
قريبة إلى السّياج.
وما إن اقتربنا ودفعنا بأنفسنا بين المتجمهرين , حتّى رأينا ثلاثة شباب , لا تتجاوز أعمارهم السّابعة عشر , وقد اعتلى ثلاثتهم القضبان الحديديّة , وحاصرا الاثنان الذان في الجانبين , الشاب الذي في الوسط , وكانا يتبادلان تسديد اللكمات , واللطمات إلى هذا الشّاب الثالث , بشكل مرعب , مشفعين اللكمات , بسيل من الألفاظ النّابية , والشّتائم المقذعة , والمسكين يلتفت إلى النّاس , بعينين دامعتين تطلبان الرحمة , والأصوات تأتي من بينهم , داعية بالمزيد :
-اضربا أباه ....ابن الكلب....
أمّا جمال فصرخ:
-نعرف أيش الذي حدث أوّلاً ياجماعة . أيش هذا الإجرام؟
-أيش؟... إجرام؟....وأنت من أين أتيت.....أو أنت صاحبه؟
ولم يتوقّفا عن ضرب الشاب , ثمّ أنزلاه من على السّياج , وقد سال الدم من أنفه وفمه , ونادا أصحاباً لهما , فإذا بثلاثة آخرين , يأتون لإتمام المهمّة , وأمسكوا بالفتى , وتبادلوا كيل الضّرب والشتم , وهوعاجز عن المقاومة.
كنت مصعوقاً , أرى منظر هذا الذي وقع في أيدي هؤلاء , يضربونه ويتلّقون التشجيع , دون أن يعرف أحد عن السّبب .
سارق....هذا ما سمعناه , إذن يكفي هذا لقتله , نحن نؤمن عبر (الآذان) , من هناك يدخلنا (اليقين)!!
كنت أرى الشّباب , مايزالون يضربون المسكين , وجموع المتسوّلين أحاطت بالجامع , وصبية يتنقّلون بين السّيارات , يسألون أصحابها أن يمسحوها سيّاراتهم , مقابل بضع ريالات , واثنين واقفين يتجادلان حول شيء ما , وعجوزاً وقفت تحدّث عجوزاً أخرى , ووجوهاً تلوح عليها أنواع الهموم , ونساءً ورجالاً وقفوا إلى جانب عربات صغيرة , يبيعون فيها خليطاً من المكسّرات , والحلوى , وغير ذلك , والشّارع بأرضيّته القذرة , وأكداس القمامة , تناثرت على جانبيه , وصنعاء القديمة أمامي , بسورها الذي ما يزال يتحدّى الزمن .
التفتُّ إلى الجامع الذي وقف ببنائه الفخم , وإلى اللوحة البشريّة التي تناقض هذه الفخامة , وكرّرت النّظر .......كرّرت النّظر.....أنظر إلى تلك الجموع.....ثمّ أنظر إلى الجامع.....
وبرأسي سؤال......جامع الشّهداء......أيّ شهداء.....؟
أيّ شهداء.....؟
ونظرت إلى الجموع.....
وأعدت النّظر.....
وأعدت السّؤال.....
.....أيّ شهداء...؟


(تـــــمّـــت)
رياض
بعد منتصف ليلة الأحد
23-محرّم-1425هـ
14-آذار-2004م
ديربورن-متشجن .

ــــــــــــــــــــــ
1-للقارىء غير اليمني : جامع الشّهداء بناه مرسلهم إلى القبور.
هل عرف القارىء الكريم الآن من الذي بناه؟
2-اسم باص المواصلات الصّغير في اليمن.
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى


جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 08:17 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
سبلة العرب :: السنة 25، اليوم 126
لا تتحمل إدارة سبلة العرب أي مسئولية حول المواضيع المنشورة لأنها تعبر عن رأي كاتبها.