سبلة العرب
سبلة عُمان الصحيفة الإلكترونية الأسئلة الشائعة التقويم البحث مواضيع اليوم جعل المنتديات كمقروءة

العودة   سبلة العرب > سبلة الثقافة والفكر

ملاحظات

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع تقييم الموضوع
  #1  
قديم 18/08/2005, 11:56 PM
البسيوي البسيوي غير متواجد حالياً
مـشــــــــرف
 
تاريخ الانضمام: 15/03/2001
الإقامة: مسقط / بسياء
المشاركات: 4,060
Lightbulb القصة القصيرة العمانية - جوخة الحارثي

بين الهموم الذاتية والتطلعات الجماعية

تهدف هذه الورقة إلى تحسس المنطقة الشائكة بين الهموم الذاتية، والآفاق الاجتماعية في نماذج مختارة من المجموعات القصصية العمانية، ولا تهدف - على الإطلاق- إلى وضع حدود صارمة ونهائية بين الذاتي والجماعي، فالتداخل بينهما عميق، ولعل طريقة تناول هذه الهموم التي تشتغل عليها القصة هي الأهم، وليس موضوعاتها مجردة من طريقة المعالجة.
النماذج المختارة - لاعتبارات تتعلق بموضوع الورقة - هي "حبس النورس" ليونس الأخزمي، وقد صدرت عام 1996م، و "ربما لأنه رجل مهزوم" لسليمان المعمري، وقد صدرت عام 2000م ، و "جروح منفضة السجائر" لعبد العزيز الفارسي، صدرت عام 2003م ، و "نوافذ وأغطية وأشياء أخرى" لحسين العبري، الصادرة عام 2004م.

يواجه القص في عمان صفتين تلصقان به، وهما الذاتية، والرومانسية، وربما نسمع خلطا بينهما أحيانا، ولابد أن نسأل أنفسنا أولا: ما هي الذاتية؟ وما هي الرومانسية؟ أحسب أن المصطلحين يختلفان، وما قد ندعوه بالذاتية التي نلمحها في بعض اتجاهات القص العماني، هي شيء مختلف عن الرومانسية، أو الاتجاه الرومانسي في الأدب، فهناك خصائص عامة في الأدب الرومانسي قد لا نعثر عليها في القصة العمانية مثل: التركيز على موضوعات الحب والمغامرة، الشخصيات المبسطة، التلاحق المعقد المطول من الأحداث، النهايات السعيدة غالبا ... إلخ (1)

أما الذاتية فهي انشغال الكاتب بذاته على مستوى النص، ولا شك أن هناك تقاطعا ما بين القصة القصيرة والسيرة الذاتية، ولكن المهم هو كيفية التوظيف، وحرص الكاتب على عدم الوقوع في شرك الحديث عن الذات على امتداد نصه، مما يؤدي إلى إهمال آفاق جوهرية أخرى قد تثري النص، إن التجربة الشخصية التي عاشها الكاتب رافد هام لكتابته، ولكن لا ينبغي أن يجعله انشغاله في تسجيلها غافلا عن الناحية الفنية الهامة في الأدب، وإعطاء التجربة أبعادها الإنسانية العميقة.

يغلب على كثير من القصص العمانية - قصص المجموعة المختارة خاصة - استخدام ضمير المتكلم للسارد، وتوظيف هذا الضمير قد يُلبِس على القارئ، فيقرأ القصة بوهم قراءة السيرة الذاتية للكاتب، ويتخيل أن ضمير المتكلم في القصة هو صوت الكاتب نفسه، ويساعد الكاتب في تدعيم هذا الوهم - الذي يتحول إلى حقيقة في بعض الأحيان - بإعطائه مفاتيح خاصة تعمق لدى القارئ هذا الإحساس، وسأورد بعض الأمثلة لاحقا، ولكن ينبغي التفريق - على مستوى النص- بين السارد والمؤلف، "فلا ينبغي أن نخلط بين السارد - والضمير يحدده - وبين المؤلف القاص وشخصية البطل، إذ ليس من الضروري أن يكون ثلاثتهم واحدا عندما يكون السارد ضمير المتكلم، فقد لا يكون السارد بطلا وإنما مجرد شاهد على الأحداث"(2).

في مجموعة "ربما لأنه رجل مهزوم" عشر قصص، سبع منها بضمير المتكلم، اثنتان بضمير المخاطب الفرد، وواحدة فقط بضمائر غائبين، وفي مجموعة "حبس النورس" عشر قصص، تسع منها بضمير المتكلم، ومن مجموعة "جروح منفضة السجائر" هناك نصان فقط من أصل خمسة عشر نصا ليسا بضمير المتكلم، في حين يوجد في مجموعة "نوافذ وأغطية وأشياء أخرى" ستة نصوص بضمير المتكلم من أصل أربعة عشر نصا.

ليست القضية في ضمير المتكلم، مهما خلق من أوهام الالتباس لدى القارئ بالسيرة الذاتية للكاتب، القضية في كيفية التعامل مع هذا الضمير، في ملامح الشخصية الرئيسة في القصة، شخصية السارد، ومدى التباسها بالكاتب نفسه، الذي سيثبت لنا في كثير من الأحيان أن ضمير الراوي أو السارد هو الضمير الشخصي له ككاتب، عندئذ يحق لنا كقراء أن نعتبر القصة إغراقا في هموم ذاتية، ونرى الكاتب ينأى عن محاولة التعامل مع الإنسان مهما كان، تعاملا ينبغي أن يعينه عليه رصيده الفني وامتلاكه قوة الكلمة.

في مجموعة سليمان المعمري "ربما لأنه رجل مهزوم" يتجلى هذا الالتباس بين ضمير المتكلم للسارد والضمير الشخصي للكاتب، وذلك عبر إحالات يضمنها الكاتب نصوصه، وعندئذ من الممكن أن نتساءل: أين همومنا كأفراد وجماعات إنسانية في أدب الكاتب؟ سأتحدث بتركيز عن الشخصية الرئيسة في القصص، معظم القصص تطغى عليها شخصية واحدة مركزية، وتكاد تخلو من أي شخصيات أخرى، وإن وجدت فهي سلبية، وغير فاعلة، ومشاركتها تدور حول محور البطل الفرد نفسه، أو أنه يخوض معها في حوارات من طرف واحد.

هذه الشخصية الرئيسة لها الملامح نفسها، التي تتكرر في غالبية النصوص، ولا تكاد تختلف من نص لآخر، فهذا الرجل المهزوم، كما يشير عنوان المجموعة، يتكرر عبر النصوص، الصفة الأبرز له هي هزيمته وسلبيته، إنه يتسكع في الشوارع، مفلسا، خالي الجيب، خاوي الروح، مستغرقا في إحباطاته الداخلية، ومناجاة نفسه، مليئا بالسأم: "لا شيء جديد.. نفس الأزقة الملتوية كثعبان متحفز لنفث سمه.. نفس الوجوه معدومة التعابير.. نفس الأطفال.. نفس البيوت.. نفس الأشجار.. لا أدري ما الذي يدفعني إلى التسكع فيها يوميا"(3)، وفي قصة أخرى يشعر السارد أو البطل بالمشاعر نفسها: "كأعمى عافه البصر، وجفته البصيرة، أجرجر قدمين تحملان فوقهما كتلة من اللحم الجاف.. جيوبي الأنفية معبأة برائحة يأس.. لي الآن الوحدة والحزن والسأم.. ولك وحدك أيها الضجر أن تتلبسني الآن كجني"(4)، فالبطل ليس شخصية متنوعة بتنوع النصوص، هناك نوع من الفردية حاضرة، وملامح الشخصية لا تختلف، فهذا الرجل اليائس السلبي هو نفسه، يتكرر المرة تلو الأخرى ومن قصة لأخرى.

وفي أغلب الأحوال فهذه الشخصية الرئيسة بلا اسم، ولكن هذا الاسم المفقود تنبئ عنه إشارات دالة في الحقيقة: "اسم النبي الذي دانت له الإنس والجان، والخليفة الأموي، والشاي الأحمر، ونوع من السمك"، هو سليمان، وهو نفسه اسم الكاتب، الذي سيعود للتصريح به وإيراده كاملا في قصة "من يوقد شمعة الليل": "أشفق عليه من لحظة شعري.. من شمعة ليلي.. من سليمان المعمري الذي واجهني أخيرا بواقع ضآلتي"(5)، فهل يستغرق الكاتب فعلا في همومه الذاتية مغفلا المتلقي؟ هل الشخصية الرئيسة التي تنطق بهذه الأفكار هي المؤلف نفسه؟ أم أنها شخصية أخرى من خلقه حملها اسمه نفسه لدلالات تخدم النص لا علاقة لها بذاتية المؤلف؟

إن إشارات أخرى بهذا الصدد لا يمكننا تجاهلها: وظيفة البطل، ومقر عمله، في عدد من قصص المجموعة، هي وظيفة الكاتب نفسها، ومقر عمله نفسه(6)، حتى اسم الحبيبة الحاضرة في أكثر من قصة، هو الاسم نفسه.
هل تستطيع مثل هذه المجموعة أن تلامس هموما جماعية؟
ولكن السؤال الأهم هو: هل ينبغي عليها أن تفعل؟
هذه القصص التي قد تستغرق في الذاتية، هل نستطيع أن نصنفها نصوصا ذاتية محضة، معنية بهموم فردية لم تخرج بعد إلى العالم لتواجهه؟ لتحلل هذا العالم، الضاج بالشخصيات والأفكار والمشاعر المتنوعة إلى أبعد حد. فرب قائل يقول: إن هذه النصوص لا تقدم إلا نفسها، ولا تلمس شيئا في نفس القارئ لأنها لا تمس واقعه، ولا تلتفت لمشكلاته الحقيقية، ولا يستطيع المتلقي أن يجد نفسه في "إرث من العقد وركام من الخيبات" كما يقول الكاتب عن بطل قصصه ذي السمات الشخصية المُعادة.
أم أن هذا الرجل المهزوم المستغرق في هزائمه الداخلية، هو تصوير لهمٍ جماعي في حقيقته؟
أود ألا ننسى التداخل المدهش بين ما ندعوه بالفردي والجماعي، أليس هذا الرجل الفردي تصويرا لقطاع واسع من الشباب، محبطي الآمال، فاقدي الحب، يائسين من التغيير؟ ألا يسمع هؤلاء أصواتهم في صوته؟ ألا يرون وجوههم المكسرة في شظايا وجهه؟ والكاتب -ربما - ينطلق من الذات، من موضوعات خاصة بها، إلى أفق أرحب، يرينا عوالم شخصية معينة، ونماذج منها، مثل هذا البطل المحبط!

إن تكرار السمات الشخصية للبطل، على امتداد مجموعة كاملة، يطرح لنا إشكالية العلاقة الجدلية بين الكاتب ونصه بقوة، إذ سيتكرر هذا الحضور اللافت لشخصية واحدة مركزية تستحوذ على اهتمام القاص في مجموعة "حبس النورس" ليونس الأخزمي، فالسارد -بضمير المتكلم غالبا - رجل شاب، هو الشخصية الرئيسة، تقلقه الهموم الإبداعية المتصلة بذاته، كما نطالع في قصة "اللوحة 28"، كما تقلقه هموم وجودية تملؤه بالأسئلة، كالنص الذي سقط فيه حلمه سقوطا مدويا على أسفلت الشارع في قصة "سقوط مدوٍ".

البطل يستغرق في التعبير عن مشاعره ومحاولة تفسيرها أحيانا: "كان شعور بالخوف قد طغى علي وشملني حتى هطل عرقي برغم برودة الجو، شعور حاد صاخب يغلي في الداخل فيحرق بقايا تماسكي الواهن. وتسمرت في مكاني ذاعرا من شيء لا أفهمه.."(7)، وهذا الاستغراق في وصف المشاعر سيشمل أغلب نصوص المجموعة، باستخدام الجمل القصيرة، المنفصلة بنقاط متصلة، جمل جانحة نحو الشعرية بقوة: "المساء كئيب كئيب.. يدخل الأعماق.. يخلخلها.. يلطخ الأوراق البيضاء بلون البرمائيات.. يخدش هدوء الرأس.. يفتح دولاب البحر الهائج.."(8).

وفي مجموعة "جروح منفضة السجائر" لعبد العزيز الفارسي، ستتبدى هذه الشعرية في العناوين خاصة: "تلاشي الحنين.. اغتيال البنفسج، سرمدية عيد، بعيدا لنكتشف نهاية السماء، أين من عانق الغريب وهاجر"، وسنلاقي في المجموعة أيضا البطل الفرد، متشابه السمات، الخارجية، كجوه الوظيفي، والداخلية، كمعاناته من إشكالات نفسية خاصة، إن الشخصية الرئيسة في كثير من قصص المجموعة مسيطرة على جو النص، ولا توجد الشخصيات الأخرى إلا لخدمتها، وهذه الشخصية تكون رجلا غالبا، شابا، كاتبا مثلما نجد في قصة "سبعة أشواط حول الضياع"، وطبيبا أو مريضا - الطب هو تخصص الكاتب - كما في قصتي "حتى إشعار آخر" و "جروح منفضة السجائر". إن القصة الحقيقية تعمق الفهم، وتوسع الأفق الفكري، وتزيد استمتاعنا، فعندئذ سننتظر من القصة توضيح الفعل والشخصية القصصية، أي الأداء والناس، فإذا غلبت الشخصية الموحدة على إنتاج كاتب ما، فإننا لا بد حينئذ أن نشعر بالمؤلف تحت قناع البطل.

إذا تدخل الكاتب بشكل شخصي ليأخذ جزءا من دور الشخصية في القصة، فإن القارئ سيعرف ذلك على الفور، على الكاتب أن يتخذ مكانا مغايرا لسرد الأحداث، دون أن يفرض ذاته، الملتبسة نوعا ما بالشخصية الرئيسة في نصوصه كمحور للقص، وبالتالي يحملها أفكاره الخاصة ومشاعره بشكل ملحوظ، إن اهتمام الكاتب بطرح أفكاره مقابل إهمال شخصيات القصة، وتمييع ملامحها، أو توحيدها، عبر نصوص يفترض أن تكون مختلفة، ينقص من قدر تفاعلنا مع القصة، ومن حجم تمثيلها لتطلعاتنا الجماعية.

لا ينبغي بحال من الأحوال أن يكون موقفنا فاترا تجاه شخصيات أعمالنا الأدبية، ينبغي أن تنال هذه الشخصيات حقها في رسم تفاصيلها الخاصة، الغنية، دون تحويلها إلى أداة مباشرة لسرد أفكارنا وآرائنا، في مجموعة "حبس النورس" يُنسي الاستغراق في اللغة الشعرية الكاتب أحيانا أنه يكتب قصة، قصة أولا وأخيرا(9)، لا بد أن يكون بها حدث ما، أو أحداث، فليكن هناك تداع، فليكن هناك حضور للاوعي، فلتكن هناك فوضى في ترتيب الأزمنة والأمكنة، ولكن ليكن هناك - في النهاية - حدث ما.
وإلا فهذا النص ليس إلا خاطرة، ومهما قلنا عن تداخل الأجناس، فنحن ننتظر من قراءة نص قصصي أن نعثر على القصة، على الحكاية، على الحدث في نهاية المطاف. وليس مجرد السرد المتلاحق للمشاعر الذاتية، مهما كان هذا السرد جميلا وشعريا.

إننا ندرك أن الرؤية الذاتية للكاتب لابد لها من الظهور في نصوصه ، ولكن هذه البذور من الأفكار الذاتية تحتاج للضوء والماء والتربة لتنمو وتصبح قصة، لا نتصور أن نأخذ بذور الرؤية الذاتية في مادتها الخام ونعلنها قصة بغض النظر عن تربتها ، فالقصة لا تكون مجرد أفكار ذاتية، إن جعلنا القصة حمالة أفكار مباشرة ستتقوض تحت ثقل الفكرة، فالقصة قبل أن تكون رسالة مباشرة لأي فكرة هي "فن".

وتقع مجموعة "ربما لأنه رجل مهزوم" كذلك في فخ استعراض الآراء والمشاعر بصورة مفرطة على لسان البطل الفرد: "كم أحبه هذا الذي اخترع الإجازة.. إنها الفرصة الوحيدة للخروج من عنق الزجاجة.. الفرصة الوحيدة للانعتاق"(10)، وأشرنا سابقا إلى تكرار اسم الكاتب نفسه كاسم مستعار لشخصية البطل.

وتحاول مجموعة "جروح منفضة السجائر" الإفلات من فخ تزيين اللغة، فتتميز - مقارنة بمجموعات أخرى - بحضور السرد، وتنوع الاهتمامات الاجتماعية، ففي قصة "انتظار" على سبيل المثال نرى موقفا معينا لرجل ما من عمل زوجته، وذلك عن طريق حوار - من طرف واحد - يجريه مع صغيره، المنتظر أيضا عودة الأم من الخارج، وفي قصة "حتى إشعار آخر" نجد معاناة رجل مع زوجة لا يحبها، واصطدامه أثناء عمله في المستشفى بحبيبته السابقة، مع طفلتها المريضة اليتيمة، مما يضعه في أزمة حقيقية، ولعل معالجة مثل هذه القضايا الاجتماعية - سواء أتفقنا أم اختلفنا مع نظرة الكاتب وطريقة معالجته - يفتح كوات جديدة أمام القصة العمانية، ويخرجها من النطاق المسمى بالذاتية أو الفردية، ولا يظنن ظان أني أدعو إلى أن تتحول القصص إلى رسائل إصلاحية، على الإطلاق، إنما أدعو إلى اقترابها من الواقع دون أن تتحول إلى مجرد مرآة له، ودون أن تغفل الخيال، فالقصة هي فن أولا وأخيرا، وليست خطبا اجتماعية.

إن تنوع الطرح يفتح آفاقا للقصة، لكن ما نلاحظه في بعض المجموعات، أن الثيمات تتكرر كما تتكرر الشخصيات، إن هذا التكرار يلبس على القارئ، يرى فيه إمعانا في الفردية، وخط الحياة الواحد، في مجموعة "ربما لأنه رجل مهزوم"، كما يتكرر البطل الذي يعاني الضائقات الروحية والمادية، الذي يهدده فقدان السكن وسيطرة السأم، تتكرر أيضا الثيمة: من أبرز أزمات هذا البطل حبيبته، تلك التي تخلت عنه لأجل المال، وتركته ضائعا، سنقرأ هجرانها في قصة "المرايا جمع تكسير"، كما ستلح عليه قصتا: "كم أحسدك يا جابر" و "على من أضاعوا أسماءهم فلنعلن البكاء". قد تأسر القارئ نبرة السخرية، واللغة الشعرية المكثفة، ولكنه سيستحضر هذا التكرار الفردي اللافت بلا ريب.

إن الفن الحقيقي يجمع بين الخيال والفكرة، وعلى الكاتب أن يفيد من تجاربه وتجارب مجتمعه، ومن خياله وثقافته، "الفنان يكتب مثلما يحلم، ويصطاد في حلمه كل شيء يمر قرب شبكته، ويتشبث بكل ما يخطر في ذهنه ويجيش في فكره، هذه - وليس العالم الذي نراه مباشرة - هي المادة الخام التي يتعامل معها الفنان ويغذي بها روحه، وهي مزيج غير متجانس من العواطف والخواطر والذكريات والأشياء .."(11).

كاتب عماني آخر هو حسين العبري، نشر نصا طويلا بعنوان "ديازبام"، مليئا باستعراض الأفكار والمشاعر، ولا شيء آخر، فلا اتكاءات على شخصيات أو أي نوع من الأحداث، لهذا السيل المتدفق من الأفكار والمشاعر، هذا ما قد ندعوه ذاتية الطرح، ولكن الكاتب نفسه يعود لإصدار مجموعة قصصية تكشف عن هموم جديدة متنوعة، أشير لمجموعته الموسومة بـ "نوافذ وأغطية وأشياء أخرى".

الآفاق الاجتماعية تمتزج عبر نصوص المجموعة بطابع نفسي خالص، ويدخلنا الكاتب برشاقة الأسلوب في دواخل فتاة حائرة في قصة "سوء الطوية"، الأفق المكاني منفتح على البحر، والشخصية الرئيسة تستغرق في مونولوج طويل مع نفسها، إنها على علاقة بزميل لها في المؤسسة، تهاتفه ويخرجان إلى الشاطئ، ولكن هذه العلاقة تنطوي على الكثير من التعقيدات، أو لنقل - كما قال العنوان - "سوء الطوية"، فالرجل متزوج، ولا يقطع وعودا، أي وعود، ويقول لها: "حين يضم الرجل امرأة إلى صدره يكون في إمكانه دائما أن يتلصص من بين كتفيها على العابرات من خلفها بينما تتكسر نظرات المرأة على صدره". والفتاة، التي تجرفها حمى الحب، تقع في التناقضات، والصراعات الداخلية، وستكشف طبيعة اللغة التي تستخدمها في حوارها الداخلي عن نمو هذا الصراع بأعماقها، ففي بداية القصة سنرى كلمات مثل: "كم هو بارع.. أبعث من جديد.."، ثم تصطخب مشاعر هذه الفتاة في اتجاهات مختلفة حتى نقرأ في النهاية: "أشعر بالغربة.. الثمن البخس لما يدعوه حبا.. غمرني إحساس بالابتذال.. أحسست بالانتهاك.. الإذلال..". هذه القصة التي تسرد بضمير المتكلم أبعد ما تكون عن الذاتية، إنها تنطوي داخل هذا المونولوج النفسي المكثف على هموم اجتماعية صادقة، وعلى عثرات حقيقية يعانيها الشباب والفتيات على حد سواء في سبيل البحث عن علاقة تحقق أدنى شروط الحب الصادق، والأمان، كما تشير إلى مفارقة هامة في عمل قطاع واسع من الشباب في العاصمة، مع بقاء زوجاتهم في المناطق الأخرى، وافتراض الإخلاص، في حين يمر الأزواج بإشكالات متعددة تتسم بقدر كبير من التناقضات، كهذا الذي يلمح لفتاته الجديدة أنه قد يبحث عن أخرى في حين تتكسر نظراتها هي على صدره، إنها ليست علاقة سهلة، والفتاة مدركة لذلك، وتفكر في زوجته، وتعيش صراعاتها النفسية ذات الاتكاء الاجتماعي القوي حتى تقرر قرارها الهام: "انتهينا"، مضت الكلمة في سيرها مثل ستارة ضخمة غامقة تنسدل من الأعلى بالعجلة التي تعقب المسرحيات الطويلة(12).

وتقدم لنا قصة أخرى من هذه المجموعة لوحة مختلفة الأزمنة والأمكنة لعائلة صغيرة جدا مكونة من زوجين فقط، ولكن هذه اللوحة لها لون واحد، هو اللون الذي يدل عليه العنوان: "لا حياة هناك"، فالأمكنة تختلف من الكويت إلى قرية صغيرة، والأزمنة تختلف بدءا بأزمنة بيوت السعف وانتهاء بأزمنة التلفزيونات الملونة، والحراك الاجتماعي يلتهم كموجة نهمة البشر والأمكنة، ولكن الزوجين يظلان كما هما، رغم القشور الخارجية للحضارة، وسيصبح معنى "الألفة" هو المعنى الأقوى من كل المعاني الإنسانية الأخرى حتى يرتبط بإحكام بجدلية الموت والحياة.
إن الكاتب يمثل الحياة بداخل كل منا كفرد، وبداخلنا جميعا كجماعات، وهذان الأمران متلاحمان، وقصة "لا حياة هناك" تقدم لنا شيئا من هذا.

إن الحدود متماهية إلى حد كبير بين الفردي والجماعي، بين الذات والآخر، وإن الذي يعطي النص زخمه وآفاقه الإنسانية هو فنية أدوات الكاتب، ورهافته في التعامل مع موضوعه، وليس الموضوع نفسه مجردا، فتجارب الحب، والموت، والفشل، على سبيل المثال، تجارب شديدة الخصوصية والذاتية من جهة، وشديدة العمومية إذ هي إرث إنساني جماعي مشترك من جهة أخرى، والكاتب الحق هو الذي ينجح في موازنة طرفي هذه المعادلة الصعبة.

الهوامش:
(1) ينظر عبد الواحد لؤلؤة "مترجم" ، موسوعة المصطلح النقدي ، مج3 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت ، ط1 ، 1983م ، ص170.
(2)حسان العوض ،(أوراق عبد الجار الفارس الخاسر:قصص محيي الدين مينو) ، مجلة الموقف الأدبي ، عدد 384 نيسان 2003م.
(3) من قصة"كم أحسدك يا جابر" ، مجموعة "ربما لأنه..رجل مهزوم" ، سليمان المعمري ، مؤسسة الانتشار العربي ، بيروت ، 2000م ،ص35.
(4) من قصة "ربما لأنه..لأنه ربما " ، ص55.
(5) المجموعة ، ص49.
(6) أثبتت وظيفة الكاتب في سيرته الذاتية آخر المجموعة على اعتبار أنه محرر بأخبار إذاعة سلطنة عمان، وهي وظيفة البطل في أكثر من موضع من المجموعة ، كقصة"المرايا جمع تكسير".
(7) من قصة "يوم صمت في مطرح" ، مجموعة "حبس النورس" ، يونس الأخزمي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت ، 1996م ، ص15.
(8) من قصة مساء الحكاية المؤرق، ص80.
(9) ينظر على سبيل المثال قصة " متاهات السيدة" ، ص91.و"سلالة الريح" ص101.
(10) مجموعة "ربما لأنه رجل مهزوم" ، ص90.
(11) جون كاروز ،في الرواية الأخلاقية ، ترجمة ايشو الياس يوسف ، مراجعة سلمان الواسطي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، وزارة الثقافة والإعلام ، بغداد ، 1986م ، ص20.
(12) قصة سوء الطوية ، مجموعة نوافذ وأغطية وأشياء أخرى ، حسين العبري ، دار الحوار، سوريا، 2004م، ص132.


مجلة أفق الثقافية
  مادة إعلانية
  #2  
قديم 19/08/2005, 01:38 PM
الصقر الذهبي الصقر الذهبي غير متواجد حالياً
الصقر الذهبي
 
تاريخ الانضمام: 02/03/2000
الإقامة: عمان
المشاركات: 2,288
كم نحن في حاجة لمثل هذه الكتابات التي تشخص الواقع القصصي العماني
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى


جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 06:55 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
سبلة العرب :: السنة 25، اليوم 127
لا تتحمل إدارة سبلة العرب أي مسئولية حول المواضيع المنشورة لأنها تعبر عن رأي كاتبها.