سبلة العرب
سبلة عُمان الصحيفة الإلكترونية الأسئلة الشائعة التقويم البحث مواضيع اليوم جعل المنتديات كمقروءة

العودة   سبلة العرب > سبلة الثقافة والفكر

ملاحظات

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع تقييم الموضوع
  #1  
قديم 13/05/2004, 05:35 PM
صورة عضوية سرب
سرب سرب غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 11/12/2001
الإقامة: عمان
المشاركات: 6,488
علم الجمال في الفن والأدب والحياة

قبل ان يصبح علم الجمال فرعاً من فروع المعرفة مضت اكثر من 1500 عام اهتمت خلالها الفلسفة ونظرية الادب ونظرية الفن ونظرية الرسم بمعالجة المسائل الجمالية. وفي القرن الثامن عشر ظهرت احدي المعالم الخاصة بموضوع التحليل الجمالي، فنشأت ضرورة ايجاد نظام علمي خاص، فاصبح علم الجمال في منتصف القرن الثامن عشر جزءا من الفلسفة، ولكن بعد مضي مائة عام علي ذلك تم الاعتراف بعلم الجمال كعلم مستقل له قواعده واصوله مع الاحتفاظ بالعلاقة المشتركة لهذا العلم مع الفلسفة وعلم الادب وعلوم الفن الاخري. ان الجميل يصادفنا في كل مكان، في الطبيعة الحية والطبيعة الجامدة، في الانسان وتصرفاته وفي مختلف الاشياء التي يصنعها الانسان وكذلك في الاعمال الفنية. وهناك اختلاف واضح بين جمال معدن من المعادن او جمال السمفونية. ان الجمال متعدد وكثير ومختلف، وعلم الجمال وحده يستطيع ادراك القوانين العامة للجمال وتحديد اهميتها وماهيتها وطبيعتها، لان جميع هذه المسائل تتسم بطابع نظري فلسفي، كما ان المقولات التي يستخدمها في حل المسائل الفنية، وهي الموضع والذات ومقولة المحتوي والشكل وغيرها، هي بطبيعتها مقولات فلسفية، ومن هذا نستنتج بان الفكر الجمالي نشأ وترعرع في احضان الفلسفة. وفي منتصف القرن التاسع عشر هاجم العالم النفساني الالماني فشنر Fechner المنهج الفلسفي للبحث الجمالي وطالب بادخال علم النفس بدل المنهج الفلسفي.
ومما لا شك فيه ان المحتوي النظري والطريقة العلمية لعلم الجمال متعلقة بالأساس الايديولوجي ومنهجية الفلسفة لمعطيات العصر. وقدر هذه العلاقة كبار الفلاسفة من خلال الجهود التي بذلوها لاستنتاج ذلك، سواء هيغل او كانت او تشيرنيشفسكي او الفلاسفة القدامي مثل أرسطو وأفلاطون.
كما ادرك ذلك الكتاب من خلال اعمالهم الادبية والفنية والخبرات التي توفرت لديهم من التجارب الفنية، امثال ليوناردو دافنشي والبرتي ولسنك وديدرو وتولستوي وغيرهم. ولا يمكن تعريف الجمال بانه علم مختص بالبحث عن الجميل في الفن فقط، بل يجب وصفه بالعلم الذي يبحث عن جميع الظواهر الجمالية في العالم الواقعي وكذلك الخواص الجمالية التي يعكسها الفن في هذا العالم.
تكشف نظرية الفن التي تتناول الادب والرسم والموسيقي وغيرها، عن القوانين الطبيعية والفنية وعن وسائل ومنهج العمل الفني، اما تاريخ الفن فيكشف عن القوانين الطبيعية لتطور ذلك المجال للخلق الفني مثل الادب والفن المعماري والمسرح، اما النقد الفني، كنقد الادب ونقد الموسيقي ونقد المسرح، فيكشف عن الصيرورة الحيوية المباشرة لعملية الخلق الفني.
إن المسألة الرئيسية لعلم الجمال هي علاقة الفن بالواقع وبعالم الحقيقة. اذ يكشف تاريخ الفكر الجمالي أن هذه العلاقة قد فسرت في مختلف العصور تفسيرا مختلفا. فمنهم من يفهم الفن بانه انعكاس مادي للحياة وانه اسلوب وطريقة خاصة للمعرفة، والآخرون يفهمون الفن بانه تجسيد وجداني واقعي للفكرة الرائعة او المطلقة، ويفهم بعض المفكرين الفن بانه استجابة ذاتية للمشاعر والاحاسيس الذاتية للفنان، لذا فان الجمال يعتبر علم القوانين العامة للفن وعلم جوهر الفن كأسلوب خاص لاستيعاب وادراك العالم بواسطة الانسان.
لا بد من الاشارة الي الجانب الموضوعي في الجمال. المعروف في تاريخ علم الجمال بان الانسان يجد القيم الجمالية في الاشياء والظواهر الواقعية للعالم الحقيقي، اي ان مجال الرؤية والسمع لدي الانسان هي وحدها التي تستطيع ان تتحسس ذلك. لذا لا يمكن ان يصبح الحقل والغابة والسماء والبحر والحيوان والانسان بتصرفاته واعماله، جميلة او سامية، حيث اننا لا نري في قوانين التطور العامة عن الطبيعة والمجتمع اية قيمة جمالية. ان ادراكنا الحسي يعكس بصورة مباشرة الشكل المادي وكذلك شكل الشيء ولكننا لا نستطيع ان ندرك محتوي الشيء وجوهره وقوانين تطوره ببصرنا او بسمعنا. ان التفكير الانساني وحده قادر علي النفاذ الي كيان صيرورة المعرفة في اعماقها ومضمونها وجوهرها.
ان الرؤية الحيوية توضح للانسان مضمون الموضوع الذي ينعكس علي الشكل. اما جوهر الشيء فندركه في التعبير الذي يعكسه الشكل في الموضوع الواقعي. ومن ذلك يبدو لنا المضمون وجوهر الموضوع بدون قيمة جمالية، وازاء ذلك فلا توجد للفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والاقتصاد السياسي في الموضوع الذي يريد المرء ان يبحث فيه عن القيمة الجمالية، اية مشكلة للجميل والسامي والمأساوي والساخر، وذلك لان الفن علي النقيض من الاقتصاد حيث لا يعمل بالقوانين الطبيعية العامة للوجود، بل يهتم بالواقع المحسوس الذي يصبح من خلاله الادراك الجمالي للموضوع امرا ممكنا وضروريا بالنسبة له.
ويمكن ان نبحث عن خصائص الالوان انطلاقا من هذا التحليل، مثلا هل اللون الأحمر جميل؟
فالعالم النفساني فشنر يقول حول هذه المسألة: ... صحيح ان اللون الاحمر جميل اذا ظهر علي وجنة الفتاة، ولكنه ليس جميلا اذا برز علي أرنبة الانف (1).
ومن هنا يبدو واضحا بان الخاصية الجمالية للشكل متعلقة بالمضمون الذي يعكسه الشكل فيه. ونستطيع خارج مجال المضمون الموضوعي الواقعي ان نقبل او نرفض اللون او خطوط الالوان او لا نقبل بجمال اللون الا بعد ان نحس بمضمونه واهميته، ومن هنا نستطيع تقييم الوهج الاحمر لغروب الشمس في المساء تقييما يختلف عن تقييمنا للون الاحمر في الوجه البشري. اننا لا نستطيع ان نحكم علي الجميل الا من خلال مضمونه. فالشكل لا يعبر عن القيمة الجمالية الا من خلال المضمون، وهذا هو الاساس الموضوعي للجميل سواء كان في الواقع او في العمل الفني. وفي تاريخ الفكر الجمالي يعتبر الجميل مرتبطا بمفهوم المقياس او الكمال لان المقياس والكمال يعبران عن الوحدة بين المحتوي والشكل للشيء.
والسؤال الذي يتبادر الي الذهن هو كيف نبحث عن الجميل والقبيح في الفن؟
هناك خاصيتان لذلك، الاولي هي ان الجمال لا يعتبر في جميع الاشياء الاخري ما عدا العمل الفني، شيئا ضروريا، ولكنه يظهر في الشيء بصورة عفوية. ان المهندس الذي يصمم ماكنة لا يفكر ان تكون هذه الماكنة جميلة، فالشيء المهم بالنسبة له هو ان الماكنة يجب ان تؤدي وظيفتها باتقان.
أما الاعمال الفنية فهي علي العكس من ذلك، حيث يجب ان تملك قيمة جمالية، فاذا لم تستطع ان تنتزع هذه الاعمال الفرح والسعادة من الناس بسبب قيمتها الجمالية، فانها ستفقد قيمتها الاخري مثل القيمة التربوية والفكرية.
ان مشكلة الجميل في الاعمال الفنية لا تؤثر علي قيمتها الفنية بقدر ما تؤثر مسألة الايحاء في عملية الانجاز الكبير للفنان وقابليته. ان الموقف السلبي للعصور الوسطي من الفن الاغريقي وموقف عصر النهضة من فن العصور الوسطي لم يعتمد علي مستوي الفنانين وقابلياتهم، وكذلك الحال في نقد الواقعية للرومانتيكية والكلاسيكية للقرن التاسع عشر. ان حجر الزاوية في هذا الاتجاه او ذاك ينطلق من التصور والمثال الخلاق للفن لكل عصر او فئة. ان هذا المثال في العمل الفني الذي يعبر عنه في حكمهم الجمالي عن الفن، لا يحتوي فقط علي تصورهم عن كمال الاتقان الفني فحسب، بل ايضا تصورهم عن هذه او تلك المبادئ واصول الانعكاس الفني عن الحياة. واذا كان التصور عن كيفية الخلق في الفن يعتمد علي الادراك الواقعي لمضمون الفن واهدافه، فان المثال الفني يثير الاحساس بجمال الاعمال الفنية التي تنسجم مع هذا المثل الاسمي للفن، اما الشعور بالقبح في هذا العامل الفني فان المثل الاسمي للفن يتعارض معه لذا يبدو قبيحا، لان التقييم الجمالي للاعمال الفنية يعتمد بالدرجة الاولي علي علاقته مع ادراكنا الواقعي عن المثل الاسمي وكيف يجب ان يكون في ما يتعلق بكمال الاتقان الفني، وكذلك الحال في تغيير موضة الملابس والاثاث، فبمرور الزمن يبطل في الاشياء مفعول القبح وتصبح في ذوق الناس جميلة.
ولكن لماذا يتغير موقف الناس الجمالي من اعمال الفن التطبيقي؟
السبب هو ان تصورنا المثالي عن اشكال الملابس والأثاث والحلي اتسمت بطابع اسلوب الموضة الذي ساد خلال حقبة زمنية طويلة.
كما ان ظهور اشياء تتعارض مع مفاهيمنا وتصوراتنا عن المثل الاسمي للجمال، تجعلنا في النهاية نحس بعدم جمال هذه الاشياء. وعندما يتغير المثل الاسمي للشيء نبدأ بمعرفة جمال الشيء الذي يشكل وحدة منسجمة معه، ونسأل انفسنا بدهشة، كيف كانت الموضة القديمة لهذا الشيء تعجبنا في السابق؟
اما الخاصية الثانية للجميل في الفن فهي ان الجميل يظهر في مجال النشاط الانساني في مظهرين. المظهر الاول هو ان الجميل ينشأ في الاعمال الفنية كما في الاشكال الاخري للنشاط الانساني نتيجة للاتقان الفني للفنان ومن ناحية اخري فان الفن يعيد صياغة الشيء الذي يضفي الجميل النادر علي ظواهر الحياة، كجمال الطبيعة وجمال الانسان وجمال الموضوع.
وقد اشار تشيرنيشفسكي الي ان رسم الوجه الجميل شيء، ورسم الوجه جميلا شيء آخر.
لا ينحصر الفن في التعبير عن الاشياء والظواهر الجميلة فقط. انه يعيد صياغة القبيح والداني صياغة جميلة وذلك لكي يعوض من خلال قيمة جمال التعبير عن قبح الشيء.
ورغم ان الفن يمتلك الحق الجمالي واعادة صياغة الجميل والقبيح في ظواهر الحياة، فان موقفه ازاء الجميل والقبيح يصبح مختلفا، فمثلا اعادة صياغة الجميل وعرضه للناس، فان ذلك يعني مضاعفة جمال العالم الحقيقي وكذلك مضاعفة سعادة الانسان التي يكتسبها من مشاهدته وتمتعه بالجميل. اما اعادة صياغة القبح والجوانب السيئة في الحياة، فهي غير مرغوبة، وهذا يعني ان القبح كموضوع للتصوير الخاص بالفن لا يمكن مقارنته مع قيمة الجميل، وان كان الفن في السابق او في الوقت الحاضر لم يهتم كثيرا بالتعبير من خلال التفكير الجمالي.
اوضح ارسطو هذه المسألة واشار الي ان قابلية الفن تجعله يزيح الشعور بالقرف من القبيح الذي يجري تصويره والتعبير عنه وتحويله الي شعور جمالي مريح وذلك من خلال جمال التصوير نفسه.
وحول هذه المسألة اشار لسنك في كتابه النقدي لاوكوون Laokoon بان تصوير القبيح يعتبر ضروريا للفن عندما يساعده علي تجسيد الجمال التام للجميل بقوته المتنافرة. اما في الواقعية النقدية فقد اضحي تصوير القبيح مقبولا بصورة غير مباشرة عن الجميل.
وكانت الواقعية النقدية مرغمة علي وضع القبيح مكان الصدارة من الاهتمام الفني وذلك لان الحياة التي يسود فيها ظلم المجتمع، ينعكس في الفن ما يتعارض مع المثل الاسمي لجمال حياة الانسان علي الارض، ويتطلب في هذه الحالة الكشف عن ذلك.
وفي الحياة اليومية نربط اعتياديا مفهوم الجميل في سلوك الانسان مع الشعور بالكمال ولكن هذا لا يعني ان مفهوم الكمال يدل علي مفهوم الجميل، لان الكمال يخلق الجميل عندما يكون الجوهر والمحتوي والتحديد النوعي للموضوع منسجما مع العلاقة الايجابية للمثل الاسمي في الفن.
ان انسجام الشكل مع المحتوي هو الذي يحدد القيمة الجمالية للعمل الفني، وذلك عندما ينسجم المحتوي نفسه مع المثل الفني الاسمي للناس. وانطلاقا من هذا المفهوم تؤكد القيمة الفنية انها تعبير عن الجميل في الفرح. ويستخدم في تقييم الاعمال الفنية مفهوم الجمال والقيمة الفنية بصورة مرادفة. ونتطرق الآن الي السامي والداني في الفن....
من المعروف ان السامي له تأثير عاطفي علي الناس كما انه يترك دهشة خارقة ويوقظ الحماس الكبير من خلال الهيبة التي يفرضها علينا فنشعر بعدم قدرتنا علي مقارنته مع الظواهر الاخري. وليس غريبا ان يقيم الفن ويثمن قابلية السامي علي زعزعة النفس الانسانية. ويستخدم الفن هذه القابلية بطرق مختلفة، فمثلا الدين والفن الديني يسعيان لادخال الايحاء في نفس الانسان، وانه لا شيء يقف امام وجه الإله السامي، فالانسان ينبغي عليه ان يخشي الله، الامر الذي ينتابه شعور بوجود هوة سحيقة بين سمو الآخرة وحقارة الحياة الدنيا للانسان. الا ان هذه الايديولوجية الدينية لا تعلن الكفاح ضد السامي وذلك لان كل شعور ديني هو شعور غيبي وغامض.
ان استغلال السامي سواء في مجتمع العبيد او المجتمع الاقطاعي، استهدف خدمة الدين لتوطيد سلطة الحاكمين عبر التاريخ، فمثلا النحوت والنقوش عن الفراعنة في مصر القديمة وعن الملوك القدامي والنبلاء والاقطاعيين، حيث سُخر فيها الفن لخدمتهم، تعكس كلها في نفس المشاهد شعور القرف والتفاهة من الموت السريع وكذلك شعور المستحيل بتخطي الحدود التي تفصله عن البطل السامي. وليس مصادفة ان يدعي الفراعنة وكذلك الاقطاعيون في السابق بانهم رسل الله في الارض...
اما الفن الواقعي الانساني فانه يستخدم السامي بطريقة اخري، فهو يؤيد سمو الانسان الحقيقي، ويسعي الي جعل الدهشة والاعجاب والحماس وكذلك الهيبة التي تثير شعور السامي في النفس، تخدم في النهاية الايمان عند الانسان بامكانياته الواسعة لاثارة الرغبة بنهج طريق البطل السامي نفسه وان يصبح مثله او قريبا منه. وهذه هي الوظيفة الجمالية لكثير من الروايات والمسرحيات العالمية التي تجعل الانسان يشعر بالقدرة علي الوصول الي المكان السامي نفسه الذي بلغه البطل. وتوجد في مختلف اجناس الفن قابلية تصوير السامي بصورة مختلفة. اما في التراجيديا فيعتبر البطل ساميا بالضرورة، وتشكل الكوميديا اعتياديا مثل هذا التنافر الذي لا مكان فيه للصفات والاعمال السامية.
وقد اتجه الفن في عصر النهضة وعصر التنوير الي الشعب واكتسح من امامه الفن المقدس الذي خلفته المجتمعات الاقطاعية ومجتمعات العبيد التي كان يسودها الجهل. الا ان البرجوازية وجدت في هذا العصر تفاوتا بين مصالحها ومصالح الجماهير من العمال والفلاحين. وقد دل علي ذلك الفن الذي عكس النضال في هذه الفترة وقيام البرجوازية بتسلم السلطة من خلال الضحايا التي قدمها الشعب، لا سيما في الثورات البرجوازية في اوروبا. وليس غريبا ان تلجأ البرجوازية الي استخدام مبادئ العصر الكلاسيكي التي تتسم بالبطولة والسمو في كفاحها اليومي للتعويض عن النقص الذي تعانيه في العظمة والبطولة. ونستعرض الآن المأساوي والساخر في الفن...
ان المأساوي والساخر مثل الجميل والقبيح والسامي والداني، فهي ظواهر جمالية وهذا يعني انها تتسم بصفات مزدوجة، ذاتية وموضوعية، تنشأ من العلاقة بين الواقع الحيوي والمثل الانسانية. ففي المأساوي والساخر توجد اشكال مختلفة من التنافر والصراع والمقاومة بين الواقع والمثل الاسمي. ولكن ما هو المأساوي؟ ان كلمة مأساوي تثير فينا شعورا عن التعاسة والآلام؟ ان معظم المنظرين اتفقوا علي ان جوهر المأساوي هو موت الانسان. ولكنهم اختلفوا حول نوع الشروط التي يتسم فيها الموت بطابع مأساوي. فموت الخائن والجلاد والدكتاتور ليس مأساويا، ولكن موت العالم والشاعر المناضل والأم الحنونة والأب الرؤوف وموت سبارتاكوس في روما عام 71 قبل الميلاد وموت جان دارك هو مأساة للانسانية.
وأشرنا إلي نقد ماركس وانجلز الي مسرحية لاسال فرانز فون سيكنكن حيث اشارا الي ان لاسال اهمل العنصر المأساوي الحقيقي في المسرحية. (رسالة انجلز الي لاسال في 1859/5/18) وفي اعمال الشعراء والكتاب الرومانتيكيين كان الابطال المأساويون يعتبرون اشخاصا مدهشين وخارقين لا سيما في اعمال الشاعر بايرون وفكتور هيكو وبوشكين. وبعد انتصار الواقعية علي الرومانتيكية اهمل الفنانون معالجة الصراعات المأساوية في الحياة الاعتيادية للانسان وعالجوها من خلال تناقضات الواقع الاجتماعي ان كل طبقة من الطبقات الاجتماعية لها نظرة خاصة عن الجميل والمأساوي والسامي، وكلما كان الصراع المأساوي يتسم بالعمق الانساني الشامل، كان محتواه المأساوي كبيرا وواقعيا.
تتعلق هذه الاهمية الانسانية الشاملة بتقدمية الفكرة التي تتجسد في المأساة. ان مأساة الصراع اساسها، سواء في الفن او الحياة، الكفاح من اجل تطبيق الفكرة في الواقع.
من الواضح ان المجال الرئيسي لهذا الكفاح هو المجتمع الانساني الذي تبرز في مسار تطوره تناقضات عنيفة بين مصالح وأفكار الطبقات المختلفة. وعلي مر الاجيال لم يدرك الناس الطبيعة الاجتماعية والواقعية لهذه التناقضات، واعتبروا الصراعات المأساوية لهذه التناقضات نتيجة لصراع الانسان مع القضاء والقدر او مع قوي متشابهة تتسم بالغموض والغيبية. والواقع ان هذا القدر المرعب يعتبر في ادب الاغريق وفي سمفونيات جايكوفسكي انعكاسا رائعا للضرورة التاريخية للنضال في سبيل تحقيق الافكار والمثل الانسانية ليس فقط من اختصاص الطبقات والاحزاب والشخصيات وحدها، انما هو صراع الانسان مع الطبيعة وتسخيرها لسعادته. ان الصراع مع الطبيعة يهدد هؤلاء الناس الذين يخشون الدخول في صراع معها ويتصورون ان ما يصدر عنها انما هو امر حتمه القضاء والقدر. ولعل افضل دليل علي التصوير الفني لهذا الصراع المأساوي هو الجحيم المدهش في الميثولوجيا اليونانية التي اتسمت بها مسرحية بروميثوس المأساوية، فقد سرق بروميثوس النار من الآلهة مما ادي ذلك الي غضب الآلهة عليه ومعاقبته. كما تعتبر لوحة برولو Brullow بعنوان آخر يوم لمدينة بومبي التي يعبر فيها بحرية وتصرف عن صراع الانسان مع الطبيعة باسلوب التشبيه الاسطوري.
وفي فن العصور القديمة انعكس صراع الانسان المأساوي مع الطبيعة بشكل ضئيل ولعل سبب ذلك يعود الي صراع الحياة الاجتماعية وصراع المواقف المأساوية.
في مسرحيات شكسبير المأساوية فان التناقضات الاجتماعية ادت الي رسم معالم السمات المأساوية لجميع الصراعات التي عكسها في هذه المسرحيات، ولم يقتصر ذلك علي الحياة السياسية للابطال مثل هملت ومكبث، بل علي مجال العلاقات الشخصية والعائلية والعاطفية بين الناس، مثل أوتلو وروميو وجولييت، والملك لير.
اما في الفن الاشتراكي فان الصراعات الاجتماعية والتاريخية وما ينشأ عنها من نتائج المجابهة المأساوية للنضال الثوري للعمال والحرب الاهلية الوطنية وحروب التحرير، هي التي تحدد سمات هذا الفن.
اظهر التاريخ انه حتي في المجتمعات التي ينعدم فيها وجود الطبقات مثل المجتمعات الاشتراكية، فان تناقضات جديدة تنشأ فيها تؤدي الي نهايات مأساوية يذهب ضحيتها اناس ابرياء، لا سيما في فترة عبادة الشخصية وانعدام الديمقراطية وحرية النقد وما يسفر عن ذلك من مآس.
ان الصراع بين الواقع والافكار الذي يؤدي احيانا الي انهيار الافكار، ينعكس في الفن وفي الحياة باشكال مختلفة، فمثلا في اعمال الكاتب الالماني أريش ماريا رمارك E. M. Remarque مثل روايته لا جديد في الجبهة الغربية و قوس النصر و السماء لا تعرف اصحاب الحظوة تعكس المصائر المأساوية للشعب الالماني في العصر الحالي. وتثير كل رواية من هذه الروايات في نفس القارئ الشعور المؤلم بالموقف الحرج واليأس والظروف التي لا تقهر والقدرة الجبارة للشر وعجز الخير واختفاء النور والنبل الانساني في هذا العالم. ان ابطال رمارك يعانون من الصراعات التي لا تعرف المهادنة والتهاون في الحياة الاجتماعية. ويبدو لنا انهيار ابطال رمارك ليس مصادفة، بل يمتد جذوره في المجتمع ولا يمكن تفاديه، الامر الذي تتسم به هذه الاعمال بالمأساة التشاؤمية.
يطغي هذا التشاؤم علي معظم اعمال الكتاب البرجوازيين لانهم يعبرون فيها عن الازمات المستعصية في مجتمعهم.
وعندما تحرر الفن والوعي الاجتماعي من قيود الخيال الاسطوري وادركا بوضوح التاريخ الانساني الواقعي ادي ذلك كله الي اضمحلال الوهم الديني عن الادراك التفاؤلي وعن تطور المجتمع وكذلك عن الحلول التفاؤلية للصراعات المأساوية التي تظهر في مسار التطور.
ففي اعمال شكسبير نعيش امثلة واضحة للمسرحيات المأساوية التي تتسم بالتفاؤل وتخلو من الاساطير الغيبية الغامضة. ان المضمون الجمالي لمسرحية روميو وجولييت ومسرحية هاملت واوتلو يكمن في انهيار وسقوط الانسان وفي الانعكاس الحقيقي للبطولة وللافكار الانسانية التي يناضل الانسان من اجلها، ولا يعني ذلك انهيار الافكار نفسها. ونعيش في مسرحيات شكسبير المأساوية الثقة العالية للانسان بالانتصار الحتمي لمستقبل التعقل والعدالة والجمال والشعور بالثقة. وليس شكسبير وحده يفكر بهذا الاسلوب في عصر النهضة Renaissance اذ ان خلود لوحة (المادونا) للفنان رفائيل يكمن في انه حررها من الغموض الديني الذي كانت تتسم به القرون الوسطي وكذلك من التهاون الذي كان يتميز به عصر النهضة في اضفاء الشاعرية المميزة لسعادة الامومة.
ان الفنان رفائيل جسد في هذه اللوحة مأساة متفائلة، فالأم تضحي بابنها من اجل الانسانية، ولكنها تحس بفداحة ومأساة القدر، ورغم ذلك تشعر بوعي صادق باهمية تضحيتها.
ان المفهوم التفاؤلي عن تطور المجتمع وكذلك ايجاد الحل التفاؤلي للتطور الاجتماعي المعقد وللصراعات المأساوية التي تنشأ عنه، يعد السمات الرئيسة للفن الواقعي والجمالي.
  مادة إعلانية
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى


جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 01:42 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
سبلة العرب :: السنة 25، اليوم 126
لا تتحمل إدارة سبلة العرب أي مسئولية حول المواضيع المنشورة لأنها تعبر عن رأي كاتبها.