سبلة العرب
سبلة عُمان الصحيفة الإلكترونية الأسئلة الشائعة التقويم البحث مواضيع اليوم جعل المنتديات كمقروءة

العودة   سبلة العرب > السبلة الدينية

ملاحظات

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع التقييم: تقديرات الموضوع: 3 تصويتات، المعدل 5.00.
  #1  
قديم 19/09/2004, 02:20 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
Wink الحق الدامغ هدية للجميع و ادعوا لنا

كتاب الحق الدامغ

العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي

مفتي سلطنة عمان

المبحث الاول: في رؤية الله

المقدمة: في مدلول الرؤية

الفصل الاول: في اختلاف الامة في امكان رؤية الله و وقوعها

الفصل الثاني: في أدلة المثبتين

الفصل الثالث: في أدلة النافين

خاتمة: في نتيجة البحث

المبحث الثاني: في خلق القرآن

المقدمة: في التعريف بالخلق وبالقرآن والتفرقة بين القرآن وسائر الكتب المنزلة

الفصل الاول: في اختلاف الامة في قدم الكلام أو حدوثه

الفصل الثاني: في تضارب اقوال القائلين بقدم القرآن

الفصل الثالث في أدلة النافين لخلق القرآن

الفصل الرابع : في ادلة القائلين بخلق القرآن

خاتمة: في نتيجة ما تقدم

المبحث الثالث: في خلود أهل الكبائر في النار

مقدم: في تعريف الخلود والكبائر

الفصل الاول: في اختلاف الناس في خلود الجنة والنار

الفصل الثاني: في ادلة القائلين بانقطاع العذاب

الفصل الثالث: في ادلة القائلين بخلود حميع مركتبي اهل الكبائر في النار.

خاتمة: في نتيجة البحث

خاتمة الكتاب

شكر وعرفان

  مادة إعلانية
  #2  
قديم 19/09/2004, 02:22 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
Smile المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

في مدلول الرؤية لغة
جاء في القاموس وشرحه للزبيدي ما نصه : ( الرؤية ) بالضم إدراك المرئي ، وذلك أضرُب بحسب قوى النفس ،

الأول : ( النظر بالعين ) التي هي الحاسة وما يجري مجراها ، ومن الأخير قوله تعالى : ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله ) سورة التوبة 105 ، فإنه مما أُجْرِيَ مجرى الرؤية بالحاسة فإن الحاسة لا تصح على الله ، وعلى ذلك ( يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) الأعراف 27 .

الثـاني : بالوهم والتخيل ، نحو أرى أن زيداً منطلق .

الثالث : بالتفكير ، نحو ( إني أرى ما لا ترون ) الأنفال 48 .

الرابع : ( بالقلب ) أي بالعقل وعلى ذلك قوله تعالى : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) النجم 11 ، وعلى ذلك قوله تعالى : ( ولقد رآه نزلة أُخرى ) النجم 13(1) .

وقال ابن سيده : الرؤية النظر بالعين والقلب(2) وهو تفسير للأخص بالأعم فقد تنظر العين مع عدم تحقق الرؤية مثال ذلك : نظرت الهلال فلم أره ، فإن النظر هنا هو محاولة للرؤية وليس إياها .

والخلاصة : أن الرؤية تكون بصرية وغير بصرية ، والبصرية تكون بحاسة الإبصار المعهودة وهي العين فيما كانت فيه عين ، وفسرها الإمام السالمي رحمه الله بقوله: (وهي اتصال شعاع الباصرة بالمرئي أو انطباع صورة المرئي في الحدقة ) (3)، وإلى هذا المعنى ذهب أكثر القائلين برؤية الله تعالى ، سواء الذين أثبتوا رؤيته في الدنيا والآخرة أو الذين أثبتوها في الآخرة دون الدنيا ، كما قال الشيباني :

فذلك زنـديق طغـى وتمـردا
كما جاء في الأخبار نروبه مسندا


ومن قال في الدنيا يراه بعينه
ولكن يراه في الجنان عـباده



وقال آخر :

فلا الضيم يغشاها ولا هي تسأم(4)


ولله أبصار ترى الله جهرة






--------------------------------------------------------------------------------

(1) تاج العروس ج1 ص139 ط: دار مكتبة الحياة ، بيروت لبنان .

(2) : لسان العرب ج19 ص2 ط: بولاق

(3) مشارق الأنوار ص186 ط:2

(4) من قصيدة أوردها ابن القيم في حادي الأرواح ص13 ، 15 ط: دار الكتب العلمية .
  #3  
قديم 19/09/2004, 02:25 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
الفصل الأول

بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الأول

في اختلاف الأمة

في إمكان رؤية الله ووقوعها

اشتد النزاع بين طوائف الأمة في إمكان رؤيته تعالى ووقوعها ، فذهبت الطوائف المنتسبة إلى السنة من السلفية والأشعرية والماتريدية والظاهرية وغيرهم إلى أنها ممكنة في الدنيا والآخرة ، غير أن جمهورهم يثبت وقوعها في الآخرة لا في الدنيا.

وذهبت طائفة إلى أنها واقعة في الدنيا والآخرة ، وهم مختلفون كذلك ، هل هي خاصة في الدنيا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو هي عامة له وللمؤمنين ؟ فأكثرهم على أنها خاصة به ، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه ، نقله عنهم الحافظ ابن حجر(1) وبه قال النووي ولم يقل بوقوعها لغيره صلى الله عليه وسلم في الدنيا إلا غلاة الصوفية ، وظاهر كلام الألوسي يدل على جنوحه إليه ، وقد غالى حتى أجاز له الكيفية تعالى الله عن ذلك ، ونص كلامه : " نقل المناوي أن الكمال بن الهمام سئل عما رواه الدارقطني وغيره عن أنس من قوله صلى الله عليه وسلم : (رأيت ربي في أحسن صورة) بناءً على حمل الرؤية على الرؤية في اليقظة " فأجاب بأن هذا حجاب الصورة. انتهى ، قال : وهو التجلي الصوري الشائع عند الصوفية ، ومنه عندهم تجلى الله تعالى في الشجرة لموسى عليه السلام وتجليه جل وعلا للخلق يوم يكشف عن ساق ، وهو سبحانه وإن تجلى بالصورة لكنه غير متقيد بها ( والله من ورائهم محيط).

والرؤية التي طلبها موسى عليه السلام غير هذه الرؤية ، قال : وذكر بعضهم أن موسى كان يرى الله تعالى إلا أنه لم يعلم أن ما رآه هو هـو وعلى هذا الطراز يحمل ما جاء في بعض الروايات المطعون بها (رأيت ربي في صورة شاب - وفي بعضها زيادة - له نعلان من ذهب) ، ومن الناس من حمل الرؤية في رواية الدارقطني على الرؤية المنامية ، وظاهر كلام السيوطي أن الكيفية فيها لا تضر ، وهو الذي سمعته من المشايخ قدس الله تعالى أسرارهم ، والمسألة خلافية.

قال : وإذا صح ما قاله المشايخ وأفهمه كلام السيوطي فأنا ولله تعالى الحمد قد رأيت ربي مناما ثلاث مرات ، وكانت المرة الثالثة في السنة السادسة والأربعين والمائتين والألف بعد الهجرة ، رأيته جل شأنه وله من النور ما له متوجها جهة المشرق فكلمني بكلمات أنسيتها حين استيقظت ، ورأيت مرة في منام طويل كأني في الجنة بين يديه تعالى وبيني وبينه ستر حبيك بلؤلؤ مختلف ألوانه ، فأمر سبحانه أن يذهب بي إلى مقام عيسى عليه السلام ثم إلى مقام محمد صلى الله عليه وسلم فذهب بي إليهما فرأيت ما رأيت ولله تعالى الفضل والمنة. (2)

وهذا كلام تقشعر منه الجلود ، وتتصدع به الجبال ، فإن فيه من الجرأة على الله تعالى ما ليس بعده ، كيف وقد أخذت بني إسرائيل الصاعقة بمجرد سؤال الرؤية ، ونال موسى عليه السلام ما ناله من الصعق لا لشيء غير أنه سألها ليكفكف - بما يأتي من الرد الحاسم على سؤاله - غلواءهم ، ويستأصل شافة طمعهم ، ولم يكد يفيق من الصعق حتى قال : ( سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين ) "الأعراف 143" ، ولولا أنى أردت أن أوقفك أيها القارئ على هذا الخلط العجيب الذي جرأ هؤلاء الناس عليه اعتقادهم جواز الرؤية ما نقلتُ من هذا الكلام حرفا.

ولم يقف الأمر بالألوسي عند هذا الحد حتى أخذ ينقل من أقوال أقطابهم ما هو صريح في رد قوله تعالى لموسى : (لن تراني ) "الأعراف 143" ، وترجيح هذه الأقوال على هذا النص القرآني الصريح ، وإليك أيها القارئ الكريم بعض ما جاء به :

قال : "وقال الشيخ الأكبر قدس سره إنه رآه بعد الصعق وذكر قدس سره أنه سأل موسى عن ذلك فأجابه بما ذكر ، والآية عندي غير ظاهرة في ذلك ، وإلى الرؤية بعد الصعق ذهب القطب الرازي في تقرير كلام للزمخشري إلا أن ذلك على احتمال أن تفسر على الانكشاف التام ، الذي لا يحصل إلا إذا كانت النفس فانية مقطوعة النظر عن وجودها فضلا عن وجود الغير ، إلى أن قال : وذهب الشيخ إبراهيم الكوراني إلى أنه عليه السلام رأى ربه سبحانه حقيقة قبل الصعق فصعق لذلك ، كما دُك الجبل للتجلي ... الخ كلامه المتناقض الذي آثرت الإعراض عن نقله كله ، لأنه كثير العناء ولا جدوى. (1)

والقائلون برؤيته في الآخرة مضطربون كذلك لاختلافهم في من يرونه ومتى يرونه ، فبينما أكثرهم يقولون بأن الرؤية خاصة بالمؤمنين إذ هي نعمة يمن الله بها عليهم يتضاءل معها نعيم الجنة ، نجدُهُم يهرعون إلى الاستدلال عليها بحديث (سترون ربكم) مع أنه يقتضي أن هذه الرؤية ستكون في الموقف ، وأنها غير خاصة بالمؤمنين ، بل المنافقون يشاركونهم فيها لأن من نصوصه ( وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تعالى في صورة غير التي يعرفون ) وأغرب من هذا ما ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون) "المطففين 15" أنه يكشف الحجاب فينظر إليه المؤمنون والكافرون ، ثم يحجب عنه الكافرون وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية ، وعزا إلى ابن جرير أنه رواه عن الحسن (2) ، ولم أجده في تفسير ابن جرير وإنما وجدت فيه رواية عن الحسن أنه قال : "يكشف عنه الحجاب فينظر إليه المؤمنون غدوة وعشية " أو كلاماً هذا معناه . (3)

ونقل الحافظ القول باشتراك المؤمنين والكفار في رؤيته يوم القيامة عن طائفة من المتكلمين كالسالمية من أهل البصرة . وإذا قسنا هذا إلى ما نقله ابن القيم في حادي الأرواح من رواية ابن أبي حاتم عن الأوزاعي أنه قال : إني لأرجو أن يحجب الله عز وجل جهماً وأصحابه عن أفضل ثوابه الذي وعده أولياءه (4)، وجدنا تعارُضاً بعيدا بين أقوالهم ، وقد سمعت محاضرة مسجلة في شريط لأحد خطباء الجمعة المشهورين في إحدى دول الجزيرة العربية استدل فيها على ثبوت الرؤية بقوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) وكان مما قال في الآية " أن الإباضية هم الذين يحجبون عن ربهم فلا يرونه - عندما يراه المؤمنون - ولكنهم يرون مالكا خازن النار بسبب إنكارهم للرؤية" أعوذ بالله من نزغات أهل الجهل ، ومن عثرات أتباع الهوى.

وقال ابن القيم : فقد دلت الأحاديث الصحيحة على أن المنافقين يرونه تعالى يوم القيامة ، بل والكفار أيضا كما في حديث التجلي يوم القيامة ، ثم قال : وفي هذه المسألة ثلاثة أقوال لأهل السنة :

* أحدهما : أن لا يراه إلاً المؤمنون.

* والثاني : يراه جميع أهـل الموقف مؤمنهم وكافرهم ، ثم يحتجب عن الكفار فلا يرونه بعد ذلك.

* والثالث : يراه المنافقـون دون الكفار ، والأقوال الثلاثة في مذهب أحمد وهي لأصحابه .(1)

هكذا ترى - أيها القارئ الكريم - تضارب أقوال مثبتي الرؤية في هذه القضية حتى أنهم ينسبون إلى إمام واحد من أئمتهم أقوالاً متعارضة ومذاهب متباينة ، وناهيك بذلك شاهداً ودليلاً على ضعف القاعدة التي أسسوا عليها معتقدهم ، وإلاً فإن الحق لا يحتمل هذا الاختلاف لوضوح حجته واستقامة محجته وصدق الله : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) "سورة الأنعام آية 153".



وليت شِعري إذا كانت الرؤية أعظم ثواب أعده الله للمؤمنين ثم شاركهم فيها الكافرون والمنافقون ، ماذا بقى بعدئذ ؟ وكيف لا يشاركونهم في نعيم الجنة ، مع أن الجنة لا تساوي شيئاً بجانب هذا الثواب العظيم في زعم هؤلاء القائلين حتى أنهم نسبوا إلى أحد الأئمة أنه لو لم يوقن أنه سيرى ربه بوم القيامة لما عبده .(2)

وهو يفيد أن قائله يرى أن الله سبحانه لا يستحق من خلقه عبادة - لولا رؤيته التي يرجونها - لا لعظمته ولا لنعمته ولا لثوابه ولا لعقابه ، ولعمري ما أخطر هذا القول ونسبته إلى عالم من عُلماء المسلمين ، فما أشبهه بقول بني إسرائيل : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) "البقرة 55".

هذا وقد صرَّح بعض الحنابلة بأن إثبات رؤية الكفار لله يوم القيامة قول باطل مخالف لإجماع الأمة ، فقد حكى ابن تيمية عن القاضي أبي يعلى وغيره من الحنابلة أن مثبتي رؤية الله في الآخرة ومنكريها اتفقوا على أن الكافرين لا يرونه - قالوا : ( فثبت بهذا إجماع الأمة - ممن يقول بجواز الرؤية وممن ينكرها - على منع رؤية الكافرين لله ، وكل قول حادث بعد الإجماع فهو باطل مردود ).

وحكى عنهم أيضاً ما نصه : الأخبار الواردة في رؤية المؤمنين لله إنما هي طريق البشارة ، فلو شاركهم الكفار في ذلك بطلب البشارة ، ولا خلاف بين القائلين بالرؤية في أن رؤيته من أعظم كرامات أهل الجنة.

ثم أتبع ذلك قوله . قال - أي القاضي أبو يعلى - : وقول من قال إنما يرى نفسه عقوبة لهم وتحسيراً على فوات دوام رؤيته ومنعهم من ذلك - بعد علمهم بما فيها من الكرامة والسرور - يوجب أن يدخل الجنة الكفار ويريهم ما فيها من الحور والولدان ، ويطعمهم من ثمارها ويسقيهم من شرابها ، ثم يمنعهم من ذلك ليعرفهم قدر ما منعوا منه ويكثر تحسرهم وتلهفهم على منع ذلك بعد العلم بفضيلته. ثم قال : والعمدة قوله سبحانه : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) فإنه يعم حجبهم عن ربهم في جميع ذلك اليوم ، وذلك اليوم ( يوم يقوم الناس لرب العالمين( وهو يوم القيامة ، فلو قيل إنه يحجبهم في حال دون حال لكان تخصيصاً للفظ بغير موجب ، ولكان فيه تسوية بينهم وبين المؤمنين ، فإن الرؤية لا تكون دائمة للمؤمنين والكلام خرج مخرج بيان عقوبتهم بالحجب وجزائهم به فلا يجوز أن يساويهم المؤمنون في عقاب ولا جزاء سواه … الخ (1) وكفى بهذا الكلام دحضاً لما قالوه ونقضاً لما شيدوه.

وذهب إلى استحالتها في الدنيا والآخرة أصحابنا - الإباضية - وهو قول المعتزلة والجهمية والزيدية والإمامية من الشيعة ، وبه قال جماعة من المتكلمين المتحررين من أسر التقليد كالإمام الجصاص في "أحكام القرآن" ، وجنح إليه الإمام الغزالي في بعض كتبه ، بل صرح به في بعضها ، وهو الثابت عندنا عن سلف هذه الأمة ، فقد رواه الإمام الربيع رحمه الله عن أفلح ابن محمد عن أبى معمر السعدي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، ورواه عن جبير عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ورواه عنه من طريق أبي نعيم عن العباس أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن نافع بن الأزرق ، ورواه أيضا عن عائشة رضي الله عنها ومجاهد ، وإبراهيم النخعي ، ومكحول الدمشقي ، وعطاء بن يسار وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم ، وأبي صالح صاحب التفسير، وعكرمة ومحمد بن كعب ، وابن شهاب الزهري ومحمد بن المنكدر ، وهو مقتضى ما رواه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قول موسى عليه السلام : ( وأنا أول المؤمنين ) أنه لا يراك أحد ، وما رواه عن السدي أنه قال في قوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار) لا يراه شيء وهو يرى الخلائق ، وستأتيك إن شاء الله رواية عبد بن حميد وابن جرير له عن مجاهد ، ورواية ابن مردويه له عن ابن عمر رضي الله عنهما وعن عكرمة ، ورواية ابن جرير وعبد بن حميد أيضا له عن أبى صالح ، ونسبه ابن حزم أيضا إلى مجاهد - وتعذر له في ذلك بأن الخبر لم يبلغ إليه - وعزاه أيضاً إلى الحسن البصري وعكرمة ثم قال وقد روى عن عكرمة والحسن إيجاب الرؤية له تعالى . (2)

وما رواه عن الحسن وعكرمة مما ظنوه إثباتاً لرؤية الله تعالى لا ينافي ما ثبت من إنكارها عند فهم مقاصدهما ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .




--------------------------------------------------------------------------------

(1): فتح الباري ج8 ص608 المطبعة السلفية

(2) روح المعاني ج9 ص52 دار إحياء التراث العربي.

(1) المرجع السابق ص52-53

(2) تفسير ابن كثير ج4 ص486 دار إحياء الكتب العربية

(3) تفسير ابن جرير ج30 ص100 ط دار الفكر

(4) المرجع : حادي الأرواح ص264 ط4

(1) المرجع السابق ص224.

(2) حادي الأرواح ص265.

(1) فتاوى ابن تيمية المجلد السادس ص500 - 501

(2) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج3 ص2.
  #4  
قديم 19/09/2004, 02:29 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
الفصل الثاني


الفصل الثاني

في أدلـة المثبتين

وهي تنقسم إلى قسمين ، أدلة جوازها ، وأدلة وقوعها .

فأما القسم الأول فمنه عقلي ومنه نقلي :

أما العقلي فيتلخص في قياس وجود الحق على وجود الخلق ، وذلك أنهم قالوا إن سائر الموجودات مشتركة في جواز الرؤية عليها ، وبما أن الله موجود أيضاً فإن رؤيته ممكنة .

وأجيب عن ذلك بما ملخصه أن الوجود إن كان هو العلة في رؤية الموجودات المرئية ، فلا مانع من أن يعتبر علة في خلقها ، فيترتب عليه أن يكون الله سبحانه ممكناً أن يشاركها في الخلق كمشاركته لها في الوجود ، أما إذا اعتبرنا علة خلقها الحدوث فيجب علينا أيضاً أن نعتبره علة في إمكان رؤيتها ، وأن ننزه الخالق عن قياسه عليها في الرؤية كما ننزهه عن قياسه عليها في الخلق ، على أن دعوى أن كل موجود تجوز رؤيته منتقضة بكثير من الموجودات غير المرئية ، كالروح والعقل والوجدان والإدراك ، ومثلها الأصوات والروائح ، والأثير والكهرباء ، وفتح باب القياس بين الخالق والخلق يؤدي إلى وصفه سبحانه بكثير ممَّا تواترت الرسالات واتفق العقلاء على استحالته في حقه تعالى ، فإن المخلوق لا يمكن تصور وجوده إلا بوجود الزمان والمكان ، وقد كان الخالق ولا زمان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان ، لا يتصف بالعوارض ، ولا يدرك بالحواس ، ولا يجوز في حقه الاتصال بشيء من المخلوقات ولا الانفصال عنها ، والعقول كيفما تطاولت فمنتهاها أن تقف على عتبة ( العجز عن الإدراك هو الإدراك ) و ( ما عرف الله من شبهه بشيء من خلقه ) وإنما محط رحال الأفكار إدراكها أنه ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) سورة الشورى : 11 ، وقد صرَّح السيد السند في شرح المواقف بانقطاع المسلك العقلي عن الوصول إلى حجية إمكان رؤيته تعالى.(1)



وأما النقلي فبعضه من الكتاب وبعضه من السنة ، أما من الكتاب فدليلان:



(1) سؤال موسى الكليم عليه السلام الرؤية بقوله: ( ربّ أرني أنظر إليك ) الأعراف 143 ، ووجه استدلالهم به أنه إما أن يكون ناشئا عن جهل وهو مستحيل لاستحالة أن يجهل الأنبياء ما يستحيل عليه تعالى وهم أعرف بالله وبكبريائه ، وما يجب له وما يستحيل عليه ، وإما أن يكون مقترنا بعلمه - عليه السلام - أنها مستحيلة وهو باطل أيضا ، لأن طلب المحال عمدا ليس من شأن الأبرار فضلا عن جوازه على النبيين ، وإنما هو من شأن أهل العتو والشقاق ، فنتج عن ذلك أنها جائزة عليه تعالى وأن موسى عليه السلام عالم بجوازها ، فلذلك اجترأ على سؤالها.



وأجيب بأنه عليه السلام كان عارفا باستحالتها ولم يرد بسؤالها نيل المستحيل ، وإنما أراد ردع قومه الذين لجوا في طلبها وعلقوا عليها إيمانهم برسالته ، فلعلهم عندما يقرعون بالرد الحاسم باستحالتها يرعوون عن غيهم ويتراجعون عن جرأتهم ، خصوصا عندما يقترن الرد بآية بينة تزجرهم عن مثل هذا التعنت.



واعترض بأن أولئك القوم إن كانوا مؤمنين فبحسبهم جواب موسى لهم باستحالتها ، فإنه الرسول الأمين المقرونة دعوته بآيات بينات لا تدع مجالا للشك في صدق قوله وصحة دعوته ، وإن كانوا كفارا فلن يجديهم جوابهم باستحالتها في هذا الموقف شيئا.



ورُد هذا الاعتراض بأن القوم لم يكونوا على شيء من الإيمان ، وكيف ينطبق وصف الإيمان على الذين قالوا : ( لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ) البقرة 55.



وإنما أراد عليه السلام أن يقطع دابر شقاقهم ويستأصل شبهة عنادهم بجواب حاسم ،يأتيهم من قبل الله العزيز الحكيم مخالف لوصف خطابه عليه السلام لهم ، يتجلى فيه من الآيات ما يحسم كل شبهة ، ويقضي على كل طمع في مطلبهم المستحيل.



ومما يؤكد أن موسى عليه السلام لم يسألها لنفسه وإنما سألها لقومه ، ما تكرر في القرآن من توبيخ الله لهم على هذا السؤال وعدّه من أعظم جرائرهم وأبلغ كفرهم ، كما في قوله سبحانه : ( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) النساء 153 ، وقوله : ( وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ) البقرة 55 ، واعتذار موسى إلى ربه بعد الرجفة مما حصل ، عازياً إياه إلى السفهاء حيث قال عليه السلام : ( رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فأغفر لنا وارحمنا وأنت خـير الغافرين ) الأعراف 155 .



واعترض على ذلك بأمرين:

أ . أنه عليه السلام لو لم يسألها لنفسه لما تاب من سؤاله.

ب. أنه لو سألها لغيره لم يضفها إلى نفسه ، ولقال رب أرهم ينظروا إليك ولم يقل رب أرني أنظر إليك.



وجواب الأول أنه عليه السلام سارع إلى التوبة لشعوره بالتورط بما سأل ، وإن كانت له نية حسنة يعلمها الله تعالى ، وإنما المقام يقتضي الاستئذان من الله قبل الإقدام على مثل هذا السؤال.



وعن الثاني بأن إضافتها إلى نفسه دونهم أبلغ في اقتناعهم باستحالتها عندما يعلمون أنه - مع علو مرتبته وصفاء سريرته مما يعلمون أنهم متلوثون به - لا تمكن له الرؤية التي هم ملحون في طلبها ، وإذا تعذرت عليه فهي عليهم أشد تعذرا.



والخلاصة أن موسى عليه السلام ما سأل الرؤية طامعا في حصولها ، وإنما سألها ليكون سؤاله وسيلة من وسائل الإقناع الذي يحرص عليه ، وأسلوبا من أساليب الدعوة التي يقوم بها ، ومثله في ذلك مثل إبراهيم عليه السلام الذي قال عندما رأى الكوكب والقمر والشمس ( هذا ربي ) الأنعام 76 ، 77 ، 78 ، فإنه بالقطع لم يرد تأليهها ، فإن العقل السليم لا يستسيغ بحال تأليه المخلوقات ، فكيف بعقول النبيين الذين صنعوا على عين الله ، واصطفاهم الله عز وجل لأن يكونوا وعاءً لهدايته وتجسيدا للحق الذي أرسلهم به ، بل كيف بعقل الخليل إبراهيم الذي أكرمه الله بخلته ، واجتباه لأن يكون أبا للنبيين وإماما للحنيفيين ؟ وإنما أراد صلوات الله وسلامه عليه بما قاله - مما ظاهره كفر وحقيقته إيمان وتوحيد - إقامة الحجة على من حوله من الذين يعبدون الأجرام السماوية ، بأن هذه الأجرام ما هي إلا كائنات متنقلة ، تعتريها الأحوال ويطرأ عليها الأفول ، وما كان كذلك فهو ليس من الربوبية أو الألوهية في شيء ، ويدل عليه قوله تعالى عقب حكاية قصته : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه) الأنعام 83.



وإذا كان هذا هو محمل كلام إبراهيم عليه السلام مع عدم وجود نص في القرآن يدل على أن قومه كانوا يعبدون هذه الأجرام ، فلأن يحمل سؤال موسى عليه السلام للرؤية على قصد تبكيت قومه أولى ، لكثرة النصوص الدالة على أنهم هم الذين سألوها ، وهل يعقل أن يسأل موسى عين ما سألوه ، وهم الذين أصابهم ما أصابهم من التقريع على ما سألوا ، تا لله ما القول بذلك إلا تنظير لموسى بأنذال بنى إسرائيل وإنزالٌ له عليه السلام من علياء النبوة التي رفعه الله إليها ، واصطفاه من أجلها ، إلى دركات الجهل التي انحط إليها أسلاف اليهود ، الذين سألوا رؤية الله فحقت عليهم كلمة الله باستحقاق هوان الدنيا وعذاب الآخرة.



وبعد ما حررته هنا اطلعت على ما يسند حجته ويجلو وجهه من تحرير للمقام ، بقلم شيخ الإسلام المحقق الخليلي رحمة الله عليه ، فرأيت أن انقله بنصه ليزدان جيد كلامي بسمط كلامه الدرِّي ، قال - بعد تبيانه مقصود موسى من سؤاله : "وشاهد هذا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام : ( فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين فلما رأى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكو نن من القوم الضالين فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريءٌ مما تشركون ) فانظر كيف جاز لإبراهيم عليه السلام أن يتكلم بلفظة الشرك ثلاث مرات مخبرا بها عن نفسه من غير مندوحة ، ولا في موضع تقية على نفس ولا دين ولا مال ، وليس هو مجبراً على ذلك ولا مأخوذا به ، وقد كان له في الاحتجاج بغير هذا مجال رحب وسعة ، وقد احتج عليهم بغيره في غير مرة ، كما صرح به في كتاب الله تعالى ، ولكن رأى خطابهم على هذا الأسلوب والجري معهم على هذه الطريقة أقطع لحجتهم ، وأدمغ لكلمتهم ، وأبلغ لتبكيتهم ، وأوضح لإعجازهم ، فأثنى الله عليه بذلك وحكى ما قاله هنالك ، وقال تأييدا له : ( وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه ) الأنعام 83.



وإذا كانت كلمة إبراهيم عليه السلام بالشرك الصريح - لما كانت مسوقة لهدم قواعد الشرك ومقولة لإيضاح الحق - لم تسّم شركا لفظا ولا معنى ، ولا عقلا ولا حكما ، فكيف يصح في مقالة موسى عليه السلام إذا كان مقصوده بها تبكيت قومه وإقامة الحجة عليهم بسماع المنع من الله تعالى أن تكون باطلة ، وهي نفس الحق المبين.



فموسى الكليم وإبراهيم الخليل في أحكام الحق سواء ، وكلمتاهما في أحكام الظاهر ممنوعتان سواء ، ولكنهما كانتا مسوقتين لإزهاق الباطل وإثبات الحق ، فهما في معنى الجواز سواء أم يجوز الفرق بينهما ؟ ولا فرق عند من عرف الحق ، فهما نفس الصواب وحقيقة الهدى ، ولا يكاد يصدر مثلهما إلا عن منصب النبوة ، ولكن ربما يخفى ضياء النهار على بعض الأبصار ، ولله در من قال :

ثم أبصرت حاذقا لا تمار
لأناس رأوه بالأبصــار



وإذا كنت بالمدارج غرًّا
وإذا لم تر الهلال فسلـم






فإن قلت كيف يسوغ التشبيه والاحتجاج بقصة إبراهيم عليه السلام في هذه الآية الشريفة ، وقد اختلف المفسرون في تأويلها ؟

قلنا إن الوجه الحق فيها ما قلناه وهو عمدة المحققين وقول المنصفين ، ولكن القوم لما لم يقتدروا على استخراج زبدها قال قائل منهم إن إبراهيم عليه السلام قال ذلك في صباه وهذا باطل ، لأن حكاية الشرك لا معنى لها عن صبي ولا بالغ لغير فائدة ، وأي فائدة في تجهيل الخليل عليه السلام ، وحكاية الشرك عنه في صباه.



وقال آخرون إنه قالها على معنى الاستفهام إيهاما لقومه وليس بالقوي . وقال بعض تقديره قال هذا ربي بزعمكُمْ ، وليس بشيءٍ لعدم الدلالة.



وقال بعضهم تقديره يقولون هذا ربى ، ولا دليل عليه أيضا ، فليس الوجه إلا الأول. (1)

(2) قول الله سبحانه ( ولكن انظر إلى الجبل فان استقر مكانه فسوف تراني) "الأعراف 143" ، ووجه الاستدلال بالآية ، أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل ، وهو في ذاته ممكن ، والمعلق على الممكن ممكن مثله .



وأجيب بأنه لا إمكان بعدما حصل من اندكاك الجبل ، وانكشف من قضاء الله فيه الذي لا يمكن أن يكون المقضي بخلافه ، فإنه تعالى لا تبديل لكلماته ، وقد كان في علمه تعالى أنه لن يستقر ، ولن يتبدل شيء عما كان في علمه ، وإنما كان استقراره ممكنا بحسب علم المخلوقين القاصر المحدود ، قبل أن ينكشف لهم باندكاكه ما في علمه تعالى وقضائه ، وفي هذا يقول الإمام ابن عاشور " ولما كان استقرار الجبل في مكانه معلوما لله انتفاؤه ، صح تعليق الأمر المراد تعذر وقوعه عليه بقطع النظر عن دليل الانتفاء ، فلذلك لم يكن في هذا التعليق حجة لأهل السنة على المعتزلة تقتضي أن رؤية الله تعالى ، جائزة عليه تعالى خلافا لما أعتاد كثير من علمائنا من الاحتجاج بذلك.



وقوله : ( فسوف تراني) ليس بوعد بالرؤية على الفرض ، لأن سبق قوله : ( لن تراني) أزال طماعية السائل الرؤية ، ولكنه إيذان بأن المقصود من نظره إلى الجبل أن يرى رأي اليقين عجز القوة البشرية عن رؤية الله تعالى بالأحرى مع عدم ثبات قوة الجبل ، فصارت قوة الكلام أن الجبل لا يستقر مكانه من التجلي الذي يحصل عليه ، فلست أنت بالذي تراني لأنك لا تستطيع ذلك ، فمنزلة الشرط هنا منزلة الشرط الإمتناعي الحاصل بحرف " لو" بدليل قرينة السابق.(1)

وأما من السنة : فما روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من إثبات رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج ، ووجه استدلالهم بذلك على إمكان الرؤية أنها لو لم تكن ممكنة لما قال بوقوعها أحد من الصحابة ، وهم أوفر عقلاً ، وأغزر علماً ، وأنور بصيرة ممن جاء بعدهم ، ووجه اعتبار هذا الدليل من السنة أنهم رضي الله عنهم لا يقولون شيئاً من نحو هذا اعتباطاً ، ولكن استناداً إلى ما علموه من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وجوابه أن ما روي عنهم من إثبات رؤيته صلى الله عليه وسلم لربه لا يخلو إما أن يكون من كذب الرواة عنهم ، وإما أن يكون من سوء فهمهم لما رووه ، وكيف يمكن أن يقول أحد منهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه تعالى ، وأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تقطع عذر من قال ذلك باعتباره قد أعظم على الله الفرية ، كما جاء ذلك عنها بأصح الأسانيد وأضبطها في مسند الإمام الربيع بن حبيب ، وفي صحيحي البخاري ومسلم من طريق مسروق ، وإعظام الفرية على الله أكبر الكبائر التي يجب تنزيه المسلمين عنها ؛ فضلاً عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، الذين هم خير القرون ، وفي رواية أخرجها البخاري عن مسروق قال : قلت لعائشة رضي الله عنها : يا أمتاه هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه ؟ فقالت : " لقد قفَّ شعري مما قلت " وما هو إلا كناية عن هول ما سَمِعَتْ ، وضيق صدرها منه لاستحالة ذلك على الله سبحانه .

وأشهر من رُوِيَ عنه القول بخلافها ابن عباس رضي الله عنهما ، ومن أمعن نظره في نص كلامه المروي ، يدرك أنه لم يقصد بالرؤية إلا مزيد المعرفة بالله تعالى الذي حصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الليلة المباركة بما تجلى له من آيات الله ، وانكشف له من أسراره في الملكوت الأعلى .

ففي صحيح الإمام مسلم ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، وأبو بكر الأشج ، جميعاً عن وكيع ، قال الأشج حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن زياد الحصين أبي جهمة عن أبي العالية عن ابن عباس قال : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى ) قال : رآه بفؤاده مرتين ، وفيه من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه ، قال : رآه بقلبه ، وهو من الوضوح بمكان في كون الرؤية قلبيه لا بصرية ، وأصرح من ذلك في نفي الإبصار ما أخرجه ابن مردويه عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينه إنما رآه بقلبه ، وقد حكى عثمان بن مندة الدارمي اتفاق الصحابة على أنه لم يره .(1) فإن قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس معرفة منذ أكرمه الله بالنبوة وشرَّفه بالرسالة الخاتمة ، فكيف يقال إنه عرفه مرتين إن فسرت الرؤية بالمعرفة .



فجوابه أن العارف بالله تعرض له أحوال من تجليات الحق ، فيستغرق في حالة من شهود جلاله وكبريائه كأنما يراه سبحانه وتعالى ، ولا ريب أنه عليه أفضل الصلاة والسلام - وهو أوفر الناس عقلاً وأتمهم معرفة - قد أكرمه الله بما هو أبلغ وأعظم مما وصل إليه غيره في طُروِّ مثل هذه الحالات النفسية ، خصوصاً في تلك الرحلة الكريمة التي أزيحت عنه فيها الأستار ، فتجلى له من أسرار الملكوت الأعلى ما لم يتجلى لغيره ، ولعل هاتين المرتين اللتين قصدهما البحر ابن عباس كانت التجليات فيهما أكمل وأشمل ، فعبر عن ذلك ابن عباس رضى الله تعالى عنه برؤية الفؤاد أو القلب ، على أنا نرجِّح في تفسير الرؤية في آية النجم بما ثبت رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من طريق عائشة رضي الله تعالى عنها في مسند الإمام الربيع وصحيحي البخاري ومسلم ، فقد قالت : أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : ( إنما هو جبريل لم أره في صورته التي خُلِق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض ) فإنه صلى الله عليه وسلم أدرى بمعاني القرآن ومقاصده ، ومع ثبوت المرفوع لا يلتفت إلى الموقوف .



وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نفي رؤيته لله تعالى نفياً صريحاً لا يدع للشك مجالاً . فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : هل رأيت ربَّك ؟ فقال : نورٌ أنَّى أراه ؟ وفي قوله : أنَّى أراه استبعاداً لأن يتمكن عليه أفضل الصلاة والسلام من رؤيته تعالى ، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا ، فقلت : يا رسول الله هل رأيت ربك ؟ قال : لا ، إنما رأيت جبريل منهبطاً ، وكيف يظن بابن عباس رضي الله عنه أن يقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم رآه رؤية بصرية مع ما روي عنه من نفي الرؤية في الدنيا والآخرة ، كما ستقف عليه إن شاء الله .

وقد نص كثير من مثبتي الرؤية في الآخرة على أنها لم تقع لأحد في الدنيا حتى للنبي صلى الله عليه وسلم ، ولعل هذا هو قول الكثيرين منهم .



وأما القسم الثاني وهو : أدلة وقوعها في الآخرة ، فهو نقولٌ بعضها من الكتاب وبعضها من السنة ، فمن الكتاب :

1 ـ قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) القيامة 22 / 23 ، وهو أقوى ما استندوا إليه في هذا الباب ، واعتُرِضوا بأن النظر أعم من الرؤية ، فإنه يكون بمعنى محاولتها ولو لم تتحقق ، لجواز أن يقول قائل : نظرت إلى كذا فلم أره ، مع عدم جواز أن يقول : رأيته فلم أره ، ففي القاموس ما نصَّه : ( نظره كنصره وسمعه ، وإليه نظرا ومنظراً ونظراناً ومنظرة ، وتَنْظَاراً تأمله بعينه ) وفي شرحه للإمام الزبيدي نقلاً عن البصائر ، والنظر أيضاً تقليب البصيرة لإدراك الشيء ورؤيته ، وقد يراد به التأمل والفحص ، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص ، ثم قال الشارح : ويقال نظرت إلى كذا إذا مددت طرفك إليه رأيته أو لم تره .(1) وقد شاع النظر بمعنى الانتظار ، كقوله تعالى : ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) البقرة 210 ، وقوله : ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) وقوله : ( يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم ) الحديد 13 ، وعليه يتعين حمل النظر في هذه الآية لوجوه :

أ ـ إبعاد تأويل القرآن عن تعارض بعضه مع بعض ، فإن حمل النظر في الآية على الرؤية يتعارض مع أدلة نفيها القطعية ، وستأتي إن شاء الله .

ب ـ الانسجام المعهود في آي القرآن وارتباط بعضها مع بعض ، وهو لا يكون إلا بتفسير النظر بالانتظار ، فإن الآيات قسّمت الناس يومئذ إلى طائفتين ، إحداهما وجوهها ناضرة ـ أي مبتهجة مشرقة بما ترجوه من ثواب الله ـ إلى ربها ناظرة أي منتظرة لرحمته ودخول جنته ، والأخرى مباينة لها في أحوالها ، فوجوهها باسرة - أي كالحة مكفهرّة لما تتوقعه من العذاب - تظن أن بفعل بها فاقرة أي تتوقع أن ينزل بها ما يقطع فقار ظهورها ، فَنَضَارَة هذه الوجوه مقَابَل ببسور تلك ، وانتظاره هذه لرحمة الله ودخول جنته مقابَل بتوقع تلك للعذاب ، ولو فسر النظر هنا بالرؤية لتقطع هذا الوصل بين الآيات ، وتفكك رباطها ، وذهب انسجامها ، إذ لا تقابل بين الرؤية وما وصفت به تلك من ظنها أمراً يقطع فقارها ، ومثل هذه النكت البلاغية لا تفوت البلغاء في كلامهم ، منثوره ومنظومه ، فما بالكم بكلام الله تعالى الذي هو أدق في التعبير ، وأبلغ في التصوير ، وأكثر انسجاماً ، وأشد ترابطاً من كل كلام ( وكيف لا وهو كلام الله جل ؟ ) .

ج ـ أن هذا التأويل هو الذي يتفق مع ما في خاتمة عبس ، وهو قوله سبحانه : ( وجوه يومئذ مسفرة ضاحكة مستبشرة ووجوه يومئذ عليها غـبرة ترهقها قترة ) عبس 38 / 41 ، إذ لا فارق بين ما وصفت به وجوه المؤمنين هنا من الاستبشار ، ووصفت به في آي القيامة من النظر بمعنى الانتظار ، فإن المنتظر للرحمة مستبشر بها والمستبشر منتظر لما استبشر به .

د ـ أن تقديم المعمول على عامله يؤذن بقصره عليه ، فتقديم ( إلى ربها ) على (ناظرة ) يؤذن أنها لا تنظر إلا إليه وهو لا يتفق إلا مع تفسير النظر بالانتظار ، فلو كان المراد به الرؤية لاقتضى أنهم لا يرون شيئاً غيره تعالى مع ما هو معروف عقلاً ونقلاً من رؤية بعضهم لبعض ، ورؤيتهـم لما أعد الله لهم من النعيم .

وأنكر المثبتون تفسير النظر بالانتظار من ثلاثة أوجه :

أولها : أن في الانتظار تنغيصاً يتنافى مع إكرام الله لعباده الأوفياء يوم القيامة .

ثانيها : أن انتظار رحمة الله من قبل عباده المؤمنين أمر حاصل في الدنيا ، فكيف يوعدون به في الآخرة .

ثالثهما : أن تعدية النظر بإلى تمنع من حمله على الانتظار ، خصوصاً إذا أسند إلى الوجوه .

وكل ذلك مردود : أما الأول فلأن الآيات تصور لنا الموقف يوم القيامة قبل أن ينتقل الأبرار إلى دار الثواب ، والفجار إلى دار العقاب ، بدليل السياق في الآيات السابقة ، وقوله سبحانه في الأشقياء ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) يؤكده فإن ذلك قبل دخول النار قطعاً إذ لا معنى لظنهم ذلك بعد الدخول وقد لقوا ما لقوه وحلت بهم الفاقرة التي كانوا يتوقعونها ، ولا ريب أن الناس في الموقف متباينة أحوالهم ، فالأبرار ناضرة وجوههم بانتظارهم رحمة الله التي وُعِدوها ، والفجار على خلاف ذلك ، ولا يجوز إنكار هذا الموقف الذي يقفه الأبرار والفجار قبل انتقالهم إلى مقر الجزاء الدائم لأنه ثابت بالكتاب والسنة .

وأما الثاني فلبعد ما بين الانتظارين ، فشتان بين حال من كان في دار الشهوات والنزغات غير عارف بخاتمته ، ولا متيقن بمصيره ، ومن طوى المراحل وتجاوز العقبات حتى تلقته الملائكة في زمرة السعداء ( ألاَّ تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون ) فصلت 30 ، .

وأما الثالث فلثبوت مجيء النظر بمعنى الانتظار حال تعديته بإلى بالنقول الثابتة والشواهد البينة ولا عبرة بمن أنكر ذلك :

وينكر الفم طعم الماء من سقم



قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد




فمن النقول المصححة له قول صاحب اللسان : ( ويقول القائل للمؤمَّل يرجوه إنما ننظر إلى الله ثم إليك ، أي إنما أتوقع فضل الله ثم فضلك ) . (1)

ومن شواهده ما رواه الإمام الربيع رحمه الله عن سفيان بن عيينة عن الأعمش عن أبي راشد أن مولاة لعتبة بن عمير قالت : إنما أنظر إلى الله وإليك ، فقال لها : لا تقولي كذلك ، ولكن قولي : إنما أنظر إلى الله ثم إليك .(2) وقول جميل بن معمر :

والبحر دونك زدتني نعما



وإذا نظرت إليك من ملك




وقول آخر :

نظر الفقير إلى الغني الموسر



إني إليك لما وعدت لناظر




وقول غيره :

نظر الحجيج إلى طلوع هلال



كل الخلائق ينظرون سجاله




ولا وجه للتفرقة بين كونه مسنداً إلى الوجوه أو إلى غيرها ، فإنه تحكم لا دليل عليه ، على أنه جاء بهذا المعنى مع إسناده إلى الوجوه في كلام العرب ، ومنه قول حسان :

إلى الرحمن يأتي بالفلاح



وجوه يوم بدرٍ ناظرات




وقول البعيث :

إلى ملك كهف الخلائق ناظرة



وجوه بها ليل الحجاز على الهوى




فإن قيل إن الانتظار محله القلوب لا الوجوه ؛ فلذلك تعين حمل النظر في الآية على الرؤية لا على الانتظار ؛ لأن الوجوه محل للأبصار التي هي آلة الرؤية ؟

فجوابه : أن الرؤية أيضاً لا تكون بالوجوه وإنما تكون بالعيون فإسنادها إلى الوجوه غير وارد إذ لم يعهد قول أحد رأيته بوجهي ، ويتعذر جواز ذلك قطعاً على رأي الذي ينكر المجاز مطلقاً أو في القرآن خاصة كما هو شأن كثير من مثبتي الرؤية ، أما نحن فنحمل الوجوه على أصحابها لأن ذلك معهود عند العرب كقولهم : ( قصدت وجهك ) بمعنى قصدتك ، فالانتظار وإن أسند إلى الوجوه لفظاً فهو لأصحابها معنىً ، ولذلك جاز إسناد الظن إليها في قوله : ( تظن أن يفعل بها فاقرة ) القيامة 25 ، كما جاز إسناد الخشوع والعمـل والنصب إليها في قوله تعالى : ( وجوه يومئذ خاشعة ، عاملة ناصبة ) الغاشية 2-3 ،ويؤكده قوله من بعد : ( تصلى ناراً حامية ، تسقى من عين آنية ، ليس لهم طعام إلا مـن ضريع ) الغاشية 4-6 ، فإن الصلى غير خاص بالوجوه ، والسقي والطعام لأصحاب الوجوه قطعاً ، ومثله إسناد النعمة والسعي والرضى إلى الوجوه في قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية ) الغاشية 8-9 .

وبجانب كل ما ذكرته فإن تفسير النظر في الآية بالانتظار مروي عن السلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، فقد أخرجه الإمام الربيع بن حبيب في مسنده الصحيح عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من طريق أبي معمر السعدي كما أخرجه أيضاً عم ابن عباس رضي الله عنهما من طريق الضحاك بن قيس ، وطريق سعيد بن جبير ، وعزاه إلى مجاهد ومكحول وإبراهيم والزهري وسعيد بن جبير ، وسعيد بن المسيب . (1)

ورواه ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما من الصحابة ، وعكرمة من التابعين ، ورواه عن عكرمة عبد بن حميد كما رواه عن مجاهد وأبي صالح بإسناد صححه الحافظ ابن حجر .(2) وأخرجه الإمام ابن جرير عن مجاهد بخمسة أسانيد وفي كلامه إنكار صريح للرؤية ، فقد جاء في رواية منصور عنه أنه قال : لا يراه من خلقه شيء ، وفي أخرى مـن طريقه أيضاً قال : كان الناس يقولون في حديث ( فيرون ربهم) فقلت لمجاهد : إن أناساً يقولون إنه يُرى ، فقال : يَرى ولا يراه شيء .

وفي تفسير الميزان للعلامة الطباطبائي - وهو أحد علماء الشيعة الإمامية المعاصرين - ما نصه : وفي العيون في باب ما جاء عن الرضى عليه السلام من أخبار التوحيد بإسناده إلى إبراهيم بن أبي محمود قال : قال علي بن موسى الرضى عليه السلام في قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) يعني مشرقة تنتظر ثواب ربها - قال : أقول ورواه في التوحيد والاحتجاج والمجمع عن علي عليه السلام . (1)

ومن أقطع الأدلة وأبين الشواهد على مجيء النظر معدَّى بإلى ، وهو ليس بمعنى الرؤية قوله تعالى : ( إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ) آل عمران 77 ، فإنه لو حمل النظر في الآية على الرؤية لأدى إلى أن الله سبحانه وتعالى لا يرى هؤلاء يوم القيامة ، وهذا عين المحال ، واعتقاده رأس الضلال ، فإنه كفر بالله تعالى ، ولا وجه لحمل النظر هنا إلا على الرحمة والإحسان ، ومن هنا نتبين أن نظر القوي إلى الضعيف هو عطفه ورحمته ، وأن نظر الضعيف إلى القوي هو انتظار ذلك منه .

هذا وقد اتضح لك مما سبق أن الآية الكريمة تصور لنا حال الناس في الموقف قبل نقل السعداء إلى دار النعيم والأشقياء إلى نار الجحيم ، ولئِن كان النظر فيها بمعنى الرؤية وكان الراؤون له تعالى تنضر وجوههم بهذه الرؤية ، لزم أن تشمل هذه الحالة منافقي هذه الأمة لأنهم يشتركون مع مؤمنيها في الرؤية حسبما يقتضيه حديث أبي سعيد وأبي هريرة عند الشيخـين الذي يستند إليه مثبتو الرؤية كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

وقد أشكل على المثبتين للرؤية إسناد النظر في آية القيامة إلى الوجوه ، فترددوا بين القول بأن الرؤية بالبصر أو بالوجوه أو بالجسم كله أو بحاسة سادسة ، وما هذا الاضطراب إلا دليل بيِّن على أنهم غير مستندين إلى أصلٍ فيما قالوه ، ولو أنهم فهموا الآية الكريمة فهماً صحيحاً ، وحملوها على ما يقتضيه السياق واللغة لسلموا من هذا الاضطراب ، وبعدوا عن هذا التيه .



وقد أدرك المحققون المنصفون من معتقدي الرؤية ضعف الاستدلال على ثبوت الرؤية بهذه الحجة فصرحوا بذلك ، فالسيد محمد رشيد رضا يقول في " المنار" : ( وأما رؤية الرب تعالى فربما قيل بادئ الرأي إن آيات النفي فيها أصرح من آيات الإثبات كقوله تعالى : ( لن تراني ) الأعراف 143 ، وقوله تعالى : ( لا تدركه الأبصار ) الأنعام 103 ، فهما أصرح دلالة على النفي من دلالة قوله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ) على الإثبات ، فإن استعمال النظر بمعنى الانتظار كثير في القرآن وكلام العرب ، كقوله : ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) يس 49 ، ( هل ينظرون إلا تأويله ) الأعراف 53 ، ( هل ينظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة ) البقرة 210 ، وثبت أنه استعمل بهذا المعنى متعدياً بإلى ، ولذلك جعل بعضهم وجه الدلالة فيه على المعنى الآخر - وهو توجيه الباصرة إلى ما تراد رؤيته - أنه أسند إلى الوجوه ، وليس فيها ما يصحح إسناد النظر إليها إلا العيون الباصرة ، وهو في الدقة كما ترى). (1)



وقد سبق بيان ما أشار إليه أخيراً من استدلال حاملي النظر على الرؤية بإسناده إلى الوجوه والرد عليه .



وقال الإمام المحقق ابن عاشور في تفسير الآية : ( فدلالة الآية على أن المؤمنين يرون بأبصارهم رؤية متعلقة بذات الله على الإجمال دلالة ظنية ، لاحتمالها تأويلات تأولها المعتزلة بأن المقصود رؤية جلاله وبهجة قدسه التي لا تخول رؤيتها لغير أهل السعادة ) . (2)

( 2 ) ـ قوله تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ) يونس 26 ، فقد فسروا الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية ، مستدلين بحديث صهيب عند الشيخين مرفوعاً : ( إذا دخل أهل الجنةِ الجنـةَ نادى منادٍ إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، قالوا : ألم تبيضْ وجوهنا ، وتنجنا من النار ، وتدخلنا الجنة ، قال : فيكشف الحجاب، قال: فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ) .



وأنتم ترون أن لفظة الزيادة مبهمة غير دالة على الرؤية وضعاً ولا استعمالاً ؛ من قريب ولا من بعيد ؛ أما الحديث الذي عوَّلوا عليه في تفسيرها فدلالته على ما قالوه ضعيفة جداً :



أما أولاً : فلأن النظر لا يلزم أن يكون بمعنى الرؤية كما سبق بيانه في آية القيامة ، وكشف الحجاب يجوز أن يكون كناية عن مزيد الإكرام ورفع الدرجات ، وفتح أبواب العطاء غير المحدود ، وهذا الذي يتعين أن يحمل عليه كشف الحجاب والنظر إلى الله في الحديث ؛ لدفع التعارض بين آيات الله وأحاديث رسوله عليه أفضل الصلاة والسلام.



وأما ثانياً : فلأن حمل الزيادة على هذا المفهوم يتعارض مع ما استندوا إليه من المفهوم الذي عولوا عليه في تفسير آية القيامة ، التي استندوا إليها في إثبات الرؤية ، فإنه يلزمهم بموجب ذلك المفهوم أن تكون الرؤية حاصلة في الموقف قبل دخول الجنة ، مع أنها حسب تفسيرهم لآية يونس وحديث صهيب لا تكون إلا بعد دخول الجنة .



وأما ثالثاً : فلأن ذلك يتعارض مع حديث أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما الذي استندوا إليه في إثبات الرؤية في الموقف .



ولو أن الحديث كان نصاً صريحاً في تفسير النظر بالرؤية لما قامت به حجة لأحاديثه ، ومعارضته لما هو أقوى منه متناً ودلالة من أدلة نفيها ، فكيف وهو يعتريه الاحتمال ، وقد قيل : إن الدليل إذا اعتراه الاحتمال سقط به الاستدلال ، والقضية قضية عقيدة ، فلا يستدل فيها إلا بما كان قطعياً مَتْناً ودلالة .



وأما رابعاً : فقد روي عن السلف تفسيرهم الزيادة في الآية بغير الرؤية ، فلو كان الحديث نصاً صريحاً صحيحاً على تفسيرها بالرؤية لما كان لهم أن يعدلوا عنه إلى غيره ، ومن أمثلة ذلك ما رواه الإمامان الربيع وابن جرير (1)عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه فسَّرها بغرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب ، وروى الإمام الربيع عن ابن عباس مرفوعاً : ( إن أهل الجنة لا يزالون متعجبين مما هم فيه حتى يفتح الله لهم باب المزيد فإذا فتح لهم كان لا يأتيهم منه شيء إلا وهو أفضل مما في جنتهم ) ، وروى ابن جرير عنه وعن علقمة بن قيس أن الزيادة مضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها ، وهذا رواه الإمام الربيع عنه وعن الحسن .



وروى الإمام الربيع بإسناده إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه فسر الزيادة بغرفة من لؤلؤة واحدة لها أربعة أبواب - كما سبق عن ابن عباس - وروى ابن جرير عن الحسن أنه فسرها بمغفرة من الله ورضوان ، وهو مروي عن مجاهد عند الربيع ، وروى الربيع عـن أبي حازم ، وابن جرير عن ابن زيد أنها عدم محاسبتهم على ما أعطاهم في الدنيا .

وروى الربيع عن الشعبي أن الزيادة دخول الجنة ، وعن محمد بن كعب ما يزيدهم الله من الكرامة والثواب . (2)



وهذه الأقوال بعضها متباين وبعضها متداخل أو متقارب ، وأظهرها أن الزيادة هي ما يمد الله به عباده في الجنة من فيوض عطائه الحِسِّيِّ والمعنوي بغير حدود لأنه يدل عليه حديث ابن عباس المرفوع عند الربيع ، ويقتضيه حديث صهيب المرفوع عند الشيخين حسب مفهومه الصحيح .



( 3 ) قوله تعالى : ( ولدينا مزيد ) ق 35 ، بناء على ما روي عن بعضهم أن المزيد هو رؤية الله تعالى .



وبسقوط احتجاجهم عليها بالزيادة ، يسقط احتجاجهم بالمزيد .



( 4 ) قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) المطففين 15 ، ووجه استدلالهم به أنه كما دل منطوقه على حجب الكفار عن ربهم ، فمفهومه دال على أن المؤمنين يرونه . لأن حجب الكفار عقاب توعدوا به فلا يليق بالمؤمنين إلا خلافه .

وهو استدلال ساقط من عدة أوجه :



أولها : أن الحجاب في الآية كناية عن الحرمان من رحمته ، والإبعاد عن دار كرامته ، كما أن التقرب منه سبحانه لا يكون حسياً وإنما يفسر بامتثال ما أمر به من الطاعات ، واجتناب ما نهى عنه من المعاصي ، وكذلك تقرب الله من العبد لا يعني إلا إحاطته برعايته الرحمانية ، وغمره بألطافه الربانية ، وقد وردا معاً في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ( من تقرَّب مني شبراً تقربت منه ذراعاً ، ومن تقرَّب مني ذراعاً تقربت منه باعاً ) وبهذا المعنى الذي ذكرته فسَّر قتادة وابن أبي مليكة الحجاب في هذه الآية ، رواه عنهما ابن جرير . (1)

ثانيهما : أنه استدلال بمفهوم المخالفة ، وهو حجة ظنية اختلف العلماء في الأخذ بها في الأمور العملية الفرعية ، فكيف بالقضايا الاعتقادية الأصلية مع أن الاعتقاد ثمرة القين ، على أن المفهوم هنـا أقرب أن يكون مفهوم لقب ، وهو أضعف المفاهيم بإجماع الأصوليين والفقهاء ، وسائر أصحاب فنـون العلم ، حتى أنهم عدوا من أخذ به من الفقهاء في الفروع شاذاً .



ثالثهما : أنه لو جاز الاستناد إلى هذا المفهوم في إثبات رؤية المؤمنين لله يوم القيامة ، لكان أحرى أن يستند إلى مفهوم يفيده التقيد بـ ( يومئذ ) في إثبات رؤية الكفار له تعالى قبل ذلك اليوم ، فإن الظروف لها حكم الصفات في تقييد النسبة ، ومفهوم الوصف من أقوى المفاهيم كما حرره الأصوليون ، قال الإمام نور الدين السالمي رضي الله عنه في شمس الأصول:

أقوى مفاهيم وأجلى موقعا



فالوصف والغاية والشرط معا






ومن النوادر التي ينبغي أن تُدَّخر لتسلية الثكالى ، ما حكاه ابن القيم في حادي الأرواح عن ابن المبارك أن الضمير في قوله تعالى : (هذا الذي كنتم به تكذبون) "المطففين 17" عائد إلى الرؤية (2) ليتسنى حمله على وعيد المنكرين لها ، وقد رقص على أنغام هذه الرواية كثير من الذين يقولون ما لا يعلمون ويجترُّون ( كل ) ما يلقى إليهم ، من بينهم صاحب المحاضرة فيما سمعته من محاضرته المسجلة بصوته في الشريط كما أشرت إليه من قبل ، فقد جاء فيها أن هذا الوعيد واقع بالإباضية الذين أنكروا الرؤية وأنهم المقصودون به ، وليت شعري هل هذا القول ناشئٌ عن هوى أصمَّ صاحبه وأعماه ، أو عن جهله باللغة وأساليب الكلام ، فإن مما يدركه كل من له معرفة بلغات الناس ، أن الإشارة لا تكون إلا إلى مشار إليه سواء كان حاضرا أو في حكم الحاضر لتقـدم ذكره ، والضمير في الآية عائد إلى اسم الإشارة الذي قصد به ما تقدم ذكره من صلى الجحيم ، ونحـو هذا قوله تعالى : ( انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ، انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب ) "المرسلات 29/31" ولو كان الأمر كما ادعوا لكان ذلك قاضيا بأنهـم يرونه سبحانه ، فإنك عندما تقول لأحد تبكيتا وتقريعا : هذا الذي كنت لا تصدق به ، لا يمكن إلا أن تكون مشيرا إلى شيء أوضحته له بعد الخفاء ، فقامت بوضوحه الحجة عليه به ، ولولا تفاهة قولهم هذا الذي حملوا عليه كتاب الله تعالى غير مبالين بتحريف الكلم عـن مواضعه ، لسقت نصوصَ أقوال المفسرين في قوله : ( هـذا الذي كنتم به تكذبون ) لا سيما الذين يعتقدون الرؤية منهم ، ليتضح خطأ هذا التأويل الفاسد ، غير أن فساده أبين من أن يحتاج إلى بيان.

إذا احتاج النهار إلى دليل



وليس يصح في الأذهان شيء




(5) قوله تعالى : ( على الأرائك ينظرون ) "المطففين 23/25" وهو استدلال بما لا دليل فيه ، فإن غاية ما في الآية وصفهم بالنظر من غير ذكر للمنظور إليه ، ومن المعلوم قطعا أنهم يتمتعون بالنظر إلى أصناف النعم ، وأنواع الغرائب التي تبهج نفوسهم ، وتقر عيونهم ، ولم يقل أحد من السلف أن المراد بالنظر في الآية رؤية الله ، بل روى ابن جرير وغيره عن ابن عباس وقتادة وآخرين أنهم ينظرون إلى أعدائهم في النار ساخرين منهم ، وهذا الذي يقتضيه السياق ، وعوَّل عليه المفسرون إلا من شذ منهم.



(6) الآيات المصرحة بلقاء الله ، وذلك أنهم فسروا اللقاء بالرؤية ، وهو خطأ فإن اللقاء أعم منها ، فقد يكون فيما لا يرى ، كما في قوله تعالى : ( ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه ) "آل عمران 143" ، ولا يختلف في جواز قول الأعمى : لقيت فلانا ، ومن الكلام المعهود عند العرب أن يقول قائلهم: لقيت من هذا الأمر شدة، أو فرجا ومخرجا ، أو عُسرا ، أو يسرا ، أو خيرا أو شرا ، وقد جاء في القرآن وعد غير المؤمنين باللقاء ، كقوله تعالى : ( فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ) "التوبة 77" ، وقوله : ( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه ) "الانشقاق 6" ، فإن قيل بأن الضمير في الأول عائد إلى النفاق ، وفي الثاني إلى الكدح لا إلى الله ، قلنا وفي هذا أيضا حجة لنا على أن اللقاء أعم من أن يكون بمعنى الرؤية ، فإن النفاق والكدح لا يريان لأنهما من الأعراض.



وقد فسر لقاء الله بالانتقال إلى الدار الآخرة ، لما يتحقق به من وعد الله سبحانه ، ويتجلى من أسرار غيبه ، وقد أطلق على الموت مراعاة لهذا المعنى ، ويقال فيمن مات لقي الله ، وفي اللسان نقلا عن ابن الأثير في شرح حديث ( من أحب لقاء الله احب الله لقاءه ) المراد بلقاء الله المصير إلى الدار الآخرة وطلب ما عند الله ، (1) ويكون اللقاء وعيدا كما يكون وعدا كما في الآيتين ، وفي حديث ( لقي الله وهو عليه غضبان).



(7) قوله تعالى : ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ) "الإنسان 20" ، استدل به الفخر الرازي في تفسيره لسورة الأنعام ، مدعيا أن إحدى قراءاتها " مَلِكاً " بفتح الميم وكسر اللام ، وقال : أجمع المسلمون على أن ذلك الملك ليس إلا الله تعالى ، وعندي أن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها(2).

وناهيك بقوله بأن التمسك بهذه الآية أقوى من التمسك بغيرها برهانا على ضعف الأدلة التي يتمسكون بها ، فإن هذا الاستدلال لا يعدو أن يكون كملاحقة ( سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) "النور 39" ، فإن القراءة التي ادعاها لم تثبت ، فقد راجعت كتب القراءات ، وكتب التفسير المعنية بنقل القراءات فلم أجد لها ذكرا ، بل لم يذكرها الفخر الرازي نفسه في تفسيره لهذه الآية ، وعندما ذكرها في تفسير سورة الأنعام لم يعزها إلى أحد ، ولو سلمنا أنها قراءة واردة فهي من القراءات الشاذة التي قال جمهرة من المحققين بأنها لا تكون حجة في المسائل الفقهية الفرعية ، فكيف تكون حجة في الاعتقاد ؟



وأما من السنة فقد أكثروا من الأحاديث التي حشروها للاستدلال بها ، وأشهر وأقوى ما اعتمدوا عليه حديث ( سترون ربكم عيانا كما ترون القمر ليلة البدر ) ، وقد رووه من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدري وجرير بألفاظ متعددة ، وكثيرا ما يقتصرون في كتب العقيدة على هذا القدر من نصه ، وقبل أي تعقيب على الاستدلال أرى أن أنقل بعض ألفاظه وأسانيده.



روى الشيخان - واللفظ للبخاري - في كتاب التوحيد ، قال حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، عن أبن شهاب ، عن عطاء بن يزيد الليثي ، عن أبي هريرة أن الناس قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل تضارون في القمر ليلة البدر؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فهل تضارون في الشمس ليس دونها حجاب ؟ قالوا : لا يا رسول الله ، قال : فإنكم ترونه كذلك ، يجمع الله الناس يوم القيامة ، فيقول من كان يعبد شيئا فليتبعه ، فيتبع من كان يعبد الشمس الشمـس ، ويتبع من كان يعبد القمر القمـر ، ويتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغـيت ، وتبقى هذه الأمة فيها شافعوها أو منافقوها - شك إبراهيم - فيأتيهم الله فيقول : أنا ربكم ، فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه ، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون ، فيقول لهم : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا ، فيتبعونه ... الخ ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان عن زهير بن حرب عن يعقوب بن إبراهيم بالإسناد المذكور ، وفي روايته جزم بقوله : ( فيها منافقوها ) من غير تردد ، وزيادة ( فيأتيهم الله تبارك وتعالى في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول أنا ربكم. فيقولون نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا .. الحديث ).

وجاء بألفاظ مختلفة عند الشيخين وغيرهما ، ومثله في ذلك حديث أبي سعيد عند الشيخين كذلك . وأنت أيها القارئ الكريم تدرك ببصيرتك أن الأخذ بظواهر هذه النصوص يفضي إلى ما يرده العقل ويكذبه البرهان كما هو واضح فيما يلي :



(1) أنه يترتب عليه تغير ذاته تعالى من صورة إلى غيرها ، والتغير سمة من سمات الحدوث فيلزم منه حدوثه تعالى.



(2) كونه سبحانه مرئيا لهذه الأمة مؤمنها ومنافقها في الدنيا رؤية جلية تترك صورته منطبعة في أذهان الرائين ، حتى إذا جاءهم في صورة أخرى أنكروا أن يكون ربهم واستعاذوا بالله منه ، وإلا فبم عرفوا صورته حتى أنكروه عندما جاءهم في غيرها ، وعرفوه إذا انقلب إليها ، مع أن ذلك هو أول موقف من مواقف يوم القيامة.



وقد حَصَلَتْ مناظرات بيني وبين بعض العلماء في ذلك ، ولمَّا ألزمتهم هذه الحجة أجابوا بأن هذه المعرفة بصورته ليست نتيجة رؤية سابقة ، ولكنها بسبب ما عرفوه من وصفه لنفسه في كتابه ووصف النبي صلى الله عليه وسلم له في سنته ، فألزمتهم أن يكون كل من قرأ كتاب الله ودرس سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عارفاً بالصورة الحقيقية التي يرى بها ربه سبحانه وتعالى ، حتى إذا رآه في غيرها أنكره ، فهلمَّ إلى وصف هذه الصورة وتحديدها لنا مما عرفتموه من قراءتكم للقرآن ، ومطالعتكم لأحاديث الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، فأحجموا ودحضت حجتهم والحمد لله .

وإن مما يبطل تأويلهم الذي لجأوا إليه - فراراً من هذا الإلزام - مخالفته لصريح ما نص عليه حديث أبي سعيد عند الشيخين ، ففي البخاري عنه بلفظ ( فيأتيهم الجبار في صورة غير الصورة التي رأوه فيها أول مرَّةٍ ) وأما لفظ مسلم فهو ( حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برٍّ وفاجر أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ) واللفظان صريحان في أن معرفتهم بصورته ما كانت إلا عن رؤية سابقة ، ولا محيص - لمن أخذ بهذا الظاهر - عن القول بأنه مرئي في الدنيا - وقد أنكره أكثرهم ، ومن قال به حصر رؤيته في مخصوصين ، ولم يقل بشمولها الأبرار والفجار من هذه الأمة - أو القول برؤيته في البرزخ ، وهو ما لم يقله قائل من قبل ، فضلاً عن وجود مستند له .

وبعد هذا الذي قررته ، رأيت في فتح الباري ما نصه ( وقال غيره - أي غير الخطابي - في قوله : ( في الصورة التي يعرفونها ) يحتمل أن يشير بذلك إلى ما عرفوه حين أخرج ذرية آدم من صلبه ثم أنساهم ذلك في الدنيا ، ثم يذكرهم بها في الآخرة ! )(1) وهذا القول يحتمل أمرين إما أن يريد به قائله أنهم عندما أخرجوا من صلب آدم رأوا ذات الحق تعالى ، وإما أن يريد أنهم حصلت لهم معرفة ما كانت لهم من بعد ، والأول باطل لأمرين :

أ ـ أنه لم يقل به قائل ، ولم يشر إليه نصّ .

ب ـ أنه مخالف لما قالوه من علة عدم رؤية الناس لربهم في الدنيا ، وهي أنهم لم يخرجوا عن طور الفناء ، والفاني لا يقوى على رؤية الباقي ، وهل من المعقول أن يكونوا وهم في صلب آدم كأمثال الذر أقوى على الرؤية وأجدر بها من موسى الكليم بعد اصطفائه بالرسالة والكلام ، وإدنائه في مقام الزلفى .

والثاني غير معقول إذ لا يُتصور أن يكونوا في تلك اللحظة العابرة أعرف بالله منهم بعد نشأتهم في الدنيا ، وما من الله به عليهم من العلم والعقل ، على أن التصريح بأنهم رأوه في حديث أبي سعيد يسقط هذا الاحتمال ، اللهم إلا أن تفسر الرؤية بالعلم ، ويلزم منه أن تكون رؤيته تعالى المقصودة في الحديث هي زيادة المعرفة به .



( 3 ) كون رؤيته تعالى شاملة للبر والفاجر والمؤمن والمنافق ، وهو مخالف لما نص عليه أكثرهم ، من كونها ثواباُ خاصاً بأهل الإيمان .



(4) معارضته لحديث صهيب الذي استدلوا به كذلك على الرؤية - بناء على حملهم النظر فيه عليها - فإنه ناصٌّ على أن حصول ذلك بعد دخول الجنة ، وأنه زيادة على ما حصل لهم من النعيم كما سبق بيانه .

( 5 ) أن غالب معتقدي الرؤية يقولون أنها تحصل بلا كيف ، وتشبيهها برؤية القمر في الحديث في قوله : ( كذلك ترونه ) ينافي هذا القول ، وكذلك ما فيه من ذكر الصورة وإنكارهم لها عندما تتغير عما عهدوها .



ولأجل هذا الإشكال في الحديث ، هام القائلون بثبوت الرؤية في فهمه ، حتى أن ابن بطَّال نقل عن المهلب قوله : ( إن الله يبعث لهم ملكاً ليختبرهم في اعتقاد صفات ربهم الذي ليس كمثله شيء ، فإذا قال لهم : أنا ربكم ، ردّوا عليه لما رأوا عليه من صفات المخلوقين بقولهم : فإذا جاء ربنا عرفناه ؛ أي إذا ظهر لنا في ملك لا ينبغي لغيره ، وعظمة لا تشبه شيئاً من مخلوقاته ، فحينئذ يقولون : أنت ربنا ) .(1) وهذا كلام إن دل على شيء فإنما يدل على الحيرة مع الإصرار على تأييد فكرة معينة ثبتت أو لم تثبت ، ويرده أمران :

· أولهما : أن الكذب بغيض إلى الله قبيح عنده ، فلم يكن الله ليأمر به ، فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر ولكنه ينهى عنهما ، وإن أعظم الكذب وأفحشه أن يزعم عبد من عباد الله أنه هو الله ، ولم يكن لأحد من ملائكة الله الذين هم أعرف الخلق بحقه ، وأخوفهم من عقابه ، أن يجترئ على القول بذلك .

· ثانيهما : أن تلك الدار دار جزاء وليست دار ابتلاء في اعتقاد ولا غيره ، وجزاء الناس إنما هو بحسب ما كانوا عليه في الحياة الدنيا من اعتقاد أو عمل ، لا بحسب ما يكون منهم في الدار الآخرة .



وإذا حُملت الرؤية في الحديث على المعرفة انحلّ الإشكال ، وانجلى اللبس ، وزال التعارض ، اللهم إلا ما يكون من الإشكال في قولهم : ( نعوذ بالله منك ) فإن العياذ من الله لا يتصور أن يكون من مؤمن في أي موقف ، ولذلك كانت هذه الزيادة بحاجة إلى مزيد من التأمل ، ولعله من باب التمثيل لدهشتهم من هول ما يرونه في الموقف العظيم ، كما جاء في حديث التوبة ( اللهـم أنت عبدي وأنا ربك ) ، وتجدد معرفة العبد بربه بما يترآى له من الآيات التي لم يكن على بال منها من قبل أمر لا ينكر ، فغير بعيد أن يكون الحديث تمثيلاً لما يتفاعل في نفوسهم من الخواطر وهم يشاهدون مشاهد لم يألفوها ، وتنجلي لهم حقائق لم يعرفوها ، فلا غرو إذا طرأ عليهم من الاضطراب ما يطير ألبابهم ، حتى تحط على دوخة الحقيقة ، وتقر في قرار اليقين ، وما المشاهد التي يرونها والتجليات التي يعاينوها إلا من قبله سبحانه ، فهو يقلب الأحوال كما يشاء ، وفي كل حال منها تجليات لجلاله ، ومشاهد لكبريائه ، عبر عنها بالصور مضافة إليه سبحانه لأنها منه وإليه .



وقد قارب هذا التفسير جماعة من مثبتي الرؤية ، ومن ذلك ما نقله الحافظ ابن حجر بقوله : ( واختلف من أثبت الرؤية في معناها ، فقال قوم : يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات ) وهو على وفق قوله في حديث الباب ( كما ترون القمر ) إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية ، وذلك أمر زائد على العلم .

وقال بعضهم : إن المراد بالرؤية العلم ، وعبر عنها بعضهم بأنه حصول حالة في الإنسان نسبتها إلى ذاته المخصوصة نسبة الأبصار إلى المرئيات .

وقال بعضهم : رؤية المؤمن لله نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم ، وهذا أقرب إلى الصواب من الأول .. (1)



وقريب من هذا تفسير الإمام الغزالي للرؤية في بعض كتبه :

ومجيء الرؤية بمعنى العلم معهود لغة كما سبق نقله عن صاحب القاموس وشارحه ، ومن شواهده قوله تعالى : ( ألم تر إلى ربك كيف مدَّ الظل ) الفرقان 45 ، وقوله : ( ألم تر كيف فعل ربك بعاد ) الفجر 6 ، وقوله : ( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ) الفيل 1 ، وقوله : ( ألم تر أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض ) المجادلة 7 ، وقوله : ( ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) الأنعام 6 ، وقول الشاعر بـ ( رأيت الله أكبر كل شيء ) ، وقول غيره : ( رأيت الله أهلك قوم عاد ) .

ودعوى أن الرؤية لا تكون بمعنى العلم إلا إذا تعدت إلى مفعولين ، مردودة بقوله تعالى : ( فقد رأيتموه وأنتم تنظرون ) آل عمران 143 ، وقوله : ( ألم يرو كم أهلكنا من قبلهم من قرن ) .

ولا ريب أن في الجنة من التجليات الربانية لأصحاب السعادة ما يفوق ما يكون في مواقف القيامة ، فلا غرو إذا عبر عنها أصدق الإنس والجن ، وأبلغ العرب والعجم بالرؤية ، أو نحوها من العبارات تقريباً للأفهام ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب باللسان العربي المبين الذي نشأوا عليه ، فعرفوا معانيه ، وأدركوا مراميه ، فلا تعجبوا إذا لم يشكل عليهم هذا الخطاب .

وإذا كان العبد إذا أخلص لله تعالى في هذه الدار الدنيا - مع كثافة حجب طبائعها المادية المظلمة - تتراأى له في ذكره ودعائه مشاهد العظمة ، ويتكشف له من آيات الجلال ما يجعله يغيب عن وجوده ، غارقاً في عالم شهوده ، مشغولاً عن نفسه بما يمده به الحق تعالى من ألطاف الإنس ، المتراسلة من حظائر القدس ، خصوصاً في بعض الأحوال كخلوات العبادة ، وفي بعض الأزمان ، كليالي رمضان ، وفي بعض البقاع كالحرمين الشريفين ، فما بالكم بالدار الآخرة التي أعدت للمتقين ، حيث ترقى نفوسهم إلى أوج الكمال الإنساني .



ولا ينكر هذه المشاهد الإنسية في هذه الدار الدنيا إلا من حُرِم شفافية الروح ، ورقة الشعور والوجدان التي يشعر بها العبد وهو ماثل بين يدي الله تعالى ، داعيا أو ذاكرا ، حتى يكون كأنه من أنسه بربه يرى ذاته تعالى بأم عينيه ، من غير أن يتحول تعالى عن صفته الذاتية ، وهي عدم إدراكه بالأبصار ، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المرتبة بالإحسان ، وذلك في قوله (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فأي عجب إذا حصل للمؤمنين الصادقين في إيمانهم ، المخلصين في عملهم ، ما هو أبلغ في الدار الآخرة من ذلك من التجليات الجلالية لعقولهم وقلوبهم ؟ وأي بدع إن عبر عن ذلك بالرؤية مع ورود مثله في اللسان العربي ؟



وبهذا يتضح المراد بالرؤية في الأحاديث ، وبه يمكن الجمع بينها وبين آيات التنزيه الناصة على منعها ، ومهما يكن فإن هذه الأحاديث آحادية ، والآحادي لا تنهض به حجة في الأمور الاعتقادية لأن الاعتقاد ثمرة اليقين ، واليقين لا يقوم إلا على الأدلة القطعية المتواترة نقلا ، النصية دلالة بحيث لا تحتمل تأويلا آخر ، والحديث الآحادي لا يتجاوز ثبوت متنه الظن ، فلذلك قال المحققون إنه يوجب العمل ولا يفيد العلم ، وإذا كانت هذه درجة الآحادي في الحجية فكيف إذا عُورض بالنصوص القطعية من القرآن ، ولذلك نحكم بسقوط الروايات الصريحة في تشبيه الخالق بالخلق إذا لم تحتمل التأويل ، لاستحالة أن يصدر ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، وذلك كحديث (إذا كان يوم الجمعة نزل على كرسيه ثم حف الكرسي بمنابر من نور ، فيجئ النبيون حتى يجلسوا عليها .. الخ) فإنه مصادم للعقل والنقل ، بل هو مصادم لما يقوله معتقدو الرؤية أنفسهم من أنه يرى بدون إحاطة ، فإنه يلزم أن يكون محاطا به قطعا إذا كان النبيون تحف منابرهم بكرسيه الذي يستوي عليه.



وإذا كان الصحابة رضوان الله تعالى عليهم لم يقبل بعضهم ما رواه بعض منهم مما رآه مخالفا لما فهمه من مدلول الكتاب العزيز ، كما كان من عمر في رواية فاطمة بنت قيس ، وما كان من عائشة فيما رواه ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين - مع كونهم في خير القرون وأفضل العصور - فما بالكم بمن بعدهم ، وقد اختلط الحابل بالنابل ، وفشا اللبس ، وكثر التدليس ، وانتشرت البدع ، وتعددت الدسائس ، وتباعدت العصور عن العصر الكريم.



هذا وقد سمعت فيما سمعت من المحاضرة المسجلة في الشريط ، التي أشرت إليها من قبل ، سخرية من المحاضر بالإباضية لعدم اعتمادهم على الأحاديث المروية في الرؤية لآحاديتها ، كأنه لم يقل بعدم الأخذ بالأحاديث الآحادية في الاعتقاد غيرهم ، وما هذه إلا سخرية من نفسه ، فإنه قد أثبت بذلك عدم معرفته بما قاله المحققون من علمائه ، ولا أريد إلا أن أنقل هنا بعض نصوصهم في ذلك ، من غير أن أشرك نصا لأحد من علماء الإباضية:

قال الإمامان ابن السبكي في جمع الجوامع والمحلي في شرحه (خير الواحد لا يفيد العلم إلا بقرينة) كما في إخبار الرجل بموت ولده المشرف على الموت ، مع قرينة البكاء ، وإحضار الكفن والنعش (و) قال (الأكثر لا) يفيده (مطلقا). (1)



وفي تنقيح ابن الحاجب وشرحه (التوضيح) ما نصه : (والثالث - ويعنى به الخبر الآحادي - يوجب عليه الظن إذا اجتمع الشرائط التي نذكرها إن شاء الله تعالى ، وهي كافية لوجوب العمل لأنه لا يوجب العلم ؛ ولا عمل إلا عن علم - إلى أن قال - والعقل يشهد أنه لا يوجب اليقين). (2)

وفي حاشية السعد التفتازانى عليهما أن هذا هو قول الجمهور( المرجع : التلويح للسع التفتازاني ص431 ) ثم قال : "بل العقل شاهد بأن خبر الواحد العدل لا يوجب اليقين ، وأن احتمال الكذب قائم وإن كان مرجوحا ، والإلزام القطع بالنقيضين عند إخبار العدلين بهما".(3)



وقال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي "اعلم أنا نريد بخبر الواحد في هذا المقام ما لا ينتهي من الأخبار إلى حد التواتر المفيد للعلم ، فما نقله جماعة من خمسة أو ستة مثلا فهو خبر الواحد - إلى أن قال - وإذا عرفت هذا فنقول خبر الواحد لا يفيد العلم ، وهو معلوم بالضرورة فإنا لا نصدق بكل ما نسمع ، ولو صدقنا وقدرنا تعارض خبرين فكيف نصدق بالضدين ؟ وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل إذ يسمى الظن علما ، ولهذا قال بعضهم يورث العلم الظاهر ، والعلم ليس له ظاهر وباطن وإنما هو الظن".(4)

وفي فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت لابن عبد الشكور ما نصه : "الأكثر من أهل الأصول ومنهم الأئمة الثلاثة على أن خبر الواحد ، إن لم يكن هذا الواحد المخبر معصوما نبيا ، لا يفيد العلم مطلقا ، سواء احتف بالقرائن أو لا - إلى أن قال - لو أفاد خبر الواحد العلم لأدى إلى التناقض إذا أخبر عدلان بمتناقضين - ثم قال - وذلك أي إخبار العدلين بمتناقضين جائز بل واقع ، كما لا يخفى على المستقرئ في الصحاح والسنن والمسانيد). (5)

وقال الإمام محمد عبده في إحدى فتاواه "ولو أراد مبتدع أن يدعو إلى هذه العقيدة ، فعليه أن يقيم عليها الدليل الموصل إلى اليقين إما بالمقدمات العقلية البرهانية ، أو بالأدلة السمعية المتواترة ، ولا يمكنه أن يتخذ حديثا من حديث الآحاد دليلا على العقيدة ، مهما قوي سنده ، فإن المعروف عند الأئمة قاطبة أن أحاديث الآحاد لا تفيد إلا الظن (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) (النجم 28). (1)



وقال العلامة السيد محمد رشيد رضا "إن بعض أحاديث الآحاد تكون حجة عند من ثبتت عنده واطمأن قلبه بها ، ولا تكون حجة على غيره يلزم العمل بها ، ولذلك لم يكن الصحابة رضي الله عنهم يكتبون جميع ما سمعوه من الأحاديث ويدعون إليها ، مع دعوتهم إلى اتباع القرآن والعمل به ، وبالسنة العملية المتبعة المبينة له إلا قليلا من بيان السنة ، كصحيفة عليّ كرم الله وجهه المشتملة على بعض الأحكام كالدية ، وفكاك الأسير ، وتحريم المدينة كمكة ، ولم يرض الإمام مالك من الخليفتين المنصور والرشيد أن يحملا الناس على العمل بكتبه حتى الموطأ ، وإنما يجب العمل بأحاديث الآحاد على من وثق بها رواية ودلالة".(2)

وإذا كان هذا موقف حجية الآحادي في الأمور الفرعية العملية فكيف بالاعتقاد ، بل كيف تكون حجيته مع معارضته للقطعي المتواتر ، وقد قال هذا الإمام نفسه "وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة مخالفة راويه لغيره من الثقات فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه".(3)

وما قاله هنا هو الذي يقتضيه كلام علماء المصطلح في الاستدلال على وضع الحديث ، بل هو الذي يستفاد من صنيع الصحابة رضوان الله عليهم في قبول الروايات أو رفضها كما تقدم ، ومع مبالغة أهل الحديث في التعويل على أخبار الآحاد في أمور الدين وإنكارهم على من لم يأخذ بها ، نجد البخاري يقيد ذلك بالفروع حيث يقول : "باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق في الأذان والصلاة والصوم والفرائض والأحكام".(4)







--------------------------------------------------------------------------------

(1) نُقِل ذلك عند الإمام السالمي في مشارق الأنوار ص187 ط2 .



(1) تمهيد قواعد الإيمان ج1 ص283 ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان



(1) التحرير والتنوير ج9 ص92/93 ط الدار التونسية للنشر.



(1) محاسن التأويل للقاسمي ج15 ص5567 ط عيسى البابي الحلبي وشركاه . وفتاوى ابن تيمية المجلد السادس ص507.

(1) تاج العروس ج3 ص573 ط مكتبة الحياة .



(1) لسان العرب ج7 ص72 ط بولاق .

(2) : الجامع الصحيح للإمام الربيع بن حبيب ج3 ص228 ط دار الفتح .



(1) المرجع السابق ص226/228

(2) المرجع : فتح الباري ج13 ص425 المطبعة السلفية

(1) الميزان ج2 ص116 ط مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

(1) المنار ج9 ص131 الطبعة الرابعة .

(2) التحرير والتنوير ج29 ص353 ط الدار التونسية للنشر.



(1) روى ذلك ابن جرير عنه بثلاثة أسانيد

(2) الجامع الصحيح للإمام الربيع بن حبيب ج3 ص232 ط مكتبة الاستقامة ، وتفسير ابن جرير ج11 ص75/76 ط دار الباز.

(1) تفسير ابن جرير ج3 ص100 دار الفكر.

(2) حادي الأرواح ص241 ط دار الكتب العلمية بيروت - لبنان .

(1) لسان العرب ج20 ص121 ط بولاق.

(2) التفسير الكبير ج13 ص131 ط2.



(1) فتح الباري ج13 ص428 المطبعة السلفية.

(1) المصدر السابق.



(1) المرجع السابق ص426.

(1) جمع الجوامع لابن السبكي بشرح جلال الدين المحلي مع حاشية ابن قاسم العبادي ج3 ص215.

(2) التوضيح على التنقيح ص431/432 هامش حاشية التلويح للسعد التفتازاني ، مطبعة مكتب صنايع من طرف الشركة الصحافية العثمانية شوال من سنة 1310هـ.

(3) المرجع السابق ص433

(4) المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي ج1 ص145 ط بولاق.

(5) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت المطبوع بذيل المستصفى ج2 ص121.

(1) من فتوى الإمام محمد عبده نقلها القاسمي في تفسير سورة الأحزاب من تفسيره محاسن التأويل ج13 ص4920 ط عيسى البابي الحلبي وشركاءه.

(2) المنار ج1 ص138 الطبعة الرابعة

(3) المرجع السابق ص85/86

(4) صحيح البخاري مع فتح الباري ج13 ص231 المطبعة السلفية.
  #5  
قديم 19/09/2004, 02:37 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
الفصل الثالث

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الفصل الثالث

في أدلة النافين

وهي قسمان ، عقلية ونقلية
أما العقلية : فتتلخص في أن الله سبحانه كان قبل خلق الوجود كله ، ولم تتحول ذاته ، أو تتبدل صفاته بعد الخلق عما كانت عليه قبله ، فلا تتصل ذاته سبحانه بشيء من مخلوقاته كما أنها لا تنفصل عنها ، لأن كل ذلك من صفات الحوادث ، ومن ثم كان إدراك كنهها مستحيلا عقلاً ونقلاً ، وإنما غاية المعرفة بها الشعور بالعجز عن إدراك كنهها ، كما قيل "العجز عن الإدراك هو الإدراك".

والرؤية البصرية المعهودة هي انطباع صورة المرئي في حدقة الرائي بقوة الذبذبات الضوئية الملتقطة للصور ، ولها شروط :

- أولها : سلامة الحاسة.

- ثانيها : أن يكـون المرئي جائز الرؤية فيخرج بذلك ما كان ممتنعها كالروح والعقل والروائح والأصوات.

- ثالثها : مقابلته للباصرة في جهة من الجهات أو انعكاس صورته في شيء مقابل للرائي ، وتدخل في ذلك الصور المرئية في المرايا أو الشاشات.

- رابعها : أن لا يكون دقيقا جدا كالميكروبات التي تعجز الأبصار عن التقاط صورها وإدراك حقيقتها ، وذلك يختلف باختلاف حالة البصر قوةً وضعفاً.

- خامسها : أن لا يكون في منتهى اللطافة كالنسيم.

- سادسها : أن لا يكون قريبا جداً فان الالتصاق بالأبصار يحجبها عن الرؤية ، ولذلك تحجب الأجفان الأحداق عن رؤيتها.

- سابعها : عدم غاية البعد ، فإن البعيد جدا يضعف البصر عن رؤيته ، ولذلك تخفى عن أبصارنا الأجرام السماوية الضخمة لإيغالها في البعد . وتختلف الحالة في هذا الشرط باختلاف الأبصار قوة وضعفا واختلاف المبصرات صغرا وكبرا.

- ثامنها : عدم الحجاب الحائل وهو الجسم الكثيف أو ما في حكمه كالضباب المتراكم.

- تاسعها : أن يكون مضيئا بنفسه أو واقعا عليه ضوء غيره. (1)

وقد اعترض على هذا الاستدلال بأن هذه الشروط إنما هي في رؤية الشاهد ، ولا يجوز أن تحمل عليها رؤية الغائب.

وأجيب بأن الرؤية المعهودة عند الناس هي هذه ، ولا فرق في ذلك بين الشاهد والغائب ، على أن مثبتي الرؤية أنفسهم قاسوا الغائب على الشاهد في باب الصفات ، فما بالهم يفرُّون هنا مما لجأوا إليه هنالك.

ولا يرد على هذا أن الله يرى مخلوقاته من غير أن تكون رؤيته مقيدة بشيء مما ذكر ، لأنه سبحانه مخالف لمخلوقاته في كل شيء فهو يرى لا كما يرون . كما أنه يسمع لا كما يسمعون ، ويعلم لا كما يعلمون ، ويقدر لا كما يقدرون ، ويفعل لا كما يفعلون ، والمخلوقون وإن اختلفت أحوالهم لا يتجاوزون حدود المخلوقية ، ولا يتصفون بشيء من صفات الخالق دنيا ولا أخرى.

وأما النقلية : فبعضها من الكتاب ، وبعضها من السنة.

أما من الكتاب فهي كما يلي :

(1). قوله تعالى (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) "الأنعام 103" ، ووجه الاستدلال بالآية أنه تعالى مدح نفسه فيها بأن الأبصار لا تدركه ، وإدراكها الرؤية ، فتبين منها أن عدم رؤيته بالأبصار صفة ذاتية لازمة له تعالى ، فإنه لو رؤى للزم زوال مدحه وإذا زال انقلب إلى ضده ، وهو الذم تعالى الله عنـه ، ومن ناحية أخرى فإنه إخبار من الله سبحانه بوصف من أوصافه ، وأخبار الله لا تتبدل ، لأنها لو تبدلت كان التبدل تكذيبا لها (ومن أصدق من الله قيلا).

واعترض على هذا الاستدلال من خمسة أوجه :

- أولها : أن الآية نفت الإدراك ولم تنف الرؤية ، وبينهما فرق ، فإن الإدراك هو الإحاطة بالمدرك من جميع جوانبه وهو مستحيل عليه تعالى ، والرؤية لا تستلزمه فهي أعم منه ، ونفي الأخص ليس نفيا للأعم كما أن قوله تعالى : (ولا يحيطون به علما) "طه 110" لا ينفى مطلق العلم ، فإن للعباد معرفة به تعالى يخشونه بها ويرجونه ، ويطيعونه ويعبدونه ، وإنما هو ناف للإحاطة بكنه ذاته سبحانه ، وهذا أشهر ما عولوا عليه في دفع هذه الحجة ، ولذلك سرعان ما تجدهم يهرعون إليه للتخلص منها.

- ثانيها : أن الآية ليس فيها أكثر من نفي كون جميع الأبصار تراه (وهو الذي يُعبر عنه بسلب العموم) وليست نافية أن يكون كل فرد من أفراد جنس الأبصار رائيا له (وهو ما يُعبر عنه بعموم السلب) والكل متفقون على أنه تعالى لا تراه جميع الأبصار وإنما يراه بعضها ، وأقل ما يقال بأن الآية محتملة لهذا المعنى ، والدليل إذا طرقه الاحتمال سقط به الاستدلال ، وقد بالغ بعض غلاتهم المتعصبين فقلب مدلول الآية رأسا على عقب ، زاعما أنها أدل على ثبوت الرؤية منها على نفيها ، بانيا قولـه هذا على أن جملة (لا تدركه الأبصار) نافية غير مقيدة بعموم أو خصوص ، فتحمل على عدم إدراك بعض الأبصار دون جميعها ، وتخصيص البعض بالنفي دال بمفهومه على إثبات المنفي للبعض الآخر.

- ثالثها : أنهـا وإن عمَّت في الأشخاص فإنها لا تعم في الأزمان ، لأن نفيها مطلق وليس مقيدا بدوام.

- رابعها : أن الآية تدل على عدم رؤية الأبصار له، لكنها لا تدل على عدم رؤية المبصرين إياه ، لجواز أن تكون نافية للرؤية بالجارحة مواجهة وانطباعاً كما هو العادة ، فلا يلزم منه نفي مطلق الرؤية ، وخلاصة ذلك أن ما في الآية من امتداح إنما هو بنفي المبْصَرِية لا بنفي الرؤية. (1)

- خامسها : أن عمومها مخصص بأدلة إثبات الرؤية. (2)

وهذه الاعتراضات كلها مردودة :

أما الأول فهو مخالف لما دل عليه الاستعمال العربي لكلمة الإدراك ومشتقاتها ، فإنه لا يفهم منه أنه بمعنى الإحاطة ، فأقوال أساطين العربية المهرة وشواهدها الصريحة الثابتة دالة على أن الإدراك ليس بمعنى الإحاطة بل لكل منهما معنى مستقل عن الآخر.

قال ماتن القاموس وشارحه (الدركُ محركة اللحاق) وقد (أدركه) إذا لحقه ، وهو اسم مـن الإدراك ، وفي الصحاح : الإدراك اللحوق ، يقال : مشيت حتى أدركته ، وعشت حتى أدركت زمانه. (1)

ونص كلام الجوهري في الصحاح "الإدراك اللحوق ، يقال : مشيت حتى أدركته ، وعشت حتى أدركت زمانه ، وأدركته ببصري ، رأيته".(2) وفي اللسان "الدّرك اللحاق - إلى أن قال - وتدارك القوم تلاحقوا ، وفي التنزيل (حتى إذا ادَّاركوا فيها). (3)

هذه نصوص أساطين اللغة الذين نقلوها إلينا بأمانة ، وليس فيها ما يدل على تفسير الإدراك بالإحاطة ، ولا يمكن حمل اللحوق أو اللحاق عليها ، لأن قول القائل : لحقت الجدار بيدي لا يدل إلا على مماسته له ، وهو قول فصيح مقبول وضعاً وعرفـاً ، مع تعذر إحاطة اليد بالجدار ، ومثل ذلك قولك ، أنزلت الحبل في البئر حتى لحق الماء ، وأمثلة ذلك لا تُحْصى ، ولم أجد مرجعا لغويا فسَّر الإدراك بالإحاطـة ، وناهيك دليلا على خطأ هذا التفسير عدم تقبل العرف والذوق لقول القائل في الحائط المحيط بالزرع إنه مدرك له ، ومثله قول القائل بأن البيت مدرك لمن كان وما كان داخله ، مع العلم بأنه لا يماري أحد في إحاطته بما اشتمل عليه.

وإذا كان معنى (لا تدركه الأبصار) لا تلحقه فإن مؤداه قطعا أن القوى البصرية لا تصل إليه حتى يكون مرئيا لها ، فإن البصر يطلق على الحاسة كما يطلق علـى آلة الإبصار وهي العين ، وتمثيل صاحب الصحاح بقوله : "عشت حتى أدركت زمانه" شاهد على صحة ما قلته من التباين بين لفظتي الإدراك والإحاطة ، فإنه مما يدركه كل أحد أن قائل ذلك لم يرد أنه عاش حتى أحاط بزمان من أضيف إلى ضميره الزمان من أوله إلى آخره ، إذ لو كان ذلك هو المراد لما جاز لأحد أن يقول في أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه أدرك زمانه عليه الصلاة والسلام إلا إذا كان ذلك الصحابي قد أحاط بزمنه صلى الله عليه وسلم منذ الولادة إلى الوفاة.

ومن الشواهد الدالة على خطأ تفسير الإدراك بالإحاطة أنه لا يختلف في صحة قول القائل - فيمن وقع عليه سهم - أدركه السهم ، ولو قال أحد أحاط به السهم لما عد قوله عاقل إلا هذيانا.

وأصرح من هذه النصوص ما تقدم نقله عن شارح القاموس بأنه فسر الرؤية بإدراك المرئي ، وفي اللسان أيضا "والإدراك اللحوق ، يقال مشيت حتى أدركته ، وعشت حتى أدركت زمانه ، وأدركته ببصري رأيته ".(1)

وتصاريف لفظة الإدراك دالة على هذا ، فقوله تعالى : (حتى إذا اداركوا فيها) لا يقصد به أن كل فريق منهم أحاط بغيره وإنما هو أن كل فريق لحق سابقه.

واستشهاد الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على نفى الرؤية بهذه الآية الكريمة من أوضح الأدلة وأبينها ، وأقوى الشواهد وأقطعها بأن الإدراك إذا أسند إلى الأبصار لا يكون إلا بمعنى الرؤية ، فإنهم رضي الله تعالى عنهم عرب أقحاح طبعوا على فصيح الكلام العربي بتربيتهم العربية الأصيلة ، وزادهم القرآن الكريم الذي كان ينزل بين ظهرانيهم علماً بمعانيها ، وخبرة باستعمالها ، فأنَّى لهم أن يجهلوا الفرق بين رؤية البصر وإدراكه لو كان بينهما فرق ؟

ومما روي عنهم في ذلك ما أخرجه الإمام الربيع في مسنده ، والشيخان في صحيحيهما عن مسروق قال : "كنت متكئا عند عائشة فقالت : يا أبا عائشة ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية ، من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية ، قال : وكنت متكئا فجلست وقلت : يا أم المؤمنين أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله عز وجل : (ولقد رآه بالأفق المبين) ، (ولقد رآه نزلة أخرى) فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إنما هو جبريل لم أره في صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، رأيته منهبطاَ من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض . فقالت : أو لم تسمع أن الله يقول : (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير) .. الخ.

وقد أخرج الإمام الربيع رحمه الله عن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنهما استدلا على نفي رؤية الله تعالى بهذه الآية الكريمة . (2)

وقد حاول الفخر الرازي دفع كون استدلال عائشة رضي الله تعالى عنها بالآية على نفي الرؤية ، شاهدا على أن الإدراك لا يتقيد بالإحاطة حيث قال : "معرفة مفردات اللغة إنما تكتسب من علماء اللغة ، فأما كيفية الاستدلال بالدليل فلا يرجع فيه إلى التقليد ".(3)

وهي محاولة فاشلة مردودة من ثلاثة أوجه :

- أولها : أن العرب الأقحاح - عندما كانوا لا يعتمدون إلا على سليقتهم العربية في نطقهم وفهمهم لمقاصد الكلام - هم أقوى حجة ممن جاء بعدهم من علماء العربية الذين دونوا مفرداتها ، وشرحوا معانيها ، فإن هؤلاء كانوا يستندون إلى أولئك في فهم مقاصدها ، ولم يكن أولئك يرجعون إلى هؤلاء في ذلك .

- ثانيها : أن ما نقله أئمة العربية عن العرب من معاني الإدراك متفق كل الاتفاق مع ما ذهبت إليه عائشة رضي الله تعالى عنها في هذا الاستدلال .

- ثالثهما : أن الاستشهاد باستدلالها هذا ليس هو من التقليد في شيء ، وإنما من باب الأخذ بوسائل الفهم للمعاني اللغوية .

واعتمد ابن جرير الطبري في التفريق بين الرؤية والإدراك على قوله تعالى : (فلما ترآى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون . قال كلا إن معي ربي سيهدين) "الشعراء 61/62" ، حيث نفى موسى ما توقعوه من إدراك عدوهم مع أن الترائي حصل بين الجانبين ، وتابعه ابن حزم (1)،(ونقل ذلك الحافظ بن حجر عن القرطبي صاحب المفهم ، وتعقبه الحافظ بقوله : "وهو استدلال عجيب لأن متعلق الإدراك في آية الأنعام البصر ، فلما نفي كان ظاهره نفى الرؤية بخلاف الإدراك الذي في قصة موسى ، ولولا وجود الأخبار بثبوت الرؤية ما ساغ العدول عن هذا الظاهر . (2)

وأضيف إلى ما قاله الحافظ بأن الإدراك يتفاوت معناه بحسب تفاوت أنواع المدركات - بالكسر - فإدراك العين رؤيتها للشيء ، وإدراك الأذن سماعها للصوت ، وإدراك اليد مسيسها للجسم ، وإدراك السيف وقعه على المضروب ، وإدراك السهم إصابته للمرمى ، وإدراك الرمح إصابته للمطعون ، وإدراك العدو لعدوه تمكنه منه وقدرته على إنزال السوء به ، فأصحاب موسى عليه السلام ما كانوا يتوقون مجرد رؤية عدوهم لهم ، وإنما كانوا يحذرون من تمكنه منهم .

وكلام ابن حجر يفيد أنه يرى رأينا في تفسير الآية ، غير أنه يستند في معارضته هذا المفهوم بالأخبار المثبتة للرؤية ، وقد علمت أخي القارئ ما في تلك الأخبار المشار إليها من عدم إفادتها ثبوت رؤيته تعالى ، كما سبق بيانه فثبتت والحمد لله قطعية حجتنا .

وإن من أحسن ما قرأته في تفسير هذه الآية الكريمة قول الإمام أبي بكر أحمد بن علي الرازي الحنفي المشهور بالجصاص في كتابه (أحكام القرآن) ونصه : "يقال إن الإدراك أصله اللحوق ، نحو قولك : أدرك زمان المنصور ، وأدرك أبا حنيفة ، وأدرك الطعام أي لحق حال النضج ، وأدرك الزرع والثمرة ، وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال"

"وإدراك البصر للشيء لحوقه له برؤيته إياه ، لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل أدركت ببصري شخصا معناه رأيته ببصري ، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركا له ، فقوله تعالى : (لا تدركه الأبصار) معناه لا تراه الأبصار ، وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار ، كقوله : ( لا تأخذه سنة ولا نوم ) ، وما تمدَّح الله بنفيه عن نفسه إثبات ضده ذم ونقص ، فغير جائز إثبات نقيضه بحال ، كما لو بطل استحقاق الصفة بـ (لا تأخذه سنة ولا نوم) لم يبطل إلا إلى صفة نقص"

ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله : (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) لأن النظر محتمل لمعان منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف ، فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه".

"والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم ، لو صحت ، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ، ولا تعرض فيه الشكوك لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة".(1)

أما الاعتراض الثاني فهو مناقض لتمدحه تعالى في الآية بعدم إدراك الأبصار له ، فإنه إن حمل على سلب العمـوم - كما قالوا - لم يبق معنى للامتداح ، لأن المخلوقات المرئية كلها مشاركة لله تعالى في هذه الصفة ، إذ ما من مخلوق رأته أو تراه جميع الأبصار حتى الشمس - التي هي أكثر انكشافا لمن على ظهر الكوكب الأرضي جميعا ، فإن أصحاب العوالم الأخرى لا يرونها لبعدهم عنها ، كما أننا لا نرى ما هو أكبر وأنور منها من الأجرام النائية السابحة في المجرات السحيقة - فضلا عن البشر وأمثالهم ، فإن أي إنسان منا لا يمكن أن تراه جميع الأبصار المعاصرة له في هذه الأرض نفسها فضلا عمن مات قبله ، أو يأتي بعده ، أو كان في عوالم أخرى من المبصرين ، ومن ناحية أخرى فإن تجويز هذا التأويل في الآية يقتضي جوازه في أمثالها ، نحو (إن الله لا يحب المعتدين) "البقرة 190 ، المائدة 87" ، (إنه لا يحب المسرفين ) "الأنعام 141 ، الأعراف 31" ، (والله لا يحب الظالمين) "آل عمران 57 ، 140" (إن الله لا يحب كل مختال فخور) "لقمان 18" ، إذ لا فارق بينها فإنها جميعا سيقت مساق المدح له تعالى وهو كاف في إسقاط الاحتمال الذي ذكروه.

وأما جعل الآية دليلا على جواز الرؤية لأنها نافية غير مقيدة بعموم أو خصوص ، فتحمل على عدم إدراك بعض الأبصار دون جميعها بناءً على أن تخصيص البعض بالنفي دال بمفهومه على إثبات المنفي للبعض الآخر ، فهو أضعف من أن يحتاج إلى إضعاف ، لأن كل من صحا عقله من سكرة الهوى ، وسلم ذوقه من فساد الفطرة يدرك بطلانه ، فإن النفي في قوله تعالى : (لا تدركه الأبصار) لم يخص ببعض الأبصار دون بعض ، وإنما يعمها بلفظه الصريح الذي تؤيده القرائن ، وذلك أن التعريف في الأبصار قاض بعمومها ، سواء حملناه على الجنس أو الاستغراق ، فإن حملناه على الاستغراق فهو أظهر من أن يحتاج إلى بيان ، إذ لا معنى للاستغراق إلا شمول أفراد مدلول اللفظ ، وإن حملناه على الجنس فمن حيث أن أي فرد من أفراد جنس ما يوجد مدلول ذلك الجنس ضمنه إثباتا أو نفيا ، ولو كان هذا القول صحيحا لما حكم بالحنث على من يقسم بالله الأيمان المغلظة أنه لم يزر القبور مع أنه يتردد على زيارتها في كل أوقاته ، إذ لا يعقل أن يزور جميع القبور في الأرض ، كما أنه يترتب عليه أن يكون من أقسم بأنه لم يزن بالنساء - وقد زنى بألوف النساء - صادقا في قوله غير حانث في يمينه ، لتعذر أن يزني زان بجميع نساء الأرض ، وكذلك يلزم عدم حنث من حلف بأنه لم يسرق التمر وقد سرق من التمور ما لا يدخل تحت إحصائه ولا إحصاء غيره ، بل يلزم على هذه الدعوى أن يكون قول القائل لم أزر القبور منبِّئا أنه قد زار بعضها وكذا في أمثاله.

فإن قيل لعل تعريف الأبصار عند هذا القائل عهدي ليس للجنس ولا للاستغراق ، فجوابه أن حمله على العهد مناف لما تدل عليه الآية من التمدح الذي يقتضيه سياق ما قبلها وما بعدها ، والعهد لا بد له من معهود ولا معهود ، ولو فرضنا أن ثم معهودا فهل يمكن أن يكون نفي شيء عن معهود قاضيا بإثباته لغيره ؟ وهل هذا إلا من باب الاحتجاج بمفهوم اللقب ، الذي لا يعول عليه في الظنيات فكيف بالقطعيات ؟

وأما الاعتراض الثالث - وهو أن النفي المطلق لا يدل على الدوام - فهو مرفوض لغة وعرفا وشرعا ، فإن كل أحد يدرك أن قول القائل : لا أشرب اللبن دال على نفي الشرب في أي وقت من الأوقات ، ولولا ذلك لما حنث من حلف أنه لا يزني ولا يسرق ولا يشرب الخمر ولا يقتل النفس المحرمة بغير حق ، إذا أتى أي شيء من ذلك في مستقبل الزمان ، بناء على أن النفي المطلق غير شامل للأزمنة.

ومما لا خلاف فيه أن للنهي حكم النفي ولئن ساغ هذا القول لم يبق أمر محجور فيسوغ للناس أن يأكلوا الربا الذي حرمه الله في كتابه ، وأن يقتلوا النفس المحرمة بغير حق ، وأن يرتكبوا كل فساد في الأرض ، ويأتوا كل منهي في الإسلام ، متذرعين إلى ذلك كله بدعوى أن النهى غير شامل لعموم الأزمنة.

وما تقد تقريره من أن هذه الآية - كسائر الآيات التي انتظمت في سلكها ، سيقت مساق مدحه تعالى مبطل لهذه الدعوى ، إذ لو حمل النفي فيها على الدار الدنيا دون الآخرة لجاز مثله في نظائرها نحو قوله تعالى : (لا تأخذه سنة ولا نوم) "البقرة 255" ، وقوله : (ما اتخذ صاحبة ولا ولدا) "الجن 3" ، وقوله : (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد) "الإخلاص 3/5" ، وقوله : (ولا يظلم ربك أحدا) "الكهف 49" ، ولجاز عليه تعالى في الآخرة ، ما كان ممتعا عليه في الدنيا من السنة والنوم ، والصاحبة والولد ، والكفء والند ، والجور والظلم ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا .

على أن الواجب على كل مسلم أن يعتقد أن الدنيا والآخرة لا تأثير لهما في ذات الحق تعالى ، فإنه سبحانه يستحيل عليه مرور الزمان ، كما يستحيل عليه اكتناف المكان ، فهو تعالى خالق الزمان والمكان ، لا تتغير ذاته ، ولا تتبدل صفاته أزلا وأبدا ، وإنما تحول الأحوال بين الدنيا والآخرة لا يتجاوز المخلوقين.

هذا وذكر الإمام ضياء الدين عبد العزيز الثميني رضي الله عنه في معالمه بأن القول بأن الدال على عموم الأفراد في الإطلاق لا يدل على عموم الأزمان هو قول لبعض أئمة الأصول كالآمدي والقرافي ، والأصفهاني ، وهو بمعزل عن التحقيق ، والتحقيق في ذلك ما عليه المحققون منهم كالفخر وابن دقيق العيد ، والسبكي وابنه ، وكثير من المتأخرين ، وهو لازم لمدلول الدال على استغراق الأفراد. (1)

وأما الاعتراض الرابع : - وهو أن الآية نفت إدراك الأبصار ولم تنف إدراك المبصرين - فيدحضه أن البصر في الأًصل هو الطاقة التي تتوصل بها العين إلى الإبصار ، وإطلاقه على العين تجوُّز ، كإطلاق السمع على الأذن ، فلو فرضنا أن أحدا أبصر برأسه أو بأذنيه أو بمنخريه أو بيديه أو برجليه ، أو بجميع وجهه أو بجميع جسمه لكانت الطاقة البصرية موجودة فيما أبصر به ، وإذا كان المنفي في الآية إدراك البصر فإن كل ذلك داخل في النفي.

وأما الاعتراض الخامس : - وهو أن الآية مخصصة بغيرها - فهو مردود بأمرين :

1 - أحدهما : عدم وجود المخصص ، وهو واضح فيما قررناه من إبطال تعلق معتقدي الرؤية بما يتشبثون به مما ظنوه حجة ودليلا.

2 - ثانيهما : أن سياق الآيـة مساق المدح له سبحانه بنفي إدراك الأبصار مانع من التخصيص.

فإن قيل إن انتفاء الرؤية عن الله تعالى لا يعد مدحا له سبحانه لمشاركة غيره له في ذلك ، كالرياح والأرواح والذرة والكهرباء.

فجوابه أن انتفاءها عنه سبحانه لجلاله وكبريائه ، وانتفاءها عن غيره مما لا يرى لإخفائه سبحانه عن الأبصار ، على أنه يترتب على هذا الاعتراض أن يكون قوله تعالى : (لا تأخذه سنة ولا نوم) وقوله : (لم يتخذ صاحبة ولا ولدا) لا يعد مدحا لوجود ما لا ينام ولا ينكح ولا يلد من مخلوقاته ، فالملائكة متصفون بذلك كله ، والشمس والقمر والأرض وسائر الأجرام الفلكية هي أيضا لا تنام .

وقسَّم المحقق الخليلي رضوان الله تعالى عليه الأشياء في هذا على أربعة أقسام فقال :

- أحدهما : ما يرى - بفتح الياء - ولا يُرى - بضمها - وهو نهاية الشرف وغاية الكمال لاتصافه بالقدرة على رؤية ما سواه وتعاليه عن إدراك غيره إياه ، وليس شيئا كذلك إلا سبحانه وتعالى ، فهو المنفرد بمطلق الكمال والمتوحد بصفة العز والجلال (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) "الشورى 11".

- وثانيها : قسم يُرى ويَرى - بضم الياء وفتحها - وهو أشرف ما بعده من الأقسام وهو الحيوانات من الملائكة والجنة والناس والطير وسائر الدواب من الأنعام والبهائم والسباع وأكثر الحشرات.

- وثالثها : يُرى ولا يَرى - بضم الياء الأولى وفتح الثانية - كالأجساد الكثيفة من الأرض والجبال ، والمعادن والنبات ، وما يشاركها في ذلك من الجواهر والأعراض.

- ورابعها : لا يُرى ولا يَرى مما يدرك بالحواس كالشم والذوق ، والصوت المدرك بالسمع أو مما لا يدرك بها كالإيمان والكفر ، والعقل والعلم ، والغضب والحلم ، وغيرها من الصفات والأخلاق التي كلف الشرع بها ، وأثاب وعاقب عليها. (1)

هذا وقد أتى كل من ابن تيمية والفخر الرازي بما يأباه العقل الصحيح ويرفضه الذوق السليم في تأويل قوله تعالى : (لا تدركه الأبصار) حيث اتخذا من هذه الآية تكأة لما يدعيانه مما ينافي في مدلولها الصريح ، فقد عداها من حجج المثبتين للرؤية قلبا لمفهومها وعكساً لمدلولها .

أما ابن تيمية فقد قال : "هي على جواز الرؤية أدل منها على امتناعها ، فإن الله سبحانه إنما ذكرها في سياق التمدح ، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالأوصاف الثبوتية ، وأما العدم المحض فليس بكمال ، ولا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تبارك وتعالى بالعدم إذا تضمن أمرا وجوديا كتمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال القيومية ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفى اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة ، ونفى الشريك والصاحبة والولد والظهير المتضمن كمال ربوبيته وإلاهيته وقهره ، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال الصمدية وغناه ، ونفي الشفاعة عنده بدون إذنه المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل المتضمن لكمال ذاته وصفاته ، ولهذا لم يمتدح بعدم محض لا يتضمن أمرا ثبوتيا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ولا يوصف الكامل بأمر يشترك وهو المعدوم فيه فلو كان المراد بقوله : (لا تدركه الأبصار) أنه لا يُرى بحال لم يكن في ذلك مدح ولا كمال ، لمشاركة المعدوم له في ذلك ، فإن العدم الصرف لا يرى ولا تُدركه الأبصار ، والرب جـل جلاله يتعالى أن يمدح بما يشاركه فيه العدم المحض ، فإذا المعنى أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به" . (2)

وهو كلام يُشْدُه منه كل من كان يتمتع بشيء من العقل الذي لم يتكدر بتأثير الهوى ، فإنه ظاهر البطلان ، بيّن التناقض ، وناهيك أنه أثبت في صدره أن الآية ذكرت في سياق التمدح ، ثم أتبع ذلك أن الله لا يمتدح بعدم محض ، وانتهى به التطواف إلى القول بأن العدم الصرف لا يرى ولا تدركه الأبصار ، ثم أتى بنتيجة ذلك كله وهي أن الله يُرى ولا يدرك ، وعليه فيلزمه من ذلك أن لا يكون نفي إدراك الأبصار لذاته تعالى مدحا له ، وأن تكون ذات الله العلية ممكنة الإحاطة بها بناءً على ما فسر به الإدراك - لأن العدم الصرف لا يدرك أيضا كما نص عليه بنفسه .

وبالجملة فإن أعجب ما جاء به ابن تيمية في كلامه هذا ، عرضه النصوص القطعية على قاعدة مصطنعة من الخيال والوهم ، ليس لها أسس من العقل ، ولا دعائـم من النقل ، مع أن الواجب علينا - معاشر العباد - أن نثبت لله ما أثبته لنفسه ، وأن ننفي عنه ما نفاه بنفسه ، فإنه سبحانه أعلم بذاته وصفاته ، وليس لنا أن نعترض عليه في نفيه أو إثباته .

وإن من أعجب العجاب أن يشتد إنكار الحنابلة - ومن بينهم ابن تيمية وابن القيم - على المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم فيما هو أولى بالصواب ، وأجدر بالحق ، وأدنى إلى الحقيقية من أسس علم الكلام الجامع بين براهين بالعقل ونصوص النقل ، بينما تجدهم يطلقون لخيالهم العنان في استنتاج أمثال هذه الأوهام ، لا لغرض غير التهرب من قهر النصوص وقبضة البراهين.

ولو سلمنا جدلا لهذا المنطق المتداعي لقلنا إن في نفي الرؤية عن الله سبحانه إثباتا لصفة كمال له عز وجل وهي الكبرياء ، ففي الحديث الصحيح نص صريح بأن كبرياء الله سبحانه مانعة من رؤيته ، وذلك فيما أخرجه الشيخان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) فأي إشكال مع هذا في نفي الله سبحانه أن ترى الأبصار ذاته العلية.

ومع التسليم المفترض - وهو غير واقع - بأن بين الرؤية والإدراك فرقا في المعنى ، فإن ابن تيمية ملزم - حسب هذه القاعدة التي اصطنعها من خياله - بأن يكون مثبتا لله تعالى ما نفاه من إدراك الأبصار لذاته .

وإن من أخطر الخطر على الدين أن تعصف أعاصير الهوى بعقول العلماء المتبحرين حتى يتلاعبوا بالنصوص كما شاءوا ، فيجعلوا من النص حجة على خلاف معناه.

وأما الفخر الرازي فقد قال : "لو لم يكن تعالى جائز الرؤية لما حصل التمدح بقوله : (لا تدركه الأبصار) ألا ترى أن المعدوم لا تصح رؤيته ، والعلوم ، والقدرة ، والإرادة ، والروائح ، والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ، ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا تصح رؤيتها ، فثبت أن قوله : (لا تدركه الأبصار) يفيد المدح ، وثبت أن ذلك إنما يفيد المدح لو كان صحيح الرؤية ، وهذا يدل على أن قوله تعالى : (لا تدركه الأبصار) يفيد كونه تعالى جائز الرؤية ، وتمام التحقيق فيه أن الشيء إذا كان في نفسه بحيث يمتنع رؤيته فحينئذ لا يلزم من عدم رؤيته مدح وتعظيم للشيء ، أما إذا كان في نفسه جائز الرؤية ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رؤيته وعن إدراكه كانت هذه القدرة الكاملة دالة على المدح والعظمة ، فثبت أن هذه الآية دالة على أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته.

وإذا ثبت هذا وجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ، والدليل عليه أن القائل قائلان ، قائل قال بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه ، وقائل قال لا يرونه ولا تجوز رؤيته ، فأما القول بأنه تعالى تجوز رؤيته مع أنه لا يراه أحد من المؤمنين فهو قول لم يقل به أحد من الأمة فكان باطلا ، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية تدل على أنه تعالى جائز الرؤية في ذاته ، وثبت أنه متى كان الأمر كذلك وجب القطع بأن المؤمنين يرونه ، فثبت بما ذكرنا دلالة هذه الآية على حصول الرؤية ، وهذا استدلال لطيف من هذه الآية. (1)

وليس بعد هذا القول الذي قاله الفخر الرازي تعليق لأحد ، إلا السؤال عن عقيدته في وحدانية الله ونفي الولد والشريك عنه ، مادام يجعل من نفي الشيء دليلا على إثباته ، وبموجب هذا القول فإن للنصارى والمشركين أن ينتزعوا من قوله تعالى : (وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك) "الإسراء 111" ، دليلا قاطعا بأن له سبحانه ولدا وشريكا وأن يضيفوا إلى ذلك إثبات الصاحبة له تعالى ، بل وإثبات كل ما نفاه عنه من السنة والنوم ، والغفلـة واللغوب ، والظلم والجور ، مادام النفي دليلا قاطعا على الإمكان وبالتالي على الإثبات .

وإن تعجب فعجب أن يكون الفخر الذي اتخذ من قوله تعالى : (لا تدركه الأبصار) سُلَّماً إلى القطع بثبوت الرؤية قلباً للحقيقة وعكسا للحجة ، هو الذي يقول في تأصيلاته بأن دلائل الألفاظ على المعاني لا تتجاوز الظن كما هو صريح في قوله : "دلالة الألفاظ على معانيها ظنية لأنها موقوفة على نقل اللغات ونقل الإعرابات والتصريفات مع أن أول أحوال تلك الناقلين أنهم كانوا آحاداً ، ورواية الآحاد لا تفيد إلا الظن ، وأيضا فتلك الدلائل موقوفة على عدم الاشتراك وعدم المجاز وعدم النقل ، وعدم الإجمال ، وعدم التخصيص ، وعدم المعارض العقلي ، فإن بتقدير حصوله يجب صرف اللفظ إلى المجاز ، ولا شك أن اعتقاد هذه المقدمات ظن محض ، والموقوف على الظن أولى أن يكون ظنا". (2)

فانظر كيف يجعل الفخر دلالة الألفاظ على المعاني الموضوعة لها ظنية ، مع جعله دلالتها على ضد تلك المعاني قطعية.

والخلاصة من كل ما تقدم أن دلالة الآية الكريمة على انتفاء رؤيته تعالى في الدنيا والآخرة دلالة قاطعة ، وكل ما تعلق به القائلون بخلاف ذلك لا يتجاوز أن يكون ضبابا من الوهم ، لا يلبث أن يتلاشى بإشراق مس الحقيقة ، ويؤيد نصيتها على ذلك تذييلها بقوله تعالى : (وهو اللطيف الخبير) فإن قوله : (اللطيف) كالتعليل لقوله : (لا تدركه الأبصار) وقوله : (الخبير) كالتعليل لقوله : (وهو يدرك الأبصار) والصفتان المذكورتان من صفات ذاته تعالى لا تتبدلان أزلاً وأبداً ؛ أما الخبير فكونه من صفات الذات ظاهر لأنه كالعليم ، وأما اللطيف فلأنه - كما يقول الإمـام ابن عاشور : "صفة مشبهة تدل على صفة من صفات ذات الله تعالى ، وهي صفة تنزيهه تعالى عن إحاطة العقول بماهيته ، أو إحاطة الحواس بذاته وصفاته فيكون اختيارها للتعبير عن هذا الوصف في جانب الله تعالى هو منتهى الصراحة والرشاقة في الكلمة ، لأنها أقرب مادة في اللغة العربية تقرب معنى وصف ذاته تعالى بحسب ما وضعت له اللغة من متعارف الناس" . (1)

(2). قوله تعالى لموسى عليه السلام : (لن تراني) "الأعراف 143" ، فإنه نفي مطلق غير مقيد بزمان ولا تبديل لكلمات الله ، فلو حصلت الرؤية في أي وقت من أزمان الدنيا أو الآخرة لكان ذلك منافيا لصدق هذا الخبر ، وتتأكد دلالة هذا النص على هذا المعنى باندكاك الجبل الذي علقت الرؤية على استقراره اندكاكاً هائلاً ليكون آيةً بينةً تستأصل أطماع المتطاولين على الله بطلب أو تمني ما يستحيل عليه ويتنافى مع كبريائه ، وقد وضح لكل ذي عينين صبح الحق بعدم استقرار الجبل فلا مطمع في حصولها لأنها إحدى المستحيلات.

وما ألطف وأدق وأروع قول موسى عليه السلام إثر إفاقته مما حصل له من الصعق بعـد هذا الحدث : (سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمين) "الأعراف 143" ، فقد بادر عليه السلام أولا إلى تنزيه الله سبحانه إعلانا بحق ربوبيته واعترافاً بالخطأ إعظاماً لحق الله ، وإن كان قلبه عليه السلام بريئاً من قصد ما دل عليه ظاهر قوله بادي الرأي لأنه لم يسأل ما سأل إلا لتبكيت قومه كما تقدم ، ثم أتبع ذلك التوبة النصوح مما وقع فيه تعرضا منه لمغفرته تعالى ، وختم كلامه بأنه عليه السلام أول المؤمنين بأن الله تعالى لا يُرى - وهو الذي أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما - وفي هذا من تقرير عقيدة الحق المنزهة لله عن درك الأبصار ما لا يخفى على ذي بصر ، فإنه عليه السلام ما قصد بقوله : (وأنا أول المؤمنين) إلا الاعتذار والتنصل مما يوحي به ظاهر قوله ، وإن كان الله عز وجل عالما بسريرته ، فإن مثل ذلك مثل الاستغفار باللسان ، والإخبار بالقول عن عقد العزم على عدم العودة إلى المعصية ، مع أن الله عليم بالسرائر لا يخفى عليه شيء مما اشتملت عليه حنايا الضمائر .

و " لن " تفيد تأكيد النفي أو تأييده ، أو هما معاً ، فتحصّل من جميع ذلك أن رؤيته تعالى مستحيلة ، لأن امتناعها لأمر يتعلق بذاته تعالى وهو كونها غير قابلة لأن ترى ، وإلى ذلك الإشارة بالتنزيه الذي صُدر به الاعتذار في قوله موسى عليه السلام ، ولو كان لأحد مطمع في حصول الرؤية لما آيس الله منها عبده موسى الذي اصطفاه على الناس برسالته وبكلامه.

واعترض هذا الاستدلال بأن هذا النفي مقيد بالحياة الدنيوية ، لأن الإنسان فيها مفطور على الفناء ، فلذلك لم يكن أهلا لرؤية الباقي تعالى ، كما اعترض بأن الجواب لم يكن بصيغة تفيد أن الله لا يرى ، لأن الرؤية المنفية في صيغته أسندت إلى موسى عليه السلام فهي لا تفيد عموم النفي بخلاف ما لو كان الجواب لا أُرى.

قال الألوسي : "ومن المحققين من استند في دلالة الآية على إمكانها بغير ما تقدم أيضا ، وهو أنه تعالى أحال انتفاء الرؤية على عجز الرائي وضعفه عنها حيث قال له : (لن تراني) ولو كانت رؤيته تعالى غير جائزة لكان الجواب لست بمرئي ، ألا ترى لو قال : أرني أنظر إلى صورتك ومكانك ، لم يحسن في الجواب أن يقال : لن ترى صورتي ولا مكاني ، بل الحسن لست بذي صورة ولا مكان" . (1)

وعوَّل كثير من مثبتي الرؤية على إنكار تأبيد النفي بلن ، ومما أستقر في ذاكرتي من ذلك ما نقله السيوطي في شرحه لعقود الجمان عند قوله :

ونفي ما كان حصوله يظن
وخصه لا ابن خطيب زملكا


..… ثم للتأكيـد لـن
قيل وللتأبيد لكن تركـا



عن ابن الخطيب الزملكاني أنه فرق بين (لن) و (لا) النافيتين فقال بانقطاع النفي بأولاهما ودوام النفي بأخراهما أخذاً من أداء الحرفين في النطق لأن (لن) منقطعة في النطق و (لا) ممدودة ومثل لذلك بقوله تعالى في النفي بلن : (لن تراني) وبقوله سبحانه في النفي بلا : (لا تدركه الأبصار) بناءً على تفرقتهم بين الرؤية والإدراك كما تقدم ، وأخذ من ذلك أن نفي الرؤية منقطع لأنه ينتهي بانتهاء الدنيا بخلاف نفي الإدراك ، وأقوى ما عولوا عليه في نفي تأييد النفي بلن قوله تعالى في اليهود : (ولن يتمنوه أبدا) "البقرة 95" ، مع قوله سبحانه في أهل النار عموما : (ونادوا يا مالك ليقْض علينا ربك) "الزخرف 77" .

والجواب أن كون هذا النفي مقيداً بالحياة الدنيا دون الآخرة ، دعوى لم يقم عليها دليل ، فإن صفات الله لا تتبدل ، وكبرياءه لا تتحول ، وما سبق من الأدلة على أن رؤيته تعالى منافية لكبريائه كافٍ في دحض هذا الزعم.

وأما دعوى أن صيغة الجواب لا تفيد عموم النفي فهي مردودة بأن الجواب لم يكون إلا مطابقا للسؤال ، ومما تدركه العقول أن نفي حصول الرؤية لموسى عليه السلام قاض بنفي حصولها لغيره ، لأنها لو كانت ممكنة لكان أحق بها لما اختصه الله تعالى به من مزايا وآتاه من مواهب من بينها اصطفاؤه بالرسالة والتكليم ، فهو جواب واضح لا غبار عليه بخلاف لن ترى صورتي أو لن ترى مكاني فـي جواب أرني صورتك أو أرني مكانك ، لما يتضمنه من إثبات الصورة والمكان.

وأما التأبيد فهو يختلف بحسب اختلاف الأحوال وتفاوت مقامات الخطاب ، فبما أن اليهود شغفوا بالحياة الدنيا ، وأخلدوا إليها ، وكانوا مشفقين من الموت لما يعلمون وراءه من العذاب ، فضلا عن حرصهم على ما يقضونه من شهواتهم في هذه الحياة ، كان تأبيد عدم تمنيهم الموت محصورا في الحياة الدنيا ، وبما أن الله سبحانه وتعالى لا تجري على ذاته الأحوال ، ولا يجوز على صفاته التبدل والانتقال كان نفي الرؤية المنافية لكبريائه أزليا أبديا سواء نفي بلن أو بغيرها.

وأما تفرقه ابن الخطيب الزملكاني بين (لن) و (لا) النافيتين فهي لا تتعدى أن تكون تحكيما لذوقه ، واللغات لا تستفاد معانيها من الأذواق وإنما تحكم فيها النقول الثابتة عن ألسنة أصحابها التي هي منابع بيانها ، والشواهد الثابتة من ذلك تدل على خلاف ما قال ، وكفى بما جاء في القرآن الكريم من ترادف (لن) و (لا) على منفي واحد كقوله تعالى : (ولن يتمنوه) "البقره 95" ، مع قوله : (ولا يتمنونه) "الجمعة 7" ، وانتفاء إتيان المشركين بمثل سورة من القرآن وخلق آلهتهم للذباب بلن في قوله تعالى : (ولن تفعلوا) "البقرة 24" ، وقوله : (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا) "الحج 73" ، مع أنه معلوم قطعا أن هذا النفي أبدى.

(3) قوله تعالى : (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) "الشورى 51" ، وقد استدلت به عائشة رضي الله تعالى عنها على امتناع الرؤية كما سبق ، ووجه الاستدلال أن الله عز وجل نفى أن يكون لبشر تكليم من الله إلا بما ذكره من الطرق ، وقد أكد هذا النفي بإدخاله على كان لتأكيد تعذّر وقوع المنفي ، ولا يتقيّد هذا النفي بزمن دون زمن كما سبق بيانه في قوله : (لا تدركه الأبصار) لأن ذلك هو اللائق بجلال الله ولو كانت رؤيته تعالى جائزة لكان تكليمه جائزا بغير هذه الطرق.

(4) ما جاء في آيات الكتاب من الإنكار البالغ والتقريع الشديد للذين سألوا الرؤية من اليهود والمشركين ، مع تحذير المسلمين من أن يقعوا فيما وقعوا فيه ، ومن ذلك قوله تعالى بـ : (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة) "النساء 153" ، وقوله تعالى : (وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا) "الفرقان 21" ، ثم أتبع ذلك بيان حالهم عندما يرون الملائكة : (يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا) "الفرقان 22" ، وسكت عن رؤية الله تعالى لما في سؤالها من التعنت البالغ والكفر العظيم ، وقوله : (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) "البقرة 108" ، ووجه الاستدلال بذلك ما في هذا الإنكار من الدلالة الواضحة على أن الذين سألوها تخطوا جميع الحواجز ، واقتحموا كل السدود حتى داسوا حمىً محجوراً وحاولوا أمراً مستحيلاً ، ولذلك عوقت بنو إسرائيل بالصاعقة على هذا السؤال ، مع أنهم لم يعاقبوا بمثلها على جميع ما كانوا يأتونه من الفظائع ، حتى عبادتهم للعجل . فإن قيل إن الإنكار ليس هو على السؤال ذاته وإنما هو على التعنت . فجوابه نعم أنكر عليهم التعنت في كل شيء ، ولكنه جعل سؤال الرؤية أكبر من ذلك كله ، كما في قوله : (فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) وكم تطاولت الأمم على أنبيائها متحدية لهم بطلب الآيات - كما هو ثابت بالتواتر - ولم تكن عقوبتهم على هذا الطلب كعقوبة بني إسرائيل على طلبهم الرؤية ، وحسبكم أن موسى سلام الله عليه صعق بمجرد سؤالها ، مع أنه لم يقصد به إلا صرفهم عن الباطل وإقناعهم بالحق ، وما كاد يفيق من صعقته حتى بادر إلى التنزيه والتوبة والاعتذار وإعلان عقيدة التنزيه التي كان منطويا عليها.

وبنو إسرائيل أنفسهم - مع تتابع عنتهم وإصرارهم على الشقاق والتحدي - لم يعاقبوا بمثل هذا العقاب الرهيب إلا على هذا السؤال ..

وأما من السنة فيما يلي :

(1) ما رواه الإمامان البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن) ، ووجه الاستدلال به صراحته في عدم رؤيتهم لله لحيلولة رداء الكبرياء بينهم وبين ذلك ، والكبرياء صفة ذاتية لله عز وجل لا يمكن أن يتخلى عنها كما لا يتخلى عن القدرة ، أو العلم ، أو الإرادة ، أو الحياة أو السمع ، أو البصر ، إذ لو تخلى عنها في أي لحظة لكان منقلبا عنها إلى ضدها وهو الصغار المنافي لربوبيته تعالى ، فمن ادَّعى مع هذا النفي رؤيته سبحانه لزمه سلب الكبرياء عن الذات العلية.

وإضافة الرداء إلى الكبرياء في الحديث من باب إضافة المشبه به إلى المشبه ، كذهب الأصيل ولجين الماء في قول الشاعر:

ذهب الأصيل على لجين الماء


والريح تعبث بالغصون وقد جرى



وفيها إشارة إلى تشبيه الكبرياء بالرداء بأسلوب التشبيه البليغ حسبما جاء في الحديث القدسي وهو قوله سبحانه "الكبرياء ردائي والعظمة إزاري" ، وما معناه إلا أنه تعالى مختص بهما كاختصاص أحدنا بردائه وإزاره ، فليس لأحد أن يتطاول فينازعه فيهما ، وقد صرح بذلك آخر الحديث وهو قوله : (فمن نازعني فيهما أدخلته النار ولا أبالي).

فإن قيل ما بالكم حملتم النظر في مقام النفي على الرؤية مع حملكم إياه في مقام الإثبات على الانتظار كما قلتم في آية القيامة وحديث صهيب ؟ . فالجواب أن حمله على الانتظار هناك لأن هذا المعنى هو الذي يتفق مع القرائن العقلية ، ويتساوق مع السياق في الآية والحديث ، ونحن لا نمنع أن يفسر النظر بالرؤية عندما تكون مرادة به ، فإنه من باب اللفظ المشترك الذي يصلح لأكثر من معنى ، وإنما القرائن هي التي تعين المراد ، والمقام هنا يقتضي تفسير النظر بالرؤية ، فإن الحديث يفيد أن الأولياء وصلوا في دار كرامة الله من تكريمه إياهم وتقريبه لهم ، ورفعه لدرجاتهم إلى حيث لم يبق شيء مما ألف من أنواع التكريم إلا وقد نالوه ، ماعدا الرؤية فإنهم لم يمنعوا منها حرمانا ، ولكن لكونها منافية لصفة الكبرياء الخاصة بجلال الله ، وبهذا يمكن الجمع بين نصوص النفي والإثبات ، والوجه هنا بمعنى الذات عند المحققين حتى من مثبتي الرؤية.

وقد أشكل الحديث على معتقدي الرؤية فتكلفوا من أجل الدفاع عن معتقدهم تأويله بما تأباه سلامة الفطرة وينكره الذوق غير المؤف ، كقول الحافظ ابن حجر في توجيه جواب الكرماني عن هذا الإشكال "إن في الكلام حذفا تقديره بعد قوله إلا رداء الكبرياء .. فإنه يمن عليهم برفعه فيحصل لهم الفوز بالنظر إليه".(1)

ولعمر الحق إن اتباع مثل هذه التأويلات البعيدة يفضي إلى عدم الاستقرار على معنى نص من النصوص لاحتمال تقدير ما يحور نفيه إلى الإثبات وإثباته إلى النفي.

وقد أجاد السيد العلامة صاحب المنار ، حيث قال بعد أن نقل هذا التأويل : "وفيه من التكلف ما لا ينبغي لحفاظ السنة الاعتداد به ، وهم ينكرون على الجهمية والمعتزلة مثله ، وما هو أمثل منه من تأويلاتهم". (2)

وحمل الحافظ الرداء في هذا الحديث على الحجاب المذكور في حديث صهيب المتقدم ، وبعد أخذ ورد قال : "ومقتضى حديث الباب أن مقتضى عزة الله واستغنائه أن لا يراه أحد لكن رحمته للمؤمنين اقتضت أن يريهم وجهه كمالاً للنعمة ، فإذا زال المانع فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء ، فكأنه رفع عنهم حجابا كان يمنعهم".(3) وقد نقل كلامه هذا صاحب المنار ، ولم يتعقبه بشيء ، مع أنه لا يقل تكلفاً عما قبله ، فإن الحديث لا يفيد أن امتناع الرؤية عن الله لشيء في نفوس عباده كالهيبة التي تخشع لها أبصارهم وتوجل منها قلوبهم ، وإنما يفيد أن امتناعها لأمر خاص بالذات الإلهية ، وهو اتصافه تعالى بالكبرياء وصفات الله تعالى لا تتناقض ، ولا تناقضها أفعاله ، فقول الحافظ : ( فعل معهم خلاف مقتضى الكبرياء ) قول تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ، فحاشى لله سبحانه أن يفعل ما لا تقتضيه صفاته الذاتية ، كيف وهي أجل المحامد المقتضية لأعظم المدائح ، وقد مر بكم من القول في حديث صهيب ما يُغني عن إعادته هنا .

( 2 ) ما أخرجه مسلم عن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال :

أ ـ إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام .

ب ـ يخفض القسط ويرفعه .

ج ـ يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل .

د ـ حجابه النور - وفي رواية النار -

هـ ـ لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه .

ووجه الاستدلال به على امتناع الرؤية ما يقتضيه من تعذر أن ينتهي إليه سبحانه بصر أحد من العباد ، والحديث ما أراد به صلوات الله وسلامه عليه إلا تمثيل تعذر وصول عقول البشر إلى كنه الحقيقة الذاتية المقدسة ، أو امتداد أبصارهم إليها ، فإن الرؤية وسيلة من وسائل الاكتناه عادة ، وقد فات هذا المعنى صاحب المنار - مع غزارة علمه وثاقب فهمه - ففسَّر الحديث تفسيراً ماديا لا يليق بتنزيه الحق تعالى .

وخلاصة قوله : أنه بما ثبت أخيراً من أن الكهرباء التي رأى البشر كثيراً من عجائبها هي الأصل في تكوين مادة الكون كله وأطوارها ، وهي نور أو مصدر النور ، والحركة التي يحدثها النور أو تحدثه ، وإذا كان الخالق البارئ المنزه عن نقص المخلوقات التي لا يكمل شيء منها إلا به قد حجب عنها بالنور فلك أن تفهم أن الكهرباء وما جعلها الله أصلا له من تكوين العالم المادي هي الحجاب المانع من رؤية الرب تعالى فيه ، وأن انكشاف هذا الحجاب لا يكون إلا في الجنة ، وأن انكشافه هو الذي يوصل أهلها إلى أعلى وأكمل درجات المعرفة به تعالى ، وهي الرؤية بغير كيف ولا إدراك. (1)

وهذا التفسير وإن قال صاحبه إنه المتفق مع طريقة السلف ودلائل العلم الحديث فإنه مدفوع بأمرين:

-أولهما : أنه يقتضي أن الذات العلية مكتنفة بمخلوقاته تعالى،فإن الكهرباء من جنس مخلوقاته الخفية وهي موجودة في هذا العالم الأرضي مع أن طائفة من مثبتي الرؤية - ومن بينهم صاحب المنار حسب المعتقد الذي صار إليه يحصرون ذات الحق تعالى في الجهة العلوية ويثبتون ، استقراره على العرش.

-ثانيهما : أن كون الكهرباء منشأ للكون ليس حقيقة ثابتة،وإنما هي نظرية، والنظريات لا تبنى إلا على التخمين والحدس،فلا يجوز أن تفسر بها النصوص الثابتة، وكفى بما في ذلك من خطورة تعريض النصوص للتحول مع تحول هذه النظريات وتناسخها.

والقول الفصل أن الحديث الشريف ما هو إلا كناية عن عدم إمكان وصول المخلوق إلى حقيقة ذات الخالق بحاسة ولا فكر ، وأمثال هذه الكنايات معروفة في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل وفي كلام الله تعالى ، ففي الحديث القدسي (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها) فلو تقيدنا بقيود الظواهر وانحبسنا في مضيق الألفاظ من غير أن نسرح أبصارنا وأفكارنا في رحاب المقاصد وأبعاد الغايات ، لزمنا أن نثبت أن الله سبحانه هو نفس سمع العابد المتنفل المحبوب إلى الله ، ونفس بصره ويده ورجله ، وهذا ما تأباه عقيدة كل من يؤمن بالله ، وإذا أدركت ذلك علمت أن النور أو النار في حديث أبي موسى ليسا حسيين ، وإنما هما كناية عما يتجلى للعارفين به تعالى من صفات جلاله وعظمته التي تجعلهم مبهورين بجمال الجلال ، وتجلي الكمال ، وما يعترض السالكين إليه من مخاطر الانحراف والضلال والعياذ بالله ، ولو جاز مثل هذا التفسير الذي انتهجه صاحب المنار لساغ للقائلين بوحدة الوجود أن يفسروا قوله تعالى : (الله نور السماوات والأرض) "النور 35" ، بأن المراد به أن ذاته تعالى هي ما يترآى لنا من أنوار في العالم العلوي أو السفلي كالشمس والقمر وسائر الأجرام الفلكية ، فيجعلوا من الآية سندا لضلالهم وحجة لكفرهم ، تعالى الله عما يقول الأفاكون علوا كبيرا.

(3) ما أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه أنه عليه أفضل الصلاة والسلام قال عندما سئل عن رؤيته لربه : (نور أنَّى أراه) .

ووجه الاستدلال به أن النبي صلى الله عليه وسلم استبعد فيه حصول الرؤية بقوله : (أنَّى أراه) فإن أنَّى بمعنى كيف ، وهو شاهد على استحالة رؤيته تعالى.




--------------------------------------------------------------------------------

(1) مشارق الأنوار ص198 نقلاً عن المواقف وشرحه مع زيادة وتصرف.



(1) محاسن التأويل ج16 ص2450/2452 ط1، بتلخيص وإيضاح ، وراجع المواقف وشرحه ، وتفاسير الفخر والنسفي والألوسي في تفسير الآية.

(2) الرازي: مفاتيح الغيب ج13 ص128 ط دار الكتب العلمية بطهران.

(1) تاج العروس ج7 ص126 ط دار مكتبة الحياة.

(2) الصحاح ، ج4 ص1582 ط دار العلم للملايين - بيروت.

(3) لسان العرب ج3 ص1363 ط دار المعارف.

(1) المرجع السابق ص1364.

(2) مسند الإمام الربيع ج3 ص226/227 ط مكتبة الاستقامة.

(3) التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" ج13 ص128 ط2.

(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج3 ص2 ط مكتبة السلام العالمية.

(2) فتح الباري ج8 ص607 ، المطبعة السلفية.

(1) أحكام القرآن ج3 ص4 ط دار الكتاب العربي.

(1) معالم الدين ج2 ص38/39 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(1) تمهيد قواعد الإيمان ج1 ص183 ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(2) ابن القيم : حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح ص209/210 ، نقلاً عن ابن تيمية،وانظر كذلك المنار ج9 ص132 ط4.

(1) مفاتيح الغيب "التفسير الكبير" ج13 ص125 ط2 دار الكتب العلمية - طهران ).

(2) المرجع: التفسير الكبير ج1 ص28 ط2 دار الكتب العلمية - طهران ، وقد بيَّن بطلان ما أصَّله الفخر هنا الإمام نور الدين السَّالمي رحمه الله في طلعة الشمس ج1ص30 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(1) التحرير والتنوير ج7 ص417 ، الدار التونسية للنشر.

(1) روح المعاني ج9 ص50، دار إحياء التراث العربي.

(1) فتح الباري ج13 ص432 ، المطبعة السلفية.

(2) المنار ج9 ص139 ، الطبعة الرابعة ، الناشر مكتبة القاهرة.

(3) فتح الباري ج13 ص433 ، المطبعة السلفية.

(1) حاشية المنار رقم "1" ج9 ص167/168 ، الطبعة الرابعة ، الناشر مكتبة القاهرة.
  #6  
قديم 19/09/2004, 02:40 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
Arrow خاتمة

بسم الله الرحمن الرحيم

خاتمة

في نتيجة البحث

بعد هذا العرض لموضوع رؤية الله تعالى في الدنيا والآخرة ، واستعراض أدلة النافين والمثبتين ، وما يتوجه إليها من اعتراض ، وما يعقبه من جواب ، لا أظنك أيها القارئ الكريم تشك في أن نفاتها لم يأخذوا إلا بالأقوى والأسلم والأحزم،فإن ذلك واضح بوضوح حججهم ، وسلامة قولهم من التأثر بالذين سألوا الرؤية من اليهود والمشركين ، وناهيك أن ذلك أسعد بمقتضى القاعدة الأصيلة في صفات الله تعالى ، وهي عدم مشابهته لمخلوقاته ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) وإن كنت لم تقتنع بما ذكرته ، فلا أقل من تقتنع بأن أصحاب هذا القول متمسكون بأصل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا وجه لتكفيرهم أو تضليلهم وقطع الحبال الواصلة بينهم وبين الأمة الإسلامية ، وقبل أن أغادر هذا الموضوع أود أن أضع بين يديك أمرين اثنين لعلهما يحظيان بتفكيرك وتأملك :

ـ أولهما : أنك تجد في كتاب الله ما وعد به المؤمنين في الدار الآخرة من النعيم مذكوراً بأصرح العبارات ، ومكرراً في مواضع شتى لأجل التشويق إليه ، بينما لا تجد للرؤية ذكراً إلا ما يتأوله مثبتوها من لفظ الزيادة وأمثالها ، وهو لم يذكر إلا مجملاً ، فهل ترى من المعقول - أن لو كانت الرؤية ثابتة وهي أجلّ من كلِّ نعيم الجنة - أن يكتفى بمثل هذه الإشارة الطفيفة إليها بينما تذكر المآكل والمشارب ، والمساكن والمناكح ، والحدائق والأنهار ، وسائر المباهج والملذات الفينة بعد الفينة بعبارات واضحة لا تحتمل التأويل ؟

- ثانيهما : ما ذكره الله في كتابه من قصة عبده وخليله إبراهيم عليه السلام ، وهو يقيم الحجة على قومه الذين كانوا يعبدون الأجرام السماوية ، بما ينتزعه من الأدلة على بطلان ألوهيتها من واقع حالها ، إذ كانت تتحول من حال إلى حال تظهر تارة وتختفي أخرى ، ومن المعلوم أنها لم تكن باختفائها تنعدم أصلاً وإنما يواريها الأفق عن الأبصار ، أليس في هذا شاهد بأن من يظهر للأبصار ثم يختفي عنها لا يمكن أن يكون حقيقاً بالربوبية والألوهية لأن الحقيق بهما لا تجري عليه الأحوال ، فلا ينتقل من حال إلى حال ؟ فكيف لنا أن نثبت بعد ذلك لله هذه الصفة التي أنكرها إبراهيم عليه السلام في النيرات المؤلهة محتجاً بها على قومه ، فنزعم أنه ينكشف لأهل الجنة فيرونه ، ثم يحتجب عنهم إلى أن يحين ميقات رؤيته مرة أخرى ؟

لا أظنك أخي القارئ إذا تأملت هذين الأمرين ، مع ما سبق تحريره في هذا البحث ، تشك في استحالة رؤيته تعالى وسلامة معتقد منكريها ، ولا أريد أن أطيل عليك فوق هذا ، فإن اللبيب يستجلي الحقائق من ومضاتها ( ومن لم ينفعه قليل الحكمة ضره كثيرها ) ..
  #7  
قديم 19/09/2004, 02:42 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
يتبع و لا تنسونا بالدعاء
  #8  
قديم 19/09/2004, 02:52 PM
فرصوص فرصوص غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 16/08/2004
المشاركات: 115
سحلا

لا تكون جالس تطبع الكتاب والكتاب مطبوع

http://www.ibadhiyah.net/maktabah/sh...p?threadid=107
  #9  
قديم 19/09/2004, 03:00 PM
الناصح بالحق الناصح بالحق غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 01/08/2004
المشاركات: 68
Talking


آخر تحرير بواسطة الناصح بالحق : 19/09/2004 الساعة 03:02 PM
  #10  
قديم 19/09/2004, 03:08 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة فرصوص
سحلا

لا تكون جالس تطبع الكتاب والكتاب مطبوع

http://www.ibadhiyah.net/maktabah/sh...p?threadid=107

شكرا على التنبيه

و لكن إذا أبلغت من قبل المشرفين أن أتوقف سوف أتوقف لأني أنزل الكتاب بناءا على رغبة بعض الأخوة

شكرا مجددا
  #11  
قديم 19/09/2004, 03:51 PM
فرصوص فرصوص غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 16/08/2004
المشاركات: 115
سحلا

انتبه في المرة القادمة وما تستعجل في الرد
  #12  
قديم 19/09/2004, 04:00 PM
الضوء الساطع الضوء الساطع غير متواجد حالياً
عضو متميز
 
تاريخ الانضمام: 02/07/2000
الإقامة: بلدة عربية
المشاركات: 1,743
بارك الله فيكم
  #13  
قديم 19/09/2004, 09:03 PM
الأسدي المسلم الأسدي المسلم غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 31/07/2004
المشاركات: 63
وهذا رد الشيخ العلامة علي بن محمد الفقيهي حفظه الله المسمى بالرد القويم البالغ على كتاب الحق الدامغ على كتاب شيخكم والذي زلزلكم جميعا ولم تقم لكم قائمة بعدها

( فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )

http://www.sahab.org/books/count.php...eda/abadia.doc
  #14  
قديم 19/09/2004, 09:54 PM
متفائل متفائل غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 16/07/2003
الإقامة: على الأرض الفانية
المشاركات: 799
اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الأسدي المسلم
وهذا رد الشيخ العلامة علي بن محمد الفقيهي حفظه الله المسمى بالرد القويم البالغ على كتاب الحق الدامغ على كتاب شيخكم والذي زلزلكم جميعا ولم تقم لكم قائمة بعدها

( فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )

http://www.sahab.org/books/count.php...eda/abadia.doc
الرجاء من الأخ عدم نشر الضلالات والحشوي يا حشوي
  #15  
قديم 19/09/2004, 11:36 PM
المدقق الثاني المدقق الثاني غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 13/02/2003
المشاركات: 830
اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الأسدي المسلم
وهذا رد الشيخ العلامة علي بن محمد الفقيهي حفظه الله المسمى بالرد القويم البالغ على كتاب الحق الدامغ على كتاب شيخكم والذي زلزلكم جميعا ولم تقم لكم قائمة بعدها

( فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )

http://www.sahab.org/books/count.php...eda/abadia.doc
تقصد الرد السقيم المعوج = المملوء باللف والدوران والتدليس .. شكرا لك يا تلميذ شيخ الماضية والحاضرة والمتقدمة والمتأخرة والنطيحة والمتردية هداك الله وإياه
  #16  
قديم 20/09/2004, 07:12 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

في التعريف بالخلق وبالقرآن والتفرقة بين

القرآن وسائر الكتب المنزلة وبين الكلام النفسي

الخلق هو الإبداع على غير سبق مثال ، وفي اصطلاح أصحاب الديانات هو إخراج الشيء من العدم إلى الوجود ، وبهذا المفهوم هو فعل من أفعال الله تعالى الخاصة به التي لا يجوز أن تصدر عن غيره ، وما ورد في القرآن الكريم من نحو ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ) المائدة : 110 ، فهو حكاية لقصة طرأت قبل تخصيص العرف الشرعي معنى الخالقية بالله عز وجل .

والقرآن هو الكلام المنزل بحروفه وكلماته على النبي محمد صلى الله عليه وسلم المعجز بتراكيبه ومعانيه المنقول عنه بالتواتر القطعي .

فالكلام جنس وما عداه فصل مخرج لغير المقصود ، فخرج ( بالمنزل ) كلام البشر المعتاد منثوراً كان أو منظوماً ، فإن الله يخلقه في أدمغتهم ويجريه على ألسنتهم ، وخرج بقيد ( بحروفه وكلماته ) ما كان من الأحاديث النبوية فإن صوغه من الحروف والكلمات راجع إلى الأنبياء الناطقين بتلك الأحاديث ، إذ لم تنزل عليهم ألفاظها وإنما أُنزلت عليهم معانيها ، وخرج بقيد تنزيله على النبي محمد صلى الله عليه وسلم سائر الكتب السماوية التي أُنزلت على غيره من النبيين ، كصحف إبراهيم وصحف موسى والتوراة والإنجيل والزبور ، وخرج بقيد الإعجاز الأحاديث القدسية الربانية على فرض نقلها بالتواتر فإنها لم تنزل للإعجاز كالقرآن ، وخرج بقيد النقل التواتري القراءات الشاذة فإنها لا تعطى أحكام القرآن .

وأما الفرق بين الكلام النفسي وبين القرآن وسائر الكتب المنزلة فهو أن الكلام النفسي صفة ذاتية لله تعالى يثبت بها كماله عز وجل ، وينفي بها عنه النقص ، ذلك لأن إثبات الكلام نفي لضده وهو الخرس ، كما أن إثبات العلم نفي للجهل وإثبات القدرة نفي للعجز ، وإثبات السمع نفي للصمم ، وإثبات البصر نفي للعمى ، وإثبات الحياة نفي للموت .

وذهبت المعتزلة إلى عدم الضرورة إلى إثبات صفة أزلية لله تسمى كلاماً اكتفاء منهم في نفي الخرس عنه سبحانه بصفة القدرة ، ولعل بعض أصحابنا يرون هذا الرأي ، وأصحابنا الذين أثبتوا الكلام النفسي اتفقوا مع الأشعرية في كونه يختلف عن سائر الكلام فهو ليس حروفاً ولا أصواتاً ، ولا جملاً ولا كلمات تقوم بذاته عز وجل ، إذ ليس المراد به إلا انتفاء صفة الخرس عنه سبحانه .

والمعتزلة الذين اكتفوا بإثبات صفة القدرة له تعالى عن إثبات الكلام الأزلي راعوا أن الصفات الذاتية لا يراد بها إلا نفي أضدادها ، وليس الكلام ضداًّ للخرس حتى ينتفي الخرس بإثباته ، وإنما ضده السكوت فقد يكون غير المتكلم غير أخرس ولا يكون غير ساكت .

وقد أجاد الإمام ابن أبي نبهان رحمهما الله في تقرير معنى الكلام العاري عن الأصوات والحروف بما تستسيغه الأفهام وتستمرئه الأفكار ، حيث قال ما حاصله : إذا أردت أن تدرك حقيقة هذا الكلام فانظر إلى سلطان جوارحك وحاكم جسدك ، وهو الجهاز العصبي الذي هو مركز العقل والتدبير - تجده يأمر وينهي في مملكته - وهي سائر جسدك - بكلام تؤديه الوسائط التي جعلها الله بينه وبين أعضاء الجسم وغُدده وخلاياه . ولا تكاد حجيرة في الجسم يصل إليها شيء من الأوامر والنواهي إلا وتبادر فوراً إلى الامتثال ، وذلك لما أودع الله في هذا السلطان من قوة غيبية وسرٍّ خفي ، فإذا كانت هذه الآية تتجلى في مخلوقات الله سبحانه فما بالك بالخلاق العليم الذي لا ينفلت شيء في الكون من قبضته ، ولا تخرج صغيرة ولا كبيرة عن قهره وتدبيره ، وذلك هو المراد بقوله سبحانه : (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) "النحل 40" (1)

وإطلاق الكلام على مثله مما لم يكن مسموعا ولا مقروءا معهود عند العرب ، ومنه قول الأخطل :

حتى يكون مع الكلام أصيلا
جعل اللسان على الفؤاد دليلا


لا يعجبنك من خطيب خطبة
إن الكلام لفي الفؤاد وإنمـا



وأما الكتب المنزلة فهي كلام منتظم من الحروف الهجائية ، مقروء بالألسن ، مكتوب في الألواح ، محفوظ في الصدور ، مسموع بالآذان ، أوحاه الله بواسطة الملك إلى من اصطفاه من عباده ، ويتميز عن سائر الكلام بكونه لم ينشأ عن ملكات البشر ، وإن كان متألفاً من نفس الحروف التي يتألف منها كلامهم ، ومتركباً من نفس الكلمات التي يتناولونها في خطابهم ، لكل جزء منه بداية ونهاية ، وقد أودع الله فيهم القدرة على تلاوته وسماعه وكتابته وحفظه ، غير أنه لا يجوز مع ذلك كله أن يضاف إليهم أو إلى أحد منهم ، لأن الله وحده أخرجه بقدرته من العدم إلى الوجود ، ثم أنزله بعلمه من اللوح المحفوظ إلى قلوب أنبيائه وأذهان الذين أكرمهم بحفظه من عباده.

وقد اختص الله بعضه - وهو القرآن - بما نفخ فيه من روح غيبية ، فحارت فيه الألباب ، بما تجلى لها فيه من سر ربوبيته تعالى ، كما هو شأن الله تعالى في خلقه الإنسان من تراب ، وجعل صحته تحار منها الألباب ، بما أودعه الله من ملكات حسية ومعنوية ترجع إلى هذا السر الغيبي وهو نفخ الله فيه من روحه.

وقد أجاد الإمام ابن أبي نبهان -رحمهما الله- ببيانه وجه إضافة هذا الكلام إليه تعالى ، حيث قال ما معناه : "أرأيتم لو أن الله تعالى أراد أن يخاطب عباده بأبلغ الكلام وأصدقه ، من غير هذا الذي أنزله عليهم ، أليس بقادر على أن يخلقه مكتوبا بقلم قدرته في اللوح المحفوظ ، ويأمر أحد ملائكته في السماء أن ينزل به على قلب أحد عباده في الأرض ، ليبلغه إلى الناس ويأمرهم بتلاوته وكتابته والعمل بمحتواه ، لا ريب أن كل من آمن بالله لا يشك في قدرته على ذلك ، وإذ تبين لكم إمكان هذا ، أرأيتم إلى من يضاف هذا الكلام ؟ أيقال هو كلام الناس الذين يتلونه أم كلام الرسول الذي بلغه إليهم أم كلام الملك الذي نزل به ، أم كلام اللوح الذي سطر فيه ، أم كلام القلم الذي كتبه ، أم كلام الخالق العظيم الذي أخرجه من العدم إلى الوجود ؟ إنه لمما يتبادر لكل عاقل أنه لا يجوز أن يضاف حقيقة إلا إليه تعالى" (2)

وجاء شيخ الإسلام المحقق الخليلي رحمه الله تعالى بنحو هذا البيان ، وقال في آخره : وأما نسبته إلى الله تعالى مع كونه متلوًّا لنا من نطق ألسنتنا ، بأصوات وألحان ونغمات ، بأحرف وكلمات من ألفاظنا ، فالأصل فيه أن كل قول ينسب إلى من قاله لا إلى من قرأه ولحن به ، وبيانه لو أن أحدا قال في معلقة امرئ القيس أو قصائد أبي تمام أو البحتري أو غيرهم إنها من كلامه ، ونسبها إلى نفسه إذ قرأها ، لكان ذلك منه خطاً فاحشا . أو كما تجد الآثار المنسوبة إلى أهل العلم فتنسبها لقائلها منهم ، ولو لم تسمع نطقه بها ، ويحتمل في كاتبها أنه لم يلفظ بها أصلا ، أو كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل : (أنشدني أبياتك التي قلتها البارحة ولم ينطق بها لسانك ولا سمعتها أذناك) فقال الرجل : أنا أشهد أنك رسول الله ، ولقد قلتها ولم ينطق بها لساني ولا سمعتها أذناي ثم أنشده إياها ، فالقرآن على أي وجه كان قد أنشأه الله إنشاءاً تحدىّ به البلغاء وأعجز به المصاقع الخطباء فلا ينسب إلا إليه" . (1)

ونحن عندما نتحدث عن خلق القرآن ، فإنما نتحدث عن هذا القرآن المتلو بالألسن المكتوب في المصاحف السابق تعريفه ، ولسنا نتحدث عن الكلام النفسي ، إذا لم يقم شاهد من الكتاب نفسه ولا من السنة على تسميته قرآنا ، وإنما اصطلحت الأشاعرة على تسميته بذلك ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، غير أنهم لم يستندوا في اصطلاحهم هذا على شيء ثابت سماعه ، فلذلك لم نعول عليه ، ونحن نثبت لله صفة الكلام كما قال الإمام ضياء الدين عبد العزيز الثميني رحمه الله في معالمه : "اعلم أن الكلام يضاف تارة إلى الله تعالى على معنى نفي الخرس فيكون صفة ذات على ما أمر في الصفات ، وتارة يضاف إليه على معنى أنه فعل له ، فيكون فعلاً من أفعاله سبحانه ، فمعنى كونه متكلما على الأول أنه ليس بأخرس ، وعلى الثاني أنه خالق الكلام " . (2)

ومما يجب أن يستقر في الأذهان عند الحديث عن خلق القرآن ، أنه لا يقصد بالقرآن علم الله بما أنزله من كتبه على رسله ، فإنه لا يماري أحد في قِدم علمه تعالى بهذه الكتب ، إلا الذين قالوا بحدوث صفاته سبحانه ، ولا يعبأ بهم ، غير أن قِدم العلم لا يقتضي قِدم المعلوم ، فالله سبحانه عليم بكلام البشر علما أزليا ، كما أنه عليم بكلامه ، وعليم بكل مخلوقاته ، فهو عليم بما كان وما يكون وما لم يكن أن لو كان كيف يكون ، ولكن لا يستلزم ذلك قِدم شيء من هذه المعلومات بحال ، ولذلك قال بعض السلف القرآن حادث ، وعلم الله به قديم ، وفي هذا يقول المحقق الخليلي رحمه الله : "وقد كان علم الله الذي هو من صفات ذاته ولا توراة معه ولا إنجيل ، ولا زبور ولا صحف ولا قرآن ، وهو الآن على ما هو عليه كان ، لأن الصفات الذاتية لا يجوز عليها التكثر ولا التبديل ، ولا التغير أصلا ، وإنما تختلف آثارها ومدلولاتها وتكثر أو تقل بحسب التجدد والحدوث معلوماتها ، والآثار كلها مخلوقة ، قال الله تعالى بـ (فانظر إلى آثار رحمة الله كيف يحيى الأرض بعد موتها) "الروم 50" . (3)

فالكتب المنزلة إنما هي في الحقيقة مدلولات علمه الذي هو من صفات ذاته سبحانه وتعالى ، لا هي نفس صفة العلم الذي هو صفة لذاته القديمة وإلا لكان التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى والقرآن وجميع الوحي كله قديما موجودا في الأزل مع الله تعالى بهذه الألفاظ المخلوقة المحدثة على كثرتها ، فيكون كثير من المخلوقات قديما موجودا في الأزل مع الله القديم الأزلي ، وهذا باطل إذ لا قديم سواه ، وكل شيء غيره حادث ولا يمكن أن يكون القرآن مثلا قديما معه بلا وجدان صورته مكتوبا أو متلواً بألفاظه وكلماته ، لأنه من القول بوجدان حقيقة لم توجد ، وهو محال ، فعلم ضرورة أن القديم الذاتي علمه بالقرآن والتوراة والإنجيل ، كما أن علمه بغيرهن من الكائنات قديم أيضا ، لأنه صفة ذاتية للقديم الأزلي الواجب الوجود سبحانه وتعالى ، وهذا ما لا يجوز الاختلاف فيه أبدا" (4)

ومما تقدم يتضح للقارئ الكريم الفرق بين الكلام النفسي والكلام الموحى به إلى العباد ، كما يتضح الفرق بين الوحي وعلم الله به ، ويتضح كذلك وجه إضافة هذا الكلام الموحى إلى الله تعالى وحده ، وعدم جواز إضافته ، إلى غيره تعالى ، اللهم إلا أن يكون ذلك تجوزا كما أضافه سبحانه إلى جبريل في قوله : (إنه لقول رسول كريم) "الحاقة 40 ، التكوير 19) .



--------------------------------------------------------------------------------

(1) قاموس الشريعة ج3 ص239، ط2 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان ، بتصرف وإيضاح.

(2) المرجع السابق بتصرف وإيضاح.

(1) تمهيد قواعد الإيمان ج2 ص10/11 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(2) معالم الدين ج2 ص9 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(3) تمهيد قواعد الإيمان ص9/10 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(4) تمهيد قواعد الإيمان ص9/10ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.
  #17  
قديم 21/09/2004, 12:06 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
Talking

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الأسدي المسلم
وهذا رد الشيخ العلامة علي بن محمد الفقيهي حفظه الله المسمى بالرد القويم البالغ على كتاب الحق الدامغ على كتاب شيخكم والذي زلزلكم جميعا ولم تقم لكم قائمة بعدها

( فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين )

http://www.sahab.org/books/count.php...eda/abadia.doc

تعرف الناس في واد و أنت في واد

لم تقم انا قائمة قبل ايش نحن جالسين نسوي تو

أعز الله سماحة الشيخ أحمد من الإنسياق وراء الرد على أفاكك الشيخ ما فاضي لمثل هذه الترهات ما مثلكم يا حشوية ابو جهل

شوف علماءك في المجد و الظلام واضح في وجوههم و شوف سؤال أهل الذكر يوم الأحد الساعة تسعة مساءا توقيت عمان و شوف النور يا مظلم

تحياتي
  #18  
قديم 21/09/2004, 08:38 PM
غريب الدار غريب الدار غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 10/04/2004
الإقامة: الساحل الشرقي
المشاركات: 8,517
Thanx alot Brother Sa7la

we gonna read what u've written in our spare time
  #19  
قديم 21/09/2004, 08:53 PM
الأسدي المسلم الأسدي المسلم غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 31/07/2004
المشاركات: 63
اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة سحلا
تعرف الناس في واد و أنت في واد

لم تقم انا قائمة قبل ايش نحن جالسين نسوي تو

أعز الله سماحة الشيخ أحمد من الإنسياق وراء الرد على أفاكك الشيخ ما فاضي لمثل هذه الترهات ما مثلكم يا حشوية ابو جهل

شوف علماءك في المجد و الظلام واضح في وجوههم و شوف سؤال أهل الذكر يوم الأحد الساعة تسعة مساءا توقيت عمان و شوف النور يا مظلم

تحياتي
قصة تصلح قبل النوم لاطفال الخوارج المغرر بهم ، هل لديكم يا اباضية من اكبركم الى اطفالكم الذين يستمعون لمسرحيات الانوار رد على كتاب الشيخ العلامة الفقيهي حفظه الله
  #20  
قديم 21/09/2004, 09:44 PM
متفائل متفائل غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 16/07/2003
الإقامة: على الأرض الفانية
المشاركات: 799
اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الأسدي المسلم
قصة تصلح قبل النوم لاطفال الخوارج المغرر بهم ، هل لديكم يا اباضية من اكبركم الى اطفالكم الذين يستمعون لمسرحيات الانوار رد على كتاب الشيخ العلامة الفقيهي حفظه الله
أخي العزيز لو كان ردا في الأصل لوجد من يرد عليه ولكنها مهزلة تنطلي على معطلي العقول المساكين أمثالك وأمثال الحشوية
  #21  
قديم 25/09/2004, 06:51 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الأول

في اختلاف الأمة في

قِدَمِ الكلامِ أو حدوثه

من القضايا التي شغلت بال الأمة وأحدثت بينها شقاقاً كبيرا ، ووزعت طوائفها عزين ، قضية كلام الله تعالى المنزل ، هل هو حادث أو قديم ؟ وقد جرَّهم هذا الخلاف إلى الحديث عن الكلام النفسي والخوض فيه ، والتنازع بين إثباته ونفيه ، ولست أريد في هذه العجالة أن أحشر أقوال المختلفين ، وأسرد ما لكل قول أو عليه من حجة وبرهان ، اللهم إلا ما يضطرني إليه التمهيد لشرح ما نقمه الناقمون على الإباضية من القول بخلق القرآن المنزل على سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.

وقد مر بك أيها القارئ الكريم في مقدمة هذا المبحث ، أن من طوائف هذه الأمة من ينكر الكلام النفسي رأسا - وهم المعتزلة - اكتفاءً في نفي الخرس عن الله بإثبات صفة القدرة ، كما مر بك أن أصحابنا و الأشعرية وجمهور الأمة متفقون على إثباته ، ولعلك استوضحت تفرقة أصحابنا بينه وبين القرآن وسائر الكتب المنزلة ، مما نقلته عن صاحب المعالم وعن الإمام ابن أبي نبهان ، كما أرجو أن تكون قد استوضحت الفرق بينه وبين علم الله به ، مما نقلته لك عن المحقق الخليلي.

هذا وقد التبست هذه الفروق على كثير من الناس ، فأدى بهم ذلك إلى النزاع والشقاق في القرآن ، هل هو مخلوق أو غير مخلوق ؟ وقد أشعل نار هذه الفتنة بعض الدخلاء في الأمة الذين تقمَّصوا الإسلام لحاجات في نفوسهم أرادوا قضاءها ، أهمها إذكاء نار الفتنة بين طوائف الأمة ، وتقسيمها إلى شيع وأحزاب (كل حزب بما لديهم فرحون) ولعل على رأس هؤلاء أبا شاكر الديصاني الذي قيل عنه إنه يهودي تظاهر بالإسلام كما كان من سلفه بولس اليهودي الذي مزق أتباع المسيح عليه السلام بما أججه بينهم من نار الخلاف.

وكان الرعيل الأول من السلف الصالح مضى إلى ربه قبل أن تسمع آذانهم طنينا من القول في هذا الموضوع ، وإنما كانوا مجمعين على أن الله خالق كل شيء وأن ما سواه مخلوق ، وأن القرآن - كسائر الكتب المنزلة - كلام الله ووحيه وتنزيله ، وهذا الذي اتفقت عليه كلمة علماء المسلمين بعمان في عهد الإمام المهنا بن جيفر ، بعدما غشيتهم موجة من الخلاف في هذه القضية بعد أن طمي عبابه وهاجت عواصفه بمدينة البصرة الحافلة بمختلف التيارات الفكرية آنذاك وكانت للعُمانيين صلة وثيقة بها بحكم العلاقات الثقافية والاقتصادية التي تربطهم بها ، وليتهم وقفوا عند هذا الحد ، بل ليت المسلمين جميعاً اكتفوا بهذا القدر من الاعتقاد والقول في هذا الموضوع ، ولكن استحكمت في القضية أهواء وحكمت فيها العواطف الهوجاء ، التي أشعلت سعير هذه الفتنة الذي اصطلى المسلمون أواره.

ومرد ذلك كله إلى الغلو ، فإن من شأن المغالاة أن تدعوا إلى ضدها ، وكانت بداية ذلك منابذة أهل الحديث ومن سار في ركبهم لأصحاب المدرسة العقلية من المعتزلة وغيرهم ، واستعداء السلطات عليهم ، وتأليب الناس ضدهم ، وعندما دالت الدولة للمعتزلة في أواخر أيام المأمون ثم المعتصم انتهزوا فرصتهم للتشفي والانتقام من أهل الحديث ، فأسرفوا في التقتيل والتعذيب ، فامتلأت الصدور بالأحقاد ، وأخذت القضية مجرى عاطفيا في البحث ، وأخذ كل فريق يندد بالفريق الآخر ويكيل له التهم ، ويرميه بالبدعة والانحراف.

وبما أن أصحابنا أهل الاستقامة لم يشتركوا في شيء من تلك الفتن ، ولم يلتبسوا بهاتيك الإحن ، لم يقعوا تحت تأثير العواطف ، فكان بحثهم في القضية موضوعيا صرفا لأنهم انطلقوا فيه من قاعدة الحجة والدليل لا من واقع السخائم والأحقاد.

أما أهل المغرب منهم فلبعدهم عن تلك الأحداث لم يترددوا في إعلان القول الصحيح من أول الأمر ، إظهاراً للحق ، واستنادا إلى الحجة ، وأما أهل المشرق فقد حاول إمامهم الأكبر محمد بن محبوب رحمه الله أن يعلن ما أعلنه إخوانه أئمة وأعلام الجناح المغربي غير أن محمد بن هاشم اشتدت معارضته له في ذلك فانثنى عنه واتفقت كلمتهم على ما ذكرته سابقا عندما اجتمعوا في مدينة دما (السيب حاليا) وهو الاكتفاء بما كان عليه سلف الأمة ، وقصر القول عن التصريح بخلق القرآن أو عدمه.



ولا أراهم وقفوا هذا الموقف الصامت إلا سدا للذريعة وتجنبا لمشايعة الظالمين ، فإنهم رحمهم الله من أرسخ مبادئهم وأبرز سماتهم مناهضة الظلم ومصارعة الظالمين ، من غير التفات إلى من صدر منه الظلم أو من وقع عليه ، وكانت الأنباء تترادف إليهم بما يتعرض له أبناء الأمة - من أبشع الظلم وأشنع القسوة - في العاصمة العباسية التي كانوا على مقربة منها ، فكانوا كأنما يحسون بأنينهم وسياط الظالمين تلذع ظهورهم وبشهيقهم وصوارمهم ، تفصل رؤوسهم عن أجسادهم ، فلم يكن لهم - وهم دائماً ثائرون على الظلم ، منابذون للظالمين ، وقد رقق الإيمان قلوبهم وطهر مشاعرهم من الأحقاد - إلا أن يقفوا هذا الموقف لئلا تجد السلطة الظالمة من قولهم ما يبرر صنيعها ، وقد جعلت من الدين جسرا تعبر به إلى ما تهواه من سفك الدماء وإزهاق الأرواح وتعذيب الأجساد ، فلله تلك الأنظار الثاقبة ، والبصائر النيرة ، والسرائر النقية. (1)

وقد خفي هذا البعد في التفكير عن أبصار الذين جاءوا من بعد هؤلاء ، فحسبوا أن امتناعهم عن التصريح بخلق القرآن لأجل قدمه ، فصرحوا بخلافه وتحاملوا على من قال بخلقه ، وأدى بهم ذلك إلى تناقض عجيب ، يظهر لك عندما تقرأ ما كتب في هذا الموضوع في تلك الحقبة من الزمن ، كالجزء الأول من بيان الشرع ، والجزء الأول من الكشف والبيان ، وديوان الإمام ابن النضر .

وكثيراً ما تلمس فيما كتبوه أثر ما كان عقب تلك المحنة من ردة فعل عنيفة تبلورت فيما كتبه الكاتبون عنها ، وإظهارهم للمنكوبين فيها بأنهم أبطال الأمة وشهداء عقيدتها الحقة ، الذين حموها بدمائهم وصانوها بتضحياتهم ، وقد انعكس أثر هذا المنطق العاطفي الجياش على كل ما دونه المؤيدون لهم في تلك الوقفة التي وقفوها . سواء كان هؤلاء المؤيدون من مشارقة الإباضية أو من الأشعرية أو من غيرهم ، وقد استمرت هذه الفكرة في الوسط الإباضي المشرقي حتى برز من علماء عمان المتأخرين من فتحوا بتحريرهم أقفال الأشكال ، وأزاحوا ببيانهم أستار الشبه فإذا بالموقف المشرقي الإباضي يلتحم مع الموقف المغربي ويتحد .

وقد استقريت أسباب اللبس في هذه المسألة ، حتى أشتد نكير طائفة من المسلمين على من قال بخلق القرآن فوجدته يعود إلى أمرين اثنين :

- أولهما : التباس القرآن المنزل في أفهامهم بالكلام النفسي الذي يراد به نفي الخرس .

- ثانيهما : التباسه بعلم الله سبحانه وتعالى به ، مع أن صفتي الكلام والعلم قديمتان.

وما مر بك في المقدمة من التفرقة بين الكلام المنزل والكلام النفسي ، وبينه وبين علم الله سبحانه كاف في رفع هذا اللبس وتبديد هذه الشبهة ، وأضيف إلى ذلك أن التكلم لغة وعرفا لا يكون إلا بمعنى إحداث الكلام ، فإذا قلت تكلم محمد لم يفد قولك هذا إلا أنه أحدث كلاما في زمن مضى ، وإذا قلت يتكلم فلا يدل إلا على إحداثه الكلام في الزمن الحاضر أو المستقبل لأن المضارع صالح لهما ، وإذا قلت : تكلم يا فلان لم يدل إلا على طلب المخاطب بإحداث الكلام .

ولا يعني قولك هذا بأي صيغة من صيغه الثلاث الإخبار عن كون الكلام صفة قائمة بذات المتكلم أو المطلوب منه التكلم ، وإلا فما معنى قولك لغيرك تكلم إن كان الكلام المطلوب قائما به ، وهل هذا إلا تحصيل حاصل ؟ وهذا لا ينافي استحضاره للكلام قبل أن يتكلم به ، لأن مفهوم الكلام النفسي يختلف عن مفهوم الكلام اللفظي ، وبجانب ذلك فإن من الواضح بداهة أنك إن أخبرت عن أحد بأنه تكلم يوم الجمعة أو سيتكلم يوم السبت ، لم يفد ذلك لغة ولا عرفا أنه كان متكلما بذلك الكلام الذي تكلم به أو سيتكلم به قبل ذلك التوقيت ، وقد خاطب الله عباده بلغتهم التي يعرفونها ومفاهيمهم التي يألفونها ، فإذا أخبرهم أنه كلم أحداً من خلقه في وقت ما ، لم يفد إخباره هذا إلا أنه أحدث التكليم في ذلك الوقت ، فلا وجه لجعل ذلك الخطاب الذي سمعه المكلم أو قرأه صفة أزلية قائمة بذات الله تعالى ، نعم هو معلوم لله سبحانه منذ الأزل كعلمه بكلام خلقه حروفه وكلماته ، جُمَلِهِ ومفرداته ، ألفاظه ومعانيه ، مخارجه ومقاطعه ، أصواته وصفاته .

وأما قول ابن القيم "وقد دل القرآن وصريح السنة ، والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته ، كما دل على أن كلامه صفة قائمة بذاته وهي صفة ذات وفعل" . قال تعالى : (إنما قولنا لشيءٍ إذا أردناه أن نقول له كن فيكون) "النحل 40" ، وقوله : (إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) "يس 82" ، فإذا تخلص الفعل للاستقبال ، وأن كذلك ، و (نقول) فعل دال على الحال والاستقبال ، و(كن) حرفان يسبق أحدهما الآخر ، فالذي اقتضته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر ، وكذلك قوله : (وإذا أردنا أن نهلك قريةً .. الآية) "الإسراء 16" ، سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن ، وكذلك قوله : (ولقد خلقناكم ثم صوَّرناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) "الأعراف 11" ، وإنما قال لهم (اسجدوا) بعد خلق آدم وتصويره ، وكذلك قوله تعالى : (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلَّمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني .. الآيات) "الأعراف 143/147" ، فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت ، وكذلك قوله : (فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن) "القصص 30" ، والذي ناداه هو الذي قال له : (إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني) "طه 14" ، وكذلك قوله : ( ويوم يناديهم فيقول ) القصص 62/65/74، وقوله : (ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون) "سبأ 40" ، وقوله : (يوم نقول لجهنم .. الآية) "ق30 " ، ومحال أن يقول سبحانه لجهنم (هل امتلأت) و (تقول هل من مزيد) قبل خلقها ووجودها ، وتأمل نصوص القرآن من أوله إلى آخره ، ونصوص السنة ، ولاسيما أحاديث الشفاعة وحديث المعراج ، وغيرها كقوله : (أتدرون ماذا قال ربكم الليلة) وقوله : (إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما أحدث ألا تكلموا في الصلاة) وقوله : (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب).



وقد أخبر الصادق المصدوق أنه يكلم ملائكته في الدنيا ، فيسألهم كيف تركتم عبادي ، ويكلمهم يـوم القيامة ، ويكلم أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ ، ويكلم أهل الجنة في الجنة ، ويسلم عليهم في منازلهم ، وأنه كل ليلة يقول : (من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني فأغفر له ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الله أحيا أباك وكلمه كفاحا" ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلمه ، وقال له تمن عليّ إلى أضعاف أضعاف ذلك من نصوص الكتاب والسنة" .. الخ كلامه . (1)

فهو كله حجة لنا على صحة ما قررناه ، من أن المراد بتكليم الله سبحانه إحداثه للكلام في الوقت الذي يكون فيه ، وإلا فما معنى تقييد تكليمه بالليل أو النهار أو الدنيـا أو الآخرة أو غير ذلك من الأزمنة ، لو كان هذا الكلام نفسه أزليا .

والفارق بين إحداث الله لكلامه ، وإحداث العبد لكلامه أمران :

- أولهما : ما يفرق به بين أفعال الله وأفعال العباد من حيث إن العبد لا يستقل بإيجاد فعله استقلالا تاما ، وإنما له منه جانب الكسب والله هو الخالق له ، والثواب والعقاب مترتبان على كسب العبد لا على خلق الخالق ، فكلام المخلوق - كسائر أفعاله - مخلوق لله عز وجل ، وليس للمخلوق منه إلا الاكتساب ، ولا يستنكر أن يخلق الله للعبد كلاما في نفسه ثم يجريه باختياره على لسانه ، كما لا يستنكر أن يخلق الله في العبد حركة من الحركات ثم يجريها باختياره على العضو المتحرك منه ، أما كلام الله فهو كسائر أفعاله - من إيجاد وإعدام ، وعطاء ومنع ، ورفع وخفض ، وبسط وقبض ، وإحياء وإماتة - لا دخل لأحد من خلقه فيه .

- ثانيهما : تفاوت صفتي تكليم الحق وتكليم الخلق ، كما تباين أفعاله تعالى أفعال خلقه ، كتعليمه سبحانه لعباده ، فإنه إما أن يكون إلهاما يقذفه في صدور من اختصهم به ، ومنه (وعلم آدم الأسماء كلها) "البقرة 31" ، و (وعلمك ما لم تكن تعلم) "النساء 113" ، (علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم) "العلق 4/5" ، وإما أن يكون وحيا يوحيه بواسطة رسله ، وهو داخل في تعليم الإنسان ما لم يعلم ؛ وأما تعليم الناس بعضهم لبعض فهو بالتلقين والتدريب .

وكذلك يتفاوت مدلول النصر إذا أسند إلى الله عما إذا أسند إلى العباد ، فإن نصر العباد بعضهم لبعض بالمؤازرة بالنفس أو المال أو الجند ، ونصر الله لعباده هو خلق أسباب انتصارهم وتهيئتها لهم ، ومنه قوله تعالى : (ولقد نصركم الله ببدر) "آل عمران 123" ، وقوله : (ولينصرن الله من ينصره) "الحج 40" ومثله العطاء فإنه يسند إلى الله وإلى العباد ، ويتفاوت مدلوله في الإسنادين .

وبهذا تدرك تفاوت صفتي التكليم باختلاف إسناده ، فإنه إن أسند إلى الخالق كان له مدلول يختلف عما إذا أسند إلى المخلوقين ، فإنه إن أسند إلى المخلوق المعهود - وهو الإنسان - دل على عملية تشترك فيها مشاعره الظاهرة والباطنة ، ودماغه ورئتاه ، وقصبته الهوائية وشعبه ، وحنجرته ، وحلقه ، ولسانه ، وأسنانه وشفتاه مع الطاقة الهوائية المرتفعة من الرئتين ، والدافعة للصوت ، وهو بهذا المفهوم مستحيل على الله سبحانه ، فلا يجوز أن يفسر تكليمه تعالى بهذا المعنى ، وقد بين لنا تعالى صفة تكليمه لعباده حيث قال : (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) "الشورى 51" ، وناهيك أن سبحانه جعل الوحي تكليما منه ، مع أنه إلهام يختص به تعالى من شاء من عباده ، وهو أمر متعذر كونه بين إنسان وإنسان آخر مثله ، إذ لا مقدرة للبشر على الإلهام ، ولو حصل مثله في الناس لما انطبق عليه معنى التكليم المعهود بينهم لغة ولا عرفا .

وإذا عرفت ذلك اتضح لك جواز أن يكون التكليم من وراء حجاب إذا أسند إلى الله ، بمعنى خلق صوت مسموع لا يصدر عن شيء ، ينبئ عن مراد الله ، ويتلقفه سمع من اختصه الله بالتكليم ، وعلى هذا يحمل تكليم الله لموسى عليه السلام ، وهو أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما الإمام الطاهر ابن عاشور - وهو مالكي المذهب أشعري العقيدة - في تكليم الله لملائكته حيث قال :

"وكلام الله للملائكة أطلق على ما يفهمون به إرادته ، وهو المعبر عنه بالكلام النفسي ، فيحتمل أنه كلام سمعوه ، فإطلاق القول عليه حقيقة ، وإسناده إلى الله لأنه خلق ذلك القول بدون وسيلة معتادة ، ويحتمل أنه دال آخر على الإرادة فإطلاق القول عليه مجاز لأنه دلالة للعقلاء ، والمجاز فيه أقوى من المجاز الذي في نحو قول النبي صلى الله عليه وسلم : (اشتكت النار إلى ربها) وقوله تعالى : (فقال لها وللأرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) "فصلت 11" ، ولا طائل في البحث عن تعين أحد الاحتمالين"(1) ومثله قوله - في تعليم آدم الأسماء "وتعليم الله آدم الأسماء إما بطريقة التلقين بعرض المسمى عليه ، فإذا رآه لقن اسمه بصوت مخلوق يسمعه .. الخ"(2) وقد اتضح لك مما نقلته سابقا من كلام الإمامين ابن أبي نبهان والخليلي- رحمهما الله- وجه كون القرآن الكريم وغيره من الكتب المنزلة كلام الله مع كونه مخلوقا له سبحانه ، وسقوط شبهة القائلين بقدمه المتشبثين بقوله تعالى : (فأجره حتى يسمع كلام الله) "التوبة 6" ، وهذا هو الذي استقر عليه اعتقاد أصحابنا الإباضية ، وقال به كثير من الأشعرية ، حتى أن المحقق الخليلي رحمة الله عليه قال : "قد اتفقنا نحن والأشعرية أنه مخلوق وصرح بذلك الشيخ أبو سعيد ، ومحمد بن محبوب رحمهما الله ، واتفق عليه أصحابنا المغاربة وفاقا للمعتزلة ، ولا منكر لذلك فيما قيل إلا بعض الحنابلة"(3).

وممن صرح بخلقه من الأشعرية الفخر الرازي ، وحكى غير مرة اتفاق العقلاء عليه ، ومن ذلك قوله في مقدمة تفسيره الكبير : "الكلام الذي هو متركب من الحروف والأصوات ، فإنه يمتنع في بديهة العقل كونه قديما لوجهين :

- الأول : أن الكلمة لا تكون كلمة إلا إذا كانت حروفها متوالية ، فالسابق المنقضي محدث لأن ما ثبت عدمه امتنع قدمه ، والآتي الحادث بعد انقضاء الأول لاشك أنه حادث .

- والثاني : أن الحروف التي منها تألفت الكلمة إن حصلت دفعة واحدة لم تحصل الكلمة لأن الكلمة الثلاثية يمكن وقوعها على التقاليب الستة ، فلو حصلت الحروف معا لم يكن وقوعها على بعض تلك الوجوه أولى من وقوعها على سائرها ، ولو حصلت على التعاقب كانت حادثة" (1)

وقال في تفسيره سورة الأعراف : "الناس مختلفون في كلام الله تعالى ، فمنهم من قال كلامه عبارة عن الحروف المؤلفة المنتظمة ، ومنهم من قال كلامه صفة حقيقة مغايرة للحروف والأصوات ، أما القائلون بالقول الأول فالعقلاء المحصلون اتفقوا على أنه يجب كونه حادثا كائنا بعد أن لم يكن ، وزعمت الحنابلة والحشوية أن الكلام المركب من الحروف والأصوات قديم ، وهذا القول أخس من أن يلتفت العاقل إليه"(2) ثم ذكر مناظرة له ستأتي بعد قليل إن شاء الله .

وبالغ الفخر في تفسيره لسورة الشورى النكير على الحنابلة القائلين بقدم الحروف القرآنية حيث قال : "وهؤلاء أخس من أن يُذكروا في زمرة العقلاء ، واتفق أني قلت يوما لبعضهم ، لو تكلم الله بهذه الحروف ، إما أن يتكلم بها دفعة واحدة أو على التعاقب والتوالي ، والأول باطل لأن التكلم بجملة هذه الحروف دفعة واحدة لا يفيد هذا النظم المركب على التعاقب والتوالي فوجب أن لا يكون هذا النظم المركب من هذه الحروف المتوالية كلام الله تعالى ، والثاني باطل لأنه تعالى لو تكلم بها على التوالي والتعاقب كانت محدثة،ولما سمع ذلك الرجل هذا الكلام قال الواجب علينا أن نقر ونمر، يعني نقر بأن القرآن قديم ونمر على هذا الكلام على وفق ما سمعناه ، فتعجبت من سلامة قلب ذلك القائل"

ثم قال الفخر : "قد أطبقوا على أن هذه الحروف والأصوات كائنة بعد أن لم تكن ، حاصلة بعد أن كانت معدومة ، ثم اختلفت عباراتهم في أنها هل هي مخلوقة أو لا يقال ذلك بل يقال إنها حادثة أو يعبر عنها بعبارة أخرى ؟ " (2)

ونجد الإمام ابن عاشور في تفسيره لسورة النساء يقول - بعد حديثه عن كلام الله المنزل بواسطة الملك على الرسل المسمى بالقرآن ، وبالتوراة وبالإنجيل وبالزبور - وهذا لا يمتري في حدوثه من له نصيب من العلم في الدين ، ولكن أمسك بعض أئمة الإسلام عن التصريح بحدوثه أو بكونه مخلوقا في مجالس المناظرة التي غشيتها العامة أو ظلمة المكابرة ، والتحفز إلى النبز والأذى دفعا للإيهام وإبقاء على النسبة إلى الإسلام ، وتنصلا من غوغاء الطغام". (4)

ومن قول هذين الإمامين الأشعريين يتبين لك ثبوت ما قاله المحقق الخليلي من أن موقف الأشعرية من هذا القرآن المنزل على الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام ، المتلو بالألسن ، المحفوظ في الصدور ، المكتوب في الصحف لا يختلف عن موقفنا وموقف المعتزلة وغيرهم القائلين بخلقه ، وهذا الذي يعنيه الإمام نور الدين السالمي رحمة الله عليه حيث جعل الخلاف بيننا وبينهم لفظيا فحسب . (5)

ثم ظهر لي أن هذا الموقف لم تتفق عليه الأشاعرة أو أنهم لم يستقروا عليه ، فإنا نجد في كتبهم وفيما يروى عنهم أن القرآن الذي نقرؤه ، ونسمعه ، ونحفظه ، ونكتبه ليس هو عين كلام الله سبحانه وتعالى وإنما كلامه تعالى صفة قديمة قائمة بذاته عز وجل ، وما هذه الحروف والأصوات إلا عبارة عن ذلك الكلام وهي مخلوقة لأجل إيصال الأفهام بها إلى مقاصد ذلك الكلام الأزلي ، فمثلها كمثل المرآة التي تنعكس فيها صور الأشياء فيراها الناظر منها ، مع أن الذي يراه ليس إلا مجرد صورة للشبح المنعكس ، ونجد الفخر الرازي - وهو من أئمة الأشعرية - يعزو هذا القول إلى الأشعري وأصحابه بعبارة الزعم الدالة على عدم موافقته لهم ، وينص على أن من عداهم مخالفون لهم في ذلك ، ونص كلامه : ( أجمعت الأمة على أن الله تعالى متكلم ، ومن سوى الأشعري وأتباعه أطبقوا على أن كلام الله هو هذه الحروف المسموعة والأصوات المؤلفة ، وأما الأشعري وأتباعه فإنهـم زعموا أن كلام الله تعالى صفة قديمة يعبر عنها بهــذه الحـروف والأصوات ). (1)

والظاهر أن الأشعرية مضطربون في هذه المسألة لأن الفخر الذي يشير إلى تنصله من قولهم في كلامه هذا ، قد قال نفسه في مقدمة تفسيره : ( إذا قلنا لهذه الحروف المتوالية والأصوات المتعاقبة إنها كلام الله تعالى ، كان المراد أنها ألفاظ دالة على الصفة القائمة بذات الله تعالى فأطلق اسم الكلام عليها على سبيل المجاز - إلى أن قال : وإذا قلنا كلام الله قديم لم نعن به إلا تلك الصفة القديمة التي هي مدلول هذه الألفاظ والعبارات ، وإذا قلنا كلام الله معجزة لمحمد صلى الله عليه وسلم عنينا به هذه الحروف وهذه الأصوات التي هي حادثة ، فإن القديم كان موجوداً قبل محمد عليه الصلاة والسلام فكيف يكون معجزة له ، وإذا قلنا كلام الله سور وآيات عنينا به هذه الحروف ، وإذا قلنا كلام الله فصيح عنينا به هذه الألفاظ ، وإذا شرعنا في تفسير كلام الله تعالى عنينا به أيضاً هذه الألفاظ ). (2)

ثم قال : ( زعمت الحشوية أن هذه الأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان عين كلام الله تعالى ، وهذا باطل لأنا نعلم بالبديهة أن هذه الحروف والأصوات التي نسمعها من هذا الإنسان صفة قائمة بلسانه وأصواته ، فلو قلنا بأنها عين كلام الله تعالى لزمنا القول بأن الصفة الواحدة بعينها قائمة بذات الله تعالى ، وحالَّة في بدن هذا الإنسان وهذا معلوم الفساد بالضرورة ، وأيضاً فهذا عين ما يقوله النصارى ، من أن أقنوم الكلمة حلت في ناسوت صريح وزعموا أنها حالَّة في ناسوت عيسى عليه السلام ، ومع ذلك فهي صفة لله تعالى وغير زائلة عنه ، وهذا عين ما يقوله الحشوية من أن كلام الله تعالى حالٌّ في لسان هذا الإنسان مع أنه غير زائل عن ذات الله تعالى ، ولا فرق بين القولين ، إلا أن النصارى قالوا بهذا القول في حق عيسى وحده ، وهؤلاء الحمقى قالوا بهذا القول الخبيث في حق كل الناس من المشرق إلى المغرب ).(3)

ويفهم من هذا الكلام ونحوه من نصوص أئمة الأشعرية ، أنهم يطلقون اسم القرآن على الكلام النفسي الذي هو صفة ذاتية لله تعالى ، وهو الذي يقصدونه عندما يقولون إن القرآن غير مخلوق ، وهو الذي عوَّل عليه من قال إن الخلاف بيننا وبينهم لا يعدو أن يكون لفظيا .

غير أن هذا المذهب الأشعري تعرَّض لنقد شديد من قبل الطائفتين المتعارضتين معاً ، وهم القائلون بقدم القرآن المتلو ، والقائلون بحدوثه ، ويتلخص اعتراض الجانبين في كون الله سبحانه قد سمى هذا الكلام الذي نتلوه قرآناً وفرقاناً وكتاباً وهدىً في آيات كثيرة ، منها قوله : ( نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن ) يوسف : 3 ، وقوله : ( إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ) الإسراء : 9 ، وقوله : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان ) البقرة : 185 ، وقوله : ( إنا أنزلناه قرآناً عربياً ) يوسف : 2 ، وقوله : ( إنا جعلناه قرآناً عربياً ) الزخرف : 3 " وقوله (تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده) "الفرقان 1" وقوله : (تلك آيات القرآن وكتاب مبين) "النمل 1" وقوله: (تلك آيات الكتاب وقرآن مبين) "الحجر 1" وقوله : ( ذلك الكتاب لا ريب فيه ) البقرة 2 ، وقد وصفه الله تعالى بالإنزال كما سبق في بعض الآيات ، ونحوه قوله: (إنا أنزلناه في ليلة مباركة) "الدخان 3" وقوله: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) "إبراهيم 1" وقوله: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات) "آل عمران 7" وقوله: (إنا أنزلناه في ليلة القدر) "القدر 1" ووصفه بالتفصيل في قوله: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم) "الأعراف 52" ، ووصفه به وبالإحكام في قوله: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) "هود 1" ، وميز بين آياته فوصف بعضها بالإحكام وبعضها بالتشابه في قوله: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات) .

ووصفه بأنه مقروء حيث قال : (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا) "الإسراء 45" ، وقال: (فاقرأوا ما تيسر من القرآن) "المزمل 20" ، وقال : (فأقرأوا ما تيسر منه) "المزمل 20" ، وقال: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) "النحل 98" .

ووصفه بأنه محفوظ في الصدور بقوله : (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم) "العنكبوت 49" ، وبأنه مكتوب في اللوح حيث قال : (بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ) "البروج 22/23"

ومن المعلوم قطعا أنه لم يُرد في شيء من هذه الآيات إلا هذا القرآن المعهود ، (إذ لم يرد سمع بتسميته غيره قرآنا ، وجاء في الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تسميته بذلك ، كقوله عليه أفضل الصلاة والسلام : (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وقوله : (إن هذا القرآن مأدبة الله) ونهيه صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو ، وهو لا يعني به إلا المصحف.

فتبين من ذلك كله أنه لا يقصد بالقرآن والكتاب والذكر والهدى إلا هذا الكلام المنزل ، وأنه مقروء محفوظ مكتوب منقسم إلى محكم ومتشابه ، ومجمل ومفصل ، وناسخ ومنسوخ ، فإنكار قيام هذه الصفات بالقرآن إنكار لما صرحت به النصوص ودل عليه العقل وصدقه الواقع ..

هذا وحكى ابن تيمية وابن القيم عن الأشعري أن الكلام عنده صفة قديمة ليست بصوت ولا حرف ولا يتجزأ ، فهو عين الأمر والنهي ، والخبر والاستخبار ، وهو عين التوراة والإنجيل والقرآن والزبور ، وكونه أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا صفات لذلك المعنى الواحد ، وكونه توراة وإنجيلا وقرآنا وزبورا تقسيم لعباراته فإنه إن عبر عنه بالعربية فهو قرآن وإن عبر عنه بالعبرية فهو توراة ، وإن عبر عنه بالسريانية فهو إنجيل ، والعبارات مخلوقة والحقيقة قديمة. (1)

ولئن صح هذا الذي نقلاه فإن بطلانه أظهر من أن يحتاج إلى إظهار لما فيه من الجمع بين الأضداد كجعل الأمر هو النهي ، والخبر هو الاستخبار ، وليس ذلك جمعا بين الضدين فحسب بل هو جعل الضد عين ضده ، ويترتب عليه أن ترجمة التوراة والإنجيل إلى العربية تجعلهما قرآنا ، وترجمة القرآن إلى العبرية تجعله توراة ، وإلى السريانية تجعله إنجيلا ، وهذا عين البطلان ، وحسبك أن في القرآن من الحكم والأحكام والقصص والأمثال والعلوم والفوائد ما ليس في الكتب السابقة، كما أن تقسيمه يختلف عن تقسيمها.

وأرى أن الأشعرية لم يكن لهم موقف موحد من هذه المسألة ، فهذا ابن رسلان منهم يقول في زبده :

لم يحدث المسموع للكليم
يقرأ كما يحفظ بالأذهان



كلامه كوصفه القديــم
يكتب في اللوح وباللسان




فنجده يثبت صفة القدم للكلام المسموع المكتوب المقروء غير أن شارحه (الفِشَنِي) يحمل قوله هذا على ما يتفق مع المحكي عن الأشعري حيث يقول : "فاتصافه بهذه الأوصاف الأربعة اتصاف له باعتبار وجودات الوجود الأربعة وليس حالا في المصاحف ولا في القلوب ، ولا في الألسنة بل معنى قائم بذات الله تعالى" (1)

وقال قبل ذلك ، "والحق قول أهل الحق أنه تعالى متكلم بكلام قديم قائم بذاته ، فإن عبر عنه بالعربية فالقرآن أو بالعبرانية فالتوراة أو بالسريانية فالإنجيل ، إلى غير ذلك من الاختلاف في التعبير"

وذكر قبيل قوله هذا أن كلامه تعالى ليس بحرف ولا صوت ، لأنهما عرضان حادثان.(2)

واضطراب هذا الكلام أظهر من أن يحتاج إلى بيان وتحليل ، وقد بالغ ابن حزم وابن تيمية فحكما على قائليه بالكفر - ولا ريب أنهما يعنيان الكفر الملي - أما ابن حزم فقال : "وهذا كفر مجرد بلا تأويل ، وذلك أننا نسألهم عن القرآن أهو كلام الله أم لا ؟ فإن قالوا ليس هو كلام الله كفروا بإجماع الأمة ، وإن قالوا بل هو كلام الله سألناهم عن القرآن ، أهو الذي يتلى في المساجد ويكتب في المصاحف ويحفظ في الصدور أم لا ؟ فإن قالوا لا كفروا بإجماع الأمة ، وإن قالوا نعم تركوا قولهم الفاسد ، وأقروا أن كلام الله تعالى في المصاحف ومسموع من القراء ومحفوظ في الصدور كما يقول جميع أهل الإسلام" (3)

وأما ابن تيمية فقد نسب إلى عوامهم أنهم أسقطوا حرمة المصحف ، وربما داسوه ووطئوه ، وربما كتبوه بالعذرة أو غيرها - ثم قال فيهم - وهؤلاء أشد كفراً ونفاقاً ممن يقول : الجلد والورق كلام الله ، فإن أولئك آمنوا بالحق وبزيادة من الباطل ، وهؤلاء كذَّبوا بالكتاب وبما أرسل الله به رسله ( فسوف يعلمون . إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون ) غافر : 70 /72 . (4)

ولست أريد هنا أن أتحدث عن هذا الحكم الذي حكما به على أصحاب هذه المقالة صحة وبطلاناً ، فإن ذلك يستلزم إطالة في البحث ما كنت أودها ، وإنما أريد أن أقول إن ما وقعا فيه من التناقض ليس بأقل شناعة مما عاباه على غيرهما ؛ أما ابن حزم - فمع تقريره أن القرآن الكريم هو كلام الله تعالى - نجده يؤكد أن كلامه سبحانه هو عين ذاته فعندما حكى عن الأشعرية قولهم إذ قال : ( وقالت الأشعرية : كلام الله صفة ذات لم تزل غير مخلوقة وهو غير الله تعالى ، وخلاف الله تعالى ، وهو غير علم الله تعالى ، وأنه ليس لله تعالى إلا كلام واحد - أردفه بقوله : واحتج أهل السنة بحجج منها أن قالوا : إن كلام الله تعالى لو كان غير الله لكان لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضاً … إلى آخره .

وقال أيضاً : ( وأما الأشعرية فيلزمهم في قولهم إن كلام الله غير الله ما ألزمناهم في العلم وفي القدرة سواء بسواء ، مما قد تقصيناه قبل هذا والحمد لله رب العالمين ) . (1)

ولا ريب أنه يلزم على هذا أن يكون القرآن الكريم هو عين ذات الله تعالى ، وأن يكون سبحانه بإنزاله إياه وتفصيله له وإحكامه آياته لم ينزل ويفصل ويحكم إلا ذاته سبحانه ، كما يلزمه أن يكون كاتب القرآن وتاليه وحافظه لا يكتب ولا يتلو ولا يحفظ إلا ذاته تعالى ، وأن تكون الذات العلية هي هذه الحروف والأصوات ، فتكون متجزئة بتجزء القرآن إلى سور وآيات وجمل وكلمات وحروف وأصوات ، تعالى الله عن ذلك كله علواًّ كبيراً .

وقد أتي ابن حزم في احتجاجه لقدم القرآن بسفسطة عجيبة لا يتصور العقل صدورها من مثله ، مع غزارة علمه وقوة فهمه . (2)

وقد آثرت ضرب الصفح عن إيرادها اكتفاءً بما نقضها به الإمام شمس الدين أبو يعقوب يوسف بن إبراهيم الوارجلاني رحمه الله في آخر كتابه العدل والإنصاف . (3)

وإنما يُعجب من عزو الإمام أبي يعقوب ما قاله ابن حزم إلى الإمام أحمد بن حنبل ، ولم أجده في شيء من كتب الحنابلة بل ما رأيته فيها مناقض له .

وأما ابن تيمية فسترى إن شاء الله في الفصل الآتي من نصوص كلامه ما يوقفك على تناقضه واضطرابه .

هذا ويظهر لون آخر من الخلاف المعنوي بيننا وبين الأشعرية ومن قال بقدم القرآن من مشارقة الإباضية ، وهو أنهم صرَّحوا بأن ما سمعه موسى عليه السلام في مناجاته لربه هو كلام الله النفسي القديم وليس بمخلوق ، كما هو مقتضى قول ابن رسلان في زبده ، وقالوا إنه ليس صوتاً ولا حرفاً ، وقد صرَّح بهذا الإمام ابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى: (وكلَّم الله موسى تكليماً ) النساء : 164 .

ونص قوله : ( فالتكليم تعلق لصفة الكلام بالمخاطب على جعل الكلام صفة مستقلة ، أو تعلق العلم بإيصال المعلوم إلى المخاطب ، أو تعلق الإرادة بإبلاغ المراد إلى المخاطب ، فالأشاعرة قالوا : تكليم الله عبده هو أن يخلق للعبد إدراكاً من جهة السمع يتحصل به العلم بكلام الله دون حروف ولا أصوات ، وقد ورد تمثيله بأن موسى سمع مثل الرعد علم منه مدلول الكلام النفسي ) .(4)

وهو كما ترى يتناقض مع ما سبق نقله عنه ، من تفسيره لقول الله للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، وتعليمه آدم الأسماء ، فليت شعري كيف يجمع بين ما قاله هنا وما قاله هنالك ؛ على أنه بعد هذا الكلام بما لا يزيد على صحيفة واحدة قال : ( وقوله " تكليماً " مصدر للتوكيد ، والتوكيد بالمصدر يرجع إلى تأكيد النسبة وتحقيقها مثل قد وإن ، ولا يقصد به رفع احتمال المجاز ، ولذلك أكدت العرب بالمصدر أفعالاً لم تستعمل إلا مجازاً ، كقوله تعالى : ( إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ) الأحزاب : 33 ، فإنه أراد أن يطهرهم الطهارة المعنوية أي الكمال النفسي ، فلم يفد التأكيد رفع المجاز ، وقالت هند بنت النعمان بن بشير تذم زوجها روح بن زنباع :

وعجَّت عجيجاً من جذام المطارف



بكى الخزّ من روح وأنكر جلده




وليس العجيج إلا مجازاً ، فالمصدر يؤكد أي يحقق حصول الفعل المؤكد على ما هو عليه من المعنى قبل التأكيد .

فمعنى قوله: ( تكليماً ) هنا ، أن موسى سمع كلاماً من عند الله بحيث لا يحتمل أن الله أرسل إليه جبريل بكلام ، أو أوحى إليه في نفسه ، وأما كيفية صدور هذا الكلام عن جانب الله فغرض آخر هو مجال للنظر بين الفِرَق ، ولذلك فاحتجاج كثير من الأشاعرة بهذه الآية على كون الكلام الذي سمعه موسى الصفة الذاتية القائمة بالله تعالى احتجاج ضعيف ، وقد حكى ابن عرفة أن المازري قال في شرح التلقين إن هذه الآية حجة على المعتزلة في قولهم أن الله لم يكلم موسى مباشرة بل بواسطة خلق الكلام لأنه أكده بالمصدر ، وأن ابن عبد السلام التونسي شيخ ابن عرفة رده بأن التأكيد بالمصدر لإزالة الشك عن الحديث لا عن المحدث عنه ، وتعقبه ابن عرفة بما يؤول إلى تأييد رد ابن عبد السلام ) .(1)

ولعلنا نستخلص مما قاله هنا وهناك أنه لم يستقر رأيه في هذه المسألة على شيء بعينه ، ولعله يرى جواز صحة كل واحد من الرأيين .

أما نحن - معشر الإباضية القائلين بخلق القرآن ، ومن قال بقولنا من المعتزلة وغيرهم - فقد اتفقنا مع الحنابلة القائلين بقدم النصوص القرآنية ، على أن موسى عليه السلام سمع من تكليم الله كلاماً مركباً من الحروف وأنه كان صوتاً ، إلا أنا اختلفنا في قِدمه وحدوثه ، فقالوا بقدمه وقلنا بحدوثه ، وإنما قلنا إن هذا تكليم حقيقي من الله له ، لأنه لم يكن بواسطة بل خلقه الله له حيث شاء فأسمعه إياه من غير أن ينطق به ملك أو مخلوق آخر ، وقد قال كثير بأنه تعالى خلقه في الشجرة وأسمعه منها ، وهذا الذي نسبه الفخر الرازي إلى الإمام أبي منصور الماتريدي . (2)

ولا يتعين ذلك لعدم ما يدل عليه ، وإنما هو أحد الاحتمالات الواردة .

ونستخلص مما تقدم أن الموقف الأشعري في هذه القضية يختلف عن موقف الطائفتين المتباينتين جميعاً ، وهو صريح فيما سبق نقله عن الفخر الرازي مما نسبه إلى الأشعري وأتباعه من مخالفتهم لغيرهم في مسألة الكلام .

ونقل عنهم أنهم قالوا : ( وكما لا يبعد أن تُرى ذات الله مع أنه ليس بجسم ولا في حيِّز فأي بعد في أن يسمع كلام الله مع أنه لا يكون حرفاً ولا صوتاً ).(3) وهذا الإلزام خاص بمثبتي الرؤية ، وأما نحن فلا يطرق - والحمد لله - ساحتنا .



--------------------------------------------------------------------------------

(1) يرى الإمام نور الدين السالمي أن عدم تصريح سلف أئمة الإباضية المشارقة بخلق القرآن وسائر الكتب المنزلة راجع إلى فرارهم من مقالة الجهمية بحدوث صفات الله تعالى الذاتية لخوفهم أن تكون هذه المسألة مفرعة على هذا الاعتقاد " تحفة الأعيان ج1 ص156/157 ط ، وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان " وهو لا ينافي ما ذكرته فلا يبعد أن يكون إمساكهم عن التصريح بخلقه للاعتبارين معاً .

(1) المرجع : الصواعق المرسلة ص429/430 ، مطبعة الإمام 13 شارع قرقول ، المنشية بمصر ، وانظر فتاوى ابن تيمية ج12 ص239/240 ط1 - مطابع الرياض ).



(1) التحرير والتنوير ج1 ص397 ط بالدار التونسية للنشر.

(2) المرجع السابق ص411.

(3) تمهيد قواعد الإيمان ج2 ص6 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(1) التفسير الكبير ج1 ص30 ط2 ، دار الكتب العلمية بطهران.

(2) المرجع السابق ج14 ص228.

(2) المرجع السابق ج27 ص187/188.

(4) التحرير والتنوير ج6 ص38 ط1 الدار التونسية للنشر.

(5) المرجع : مشارق الأنوار ص245.

(1) التفسير الكبير ج27 ص187 ط2 دار الكتب العلمية بطهران.

(2) التفسير الكبير ج1 ص31 دار الكتب العلمية بطهران).

(3) المرجع السابق ص31/32.



(1) الصواعق المرسلة ص426 ، وتكرر ذلك في المجلد الثاني عشر من فتاوى ابن تيمية.



(1) مواهب الصمد في حل ألفاظ الزبد ج1 ص27 ط الشؤون الدينية القطرية.

(2) المرجع السابق ص26.

(3) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج3 ص25 مكتبة السلام العالمية.

(4) فتاوى ابن تيمية ، المجلد الثاني عشر ص382 ط مطابع الرياض ، وقد أتى في الرد عليهم بأقذع العبارات التي نزَّهت هذا الكتاب عن ذكرها فيه ولا يعقل صدور ما نسبه إليهم من أحد يدين بالإسلام.

(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل ج3 ص4 ، مكتبة السلام العالمية.

(2) المرجع السابق ج3 ص6/8.

(3) انظر الكتاب المذكور ج2 ص147/156 ، ط1 وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان.

(4) التحرير والتنوير ج6 ص37.

(1) المرجع السابق ص38/39.

(2) التفسير الكبير ج14 ص238 ط دار الكتب العلمية بطهران ، ونفس المرجع ج27 ص188.

(3) المرجع السابق ج27 ص188.
  #22  
قديم 25/09/2004, 06:55 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
الفصل الثاني

في تضارب أقوال القائلين بقِدم القرآن



إن القول بقِدم القرآن - وإن تباينت مفاهيمه وتشعبت مسالكه باختلاف أصحابه فيما بينهم - ينبجس من نبع واحد ،وهو عدم التفرقة بين صفة الكلام الذاتية لله تعالى وبين أثرها ، وهو ما أنزل من كتبه على رسله ، وأصحاب هذا القول كلهم ملزمون بأن يقولوا بقِدم الحوادث كلها فإنها آثار لصفات الله تعالى ، إذ المخلوقات على اختلافها ما هي إلا آثار لقدرته تعالى ولإرادته ولعلمه ، وكل من هذه صفة ذاتية قديمة لاستحالة اتصاف الله بأضدادها .

ومع اتحاد مصدر هذا القول ، تجد بين أصحابه من التنازع والتدافع ما يقضي العجب العجاب ، بحيث لا يمكن أن تجتمع أقوالهم في طريق واحد ولا تنتهي إلى غاية واحدة ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى التراشق فيما بينهم بالتجهيل والتبديع ، والتقاذف بالتضليل والتكفير كما مـر بك ما يدلك على ذلك.

وإذا سكتنا عن طوائفهم المتعددة وأصغينا إلى ما تقوله طائفة واحدة فحسب - وهي الحنابلة - وجدنا من ذلك أمراً عجباً ، فقد سلكوا في إثبات وتفسير معتقدهم هذا طرائق قِدداً ، كل أصحاب طريقة منها يدَّعون أنهم أسعد بالحق وأتبع لقول إمامهم أحمد بن حنبل ، ومن أمثلة ما اختلفوا فيه :

أ ـ صوت قارئ القرآن وتلاوته.

ب ـ الحروف الهجائية التي تتركب منها كلمات القرآن وغيره .

ج ـ تكلم الله هل هو بمشيئته أو بدونها .



وبما أن خلافهم في الحروف والأصوات والتلاوة متداخل ، نجمع بينها في عرض أقوالهم فيها ونقدها.

ذهب فريق منهم إلى قِدم صوت القارئ واعتقاد أنه قائم بذات الله تعالى ، ومن هؤلاء محمد بن داود البصيصي وابن حامد ، وأبو نصر السجزي ، والقاضي أبو يعلى ، وأنكر عليهم ذلك أبو بكر المروذي وآخرون ، وحكوا عن أحمد قوله : ( من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ) (1)، وفي هذا النص الذي رووه من التناقض ما لا يخفى على عاقل ، فإنه لا توسط بين الخلق وعدمه ، فالشيء إما أن يكون مخلوقاً أو غير مخلوق ، فإن كان مخلوقاً فلماذا يضلل من قال بخلقه ؟ وإن كان غير مخلوق فلماذا يبدع من قال بعدم خلقه ؟ .

وقال ابن تيمية : ( لما تكلموا - أي الحنابلة - في حروف المعجم صاروا بين قولين ، طائفة فرقت بين المتماثلين فقالت الحرف حرفان ، هذا قديم وهذا مخلوق ، كما قال ابن حامد والقاضي أبو يعلى وابن عقيل وغيرهم ، فأنكر ذلك عليهم الأكثرون ، وقالوا : هذا مخالفة للحس والعقل ، فإن حقيقة هذا الحرف هي حقيقة هذا الحرف ، وقالوا الحرف حرف واحد ، وصنَّف في ذلك القاضي يعقوب البرزيني مصنَّفاً خالف به شيخه القاضي أبا يعلى - إلى أن قال - وذكر القاضي يعقوب في مصنَّفه أن ما قاله قول أبي بكر أحمد بن المسيب الطبري ، وحكاه عن جماعة من أفضل أهل طبرستان ، وأنه سمع الفقيه عبد الوهاب بن حلبة قاضي حران يقول : هو مذهب العلوي الحراني وجماعة من أهل حران ، وذكره أبو عبدالله بن حامد عن جماعة من أهل طبرستان ممن ينتمي إلى مذهبنا كأبي محمد الكشفل ، وإسماعيل الكاوذري ، في خلق من أتباعهم أنها قديمة ) .

( قال القاضي أبو يعلى وكذلك حكى لي عن طائفة بالشام أنها تذهب إلى ذلك منهم النابلسي وغيره ، وذكر القاضي حسين أن أباه رجع في آخر عمره إلى هذا ، وذكروه عن الشريف أبي علي بن أبي موسى ، وتبعهم في ذلك الشيخ أبو الفرج المقدسي وابنه عبد الوهاب ، وأبو الحسن بن الزاغوني وأمثاله ) .

( وذكر القاضي يعقوب أن كلام أحمد يحتمل القولين ، وهؤلاء تعلقوا بقوله لما قيل له إن سريا السقطي قال : لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت لا أسجد حتى أؤمر ، فقال أحمد : هذا كفر ، وهؤلاء تعلقوا من قول أحمد : ( كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق ) وبقوله : لو كان كذلك لما تمت صلاته بالقرآن كما لا تتم بغيره من كلام الناس ، وبقول أحمد لأحمد بن حسن الترمذي : ألست مخلوقاً ) قال : بلى ، قال : أليس كل شيء منك مخلوقاً ؟ قال : بلى ، قال : فكلامك منك وهو مخلـوق ) (1)وفي هذه الروايات من التناقض ما ليس بعده - وإن ادعى ابن تيمية عدم تناقضها - فانظر إليها أخي القارئ الكريم بعين الاستقلال الفكري التي تستجلي الحقائق وتكتشف الدقائق ، لا بعين التقليد الأعمى التي تجعل من السراب ماءً ، ومن الخيال حقيقة ، تجد أولاها تدل على منتهى الإنكار على القول بخلق الحروف الهجائية ، التي يتركب منها الكلام ، ويتخاطب بها الناس ، حتى بلغ إلى إلحاقه بالكفر والعياذ بالله ، ومقتضى ذلك أنها في القدم كالذات العلية ، وتجد في أخراها ما يدل على أن كل شيء من المخلوقين على لسان المخلوقين فهو مخلوق ، فأي القولين أحق بالحق وأسعد بالصواب ، فإن كان الأول لزم أن يكون الثاني كفراً ، وإن كان الآخر فكذلك ، لما في حديث أبي ذر رضي الله عنه عند مسلم ( ومن دعا رَجُلاً بالكفر أو قال عدو الله ، وليس كذلك إلا حار عليه ) .

وأما اعتذار ابن تيمية عنه بقوله : ( وأحمد أنكر قول القائل ، إن الله لما خلق الحروف أنه قال : من قال أن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي ، لأنه سلك طريقاً إلى البدعة ، ومن قال : إن ذلك مخلوق ، فقد قال إن القرآن مخلوق ) (2)، فهو اعتذار لا يجدي فتيلاً ، فإن إنكار خلق ما علم أنه مخلوق بضرورة العقل وتواتر النقل وإلحاقه بالله تعالى في القدم - مع الإعراض عن النصوص القرآنية القاطعة بأن كل شيء سوى الله مخلوق ، كقوله تعالى : ( خالق كل شيء ) الأنعام 102 / الرعد 16 / الزمر 62/غافر 62 ، وقوله : ( وخلق كل شيء فقدَّره تقديراً ) الفرقان 2 ، لا يسوغ بحال ، فكيف والدافع إليه ليس إلا خشية سطوع شمس الحقيقة وتبخر ضباب الأوهام ، التي أرادوها أن تكون ستاراً بين العقول ودركها الحقائق ، والأشد من ذلك ، عدم الاكتفاء بإنكار الحقيقة فحسب بل تجاوزا ذلك إلى الحكم على من قالها بالجهمية والتبديع والتكفير ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ما أضيع الإسلام إذا فُسِّر بهذه المفاهيم المتناقضة !! وما أحير أصحابه إن لم يعرفوه إلا بها !!

وإن أردت المزيد من تناقضهم فاسمع إلى ما يقوله ابن تيمية أيضاً : ( أما القول بأن المداد المكتوب قديم ، فما علمنا قائلاً معروفاً قال به ، وما رأينا ذلك في كتاب أحد من المصنفين ، لا من أصحاب أبي حنيفة ولا مالك ولا الشافعي ولا أحمد ، بل رأينا في كتب طائفة من المصنفين من أصحاب مالك والشافعي وأحمد إنكار القول بأن المداد قديم وتكذيب من نقل ذلك ، وفي كلام بعضهم ما يدل على أن في المصحف حرفاً قديماً ليس هو المداد ).

( ثم منهم من يقول ، هو ظاهر فيه ليس بحالّ ، ومنهم من يقول هو حالّ ، وفي كلام بعضهم ما يقتضي أن يكون ذلك هو الشكل ، شكل الحرف وصورته ، لا مادته التي هي مداده ، ، وهذا القول أيضاً باطل ، كما أن القول بأن شيئاً من أصوات الآدميين قديم هو قول باطل ، وهو قول قاله طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد ، وجمهور هؤلاء ينكرون هذا القول، وكلام أحمد وجمهور أصحابه في إنكار هذا القول مشهور .

ولا ريب أن من قال إن أصوات العباد قديمة فهو مفترٍ مبتدع له حكم أمثاله ، كما أن من قال إن هذا القرآن ليس هو كلام الله فهو مفترٍ مبتدع له حكم أمثاله ) (1)أنظر إلى هذا التضارب في الأقوال والتحزب في الآراء ، من غير دليل يستند إليه إلا تبرير ما يتصوره كل من هؤلاء القائلين أنه الحق، وإلا فما هي الحجة على ذلك من برهان العقل أو صحيح النقل ؟

واضْمُمْ إلى ما تقدم قوله أيضاً - بعد أن ذكر كلام المثبتين لخلق القرآن - ( فقابلهم قوم أرادوا تقويم السنة فوقعوا في البدعة ، وردوا باطلا بباطل ، وقابلوا الفاسد بالفاسد، فقالوا تلاوتنا للقرآن غير مخلوقه، وألفاظنا به غير مخلوقة، لأن هذا هو القرآن ، والقرآن غير مخلوق، ولم يفرقوا بين الاسم المطلق والاسم المقيد في الدلالة، وبين حال المسمى إذا كان مجردا وحاله إذا كان مقرونا مقيدا ، فأنكر الإمام احمد أيضا على من قال إن تلاوة العباد وقراءتهم وألفاظهم وأصواتهم غير مخلوقة ، وأمر بهجران هؤلاء ، كما جهَّم الأولين وبدَّعهم، والنقل عنه بذلك من رواية ابنه عبدالله وصالح والمروذي وفوران وأبي طالب وأبي بكر بن صدقه ، وخلق كثير من أصحابه وأتباعه )

( وقد قام أخص أتباعه أبو بكر المروذي بعد مماته في ذلك ، وجمع كلامه وكلام الأئمة من أصحابه وغيرهم مثل عبد الوهاب الوراق ، والأثرم ، وأبي داود السجستاني ، والفضل بن زياد ، ومثنى بن جامع الأنباري ، ومحمد بن إسحاق الصنعاني ، ومحمد بن سهل بن عسكر ، وغير هؤلاء من علماء الإسلام ، وبيَّن بدعة هؤلاء الذين يقولون إن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة )

( وقد ذكر ذلك الخلاَّل في كتاب السنة وبسط القول في ذلك ، قال الخلاَّل : أخبرني أبو بكر المروذي قال : بلغ أبا عبدالله عن أبي طالب أنه كتب إلى أهل نصيبين : ( إن لفظي بالقرآن غير مخلوق) ، قال أبو بكر : فجاءنا صالح بن أحمد فقال : قوموا إلى أبي فجئنا فدخلنا على أبي عبدالله فإذا هو غضبان شديد الغضب قد تبين الغضب في وجهه ، قال : اذهب فجئني بأبي طالب ، فجئت به فقعد بين يدي أبي عبدالله وهو يرعد ، فقال : كتبت إلى أهل نصيبين تخبرهم عني أني قلت لفظي بالقرآن غير مخلوق ؟ فقال : إنما حكيت عن نفسي، قال فلا يحل هذا عنك ولا عن نفسي ، فما سمعت عالماً قال هذا ، قال أبو عبدالله القرآن كلام الله غير مخلوق كيف تصرف ؟ فقيل لأبي طالب : أخرج وأخبر أن أبا عبدالله قد نهى أن يقال لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فخرج أبو طالب فلقي جماعة من المحدثين فأخبرهم أن أبا عبدالله نهاه أن يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق )

( ومع هذا فكل واحدة من الطائفتين الذين يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، والذين يقولون لفظنا وتلاوتنا مخلوقة تنتحل أبا عبدالله وتحكي قولها عنه ، وتزعم أنه كان على مقالتها ، لأنه إمام مقبول عند الجميع ، ولأن الحق الذي مع كل طائفة يقوله أحمد ، والباطل الذي تنكره كل طائفة على الأخرى يرده أحمد ، فمحمد بن داود المصيصي - أحد علماء الحديث وأحد شيوخ أبي داود - وجماعة في زمانه كأبي حاتم الرازي وغيره يقولون : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، وتبعهم طائفة على ذلك ، كأبي عبدالله بن حامد وأبي نصر السجزي ، وأبي عبدالله بن منده ، وشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري ، وأبي العلاء الهمداني ، وأبي الفرج المقدسي ، وغير هؤلاء يقولون إن ألفاظنا بالقرآن غير مخلوقة ، ويروون ذلك عن أحمد ، وأنه رجع إلى ذلك كما ذكره أبو نصر في كتابه الإبانة ، وهي روايات ضعيفة بأسانيد مجهولة ، لا تعارض ما تواتر عنه عند خواص أصحابه وأهل بيته والعلماء الثقات ، لاسيما وقد علم أنه في حياته خطأ أبا طالب في النقل عنه حتى رده أحمد عن ذلك ، وغضب عليه غضباً شديداً ) .

وقد رأيت بعض هؤلاء طعن في تلك النقول الثابتة عنه ، ومنهم من حرَّفها لفظاً ، وأما تحريف معانيها فذهب إليه طوائف ، فأما الذين أثبتوا النقل عنه ووافقوه على إنكاره الأمرين ، وهم جمهور أهل السنة ومن انتسب إليهم من أهل الكلام كأبي الحسن الأشعري وأمثاله ، فإنه ذكر في مقالات أهل السنة والحديث أنهم ينكرون على من قال لفظي بالقرآن مخلوق ، ومن قال لفظي به غير مخلوق ، وأنه يقول بذلك )

( لكن من هؤلاء من تأول كلام أحمد وغيره في ذلك ، بأنه منع أن يقال إن القرآن يلفظ به ، وهذا قاله الأشعري وابن الباقلاني ، والقاضي أبو يعلى وأتباعه كأبي الحسن بن الزاغوني وأمثاله )

( ثم هؤلاء الذين تأولوا كلامه على ذلك ، منهم من قال : المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق كما فعل ذلك الأشعري وأتباعه ، ومنهم من قال : بل المعنى الذي أنكره أحمد على من قال لفظي به غير مخلوق كما فعل ذلك القاضي وابن الزاغوني وأمثالهما ، فإن أحمد وسائر الأئمة ينكرون أن يكون شيء من كلام الله مخلوقاً حروفه أو معانيه ، أو أن يكون معنى التوراة هو معنى القرآن ، وأن كلام الله إذا عبر عنه بالعربية يكون قرآناً ، وإذا عبر عنه بالعبرانية يكون هو التوراة ، وينكرون أن يكون القرآن المنزل ليس هو كلام الله ، أو أن يطلق القول على ما هو كلام الله بأنه مخلوق ، وأحمد والأئمة ينكرون على من يجعل شيئاً من أفعال العباد أو أصواتهم غير مخلوق فضلاً عن أن يكون قديماً ، وكلام أحمد في مسألة التلاوة والإيمان والقرآن من نمط واحد ، منع إطلاق القول بأن ذلك مخلوق ، لأنه يتضمن القول بأن من صفات الله ما هو مخلوق ، ولما فيه من الذريعة ، ومنع أيضاً إطلاق القول بأنه غير مخلوق لما في ذلك من البدعة والضلال ) (1) نقلت لك أخي القارئ الكريم هذه الفقرات بنصها وفصها من كلام ابن تيمية ، لتقف أولاً على ما بينهم من خلاف في هذه المسألة يفضي إلى التبديع ، ثم خلو كلامهم مما يجوز الاستناد إليه من أدلة القرآن أو السنة أو براهين العقل ، ماعدا ما ينقلونه عن الإمام أحمد ويتصرَّفون في تأويله بحسب ما يحلو لكل فريق من المتأولين ، وتجدهم ينزلون كلام الإمام أحمد في الحجية منزلة كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، بحيث يجعلونه الأصل الذي يرجع إليه كل فريق منهم ، مع أنهم دائماً يرددون بألسنتهم وأقلامهم دعوى عدم التقليد وإتباع أقوال الأئمة من غير دليل ، وتأمل ما جاء في آخر هذه الفقرات ، من اعتبار التلاوة والإيمان فضلاً عن القرآن من صفات الله تعالى ، وكيف يتقبل عقل أحد آتاه الله نوراً في عقله ، بأن يكون الإيمان الذي في قلوب المؤمنين والتلاوة الجارية على ألسنة التالين من صفاته تعالى الأزلية .

ونجد ابن تيمية ينقل عن أحمد والبخاري وجماعة من أصحاب أحمد كعبد الوهاب الوراق ، والأثرم ، والمروذي ، ومحمد بن بشار ، وأبي الحسين الطوسي ، وغيرهم ، أنهم كانوا ينكرون أشد الإنكار على من قال إن لفظ العبد بالقرآن أو صوته به أو غير ذلك من صفات العباد المتعلقة بالقرآن غير مخلوقة ، ويأمرون بعقوبته بالهجر وغيره ) (2)وأتبع ذلك نقل بعض القصص التي وقعت لأصحاب أحمد عنده ، بسبب نسبتهم إليه أن لفظ العبد بالقرآن غير مخلوق ) (3).

فانظر كيف يمكن جعل التلاوة تارة من صفات العبد فيمتنع القول بقدمها ، وتارة من صفات الله فيمتنع القول بخلقها ، مع أن الكائنات بأسرها أجسامها وأعراضها إما أن تكون محدثة ، وكل محدث مخلوق ، وإما أن تكون قديمة ، وذلك مالا يجوز أن يوصف به غير الله تعالى الأول والآخر ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً ، والحدوث والقِدم نقيضان لا يمكن ارتفاعهما عن موجود بعينه كما لا يمكن اجتماعهما ، فكيف ينفيان معاً عن شيء بعينه ويضلل من قال فيه بأحدهما .

وقد بلغت بهم الحيرة إلى الوقوف عن القول في المداد بخلقه أو قِدمه ، إن كتب به القرآن (1)، ثم تراجع ابن تيمية عن ذلك إلى التصريح بخلقه حيث قال: ( وكذلك ما يكتب في المصاحف من كلامه فهو كلامه مكتوباً في المصاحف ، وكلامه غير مخلوق ، والمداد يكتب به كلامه وغير كلامه مخلوق )(2)

ثم إن ابن تيمية فرَّق بين الحروف التي يتألف منها القرآن ، والحروف التي يتألف منها سائر الكلام ، حيث قال : ( من قال إن حروف المعجم كلها مخلوقة وأن كلام الله مخلوق فقد قال قولاً مخالفاً للقول المعقول الصريح والمنقول الصحيح ، ومن قال : نفس أصوات العباد أو مدادهم ، أو شيئاً من ذلك قديم فقد خالف أيضاً أقوال السلف وكان فساد قوله ظاهراً لكل أحد ، وكان مبتدعاً قولاً لم يقله أحد من المسلمين ولا قالته طائفة كبيرة من طوائف المسلمين ، بل الأئمة الأربعة وجمهور أصحابهم بريئون من ذلك ، ومن قال : إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين فقد ابتدع قولاً باطلاً في الشرع والعقل ، ومن قال إن جنس الحروف التي تكلم الله بها بالقرآن وغيره ليست مخلوقة ، وأن الكلام العربي الذي تكلم به ليس مخلوقاً ، والحروف المنتظمة منه جزء منه ولازمة له ، وقد تكلم الله بها فلا تكون مخلوقة فقد أصاب).(3)

وتجد في هذا الكلام من الغرابة أنك بينما تجد فيه أن من قال إن الحرف المعين أو الكلمة المعينة قديمة العين فقد ابتدع قولاً باطلاً في الشرع والعقل - وهو حق في ذاته - تجد بعده ما ينقضه وهو أن الحروف التي انتظم منها القرآن والكلمات التي تركب منها ليست مخلوقة فكيف يكون الشيء الواحد مخلوقاً وغير مخلوق ، وبجانب ذلك ينقل ابن تيمية نفسه عن الإمام أحمد أن من قال إن حرفاً من حروف المعجم مخلوق فهو جهمي (4) على أن الظاهر من كلامه التفرقة بين الحروف والكلمات إن جاءت في كلام الله أو جاءت في كلام الخلق فهي - بحسب هذا الظاهر - في كلام الله غير مخلوقة وفي كلام خلقه مخلوقة ، فيلزم من ذلك أن تكون أسماء النبيين وغيرهم وسائر الأسماء المذكورة في القرآن إن وردت في القرآن فهي قديمة وإن وردت في غيره فهي حادثة ، ويترتب على ذلك أن يكون لكل منها حكمان متضادان .

وأصرح من كلام ابن تيمية قول تلميذه ابن القيم : ( وإذا قيل إن حروف المعجم مخلوقة أو غير مخلوقة ، فجوابه أن الحرف حرفان ، فالحرف الواقع في كلام المخلوقين مخلوق ، وحروف القرآن غير مخلوقة ) .(5)

ومع ما سبق نقله من كلام ابن تيمية الذي ينص بأن موقف الإمام أحمد وأكثر أصحابه أنهم اشتد إنكارهم على الذين قالوا بأن تلاوة العباد وألفاظهم بالقرآن غير مخلوقة ، وحكموا عليهم بالبدعة ، وأمروا بهجرهم ، نجد ما يخالف ذلك في كلامه بنفسه حيث يقول: (وأما الحروف هل هي مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فالخلاف في ذلك بين الخَلَف مشهور ، فأما السلف فلم ينقل عن أحد منهم أن حروف القرآن وألفاظه وتلاوته مخلوقة ، ولا ما يدل على ذلك،بل قد ثبت عن غير واحد منهم الرد على من قال إن ألفاظنا بالقرآن مخلوقة وقالوا هو جهمي ، ومنهم من كفره ، وفي لفظ بعضهم تلاوة القرآن ، ولفظ بعضهم الحروف ، وممن ثبت عنه ذلك أحمد بن حنبل وأبو الوليد الجارودي صاحب الشافعي ، وإسحاق بن راهويه ، والحميدي ، ومحمد ابن أسلم الطوسي ، وهشام بن عمر ، وأحمد بن صالح المصري ) (1) ولا داعي إلى التعليق على هذا الكلام ، فإذا كانت تلاوة التالي للقرآن غير مخلوقة مع أنها فعل من أفعاله ، والتالي نفسه مخلوق ، وكل أفعاله كائنة بعد أن لم تكن فحسبي الله ، آمنت به سبحانه ربا لا شريك له في خلقه ، ولا ند له في ربوبيته ، ولا مشابه له في صفاته .

وقال ابن تيمية أيضاً .. وهناك ثلاثة أشياء :

ـ أحدها : حروف القرآن التي هي لفظه قبل أن ينزل بها جبريل ، وبعد ما نزل بها ، فمن قال إن هذه مخلوقة فقد خالف إجماع السلف فإنه لم يكن في زمانهم من يقول هذا إلا الذين قالوا إن القرآن مخلوق ، فإن أولئك قالوا بالخلق للألفاظ ألفاظ القرآن ، وأما ما سوى ذلك فهم لا يقرّون بثبوته لا مخلوقاً ولا غير مخلوق ، وقد اعترف غير واحد من فحول أهل الكلام بهذا ، منهم عبد الكريم الشهرستاني مع خبرته بالملل والنحل ، فإنه ذكر أن السلف مطلقاً ذهبوا إلى أن حروف القرآن غير مخلوقة ، وقال : ظهور القول بحدوث القرآن محدث ، وقرر مذهب السلف في كتابه المسمى بنهاية الكلام .

ـ الثاني : أفعال العباد ، وهي حركاتهم التي تظهر عليها التلاوة ، فلا خلاف بين السلف أن أفعال العباد مخلوقة ، ولهذا قيل أنه بدَّع أكثرهم من قال لفظي بالقرآن مخلوق (2) لأن ذلك قد يدخل فيه فعله .

ـ الثالث : التلاوة الظاهرة من العبد عقيب حركة الآية ، فهذه منهم من يصفها بالخلق ، وأول من قال ذلك - فيما بلغنا - حسين الكرابيسي وتلميذه داود الأصبهاني (3)وطائفة ، فأنكر ذلك عليهم علماء السنة في ذلك الوقت ، وقالوا فيهم كلاماً غليظاً ، وجمهورهم - وهم اللفظية عند السلف - الذين يقولون لفظنا بالقرآن مخلوق ، أو القرآن بألفاظنا مخلوق ، ونحو ذلك .

وعارضهـم طائفة من أهل الحديث والسنة كثيرون ، فقالوا : لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، والذي استقرت عليه نصوص الإمام أحمد وطبقته من أهل العلم أن من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، هذا هو الصواب عند جماهير أهل السنة أن لا يطلق واحد منهما كما عليه الإمام أحمد وجمهور السلف ، لأن كل واحد من الإطلاقين يقتضي إيهاماً لخطأ ، فإن أصوات العباد محدثة بلا شك ، وإن كان بعض من نصر السنة ينفي الخلق عن الصوت المسموع من العبد بالقرآن ، وهو مقدار ما يكون من القرآن المبلغ.



فإن جمهور أهل السنة أنكروا ذلك وعابوه جرياً على منهاج أحمد وغيره من أئمة الهدى ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( زينوا القرآن بأصواتكم ) .

( وأما التلاوة في نفسها التي هي حروف القرآن وألفاظه فهي غير مخلوقة ، والعبد إنما يقرأ كلام الله بصوته ، كما أنه إذا قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات .. ) فهذا الكلام لفظه ومعناه إنما هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قد بلغه بحركته وصوته ، كذلك القرآن لفظه ومعناه كلام الله تعالى ، ليس للمخلوق فيه إلا تبليغه وتأديته وصوته ، وما يخفى على لبيب الفرق بين التلاوة في نفسها قبل أن يتكلم بها الخلق وبعد أن يتكلموا بها ، وبين ما للعبد في تلاوة القرآن من عمل وكسب ، وإنما غلط بعض الموافقين والمخالفين فجعلوا البابين باباً واحداً وأرادوا أن يستدلوا على نفس حدوث حروف القرآن بما دل على حدوث أفعال العباد ، وما تولد عنها ، وهذا أقبح الغلط ، وليس في الحجج العقلية ولا السمعية ما يدل على حدوث نفس حروف القرآن إلا من جنس ما يحتج به على حدوث معانيه ، والجواب عن الحجج مثل الجواب عن هذه لمن استهدى الله فهداه ) (1)وكلامه هذا لا يختلف عن سائر ما سبق نقله عنه ، مما يدل على تضارب أقوالهم وتناقض حججهم ، فهو لا يحتاج إلى تعليق من هذه الحيثية ، وإنما أردت أن أضع بين يدي القارئ الكريم النقاط التالية :

1 ـ أن ابن تيمية حكى في صدر هذا الكلام المنقول أنّ من قال بأن حروف القرآن مخلوقة فهو مخالف للإجماع ، وأي إجماع هذا ؟ فإن السلف الصالح من الصحابة والتابعين لم يثيروا مسألة خلق القرآن ، وإنما اكتفوا باعتقاد أنه تنزيل من حكيم حميد ، وأن الله خالق كل شيء ، وما سواه مخلوق كائناً ما كان ، أما بعد ما أثيرت المسألة ونجم الخلاف فيها بين طوائف الأمة فلا وجه لأن يُعَدَّ قول طائفة منها إجماعاً ، اللهم إلا قول المستندين إلى الأدلة القاطعة من الكتاب أو السنة الصحيحة المتواترة ، أو الأصول المجمع عليها ، وهذا إنما يعرف بتمحيص الأقوال وبحث أدلتها ، وسيأتيك إن شاء الله من ذلك في هذا المبحث ما يثلج صدرك ويشرحه بالحق الذي لا مرية فيه .

2 ـ أنه فرق بين أفعال العباد - وهي حركاتهم التي تظهر عليها التلاوة - فحكى أنه لا خلاف بين السلف أن أفعال العباد مخلوقة ، وبين التلاوة الظاهرة من العبد عقيب حركة الآية ، فحكى عن علماء السنة أنهم أنكروا على من قال بخلقها مع أنه من المعلوم قطعاً أن ما يظهر من العبد عندما يتلو القرآن من الحركة ما هو إلا فعله المعبر عنه بالتلاوة ، وكيف يكون فعل العبد غير مخلوق مع أن نفس الفاعل مخلوق .



3 ـ أنه فرق بين التلاوة في نفسها قبل أن يتكلم بها الخلق وبعد أن يتكلموا بها ، وبين ما للعبد في تلاوة القرآن من عمل وكسب ، وادَّعى أن الفرق بينهما لا يخفى على لبيب ، مع أن التلاوة - كما قلت قبل قليل - ليست إلا نفس فعل التالي ، فكيف يفرق بين فعل العبد وبين ماله فيه من عمل وكسب ؟ وهل مثل هذا إلا كمثل التفرقة بين الضرب الصادر من الضارب ، والصوم الكائن ، من الصائم ، وبين كسب العبد فيهما ؟ وما هو في الحقيقة إلا تفريق بين الشيء ونفسه .



4 ـ أنه ادَّعى أنه ليس في الحجج العقلية ولا السمعية ما يدل على حدوث نفس حروف القرآن ، وليس لهذا جواب إلا أن يقال :

إذا احتاج النهار إلى دليل



وليس يصح في الأذهان شيءٌ






وستوافيك إن شاء الله هذه الحجج في الفصل الأخير المعقود لذلك من هذا المبحث .

وهاك نصًّا آخر عن ابن تيمية في تنازعهم في هذه المسألة قال : ( والقول بأن اللفظ غير مخلوق نُسب إلى محمد بن يحيى الذهلي ، وأبي حاتم الرازي ، بل وبعض الناس ينسبه إلى أبي زرعة أيضاً ويقول إنه هو وأبو حاتم هجرا البخاري ، لما هجره محمد بن يحيى الذهلي ، والقصة في ذلك مشهورة ) .

( وبعد موت أحمد وقع بين بعض أصحابه وبعضهم وبين طوائف من غيرهم بهذا السبب . وكان أهل الثغر مع محمد بن داود والمصيصي شيخ أبي داود يقولون بهذا ، فلما ولي صالح بن أحمد قضاء الثغر طلب منه أبو بكر المروذي أن يظهر لأهل الثغر مسألة أبي طالب فإنه قد شهدها صالح وعبد الله أبنا أحمد ، والمروذي وفوران ، وغيرهم ، وصنف المروذي كتاباً في الإنكار على من قال إن لفظي بالقرآن غير مخلوق ، وأرسل في ذلك إلى العلماء بمكة والمدينة والكوفة والبصرة ، وخراسان وغيرهم ، وقد ذكر ذلك أبو الخلال في كتاب السنة - وبسط القول في ذلك ) .

( ومع هذا فطوائف من المنتسبين إلى السنة وإلى أتباع أحمد كأبي عبدالله بن منده ، وأبي نصر السجزي ، وأبي إسماعيل الأنصاري ، وأبي العلاء الهمداني وغيرهم يقولون لفظنا بالقرآن غير مخلوق ، ويقولون إن هذا قول أحمد ، ويكذبون - أو منهم من يكذب - برواية أبي طالب ويقولون إنها مفتعلة عليه ، أو يقولون رجع عن ذلك ، كما ذكر ذلك أبو نصر السجزي في كتابه " الإبانة " المشهور ) .

( وليس الأمر كما قال هؤلاء ، فإن أعلم الناس بأحمد وأخص الناس وأصدق الناس في النقل عنه هم الذين رووا ذلك عنه ، ولكن أهل خراسان لم يكن لهم من العلم بأقوال أحمد ما لأهل العراق الذين هم أخص به ، وأعظم ما وقعت فتنة اللفظ بخراسان ، وتعصب فيها على البخاري - مع جلالته وإمامته - وإن كان الذين قاموا عليه أيضاً أئمة أجلاء ) (1)وهذا النص يفيد أنهم لم يكتفوا بالاختلاف في الرأي والاعتقاد بل جاوزوه إلى تكذيب بعضهم لبعضِ في الروايات التي يُسْنِدُونَهَا إلى أحمد ويستندون إليها .

وذكر ابن تيمية عقب هذا النص أنه وجد بخط بعض الشيوخ الذين لهم علم ودين يقول : مات البخاري بقرية خرتنك فأرسل أحمد إلى أهل القرية يأمرهم أن لا يصلوا عليه لأجل قوله في مسألة اللفظ .

وتعقبه ابن تيمية بأن هذا من أبين الكذب على أحمد والبخاري ، وأن كاذبه جاهل بحالهما لأن موت أحمد سابق على موت البخاري بخمسة عشر عاماً إذ كانت وفاته سنة إحدى وأربعين بينما وفاة البخاري كانت سنة ست وخمسين ) (2).

وهذه صورة واضحة من صور التعصب المقيت الذي كان بينهم في هذه المسألة ، وناهيك أن ابن تيمية ينسب هذا الكذب إلى من له علم ودين منهم ، فكيف بمن خلا منهما أو من أحدهما ، وأي دين يبقى لمن يسوغ لنفسه أن يكذب في أمور الدين ، ولست أرى هذه الاستساغة للكذب إلا أثراً من آثار اعتقاد العفو عن أهل الكبائر ، أو أنهم يعذبون بمقدارٍ ثم يخرجون من النار .

هذا وذكر ابن تيمية أنه رأى بخط القاضي أبي يعلى قال : ( نقلت من آخر كتاب الرسالة للبخاري في أن القراءة غير المقروء ، وقال وقع عندي عن أحمد بن حنبل على اثنين وعشرين وجها كلها يخالف بعضها بعضاً ، والصحيح عندي أنه قال : ما سمعت عالماً يقول لفظي بالقرآن غير مخلوق ، قال : وافترق أصحاب أحمد بن حنبل على نحو من خمسين ) (3). وهم في هذا التنازع لا يرجعون إلى أصل من كتاب أو سنة ، وإنما كل مستندهم ما يروونه عن الإمام أحمد ويتأولونه من كلامه ، فكأنهم جعلوا كلامه أصلا من أصول الدين المستند إليها ، فأين هم من قوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا ) النساء 59 ، وقد أغمضوا أعينهم عن كل ما جاء عن الله والرسول مما يجلو وجه الحق ويكشف سدول الجهل عن حقيقته في هذه المسألة مما ستقف عليه في الفصل الأخير إن شاء الله ، ومع هذا لا تزال تسمع دعاوي عدم التقليد وعدم التقيد إلا بما ثبت عن الله والرسول فأين الواقع من الدعوى ؟ !!

وقد بلغ الإصرار ببعضهم إلى التزام كل ما يترتب على القول بقِدم القرآن حتى أصر بعضهم على أن كلام المخلوقين غير مخلوق لمشابهته كلام الله في حروفه وكلماته ، كما ذكره القاضي ابن عقيل - من الحنابلة - ونقله عنه ابن تيمية (1)وقال إثره: ( هذا الذي حكى عنه ابن عقيل من بعض الأصحاب المذكورين منهم القاضي يعقوب البرزيني ، ذكره في مصنفه فقال : دليل عاشر وهو أن هذه الحروف بعينها وصفتها ومعناها وفائدتها هي التي في كتاب الله تعالى وفي أسمائه وصفاته ، والكتاب بحروفه قديم وكذلك هاهنا )

قال : ( فإن قيل لا نسلم إن تلك لها حرمة وهذه لا حرمة لها ، قيل لا نسلم بل لها حرمة ، فإن قيل لو كان لها حرمة لوجب أن تمنع الحائض والنفساء من مسها وقراءتها ، قيل قد لا تمنع من مسها وقراءتها ويكون لها حرمة كبعض آية تمنع من قراءتها ولها حرمة وهي قديمة ، وإنما لم تمنع من قراءتها ومسها للحاجة إلى تعليمها ، كما يقال في الصبي يجوز له مس المصحف على غير طهارة للحاجة إلى تعليمه .

فإن قيل : فيجب إذا حلف بها أن تنعقد يمينه ، وإذا خالف يمينه أن يحنث ، قيل له : كما في حروف القرآن مثله نقول هنا .

فإن قيل : أليس إذا وافقها في هذه المعاني دل على أنها هي ؟ ألا ترى أنه إذا تكلم متكلم بكلمة يقصد بها خطاب آدمي فوافق صفتها صفة ما في كتاب الله تعالى ، مثل قوله يا داود ، يا نوح ، يا يحيى ، وغير ذلك فإنه موافق لهذه الأسماء التي في كتاب الله ، وإن كانت في كتاب الله قديمـة ، وفي خطاب الآدمي محدثه ؟

( قيل كل ما كان موافقاً لكتاب الله في لفظه ونظمه وحروفه فهو من كتاب الله وإن قصد به خطاب آدمي ، فإن قيل : فيجب إذا أراد بهذه الأسماء آدميا وهو في الصلاة أن لا تبطل صلاته ، قيل له : كذلك نقول ، وقد ورد مثله عن عليِّ وغيره ، إذ ناداه رجل من الخوارج ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) الزمر 65 ، قال : أجابه عليٌّ وهو في الصلاة ( فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفَّنك الذين لا يوقنون ) الروم 60 ، وعن ابن مسعود أنه استأذن عليه بعض أصحابه فقال : ( ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين ) يوسف 99 .

قال : فإن قيل : أليس إذا قال : ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) ونوى به خطاب غلام اسمه يحيى يكون الخطاب مخلوقاً ، وإن نوى به القرآن يكون قديماً ؟! قيل له : في كلا الحالين يكون قديماً ، لأن القديم عبارة عما كان موجوداً فيما لم يزل ، والمحدث عبارة عما حدث بعد أن لم يكن ، والنية لا تجعل المحدث قديماً ، ولا القديم محدثاً . قال : ومن قال هذا فقد بالغ في الجهل والخطأ .

وقال أيضاً كل شيء يشبه بشيء ما فإنما يشبهه في بعض الأشياء دون بعض ولا يشبهه من جميع أحواله ، لأنه إذا كان مثله في جميع أحواله كان هو لا غيره ، وقد بينا أن هذه الحروف تشبه حروف القرآن فهي غيرها )(2).

وبعد ما نقل ابن تيمية كلامه أردفه بقوله : ( هذا كلام القاضي يعقوب وأمثاله مع أنه أجلّ من تكلم في هذه المسألة ، ولما كان جوابه مشتملاً على ما يخالف النص والإجماع والعقل خالفه ابن عقيل وغيره من أئمة المذهب الذين هم أعلم به )(3).

وبعد أن حكى رد ابن عقيل عليه أتبعه بقوله : ( فهذا الذي قاله ابن عقيل أقل خطأ مما قاله البرزيني فإن ذلك مخالف للنص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة ) (1).

فانظر كيف يسجل ابن تيمية كيف يسجل ابن تيمية على أحد كبار أئمتهم - يعدُّه أجل من تكلم في هذه المسألة - مخالفة النص والإجماع والعقل مخالفة ظاهرة ، ولم يبرئ ابن عقيل - الذي يعتبره أعلم منه بالمذهب - من الخطأ ، وإن عد خطأه أقل من خطأ البرزيني ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل نجده ينقل عن أئمتهم تكفير من قال قول البرزيني ، فقد نقل عن حمّاد بن زيد أنه سئل عمن قال كلام الناس ليس بمخلوق . فقال : هذا كلام أهل الكفر . كما نقل عن المعتمر بن سليمان أنه قال : هذا كفر . ولم يعلق عليهما ابن تيمية إلا بما يقتضي تأييدهما .(2) وبما تجده من خلاف حاد بينهم في هذه المسألة بحيث يتعذر الجمع بين أقوالهم وتدرك أنهم لم يتقيدوا فيها بضوابط ، ولذلك أرسل بعضهم فيها عنان القول حتى زعم أن جلد المصحف والوتد الذي يعلق به وما حول الوتد من الحائط ، كل ذلك من كلام الله فهو غير مخلوق في زعمهم ، وهو وإن عزاه ابن تيمية إلى جهلتهم(3) فما أدراك لعل أولئك يعدون معارضيهم هم الجهلة ويزعمون أيضاً مثلهم أنهم أسعد بمذهب الإمام أحمد .

وبهذا تدرك أخي القارئ خطورة هذه العقيدة وما جرَّته على الإسلام من بلاء ، فإن إضفاء صفة القِدم (4) على ما لا يماري عاقل ولا يكابر حسٌّ في حدوثه ، كالجلود ، والأوتاد ، والحوائط ، أمر لا يبقى بعده إلا إثبات قِدم العالم بأسره وإنكار الألوهية رأساً ، وإلا فكيف يمكن إقرار صفات الألوهية والربوبية والوحدانية لله سبحانه مع إثبات صفة القِدم لغيره عز وجل بنفي أن يكون مخلوقاً له تعالى ، على أن تفرّده تعالى بالقِدم كتفرده بالألوهية سواء بسواء ، فإذا جاز لأحد أن يشاركه في إحدى الصفتين جاز ذلك في الأخرى ، وفي هذا ما يكشف لكل ذي عينين أن إثارة بحث هذه القضية في الوسط الإسلامي لم يكن إلا مؤامرة دبرها أعداء الإسلام لصرف المسلمين عن عقيدة التوحيد الخالصة ، وتمزيق شملهم بهذه الأقوال المتباينة والمذاهب المتعارضة .

وقد أدرك ذلك أحد العلماء المتأخرين الذين تأثروا بعقيدة الحنابلة ، تأثراً أفضى به إلى التعصب الذي يجب على الباحث المسلم أن يكون بعيداً عنه ، وهو الإمام الشوكاني الذي ترك عقيدته الزيدية واعتنق ما يسمى بالعقيدة السلفية ، فقد قال في تفسيره المشهور : ( ولقد أصاب أئمة السنة بامتناعهم من الإجابة إلى القول بخلق القرآن وحدوثه وحفظ الله بهم أمة نبيهم عن الابتداع ، ولكنهم رحمهم الله جاوزوا ذلك إلى الجزم بقِدمه ، ولم يقتصروا على ذلك حتى كفَّروا من قال بالحدوث ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من قال لفظي بالقرآن مخلوق ، بل جاوزوا ذلك إلى تكفير من وقف ، وليتهم لم يجاوزوا حدّ الوقوف وإرجاع العلم إلى علاّم الغيوب ، فإنه لم يسمع من السلف الصالح من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى وقت قيام المحنة وظهور القول في هذه المسألة شيء من الكلام ، ولا نُقل عنهم كلمة في ذلك ، فكان الامتناع من الإجابة إلى ما دعوا إليه ، والتمسك بأذيال الوقف ، وإرجاع علم ذلك إلى عالمه هو الطريقة المثلى ، وفيه السلامة والخلوص من تكفير طوائف من عباد الله ، والأمـر لله سبحانه )(5) .

ولا يخفى على ذي عقل ما في كلامه هذا من الاعتراف بالحقيقة مع التعصب للذين نُسب إليهم أن الله وقى بهم الأمة شر الابتداع ، بجانب ما ذكره من أنهم أتوا به من غير حجة ولا دليل ، واجترأوا على تكفير طوائف من عباد الله من غير صحة ولا برهان ، وأي ابتداع أخطر على الأمة من ذلك ؟

وأما اختلافهم في تعلق مشيئة الله بكلامه فقد نصَّ عليه ابن تيمية حيث قال: (وأحمد قد صرّح هو وغيره من الأئمة أن الله لم يزل متكلماً إذا شاء ، وصرّح أن الله يتكلم بمشيئته ، ولكن اتباع ابن كلاب كالقاضي وغيره تأولوا كلامه على أنه أراد بذلك إذا شاء الإسماع ، لأنه عندهم لم يتكلم بمشيئته وقدرته .

وصرّح أحمد وغيره من السلف أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، ولم يقل أحد من السلف إن الله تكلم بغير مشيئته وقدرته ، ولا قال أحد منهم إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو ندائه لموسى أو غير ذلك من كلامه المعين إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال . وأن الله قامت به حروف معينه ، أو حروف وأصوات معينه قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ، فإن هذا لم يقله ولا دلّ عليه قول أحمد ولا غيره من أئمة المسلمين ، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا ، وأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته ، وأنه لم يزل يتكلم إذا شاء مع قولهم إن كلام الله غير مخلوق وإنه منه بدأ ليس بمخلوق ابتدأ من غيره ، ونصوصهم بذلك كثيرة معروفة في الكتب الثابتة عنهم ، مثل ما صنفه أبو بكر الخلال في كتاب السنة وغيره ، وما صنفه عبد الرحمن بن أبي حاتم من كلام أحمد وغيره ، وما صنفه أصحابه كابنيه صالح وعبد الله ، وحنبل ، وأبي داود والسجستاني صاحب السنن ، والأثرم ، والمروذي ، وأبي زرعة ، وأبي حاتم ، والبخاري صاحب الصحيح ، وعثمان بن سعيد الدارمي ، وإبراهيم الحربي ، وعبد الوهاب الوراق ، وعباس بن عبد العظيم العنبري ، وحرب بن إسماعيل الكرماني ، ومن لا يحصى عدده من أكابر أهل العلم والدين وأصحاب أصحابه ممن جمع كلامه وأخباره كعبد الرحمن بن أبي حاتم ، وأبي بكر الخلال وأبي الحسن البناني الأصبهاني ، وأمثال هؤلاء ، ومن كان أيضاً يأتم به وبأمثاله من الأئمة في الأصول والفروع كأبي عيسى الترمذي صاحب الجامع ، وأبي عبد الرحمن النسائي ، وأمثالهما ، ومثل أبي محمد ابن قتيبة وأمثاله )(1).

وأنت تدري أن الذين ذهبوا إلى أن كلام الله بغير مشيئته منهم ، بنوا قولهم هذا على ما يستلزمه جعل كلامه الحرفي صفة قديمة قائمة بذاته عز وجل ، فإن القديم بقِدمه لا تسبقه مشيئة كالعلم والقدرة ، والحياة وأمثالها من صفاته تعالى ، فكما لا يقال إن الله قادر بمشيئته ، وحيّ بمشيئته ، وعليم بمشيئته لئلا يسبق إلى الأفهام حدوث هذه الصفات يلزم القائلين بقِدم تكلمه تعالى أن يقولوا إنه غير معلق بمشيئته ، وعندما أحس ابن تيمية بوقوعه في هذا الفخ لجأ إلى هدم كل ما بناه ، ونقض كل ما أصَّله في هذه المسألة ، حيث قال : ( ولا قال أحد منهم - أي السلف - إن نفس الكلام المعين كالقرآن أو نداءه لموسى ، أو غير ذلك من كلامه المعين إنه قديم أزلي لم يزل ولا يزال ، وأن الله قامت به حروف معينة أو حروف وأصوات معينة قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ، فإن هذا لم يقله ولا دل عليه قول أحمد ، ولا غيره من أئمة المسلمين ، بل كلام أحمد وغيره من الأئمة صريح في نقيض هذا )(2).

وإذا كان الأمر كما قرره هنا ففيم إذن هذا الضجيج ؟ ولماذا يقال إن القرآن غير مخلوق ؟ مع إنكاره أن يقول أحد من السلف بأزليته .

فإن قيل إن مرادهم بإنكار خلق القرآن ، والإنكار على من قال ذلك لم يريدوا به إلا إنكار كونه ناشئاً عن غيره تعالى ، كما يفيده قول ابن تيمية - فيما سبق نقله عنه - ( مع قولهم أن كلام الله غير مخلوق وأنه منه بدأ ، ليس بمخلوق ابتدأ من غيره )(1).

فالجواب أن وصف شيء بالمخلوقية لا يعني بحال أنه صادر عن غير الله تعالى ، فالسماوات والأرض وما فيهما ومن فيهما لم تنشأ من غيره تعالى ، فهل يسلب شيئاً منها صفة المخلوقية لأجل ذلك ، وكما أن مبدأ القرآن من الله - كما نص عليه ابن تيمية - فإن مبدأ الكون منه تعالى ( أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) النمل 64 .

وما أعجب التناقض والاضطراب في قول ابن تيمية : ( إن كلام الله غير مخلوق وإنه منه بدأ ليس بمخلوق ابتدأ من غيره ) ، حيث نفى الخلق عن الكلام وأثبت له البداية ، وهل البداية إلا خلق ، وقوله في آخره : ( ليس بمخلوق ابتدأ غيره ، إن كان مراده به أن كل مخلوق ابتدأ من غير الله فهو مردود بأدلة العقل والنقل كما هو واضح مما ذكرته قبل قليل ، وإن كان مراده به نفي اجتماع الصفتين في كلامه تعالى - وهما خلقه وابتداؤه من غيره - فلا معنى لذلك إلا أن يحمل ابتداؤه من غيره على أنه وصف مقيد للخلق المنفي ، وهذا - ورب الكعبة - هو عين ما يقوله القائلون بخلق القرآن ، إذ لا قائل منهم بأنه ابتدأ من غيره سبحانه ، فإن الكل مُجمعون على أنه كلامه عز وجل ووحيه وتنزيله .

فإن قيل لعل في هذا النص الذي نقلته عن ابن تيمية خطأ مطبعي أدى إلى هـذا اللبس ؟

فجوابه أن ثمَّ نصوصاً أخرى تدل على نفس المعنى ، فاحتمال الخطأ فيه احتمال بعيد يكاد يكون متعذراً ، ومن هذه النصوص :

أ ـ ( إن السلف قالوا : القرآن كلام الله المنزل غير مخلوق ، وقالوا لم يزل متكلماً إذا شاء ، فبينوا أن كلام الله قديم ، أي جنسه قديم لم يزل ، ولم يقل أحد منهم إن نفس الكلام المعين قديم ، ولا قال أحد منهم القرآن قديم ، بل قالوا إنه كلام الله المنزل غير مخلوق ، وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن بمشيئته كان القرآن كلامه وكان منزلاً منه غير مخلوق ، ولم يكن مع ذلك أزليًّا قديماً بقِدم الله ، وإن كان الله لم يزل متكلماً إذا شاء فجنس كلامه قديم(2).

ب ـ وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم ، لم يقل واحداً من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ، ولا من بعدهم من الأئمة الأربعة ولا غيرهم ، بل الآثار متوترة عنهم أنهم كانوا يقولون القرآن كلام الله ، ولما ظهر من قال إنه مخلوق قالوا رداًّ لكلامه ، إنه غير مخلوق (3).

ج ـ ( والسلف قالوا لم يزل الله تعالى متكلماً إذا شاء فإذا قيل كلام الله قديم ، بمعنى أنه لم يصِر متكلماً بعد أن لم يكن متكلما ولا كلامه مخلوق ، ولا معنى واحد قديم قائم بذاته ، بل لم يزل متكلماً إذا شاء ، ولم يقل أحد من السلف إن نفس الكلام المعين قديم (4)، وكانوا يقولون : كلام الله المنزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، ولم يقل أحد منهم إن القرآن قديم ، ولا قالوا إن كلامه معنى واحد قائم بذاته ، ولا قالوا إن حروف القرآن أو حروفه وأصواته قديمة أزلية قائمة بذات الله ، وإن كان جنس الحروف لم يزل الله متكلماً بها إذا شاء ، بل قالوا إن حروف القرآن غير مخلوقة ، وأنكروا على من قال إن الله خلق الحـروف )(5).

ويستخلص من كلامه هذا ما يلي :

1 ـ تفسير قِدم كلامه تعالى بكونه سبحانه قد كان في الأزل متكلماً - أي غير عاجز عن الكلام وهو كذلك فيما لا يزال - وهذا أمر غير مختلف فيه بيننا وبينهم ، فإنا جميعاً نثبت له سبحانه صفة الكلام أزلاً بهذا المعنى ، وهو مفهوم من كثير من نصوص علمائنا ، وقد تقدم عن صاحب المعالم رحمه الله تعالى أنه نقل الإجماع عليه .

2 ـ أن ابن تيمية وجميع علماء سلفه الذين يعتمد عليهم لا يقولون في القرآن المنزل على نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قديم العين ، كما لا يقولون ذلك في شيء من الكتب المنزلة ، ولا أي كلام ينسب إليه تعالى كالذي كلّم به موسى عليه السلام ، ولا يقولون في شيء من ذلك أنه صفة قديمة ، أو أنه قائم بذات الحق تعالى ، وهذا لا خلاف بيننا وبينهم فيه وإنما هو مخالف لما نص عليه كثير من الأشعرية والكلابية (1) أو الحنابلة أنفسهم ؛ من كون القرآن موصوفاً عينه بالقِدم ، وأنه صفة لله قائمة بذاته عز وجل ، وكذلك سائر الكتب المنزلة وكل كلام ينسب إليه تعالى ، وقد سبق نقل بعض هذه النصوص .

3 ـ أنهم مع اعترافهم بعدم قِدم القرآن وسائر الكتب المنزلة ، ينفون عنها صفة المخلوقية ، ويضللون أو يكفِّرون من قال بخلقها ، وهذا محط العجب ، وموضع الاستغراب ، فإن الكائنات بأسرها إما أن تكون قديمة أزلية لم يسبق وجودها عدم ، وإما أن تكون حادثة كانت بعد أن لم تكن ، وهي في هذا الكون بحاجة إلى من أخرجها من العدم إلى الوجود وهذا هو معنى الخلق كما سبق في مقدمة هذا المبحث ، ولا أدل على وجود الخالق سبحانه وتعالى من حدوث مخلوقاته ، ولذلك نجد في القرآن التعجيب من حال أولئك الذين ينكرونه تعالى ، أو يشكون فيه مع قيام هذه الشواهد الدالة عليه من خلقه ، كما تجد ذلك واضحاً في قوله سبحانه : ( أفي الله شك فاطر السماوات والأرض ) إبراهيم 10 ، فإن غير القديم الأزلي يتعذر عليه أن يخرج بنفسه من العدم إلى الوجود ، لتعذر أن تكون للمعدوم قدرة أو إرادة أو غير ذلك من الصفات التي يتوقف عليها هذا الخروج ، ولو جاز ذلك في القرآن أو نحوه من الكلام المؤلف من الحروف ، المنتظم من الكلمات والجمل الدالة على المعاني لأمكن في سائر الأعراض ، ولو أمكن في الأعراض لأمكن في الأجسام لعدم الفارق بينهما .

ولئن فُتح باب تجويز وجود شيء بعد عدمه من غير خلق ، فلن يقف شيء في وجه الملاحدة الذين يدعون أن حدوث الكون ونظامه لم يكن إلا بالصدفة العمياء من غير أن يبدعه خالق أو يدبره مدبر ، وإن أشد ما يدعو إلى الاستغراب أن يعترف أحد بوجود شيء بعد عدمه ثم ينفي مع ذلك أن يكون الله تعالى خلقه ، مع النصوص القرآنية القاطعة بأن الله خلق الأشياء كلها ، كقوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) الرعد 16 ، وقوله : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) الفرقان 2 ، فإن هذا النفي يستلزم إما إنكار وجود ما نفى خلقه رأساً ، وهذا عين اعتقاد الذين قالوا : ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) الأنعام 91 ، وإما إنكار هذه النصوص كما سيأتي بيانه إن شاء الله في الفصل الرابع من هذا المبحث .

وقد يتبادر أن الخلاف بيننا وبينهم لا يعدو أن يكون لفظيا ، ما داموا يعترفون بحدوثه ، وإنما أمسكوا عن القول بخلقه الذي أقدمنا عليه .

والجواب يمكن أن يكون كذلك لو أنهم اكتفوا بالإمساك ولم يظللوا أو يكفِّروا من أطلق القول بموجب ما أفادته نصوص القرآن المشار إليها ، أما مع ما صدر منهم من تكفير وتبديع وتضليل أُولي البصائر الذين لم يجترئوا على الدخول في هذه المداخل ، ولم يقدموا على سلوك هذه المسالك ، إلا ببينة من نصوص القرآن التي بصَّرتهم بمواطئ الأقدام ، وصانتهم عن مزالق الأفهام ، فلا وجه لاعتبار الخلق لفظيا ، على أن منع ما صرَّح به القرآن لا وجه له ، لأن القرآن حجة في التعبير ، كما أنه حجة في التعبد ، وإن كنا نقنَع في القضية باعتقاد أن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله ، وأن ما عدا الله مخلوق ولو لم يُخص القرآن باعتقاد خلقه لاندراجه في العموم ، وهذا الذي مضى عليه السلف من الصحابة فمن بعدهم قبل نشوب فتنة الخلاف في القضية ، وعليه مضى المتقدمون السَّابقون من علماء عُمَان كما سبق ، وقد صرَّح ابن تيمية نفسه فيما مضى أنه لم يقل أحد من الصحابة ولا التابعين بقِدمه . (1)

وإذا كانوا لم يقولوا بقِدمه فمن أين لهم أنهم قالوا بنفي خلقه ؟ مع أن هذه القضية لم يُثَرْ بحثها إلاّ بعد انطواء عصورهم ؟ ومن المعلوم قطعاً أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا لينفوا صفة المخلوقية عن شيء غير الله سبحانه مع هذه النصوص القرآنية القاطعة بأن الله خالق كل شيء ، ومع إجماع العقلاء أن ما لم يكن قديماً فهو حادث ، وأن كل حادث لا بد له من محدث أحدثه ، أي أخرجه من العدم إلى الوجود ، وهذا هو عين الخلق .

وبالجملة فإنك إذا استقريت ما كتبوه في هذه المسألة وجدتهم يقعون على ما منه يحذرون ، ويعذلون على ما فيه يعذرون .

وهذا قليل من كثير من الاضطراب الذي وقع فيه القائلون بقِدم القرآن وغيره من كلام الله المنزل على أنبيائه ورسله . ولم أرد به إلا التنبيه ، ومن أراد استقصاء ذلك فليرجع إلى مؤلفات أصحاب هذا القول كفتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ، الذي بلغت صفحاته ستمائة صفحة ، لا تكاد تنتقل منها من موضوع إلى غيره حتى تشاهد من تناقض كلامه ما يكفيك حجة ودليلا على أن القاعدة التي أسسوا عليها هذا المعتقد متداعية من أسسها ، وما كان أغناهم عن الدخول في هذه المتاهات ، لو أنهم اقتصروا على ما درج عليه السلف من القول السليم في القرآن والخلق ، وهو أن القرآن كتاب الله ووحيه وتنزيله ، وأن كل ما سوى الله مخلوق ، وإذا لم يكن بدّ من تجاوز هذا الإجمال إلى التفصيل فالواجب يحتم أن يكون الأصل الذي يرجع إليه ما دل عليه صريح الكتاب العزيز والسنة الصحيحة مما ستقف عليه إن شاء الله في آخر فصل من هذا المبحث ، لا أن يعوَّل على قول أحد بعينه ، ويجعل هو مدار الاحتجاج فإن كلا يخطئ ويصيب ، ولا يجوز اتباع أحد بدون دليل إلا من كان قوله نفسه دليلاً ، وهو المحفوف بالعصمة الذي وصفه العلي الأعلى بقوله : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) النجم 3/4 ، أما من عداه فكل منهم - وإن علا قدره وارتفع شأوه - راد ومردود عليه وآخذ ومأخوذ عليه .









--------------------------------------------------------------------------------

(1) الصواعق المرسلة ص440 مطبعة الإمام 13 شارع قرقول المنشية مصر .



(1) فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص83 / 85 ط1 مطابع الرياض.

(2) فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص85 .

(1) فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص179.



(1) المرجع : فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص359/ 363 مطابع الرياض .

(2) فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص422 .

(3) فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ،ص423/427

(1) فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص167 .

(2) فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص54/55 .

(3) فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص55 .

(4) فتاوى ابن تيمية المجلد 12 ، ص85 .

(5) الصواعق المرسلة ص435 مطبعة الإمام 13 شارع قرقول المنشية بمصر.

(1) فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص571.

(2) يقول المؤلف الخليلي حفظه الله بهامش هذا الكتاب : كذا فيما وجدناه في الفتاوى المطبوعة والظاهر أن الصواب ( غيـر مخلوقة ) ليتفق مع نسق الكلام ومع ما ذكره في غير هذا المقام .

(3) كذا في الفتاوى والصواب أبو داود .

(1) فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص572/574 .



(1) فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص207/208 .

(2) المرجع السابق ص208/209 .

(3) المرجع السابق ص366 .

(1) المرجع السابق ص88 .

(2) المرجع السابق ص86/91 .

(3) المرجع السابق ص91 .

(1) المرجع السابق ص326.

(2) المرجع السابق ص93.

(3) المرجع السابق ص381 .

(4) ما داموا ينكرون خلق هذه الأشياء فلا ريب أنها عندهم قديمة .

(5) فتح القدير ج3 ص384 ، ط. مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر .

(1) فتاوى ابن تيمية المجلد الثاني عشر ص85/87 ، مطابع الرياض ط1 .

(2) المرجع السابق ص86 .

(1) المرجع السابق .

(2) المرجع السابق ص 54 .

(3) المرجع السابق ص301 .

(4) في الأصل قديماً.

(5) المرجع السابق ص567 .

(1) هم أصحاب عبدالله بن سعيد بن كلاب وذكر ابن تيمية أنه أول من صرّح بقِدم القرآن ، راجع فتاواه المجلد الثاني عشر ص301 ، وذكر أنهم اختلفوا في ذلك اختلافاً بيناً .

(1) { المرجع السابق ص301 .
  #23  
قديم 26/09/2004, 01:40 AM
سخسخ بخبخ سخسخ بخبخ غير متواجد حالياً
خــــــاطر
 
تاريخ الانضمام: 21/08/2004
المشاركات: 13
لماذا نجعل العصبية المذهبية تعمي أبصارنا عن الحق
فكل يأخذ برأيه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر كما قال الإمام مالك
ومع إحترامي لرأي الشيخ ، إلا أنه يبقى رأي يحتمل الصواب ويحتمل الخطأ
والعصمة لكتاب الله وما ورد من صحيح السنة فقط
  #24  
قديم 26/09/2004, 11:52 AM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثالث
في أدلة النافين لخلق القرآن

سبق في صدر هذا المبحث بيان الشبهة التي نشأ عنها القول بعدم خلق القرآن وسائر الكلام المنزل ، وهي التباسه عند قائلي ذلك بصفة الكلام التي يراد بها نفي الخرس ، وبالعلم الذاتي لأن الله محيط به علماً ، وعلمه أزلي غير حادث ، وتقدم جلاء هذا اللبس بما لا يدع مجالاً للشك والحمد لله ، وبجانب ما ذكرته تعلق أصحاب هذا القول بأمور :

ـ أحدها : أن الله تعالى امتن على عباده بتعليمه القرآن لا بخلقه حيث قال : (الرحمن علَّم القرآن ) الرحمن 1/2 .

وهو كما ترى احتجاج سلبي بما لا ينص على عدم الخلق ، ولا يفهم منه ذلك بحال ، فإن الامتنان بالتعليم لو كان دليلاً على عدم الخلق لاقتضى ذلك أن يكون البيان كله غير مخلوق ، لقوله سبحانه إثر ذلك ( خلق الإنسان علَّمه البيان ) الرحمن 3/4 ، ولم يقل خلق له البيان ، وإنما الامتنان في الموضعين كان بالتعليم لا بالخلق لأنه منشأ الانتفاع بهما ، وقد امتن الله على عباده بتسخير المخلوقات لهم حيث قال : ( وسخَّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه ) الجاثية 13 ، فهل يقال بأن ذلك حجة على عدم خلق ما في السماوات وما في الأرض مما سخَّره الله للعباد ، بحجة امتنانه تعالى بتسخيره دون خلقه .



ـ ثانيها : قوله تعالى بـ ( له الخلق والأمر ) الأعراف 54 ، وموضع استدلالهم به ، عطف الأمر على الخلق ، وذلك أنهم قالوا إن الخلق هو المخلوق والأمر كلامه تعالى الذي هو غير مخلوق ، وهو قوله ( كن ) ( إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ) يَس 82 ، وفي هذه التفرقة بين الخلق والأمر دليل على فساد قول من قال بخلق القرآن ، إذ لو كان كلامه الذي هو أمر مخلوقاً لكان قد قال ألا له الخلق والخلق وذلك غث من الكلام ، ومستغث ومستهجن ، روى ذلك عن ابن عيينة ، وذكره غير واحد من المفسرين منهم ابن أبي حاتم والقرطبي والقاسمي .

وفساد قولهم هذا أبين من أن يحتاج إلى بيان ، فقد استدلوا بغير دليل ، وتعلقوا بغير متعلق ، وهو إن دل على شيء فلا يدل إلا على الإفلاس من الحجة ، والحيرة عن الحقيقة ، وإنني لفي شك مريب في صحة نسبة هذا الاستدلال إلى ابن عيينة مع رسوخ قدمه في العلم ، وطول باعه في الفهم ، فقد اشتهر بين أقرانه بحسن الرواية وعمق الدراية ، ولئن كان ذلك ثابتاً عنه فهي عثرة لا لعا بعدها ، وكبوة لا ثورة بعدها ، كيف وهو استدلال منتقض بنيانه ، متداعية أركانه من وجوه شتى :



ـ أولها : أن سياق هذا الكلام غير خارج عن القول في انفراد الله تعالى بإيجاد الحادثات وتصريفها وفق مشيئته ، فإن نص الآية كلها ( إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) الأعراف 54 ، وغاية ما تدل عليه أن الله سبحانه وتعالى كما انفرد بإيجاد الكون من العدم فهو منفرد بتصريفه ، لا مشارك له في خلقه ولا في تدبيره ، إذ ليس لأحد غيره شيء من الخلق أو التدبير ، بل له تعالى وحده الخلق والأمر ، والمراد به هنا التدبير كما هو واضح ، وليس في ذلك ما يشير إلى قِدم القرآن أو حدوثه ولو من بعيد .

ـ ثانيها : أن العطف لا يقتضي التغاير من كل وجه ، بل يكفي فيه أن يكون التغاير اعتبارياًّ كتغاير الخصوص والعموم ، والإطلاق والتقييد ، وتغاير الصفات مع وحدة الموصوف ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) البقرة 238، فإن الصلاة الوسطى لم تخرج عن كونها من جنس الصلوات التي أمر بالمحافظة عليها ، وقوله تعالى : ( من كان عدو لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال .. الآية ) البقرة 98 ، ولا قائل بخروج جبريل وميكال من جنس الملائكة ، وقوله جل وعلا : ( تلك آيات الكتاب وقرآن مبين ) الحجر1 ، وقوله : ( تلك آيات القرآن وكتاب مبين ) النمل1 ، والكتاب فيهما عين القرآن ، وليس تغايرهما إلا اعتبارياًّ ، وقوله عز من قائل : ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان ) النحل 90 ، ولا يماري عاقل في كون العدل إحساناً والإحسان عدلاً .

ـ ثالثها : أن أمر الله تعالى ذكر في القرآن مقروناً بما يدل على خلقه ، فقد قال عز وجل : ( وكان أمر الله مفعولاً ) الأحزاب 37 ، وقال : ( ليقضي الله أمراً كان مفعولا ) الأنفال42 ، والمفعول والمقضي لا يكونان إلا حادثين لتعذر سبقهما على الفعل والقضاء ، وقال تعالى : ( وكان أمر الله قدراً مقدورا ) الأحزاب 38 ، وكيف يكون المقدور أزلياًّ ، وقال سبحانه : ( يدبِّر الأمر من السماء إلى الأرض ) السجدة 5 ، والمدبِّر حادث ، وقال : ( وما أمرنا إلا واحدة كلمحٍ بالبصر ) القمر 50 ، وقال : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ) النحل 33 ، وهو دليل على أنه لم يقع بعد عند نزول الآية لأنه منتظر وقوعه ، وقال تعالى : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) هود 40 ، وليس المراد به هنا إلا ما عاقب به قوم نوح من الغرق ، والعقل والنقل قاضيان بحدوث ذلك .



ـ رابعها : أن أمره تعالى قد يراد به في موضع من القرآن غير ما أريد به في موضع آخر ، فهو في قوله تعالى : ( حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور ) غير المراد به في قوله عز وجل أتى أمر الله فلا تستعجلوه ) النحل 1 ، وقوله : ( هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ) .



ـ خامسها : أن حمل الأمر في هذه الآيات التي أوردناها على القرآن غير مستساغ ،لأنه من المعلوم قطعاً أنه ليس هو المراد بقوله : ( أو يأتي أمر ربك ) وقوله : ( أتى أمر الله ) وقوله : ( حتى إذا جاء أمرنا ) وقوله : ( ليقضي الله أمراً كان مفعولا ) وقوله : ( وكان أمر الله قدراً مقدوراً ) فكيف يحمل في قوله : ( له الخلق والأمر ) على القرآن ، والسياق دال على خلافه .

وقد تنبه أئمة التفسير الحاذقون لفساد هذا القول ، فرفضوه من أساسه حتى أولئك القائلون منهم بقِدم القرآن ، فمنهم من لم يعرج عليه رأساً بل اكتفى بإيراد القول الحق في تفسير الآية كابن جرير إذ قال في تفسير الأمر فيها(1): " أمرهن الله فأطعن أمره ألا لله الخلق كله ، والأمر الذي لا يخالف ولا يرد أمره دون ما سواه من الأشياء كلها ، ودون ما عبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تضر ولا تنفع ، ولا تخلق ولا تأمر ، تبارك الله معبودنا الذي له عبادة كل شيء رب العالمين .

حدثني المثنى قال : ثنا إسحاق ، قال : ثني هشام أبو عبد الرحمن ، قال : ثنا بقية بن الوليد ، قال : ثني عبد الغفار بن عبد العزيز الأنصاري عن عبد العزيز الشامي عن أبيه ـ وكانت له صحبة ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح ، وحمد نفسه قلَّ شكره وحبط عمله ، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه ، لقوله : ( له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين ) "

ومنهم من أشار إليه وأنكره كالألوسي ، فإنه بعدما ذكر ما نسب إلى ابن عيينة أتبعه بقوله : ( وليس بشيء )(1).

وقال الفخر - بعد أن حكى عن أصحابه احتجاجهم بهذه الآية على أن كلام الله قديم وما ردَّ به عليهم - قال القاضي : أطبق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام التنزيل بل المراد به نفاذ إرادة الله تعالى ، لأن الغرض بالآية تعظيم قدرته ، وقال آخرون لا يبعد أن يقال : الأمر وإن كان داخلاً تحت الخلق إلا أن الأمر بخصوص كونه أمراً يدل على نوع آخر من الكمال والجلال ، فقوله : ( له الخلق والأمر ) معناه له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى ، ثم بعد الإيجاد والتكوين فله الأمر والتكليف في المرتبة الثانية ، ألا ترى أنه لو قال له الخلق وله التكليف وله الثواب والعقاب كان ذلك حسناً مفيداً ، مع أن الثواب والعقاب داخلان تحت الخلق ، فكذا هاهنا ، وقال آخرون : معنى قوله : ( ألا له الخلق والأمر ) هو أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق ، فكذا قوله : ( والأمر ) يجب أن يكون معناه إنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، وإذا كان حصول الأمر متعلقاً بمشيئته لزم أن يكون ذلك الأمر مخلوقاً ، كما أنه لما كان حصول المخلوق متعلقاً بمشيئته كان مخلوقاً ، أما لو كان أمر الله قديماً لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان ذلك من لوازم ذاته ، فحينئذ لا يصدق عليه أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر ، وذلك ينفي ظاهر الآية(2). وهو وإن اعترضه بقوله : ( إنه لو كان الأمر داخلاً تحت الخلق كان إفراد الأمر بالذكر تكريراً محضاً ، والأصل عدمه ، أقصى ما في الباب أنا تحملنا ذلك في صور لأجل الضرورة إلا أن الأصل عدم التكرير ) (3).

فإن اعتراضه هذا ساقط بما تقدم من كلامه وبما ذكرته في صدر الرد على هذا الاستدلال .

ونسب أبو حيان هذا الاستدلال بالآية إلى النقَّاش وغيره ، وأتبعه بقوله : ( وهذا استدلال ضعيف إذ لا يتعيَّن حمل اللفظ على ما ذكر بل الأظهر خلافه.

(4) وقال ابن كثير في تفسير الآية أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ، ولهذا قال منبهاً : ( ألا له الخلق والأمر ) أي له الملك والتصرف . (5)

ونقل جمال الدين القاسمي عن العلامة البقاعي أنه قسم الممكنات الموجودة - وهي ما سوى الله - إلى قسمين ، قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى في عرف أهل الشرع الشهادة والخلق والملك ، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ، ويسمى الغيب والأمر والملكوت ، والأول يدركه عامة الناس ، والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس .(6)

وفسّر السيد رشيد رضا الأمر بقوله : ( وهو التشريع والتكوين والتصرف والتدبير )(7).

وقال الإمام ابن عاشور : ( الخلق إيجاد الموجودات والأمر تسخيرها للعمـل الذي خلقت لأجله ) ، ثم قال : ( والتعريف في الخلق والأمر تعريف الجنس ، فتفيد الجملة قصر جنس الخلق وجنس الأمر على الكون في ملك الله تعالى ، فليس لغيره شيء ومن مثل هذا الجنس ، معناه ليس لآلهتهم شيء من الخلق ولا من الأمر )(1).



ـ ثالثها : قوله تعالى : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) الحجر 85 ، ووجه استدلالهم به أن المراد ( بالحق ) الذي خلقها الله به قوله لها ( كن ) ، فلو كان هذا القول مخلوقاً لما صحَّ أن يخلق به المخلوقات لأن الخلق لا يخلق بمخلوق . (2)



وجوابه من أوجه :

أ ـ أنا لا نسلم أن المراد ( بالحق ) هنا ما ذكرتموه فإن أولى ما فسر به القرآن القـرآن نفسه لقطعية حجته ، وقوة بيانه ، واتحاد مصدره ، وقوله تعالى : ( ربنا ما خلقت هذا باطلاً) آل عمران 191 ، دال دلالة قاطعة على أن المراد ( بالحق ) في الآية ضد الباطل ، وأن المقصود باتصاف الله تعالى به في خلق السماوات والأرض وما بينهما انتفاء العبث عن الله تعالى في أفعاله .

وهو رد على ما يظنه الكفار من العبث في أفعاله تعالى كما هو صريح في قوله تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا ) ص27 ، وقوله: ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين لو أردنا أن نتخذ لهواً لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ) الأنبياء 16/17 ، وقوله : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون ) الدخان 38/39 .



ب ـ أن المراد بـ ( كن ) في نحو قوله تعالى : ( إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) النحل 40 ، التعلق التنجيزي لإرادته تعالى بأي شيء من الممكنات ، إيجاداً أو إعداماً ، ويبين ذلك قوله تعالى : ( إذا أردناه ) أي إذا تعلقت به إرادتنا تعلقاً تنجيزيًّا فيما لا يزال بعدما تعلقت به تعلقاً تقديريًّا في الأزل ، فإن ( إذا ) من الظروف الزمانية الدالة على الاستقبال ، ، ويؤكده قوله : ( أن نقول له ) بصيغة المضارع المقترنة بأن الدالة على الاستقبال أيضاً ، ومن المعلوم قطعاً أن ما كان أزليًّا لا تتعلق به الإرادة للزومه وعدم تقدم شيء عليه ، كعلمه تعالى وقدرته وحياته ، كما يؤكده أيضاً قوله : (فيكون ) المقترن بالفاء المفيدة للترتيب والتعقيب وبهذا تعلم أن قوله تعالى : ( كن فيكون ) أينما جاء ما هو إلا كناية عن سرعة انفعال الأشياء له سبحانه حسب تعلق إرادته بها ، وإلا فليس هناك نطق بكاف ونون نطقاً حقيقياً .



ج ـ لو سلمنا ذلك فإن كلامنا في الكلام المنزل كالقرآن لا في الكلام غير المنزل .

ـ رابعها : الاستعاذة بكلمات الله التامات كما جاء في حديث ( أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ) ، ووجه الاستدلال أن كلماته لو كانت مخلوقة لما جازت الاستعاذة بها .

وجواب ذلك أن هذه الاستعاذة في حقيقتها هي بالله سبحانه لأنه رب الكلمات ، وإنما أدرجت الكلمات فيها لما جعل الله فيها من البركة والخير ، وهذا من باب المجاز (3)، وقد وردت في الحديث الصحيح : الاستعاذة بأفعاله تعالى كما في دعائه عليه أفضل الصلاة والسلام ( وبمعافاتك من عقوبتك ) والمعافاة فعل من أفعاله تعالى وهي حادثة قطعاً وإنما جازت الاستعاذة بها لأنها لا تصدر إلا عن الله .



ـ خامسها : ما رواه أبو القاسم اللالكائي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال - لما قيل له حكَّمت رجلين - ( ما حكَّمت مخلوقاً ، ما حكَّمت إلا القرآن ) .

وجوابه أن نفيه لتحكيم المخلوق بتحكيم القرآن لأن القرآن من عند الله تعالى ، فكل ما فيه من أمر ونهي وإباحة وحظر وإقرار وردّ ، هو من عند الله تعالى ، فتحكيمه تحكيم له سبحانه الذي أنزله بعلمه ، وأسند أحكامه إلى نفسه حــيث قال : ( ومن أحسن من الله حكماً ) المائدة 50 .



ـ سادسها : ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أنكر على رجل قوله : رب القـرآن .

والجواب أن هذه الرواية لو صحت لما كانت فيها حجة ، لأنها موقوفة على صحابي ، فكيف والأدلة ظاهرة على عدم صحتها ، منها أن الله سبحانه أضاف الرب إلى صفة ذاتية وهي ( العزة ) حيث قال : ( سبحان ربك ربّ العزة عما يصفون ) الصافات 180 ، فكيف يمنع ابن عباس رضي الله عنهما إضافته إلى القرآن ولو على تقدير صحة القول الذي ذهبوا إليه ، ومنها أنه ورد في الحديث المرفوع ( اللهم رب طه ويس ) ، ومنها أن العرب تسمي سيد الشيء ومالكه ربًّا له ، كما في قولهم ربّ الأسرة ، ورب البيت ، فكيف يمنع مثله في القرآن إذا أضيف إلى رب العالمين ؟ بهذا كله يتبين عدم صحة هذه الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ومع تقدير صحتها يحتمل أن يكون إنكاره مبنيًّا على أنه يرى أن أسماء الله توقيفية ، فلا يدعى سبحانه إلا بما شرع من الأسماء ، وهو رأي مشهور عند الأمة .





--------------------------------------------------------------------------------

(1) ابن جرير الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج8 ص206 .

(1) روح المعاني ج8 ص 183 ط دار إحياء التراث العربي.

(2) التفسير الكبير مفاتيح الغيب ج14 ص123/124 ط2 دار الكتب العلمية .

(3) التفسير الكبير مفاتيح الغيب ج14 ص123/124 ط2 دار الكتب العلمية .

(4) البحر المحيط ج4 ص310 مكتبة ومطابع النصر الحديثة -طهران-الرياض- .

(5) تفسير ابن كثير ج2 ص 221 ط دار إحياء الكتب العربية

(6) القاسمي، محاسن التأويل ج3 ص357 ط دار إحياء الكتب العربية .

(7) المنار ج8 ص454

(1) التحرير والتنوير ج8 ص169 الدار التونسية للنشر.

(2) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ج7ص222 دار الكاتب العربي للطباعة والنشر.

(3) انظر في ذلك جواب المحقق الخليلي على سؤال من سأله عن حديث ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك .. الخ ) - تمهيد قواعد الإيمان ج3 ط وزارة التراث القومي والثقافة بسلطنة عمان .
  #25  
قديم 26/09/2004, 11:54 AM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الرابع

في أدلة القائلين بخلق القرآن



بعدمَا سمعتَ أخي القارئ ما في هذه المسألة من خلاف وتبين لك بالمقارنة الدقيقة ، الاضطراب الواضح في أقوال الذين أثبتوا للقرآن وغيره من كتب الله المنزلة صفة القِدم ، وتبين لك ضعف ما يتشبثون به ، أعرض عليك حجج الفريق الآخر ، وهم القائلون بأنه مخلوق .

وهي تنقسم إلى قسمين عقلية ونقلية :

ونبدأ بالعقلية فهي كما يلي :

1 ـ أن تجويز تعدد القدماء منافٍ للوحدانية ، التي هي أخص صفاته تعالى ، لأنه يفضي إلى جواز تعدد الآلهة ، فإن الإله الحق سبحانه وتعالى إنما استحق الألوهية لسبقه على كل شيء في الوجود ، فلو كان له مقارن في الأزلية لجاز لذلك المقارن أن يشاركه في الألوهية ، إذ لا يمنع مانع من كونه خالقاً رازقاً مدبِّراً حكيماً .

فإن قيل : إن الله سبحانه وتعالى تميَّز عن القرآن وغيره من الكلام القديم بصفات استحق بها الانفراد بالألوهية والربوبية غير قِدمه كالعلم والقدرة ، والسمع والبصر .

فجوابه أن اختصاص الله سبحانه بهذه الصفات دون مُقَارِنِه في القِدم ترجيح له عليه ، والترجيح لابد له من مرجِّح .

فإن قيل : إن الكلام نفسه هو إحدى هذه الصفات التي استحق الله بها الانفراد بالخلق والأمر ، قلنا : إن تلك الصفات غير منفصلة عنه سبحانه ، وكلامنا هذا إنما هو في كلام حالٍّ في صدور الذين أوتوا العلم ، مسموع بالآذان ، متلو بالألسن ، مكتوب بالأقلام ، مسطور في الألواح ، فهو مخالف لجميع تلك الصفات .



2 ـ أن كل ما ثبت قِدمه استحال عدمه ، فإن وجود القديم وجود ذاتي ، واجب لا يفتقر إلى مرجِّح ، بخلاف وجود الجائز فيستحيل أن يكون لغيره سلطان عليه ، إثباتاً أو إزالة ، إنزالاً أو رفعاً ، إبقاءً أو إذهاباً ، والله تعالى يقول : ( ولئن شئنا لنذهبنَّ بالذي أوحينا ) الإسراء 86 .



3 ـ أن آثار الصنعة بادية عليه ، فإن كل حرف منه يفتقر إلى غيره لتتألف منها كلماته ، وكل كلمة منه بحاجة إلى أخواتها لتتركب منها جملة ، وهي في ذلك متغايرة غير مستغن بعضها عن بعض ، فالباء غير السين والسين غير الميم ، وبتركيب هذه الثلاثة الأحرف تتولد كلمة ( بسم ) ، والتركيب صنعة دالة على الصانع ، والصانع لابد أن يتقدم المصنوع ، فثبت بهذا المذكور من تباين هذه الحروف واختلافها وأتلافها في التركيب إن أحداً باين بينها وضعاً إذا جعل كلاً منها مخالفاً لسواه ، وركبها بهذه الصنعة التأليفية فوجد منها هذا الكلام البليغ .



4 ـ جواز تعليله كما تُعلل سائر أفعاله تعالى ، فيقال كلَّم الله موسى ليصطفيه على غيره بهذه المزية ، وكلَّم الله عباده بالقرآن ليقيم عليهم حجته ويهديهم سبله ، وجعل القرآن المكي أكثر عناية بقضايا العقيدة منه بالعبادات والأحكام لعتوِّ قريش وجهلها ، وجعل القرآن المدني أكثر عناية بالعبادات والأحكام لتأصل العقيدة بما أنزله من القرآن في مكة ، وذلك غير جائز في سائر صفاته تعالى ، كما لا يجوز تعليل ذاته عز وجل ، فلا يقال قدر الله على كذا لأجل كذا ولا علم كذا من أجل كذا ؛ ولا أبصر كذا بسبب كذا ، وهكذا في سائر الصفات .



5 ـ اقترانه بالزمان نحو قولك كلم الله موسى عندما ذهب إلى الطور وقد تقدم في صدر البحث ما يدل عليه من نصوص القرآن والسنة ، وصفاته عز وجل سابقة على الأزمنة فلا يجوز اقترانها بها .



6 ـ أن حروف القرآن هي نفس الحروف التي ينتظم منها كلام العرب ، نثره ونظمه ، سجعه ومرسله ، رجزه وقصيده ، ويشاركه فيها سائر كلام البشر ، فإن كان القرآن قديماً لزم قِدم كلام الناس لتركب كلامهم من هذه الحروف بعينها ، ويلزم من ذلك كون الكلام سابقاً على المتكلمين به وإلا فكيف يتألف القديم من الحوادث ؟

وإن قيل بقدمها في القرآن وسائر كلام الله دون كلام البشر لزم منه أن تجتمع في كل حرف منها صفتان متناقضتان ، الحدوث والقِدم ، وهل هذا إلا جمع بين النقيضين .(1)

فإن قيل إن هذه الحجة غير ملزمة لأن ابن تيمية وابن القيم فرَّقا بين حروف القرآن وسائر كلام الله تعالى ، وبين حروف كلام البشر ، بأنها وإن اتحدت فالوحدة بينها جنسية وليست عينية .

فجوابه أن قولهما مردود من وجهين :

ـ أولهما : أنا لا نسلم أن هذه الوحدة ليست عينية ، إذ لو كان كذلك للزم تعدد الحرف الواحد بتعدد الناطقين به أو كاتبيه ، وأن تتغاير الأحكام فيه بحسب هذا التعدد .

ـ ثانيهما : أن الجنسية لا تجمع الحادث والقديم .



وأما النقلية فبعضها من القرآن وبعضها من السنة .

أما من القرآن فكثيرة وإنما أقتصر منها على ما يلي :

1 ـ قوله تعالى : ( خالق كل شيء ) الأنعام 102 / الرعد 16 / الزمر62 / غافر 62 ، ووجه الاستدلال به أن القرآن إما أن يكون شيئاً أو لا شيء فإن لم يكن شيئاً فعلامَ الاختلاف إن كان المختلَف عليه معدوماً ؟ وما الذي أنزله الله وفصَّله وأحكمه إن كان ذلك غير واقع على شيء ؟ وإن كان شيئاً فما الذي يخرجه من هذا العموم ؟

فإن قيل : إن إجراء عموم الآية على كل شيء يستلزم أن يكون الله خالقاً لذاته وصفاته ، فجوابه أنه استحال عقلاً ونقلاً دخول الذات العلية في هذا العموم ، وقد عدَّ الأصوليون هذا التخصيص من باب التخصيص العقلي ، وصفاته تعالى كذاته في ذلك ، لاستحالة عدمها لِمَا يترتب عليه من وجود أضدادها تعالى الله عن ذلك .

فإن قيل والكلام صفة من هذه صفات فلماذا لم تستثنوه كما استثنيتموها من عمـوم الآية ؟ .

أجيب بأن كلامنا ليس في الكلام النفسي الذي هو صفة ذاتية لله عز وجل والذي تثبت بثبوته قدرته تعالى على الكلام ، وإنما كلامنا في كلام منزل متركب من الحروف تتلوه الألسن وتسمعه الآذان وتعيه العقول وتختزنه الأذهان ، ويدون في الصحف وهل لذلك مثيل من صفاته تعالى الذاتية ؟ .



2 ـ قوله تعلى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) الفرقان 2 ، وهذا الوصف ظاهر في القرآن فإنه مقدرة سوره وآياته وجمله وكلماته ، وحروفه وحركاته ، وتلاوته ومعانيه ، وحكمه وأحكامه ، وأخباره ، وأمثاله .



3 ـ قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) القمر 49 ، وهذا كالذي قبله .

4 ـ قوله تعالى : ( إنا جعلناه قرآناً عربيًّا لعلكم تعقلون ) الزخرف 3 ، والاستدلال به على خلقه من وجهين :

ـ أولهما : الإخبار عنه أنه مجعول والمجعول هو المُصَيَّر من حال إلى حال ، وهذا لا يكون إلا في المخلوق .

ـ ثانيهما : تعليل جعله عربياًّ بقصد عقل المخاطبين له .

ومثل هذه الآية سائر الآيات الناصة على أنه مجعول كقوله تعالى : ( ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا ) الشورى 52 .

وقد شرح حجية الجعل على ثبوت الخلق الإمام محمد بن أفلح رضي الله عنه بقوله : ( إن الأمة اجتمعت على أن كل فاعل قبل فعله ، وأن الجاعل قبل المجعول وأن الصانع قبل صنعه ، وأن الجاعل غير المجعول ، فلما ثبت بينهما التغاير والقَبْل صح أنهما شيئان ، وأن الأول المتقدم هو الجاعل القديم ، والثاني المجعول هو الحادث الكائن بعد أن لم يكن )(1).

واستدل على أن الجعل إذا أسند إلى الله كان بمعنى الخلق بكثير من الآيات الدالة عليه كقوله تعالى : ( وجعل الظلمات والنور ) الأنعام 1 ، وقوله : ( وجعل منها زوجها ) الأعراف 189 ، وقوله : ( هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوه فيه والنهار مبصرا ) يونس 67 ، وقوله : ( أمَّن جعل الأرض قراراً وجعل خلالها أنهاراً وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا ) النمل 61 ، وقوله : ( وجعل لكم من الجبال أكناناً ) النحل 81 ، وقوله : ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) الزخرف 12 ، وقوله : ( وجعـل الشمس سراجا ) نوح 16 ، وقوله : ( وجعلنا الليل والنهار آيتين ) الإسراء 12 .(2)

ومثلها في ذلك قوله : ( ألم نجعل الأرض كفاتا ) المرسلات 25 ، وقوله : ( ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً ) النبأ 6/11 ، إلى غيرها من الآيات .

قال الإمام أبو اليقظان محمد بن أفلح رحمه الله : ( فمعنى جعلنا في هذه المواضع التي ذكرنا ، خلقنا ، وكذلك عند المعارض غير ما ذكرناه في القرآن فإنه زعم أن الجعل فيه غير الخلق ، ولو جاز له وساغ ذلك لجاز لمعارض أن يعارضه ويقول وكذلك قوله في غير القرآن من الجعل الذي اتفقنا وإياكم عليه أنه بمعنى الخلق هو بمعنى آخر غير الخلق ، وإلا فما الفرق بين الجعلين ؟ فيكون الله عز وجل خاطب العرب بما لا يعقلونه من كلامهم ولا يعرفونه من لغتهم ، وبما يجوز لهم فيه الشك ( والطعن والارتياب ، فيكون جعل في موضع خلق وأحدث ودبَّر ، وفي موضع لمعنى آخر لا نفهمه ولا ندريه ، وهـذا لا يوصف الحكيـم به )

فلما اتفقنا وهم على أن الجعل في قوله : ( وجعل الشمس سراجاً ) نوح 16 ، وقوله : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ) الكهف 7 ، وفي قوله : ( جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ) الشورى11، وفي قوله : ( وجعل الظلمات والنور ) بمعنى الخلق . صار الجعل كله إذا كان من الله عز وجل بمعنى الخلق فيدخل في ذلك القرآن وغيره ، وإلا بطلت المناظرة ولم يصح الشاهد .

فإن عارضوا بقول الله عز وجل : ( ما جعل الله من بحيرة .. الآية ) المائدة 103 ، فيقال نعم لم يخلق الله البحيرة بحيرة كما زعمتم ولا السائبة سائبة كما زعمتم ، وإنما نفى عن نفسه ما لم يفعله كما زعم المشركون فذمَّهُم بابتداعهم ، ومعناه ما خلقنا كما وصفتم ، إنما خلقنا على غير ما وصفتم ، فوقع النفي هنا على نفس الوصف لا على نفس الخلق .

وكذلك قوله : ( إني جاعلك للناس إماماً ) البقرة 124 ، أي خالق فيك الصفة التي لم تكن فيك والمعنى الذي لم يوجد فيك ، ولم أكن فعلته بك قبل ذلك ، فمعنى جعل أينما وجد ، خلق ودبَّر ، وأحدث وأنشأ ، وفعل وصنع ، وكل ذلك بمعنى واحد ، وإن اختلفت ألفاظه ).(1)

هذا كلامه رحمه الله في الجعل ، وأضيف إليه أنني تتبعت الجعل المسند إلى الله في القرآن ، فوجدته لا يخرج عن أمرين ، إما أن يكون تكوينيًّا ، وإما أن يكون تشريعيًّا ، وفي كل منهما إنشاء ، لما لم يكن ، فالجعل التكويني نحو قوله تعالى : ( وجعل منها زوجها ) الأعراف 189 ، وقوله : ( وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ) الزخرف 12 ، وقوله : ( وجعل الشمس سراجا ) نوح 16 ، ومعنى الإحداث فيه ظاهر .

والجعل التشريعي نحو قوله : ( إني جاعلك للناس إماماً ) البقرة 124 ، ومنه الجعل المنفي في قوله تعالى : ( ما جعل الله من بحيرة ) أي ما شرع بَحْرَهَا ، ومن الجعل التشريعي قوله تعالى : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممَّن ينقلب على عقبيه ) البقرة 143 .

والفرق بين الجعلين أن أولهما هو إحداث ذات الشيء المجعول أو صفة قائمة به لم تكن موجودة من قبل ، وذلك يقتضي إخراج المجعول من حالة إلى أخرى أو من صفة إلى غيرها ، وهذا حاصل فيما إذا أسند الجعل إلى الإنسان وكان بمعنى التَّصيير ، نحو جعلتُ العجينَ خُبْزاً ، والدقيق عجيناً ، فإنه في كليهما نقل للمجعول من حالة إلى حالة لم يكن عليها من قبل ، فالدقيق قبل أن يجعل عجيناً لم يكن عجيناً ، والعجين قبل أن يجعل خبزاً لم يكن خبزاً ، ولا يفهم منه إلا أن المجعول تحول بعد الجعل عما كان عليه قبله .

والثاني إحداث شرع ينقل المجعول من حكم إلى آخر ككون البيت الحرام قبلة للمسلمين بعد ما كان بيت المقدس قبلتهم .

وجعل القرآن عربيا هو الجعل التكويني لأنه إحداث لمعنى قائم بالقرآن ، وهو عربيته ، ولا يخلو ذلك إما أن يكون تحويلاً له من وصف إلى آخر ، وذلك بأن يكون أولاً غير عربي ثم أحدث الله فيه هذه الصفة ، وإما أن يكون إنشاء له على هذه الصفة من أول الأمر ، كما أنشأ الله الشمس متلبسة بوصف كونها سراجاً ، وكما أنشأ الله الليل متلبساً بوصف كونه لباساً ، وأنشأ النهار متلبساً بوصف كونه معاشاً ، وهذا هو المتعين في القرآن ، لعدم ما يدل على أنه كان غير عربي من قبل ثم نقله الله إلى العربية .

أما أن يكون كلاماً عربيا منذ الأزل ويتعدى إليه فعل الجعل فهو غير جائز عقلاً ولا لغة ، لأن الجعل فعل والفعل سابق على المفعول ، فهو سابق على المجعول قطعاً .

ومثل ذلك يقال في قوله سبحانه : ( ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء مـن عبادنا ) الشورى 52 .

وهذا يظهر بداهة لمن أمعن نظره في معنى الجعل ، وفكر في صفات الله تعالى الأزلية الواجبة ، وعدم إمكان تعدي الجعل إليها فإنه من المستحيل عقلاً الممتنع شرعاً أن يقول قائل جعل الله علمه محيطاً بكل شيء ، أو قدرته شاملة لكل شيء ، أو جعل الله وجوده أزليا أبديا ، أو جعل سمعه مدركأ لجميع الأصوات ، أو جعل بصره محيطاً بكل المرئيات ، لما في هذه العبارات من اقتضاء أن يكون الله محدثاً لهذه الصفات .

واعترض على الاستدلال بجعل القرآن عربيا على خلقه بأن الجعل يكون بمعنى غير الخلق ، كما في قوله عز وجل : ( ويجعلون لله البنات سبحانه ) النحل 57 ، وقوله : ( وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمان إناثا ) الزخرف 19 وقوله : ( وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) الواقعة 82 .

وجوابه شتان بين الجعلين وبين الجاعلين ، فالجعل فيما نحن بصدده فعل ثابت مسند إلى الله تعالى من أنكره أو أنكر أثرهُ فقد كفر ، والمجعول - وهو عربية القرآن ونورانيته وهدايته - حقيقة قائمة من أنكرها فقد كفر ، والجعل فيما اعترضوا به هو قول باطل مسند إلى الكفار ، والمجعول - وهو أنوثة الملائكة - ليس بشيء بل يكفر من يثبته ، ولا إشكال في اتحاد حروف الفعل في كلا الإسنادين - وهي الجيم والعين واللام - فإن الفعل يسند إلى الله فيكون له معنى ، ويسند إلى غيره فيكون له معنى آخر مع عدم التفاوت في اللفظ ، ومثل ذلك قوله تعالى : ( الذي خلقكم والذين من قبلكم ) البقرة21 ، وقوله : ( والله خلقكم وما تعملون ) الصافات 96 ، وقوله : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) المؤمنون 12 ، وقوله : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) التين 4 ، ونحوها من الآيات المسند فيها الخلق إلى الله عز وجل ، فهو جميعه بمعنى الإخراج من العدم إلى الوجود ، وتجد هذا الفعل بلفظه ونفس حروفه مسنداً إلى الكفار ، وله معنى لا يليق بعباد الله الصالحين فضلاً عن جوازه على الله تعالى رب العالمين ، وذلك في قوله سبحانه : ( وتخلقون إفكاً ) العنكبوت 17 ، فهل من وجهٍ لحمله في أحد الموضعين على معناه في الموضع الآخر ؟ أو أن المقارنة بين الفعلين مستحيلة كاستحالة المقارنة بين الفاعلين ؟ .



5 ـ قوله تعالى : ( ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون ) الأنبياء 2 ، ومثله قوله : ( وَمَا يأتيهم من ذكر من الرحمان محدث إلا كانوا عنه معرضين ) الشعــراء 5 ، ووجه الاستدلال بالآيتين وصف الذكر فيهما بالإحداث وهو الخلق ، ولا ريب أن الذكر لم يقصد به فيهما غير القرآن بدليل قوله تعالى : ( وما هو إلا ذكر للعالمين ) القلم 52 ، وقوله : ( إن هو إلا ذكر للعالمين ) يوسف 104 و ص 87 ، وقوله : ( إنا نحن نزلنا الذكر ) الحجر 9 ، وقوله : ( وإنه لذكر لك ولقومك ) الزخرف 44 ، وقوله : ( والقرآن ذي الذكر ) ص 1 ، وقوله : ( إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ) يس 69 ، وقوله : ( وهذا ذكر مبارك أنزلناه ) الأنبياء 50.

والقائلون بقِدم القرآن سلكوا طريقين في ردهم استدلال القائلين بخلقه بآيتي الأنبياء والشعراء ، فالقائلون منهم بقِدم حروفه وكلماته ذهبوا إلى أن المراد بالإحداث فيهما هو إحداث التنزيل متى شاء الله ذلك كما تقتضيه حكمته ، ومعنى ذلك أن المحدث تنزيل الكتاب لا ذات الكتاب ، وعبر بعضهم عنه بأن المراد بالإحداث تجدده ، والمفرقون منهم بين القرآن وما يتلى ويدون في المصاحف من الأحرف والكلمات قالوا : إن المحدث هو الأحرف والكلمات ، وهي عبارة عن القرآن الذي هو صفة أزلية قائمة بذاته عز وجل وحكاية له ، وكلا القولين مردود .

أما الأول فيبطله أن المحدث هو الذي وقع عليه فعل المحدث - بالكسر - ويشترط فيه أن يكون مسبوقاً بالفاعل والفعل ، والإحداث هو الإيجاد بعد العدم ، وحمل الإحداث على أنه بمعنى الإنزال خروج عن الظاهر لغير داع سوى جعل ما في نفس القائل من الفكرة هو الأصل الذي ترد إليه النصوص وتحمل عليه الأدلة ، وما أعظمها من مصيبة في الدين على أن نقول إن نفس الإنزال إحالة للمنزل من حالة إلى حال ، وهي دالة على الحدوث لأمرين :

ـ أولهما : أن القديم لا يتحول عن أصله ولا تعتريه العوارض .

ـ ثانيهما : أنه لا يكون لأحد عليه سلطان ، لأنه غير معلول بعلة ولا مسبب بسبب .



وأما الثاني فيرده أن إثبات صفة لله تعالى تسمى قرآناً غير ما أنزل على الشارع الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم دعوى لم يقم عليها برهان ، وقد اعترض الإمام أبو اليقظان رحمه الله تعالى دعواهم هذه بقوله : ( لا تخلو الحكاية من أن تكون مخالفة للمحكي أو موافقة له ، فإن كانت موافقة له فكيف يكون شيئان متفقان ، واحد مخلوق والآخر غير وخلوق ، وقد اجتمعت الأمة على أن ما جاز في الشيء جاز في نظيره وإلا بطل ما اجتمعت عليه الأمة إذاً ، وإن قال إن الحكاية غير المحكي وهي خلاف له ، فهذا أغرب وأبعد ما يكون من الصواب ، وذلك خروج من لسان الأمة وجميع الأمم ، لأن الحكاية لا تكون حكاية للشيء إلا وهي مثل المحكي معبرة عنه بما هو به ، ولو أمكن خلاف ما نقول من أن الحكاية غير المحكي لوجب على كل الأخبار الكاذبة أن تكون صادقة ، وعلى الأخبار الصادقة أن تكون كاذبة ، ويكون الشعر أيضاً حكاية القرآن ، والقرآن حكاية الشعر ، والمدح حكاية الذم ، والذم حكاية المدح ، ولا ينبغي أن ننكر خبراً ونكذب مخبراً ، ونرد حكاية أو ننكر مقالة ، وإذا أمكن هذا وجاز فمن أين كان الصدق صدقاً ، والكذب كذباً ؟ ولعمري لئن كانت الحكاية خلاف المحكي لينبغي أن يكون الصدق هو الكذب والكذب هو الصدق ، فكما بطل هذا وفسد ، صح أن الحكاية لا تكون خلاف المحكي ) .

وأيضاً أخبرونا حيث كانت الحكاية غير المحكي فما القرآن أهو الحكاية أم المحكي ؟ فإن كان القرآن الذي أنزله الله على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ، ونزل به الروح الأمين إليه هو هذه الحكاية وهو مخالف فإنا لم يقع كلامنا معهم إلا على القرآن الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمد وهو الذي قال فيه : ( فإذا قرأناه فاتبع قرآنه . ثم إن علينا بيانه ) القيامة 18/19 ، وإن كان القرآن هو المحكي وهو القائم بذاته عز وجل ، فهو لم ينزل بعد ، ضاهوا بذلك قول ابن صوريا حيث قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أنزل الله على بشر من شيء ) فأنكروا نزول القرآن وهذا أعجب من العجب .

وقد وقع الاجتماع منا ومنهم أن ما في الدنيا وما نقرأ من القرآن هو مثال مما قرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هي قراءته وقرأناه على الموافقة له ، ولو كان خلافه كما قالوا من أن الحكاية غير المحكي لكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أتى بخلاف ما أتى به جبريل عليه السلام ، وكذلك جبريل فيما أتى به ميكائيل وكذلك ميكائيل عن إسرافيل ، فيكون كل واحد منهم قد أتى بخلاف ما أتى به غيره .

وإذا قلت إن الحكاية خلاف المحكي فما نقول فيما نقله محمد عن جبريل ؟ هذا هو هذا ؟ أم هذا غير هذا ؟ فلا بد من هذا هو هذا ، أو هذا مثل هذا ، فكيف يجوز في الشيء مالا يجوز في مثله ؟ أم لا يجوز في الشيء ما جاز في مثله ، وأي تناقض أعظم وأفحش من هذا ؟ نعوذ بالله من العمى والخذلان ، ونسأله العون والتوفيق ) .(1)

6 ـ قوله تعالى : ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لَّدن حكيم خبير ) هود 1 ، ووجه الاستدلال به أن الله وصفه فيه بالإحكام والتفصيل ، وكل منهما أثر صادر عن مؤثر ، ولا يجوز أن يكون الأثر قديماً أزلياًّ لضرورة أن يكون مؤثره سابقاً عليه ، والمسبوق حادث لأنه - بداهة - كائن بعد أن لم يكن .

ولا يخلو هذا القرآن إما أن تكون كينونته مقرونة بالأحكام والتفصيل من أول أمره ، وإما أن يكونا وصفين أوجدهما الله فيه بعد أن كان عارياً منهما ، وكلا الاحتمالين مقتضٍ لخلقه وحدوثه .

أما الأول فلكون وجود الشيء مقترناً بوصف حادث من أول أمره دليلاً على حدوثه ، وبما أن الإحكام والتفصيل فعلان صادران عن الله سبحانه فلا مرية في حدوثهما ، وإلا لما جاز إسنادهما إليه عز وجل .

وعليه فليس إحكامُه وتفصيله إلا بمعنى إيجاده محكماً ومفصلاً .



وأما الثاني فاقتضاؤه ذلك من حيث إن الإحكام والتفصيل أثران واقعان عليه ، والأثر ناتج عن المؤثر شاهد على تحول ما وقع عليه من حال إلى حال ، وهو مستحيل على القديم ، لعدم إمكان أن يكون لأحد عليه سلطان ، ولذلك يستحيل أن يقال أحكم الله قدرته أو فصلها ، أو أحكم علمه أو فصله لأن هذه العبارة قاضية بحدوث قدرته تعالى وعلمه ، جل الله عن ذلك ، والأول هو الذي يتعين المصير إليه ، لعدم ما يدل على أن القرآن أحكم بعد أن كان عارياً عن الإحكام ، وفصل بعد أن كان خالياً من التفصيل .



7 ـ قوله تعالى : ( ولقد جئناهم بكتاب فصّلناه على علم ) الأعراف 52 ، ووجه الاستدلال به على حدوث القرآن ثلاثة أمور :

ـ أولها : أن المجيء به نقل له من حال إلى حال ، وهو مستحيل في القديم كما سبق بيانه .

ـ ثانيها : للإخبار عنه أنه مفصل وقد سبق نظيره .

ـ ثالثها : أن تفصيله ناشئ عن علمه سبحانه ؛ والناشئ عن الشيء لابد من أن يكون مسبوقاً به .



8 ـ قوله تعالى : ( ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ) البقرة 106 ، ووجه الاستدلال به أن الله سبحانه أخبر عن نسخ بعض آياته ببعض والنسخ هو المحو والإزالة ، وهو مستحيل على القديم ، واستحالته فيما إذا كان لفظيا أشد ، وقد أثبته جمهور العلماء ، وفيهم القائلون بقِدم القرآن .



9 ـ قوله تعالى : ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن ) البقرة 185 ، ووجه الاستدلال به أنه منزل ، والإنزال نقل من مكان إلى آخر ، وهو مستحيل على القديم لتعذر أن يكون لأحد عليه سلطان ، أو أن يكون متغير الأحوال ، ومثله في ذلك قوله تعالى : ( نزَّل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ) آل عمران 3/4 ، وقوله : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات .. الآية ) آل عمران 7 ، وقوله : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) النحل 44 ، وقوله : ( إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) الدخان 3 ، وفي تنزيله دلالة أخرى على حدوثه ، وهي أنه نزل نجوماً فهو منقسم ، والانقسام مستحيل على القديم .



10 ـ قوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) الحجر 9 ، ووجه الاستدلال به أن الله أخبر عنه بأنه محفوظ له ، ولا يكون المحفوظ إلا مخلوقاً لاستغناء القديم عن حفظ الحافظين ، ولذلك لا يجوز أن يقال حفظ الله حياته ، أو وجوده ، أو قدرته ، أو سمعه ، أو بصره ، أو علمه مع جواز أن يقال حفظ الله كلامه إن قصد به الكـلام المنزل لا الكلام النفسي ، والآية دليل على جوازه ، وأما حديث ( احفظ الله يحفظك .. ) فالمراد به المحافظة على طاعته تعالى أمراً ونهياً ، فلا يرد على ما ذكرته .



11 ـ قوله تعالى : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات ) آل عمران 7 ، ووجه الاستدلال به أنه منقسمة آياته إلى قسمين ، محكمات ومتشابهات ، وأن المحكمات أم - أي أصل - للمتشابهات يرجع بها إليها في التأويل ، وهو مستحيل فيما كان قديماً ، فلا يجوز أن يقال إن وجوده تعالى أم لحياته ، أو إن حياته أم لقدرته ، أو إن قدرته أم لإرادته أو أن نحو ذلك ، لما يقتضيه هذا القول من حدوث الصفات ، تعالى الله عنه .



12 ـ قوله تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) العنكبوت 49 ، ووجه الاستدلال به أن صدور العلماء حادثة ، والحادث لا يكون وعاء للقديم ، فلا يكون أحد من خلق الله محلاً لحياة الله ، أو قدرته ، أو علمه ، أو وجوده ، أو سمعه ، أو بصره ، أو أي صفة من صفاته ، وإنما تكون المخلوقات ، أوعية لمعلومات الله ومقدوراته ، ومرئياته ، لأنها مخلوقات مثلها .



13 ـ قوله تعالى : ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) البروج 21 ، والاستدلال به من وجهين :

ـ أولهما : أن اللوح مخلوق ، والمخلوق لا يكون وعاء لغير المخلوق ، كما سبق .

ـ ثانيهما : أن هاتين الآيتين سيقتا للتنويه بالقرآن وبيان عظم شأنه وعلو قدرته ، ولا يشك شاك أن ذلك يكون أكثر وضوحاً وأقوى حجة لو أخبر أنه قائم بذاته تعالى ، فلو كان أزليا قائماً به سبحانه لكان الأحرى أن يقال بل هو قرآن مجيد قائم بالعزيز الحميد ، أو نحو ذلك مما يدل على ما ذكرته .



14 ـ قوله تعالى : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه ) المائدة 48 ، ووجه الاستدلال به أنه أثبت كونه مسبوقاً بغيره ، والمسبوق لا يكون إلا حادثاً ، وأنه مهيمن على سابقه ، والهيمنة دليل على أن المهيمن عليه حادث ، وإذا كان ما قبله حادثاً فهو أحرى بصفة الحدوث .



15 ـ قوله تعالى : ( وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزَّلناه تنزيلاً ) الإسراء 106 ، ووجه الاستدلال به أن الله أخبر عنه بأنه مفروق ، والمفروق مصنوع لا يكون إلا حادثاً ، فهذه نماذج من الأدلة القرآنية على حدوثه .





وأما الأدلة من السنة فكثير من الروايات ، وإنما نقتصر منها على ما يلي :

1 ـ أخرج الإمام أحمد ، والبخاري ، وأبو داود عن أبي سعيد بن المعلى قال : كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه ، فقلت : يا رسول الله إني كنت أصلي ، فقال : ( ألم يقل الله ( استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ) ؟ ثم قال : ( لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ) ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ قال : الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ) .



2 ـ روى الإمام الربيع بن حبيب في مسنده عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ ( قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤاً أحد ) ويرددها ، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فكان الرجل يتقللها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( والذي نفسي بيده لإنها لتعدل ثلث القرآن ) ، وأخرجه الإمام البخاري من طريق أبي سعيد بلفظ ( والذي نفسي بيده إنها تعدل ثلث القرآن ) .



3 ـ روى البخاري عن أبي سعيد أيضاً ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : ( أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة ) فشق ذلك عليهم ، وقالوا أيُّنا يطيق ذلك يا رسول الله ؟ فقال : ( الله الواحد الصمد ثلث القرآن ) .



4 ـ روى الإمام أحمد عن أبي سعيد كذلك قال بات قتادة بن النعمان يقرأ الليل كله ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنها لَتَعْدِلُ نِصْفَ الْقُرْآن -ِ أَوْ ثُلُثَهُ ) ، وأخرج نحوه مسلم والترمذي من طريق أبي هريرة رضي الله عنه ، ونحوه عند الإمام أحمد والترمذي والنسائي من طريق أبي أيوب الأنصاري ، وقال الترمذي : وفي الباب عن أبي الدرداء ، وأبي سعيد ، وقتادة بن النعمان ، وأبي هريرة ، وأنس ، وابن عمر ، وأبي مسعود ، وروى مثله الإمام أحمد والنسائي من طريق أبي بن كعب ، والإمام أحمد والنسائي كذلك من طريق أبي مسعود ، وأم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مرفوعاً ، وروياه مع مسلم من حديث أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم .



5 ـ روى أحمد ومحمد بن نصر والطبراني بسند صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( البقرة سنام القرآن وذروته نزل مع كل آية منها ثمانون ملكاً ، واستخرجت ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) من تحت العرش فوصلت بها ) .



6 ـ أخرج أبو يعلى وابن حبان ، والطبراني والبيهقي عن سهل بن سعد الساعدي قال : ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إن لكل شيء سناما وسنام القرآن سورة البقرة من قرأها في بيته نهاراً لم يدخله الشيطان ثلاثة أيام ) .



ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث على خلقه ، أنها ناصة على أن بعضه أعظم من بعض وأفضل ، وأن بعضه سنام لسائره ، وأن بعضه كان مفصولاً عن غيره ثم وصل به ، وكل ذلك غير جائز على القديم ، ألا ترى أنه لا يجوز تفضيل بعض صفات الله على بعض ، فلا يقال إن علمه أفضل من قدرته أو العكس ، ولا يقال إن حياته أعظم من سمعه ، أو بصره أو قدرته ، أو إرادته ، وإذا امتنع ذلك في مجموع الصفات ، فلأن يمتنع في الصفة الواحدة أحرى ، فلا يبعَّض علم الله فيفضل بعضه على بعض ، ولا تجزأ قدرته فيجعل منها أعظم من غيره ، كما لا يمكن أن يكون جزءاً من صفة منفصلاً عنها ثم يوصل بها .







--------------------------------------------------------------------------------

(1) هذه الحجج ملخصة - مع زيادة وتهذيب - من رسالة الإمام محمد بن أفلح بن عبد الوهاب الرستمي - رحمه الله تعالى - في خلق القرآن ، وهي موجودة في كتاب الجواهر للإمام البرادي ، أنظر الجواهر المنتقاة ص183 - 185، ص191-192 ط المطابع البارونية بمصر عام 1302هـ.



(1) ، الجواهر المنتقاة / للبرادي ص186 .

(2) الجواهر المنتقاة / للبرادي ص187 .

(1) الجواهر المنتقاة للبرادي ص187/188.



(1) الجواهر المنتقاة للبرادي ص189/190 .
  #26  
قديم 26/09/2004, 11:56 AM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

خاتمة

في نتيجة ما تقدم

لست بمرتاب أخي القارئ أنك بعد اطلاعك على ما احتواه هذا المبحث من أخذ ورد ، واجتذاب ودفع ، في مسألة خلق القرآن ، تدرك أن الصواب والسلامة في اعتقاد أنه كسائر الموجودات ، غير الله عز وجل ، كائن بعد أن لم يكن ، وما كان كذلك فهو مخلوق قطعاً ، كما تدرك أن القول بقِدمه يفتح الباب على مصراعيه لمن يقول بجواز تعدد القدماء حتى يفضي الأمر إلى القول بقِدم العالم ، وقد رأيت أثر ذلك فيما نقلته لك من كلام المنتصرين للقول بقِدمه ، والمتشددين على القائلين بحدوثه ، فقد أفضى الحال ببعضهم إلى القول بقِدم سائر الكلام ، لما بينهما من التشابه في أصول الأحرف والكلمات التي ينتظم منها كل منهما ، وأفضى ببعضهم إلى القول بقِدم الجلد والوتد وما حوله من الجدار ، وما الذي يمنع بعد ذلك من الانجرار وراء هذا التسلسل غير المحدود ، حتى ينتهي إلى القول بقِدم كل شيء ، أو إلى فلسفة وحدة الوجود والعياذ بالله .

وقد أدركتَ ضعف الشبهات التي تعلقوا بها وتناقض كلامهم واضطراب استدلالهم ، فإن أقوى ما استندوا إليه في نفي الخلق عنه أنه كلام مضاف إلى الله تعالى في نحو قوله سبحانه : ( فأجِرْهُ حتى يسمع كلام الله ) التوبة 6 ، وقد غفلوا عن كونهم بهذا الاستدلال يعطون النصارى حجة فيما يعتقدونه من أن المسيح عليه السلام ابن لله أو جزء منه ، لإخباره تعالى عنه أنه ( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ) النساء 171 .

ومع هذا كله فإنني كنت أود أن لا أتعرض لهذه المسألة بإيجاب ولا سلب ، رغبة مني في الاقتصار على المأثور عن الرعيل الأول من هذه الأمة ، وحرصاً على عدم إثارة أي جدل يزعج أحداً من المسلمين ، ولكني ماذا أصنع والألسنة لم تهدأ ، والأقلام لم تتوقف عن إثارة هذا الموضوع بغير هدى ولا دليل ، ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، بل تجاوزه إلى تكفير من قال كلمة الحق أو دعا إليه ، فرأيتني بسبب ذلك ملزماً أن أقول كلمة هادئة هادفة - ليس لي وراءها من قصد إلا رضى الله سبحانه - تكشف بيد الحجة ستار الشبهة عن وجه الحقيقة المشرقة سائلاً الله تعالى توفيقه في القول والعمل .

ومن قرأ ما قلته بإنصاف يجده أبعد ما يكون عن التأثر بالعوامل النفسية والاندفاع وراء العواطف الرعناء ، إذ لم يسلس قيادهُ إلاَّ للحجة ولم يقتنع إلا بالموضوعية المحضة ، والله من وراء القصد وهو حسبي ونعم الوكيل ..
  #27  
قديم 26/09/2004, 01:49 PM
المستبلي المستبلي غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 31/01/2004
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,569
نَزه إلهـك أن يُـرى كـي تعرفـه ------- أتُراكَ تعرفـه وتُثبـتُ ذى الصفـه
واعرف مقامـك دون مـا حاولتَـهُ ------- إن التـي حاولتَهـا لـك متلـــــفـه
أتعبتَ نفسـك فـي ظنـون قُلَّـب -------- والحـق ان ظنـوا وهمـك مخلفـه
فيـهـا تـوحـد وتجـعـلـه لأغــــ ------- راض الطبيعـة عرضـه مستهدفـه


رمـزت عـن تجسيمـه ونصبتـه ------- غرضاً لعينـك مـن وراء البلكفـة
وأحلت كيف ومـا وأيـن وشبههـا --------- وعبـدتَ ذاتـا بالحجـاب مكنفـه
هذا التناقض فـي اعتقـادك شاهـد ------- يقضي عليك بـأن دينـك عجرفـه
ان كنـتَ تعقـل مـا تـراه فهـذه ------ ---- ماهـيـة مـحـدودة متـــــــوقـفـه
أو لسـت تعقلـه فانـت مخـلـط --------- درك ولا درك فـايـن المـعـرفـه
ان قلـت معلومـاً أحطـت بذاتـه ---- ----- وجعلـت عجـزك قـدرة متصرفـه


أو قلـت مجمـولاً فانـت معـطـل -------- أعبدت مجمـولا ًوعطلـت الصفـه
أثبـت ادراك الـعـوارض ذاتــه ------- ان كنت درك العين لـــــن تستنكفـه
يستلـزم الادراك ويلـك مُـدركـا ------- متحـيـزا ذا صــورة متــــكيـفـه
تنفـي التحيـز والحلـول وتثبـتُ --------- المستلزم المنفي مـا هـذا الســفـه
إن قلت أمـر خـارج عـن فهمنـا --------- واتيتـنــــــــا بقـضـيـة متكـــــلـفـه
فاليـك لــو جردتـهـا عقلـيـة ---------- لرايت نفسك في الهـــــوى متعسفـه
إن كنـت تدركـه بغيـر وسيطـة --------- فالفعل ليـس لفاعـل لــــن نعرفـه
أولا فـاي وسيطـة تسطـو بهـا -------- فتــــــرى عيانـا ذاتــــه متـــكشـفـه

وحديثكـم يقضـي برؤيتكـم لــه-------- بالعيـن لا حـس سواهـا عرفــــه
ردفـاً لقـول الله نـاظـرة ومــا--------- في حجتيك علـى ادعائـك مـعرفـه
هب اننـي سلمـت فهمـك منهمـا------------ أين استقرت منهــمـا تلـك الصفـه
هـل اتيتـا الالعيـنـك رؤيــة ---------- حملا على بهتـان أهـل السفــــسفـه
تركوا المجاز على هواهـم هاهنـا ----------- وتقلـدوه فــي أمــور متلـفـه
اترى مجازا فـي الجـوارح سالمـا ---------- ً إن كنت في هـذا المقـام معنفـه
تأبـي حقيقـة الاستـواء لـذاتـه-------- الا هـنــــا للزومـــــــــــهـا متــــالـفـه

اوجبـت رؤيتـه فأوجـب سمعـه --------- وعليهما فله الذي لـك مـن صفـه
ان قلت قـد سمـع الكليـم كلامـه --------- اترى حقيقة ذاك صوتاً عـن شفـه
كـلا بقـد خلـق الالــهُ لاذنــه ----------- صوتـا فعرفـه بـه مـا عـــــــــرفـه
ان قسـت رؤيتـه علـى تكليمـه ----------- لـزم الحـدوث لمـدرك المتشوفـه
فيكـون مخلوقـا وتزعـم خالـقـا --------- بالحـــــس تدركـه وتـدرك موقفـه
أم غيـرة جردتـه مــن نفـسـه ---------- أم غيره هو ذاتـه ام مـا الصفـه
هـذا هـو التجديـد والتحديـد والــ ---------- تقسيـم والتعديـد مـا متعسـفـه
فاذا نصبتَ سـؤال موسـى حجـة ----------- ونبـذت أحكـام العقـول مزيـفـه
قل لي أموسى كـان يجهـل منعهـا ---------- من قبل صاعقـة النكيـر المرجفـه

فتسومـه النقصـان فـي توحيـده ------------ وتكون اكمل في الحجـى والمعرفـه
أم كـان يعلـم منعـهـا فـارادهـا ------------- عـدوا فتنسـب للرسالـة عجرفـه
أم كـان يعلـم منعهـا بحياتـه الـــ ----------- دنيـا فاعجـل ربـــــــــه ليشـرفـه
وعلـى الثلاثـة فالنقيصـة عنـدَهُ ------------ بسؤالهـا اولا فليسـك منصـفـه
بل كـان يعلـم منعهـا دنيـا وأخـــ ---------- رى والسؤال جرى لأجل ذوي السفه
كفـروا بـه أو ينظـروه جـهـرة --------- فنهــــــــاهـم فعتـوا عــــــــــتـواً خـوفـه
فــاراد مــن حـــرصٍ عــلــى ايـمـانــهــم ------ اقـنـاعـهـم بـالـزجـر عــن تـلــك الـصـفــه
أتــراه يـسـألـهــا الـكـلــيــم لـنـفــســه ------ طـمـعـاً بـهــا ولـهــا الـيـهــود مُـعـنَّـفــه
والله مـــا جــهــل الـمــقــامَ ولا نــســـي ------- عـــز الــجــلال ولا تـخــطــى مـوقــفــه


لــكــن لـكــبــح عـنــادهــم وعـتــوهــم ------ عـرض الـســؤال وقـلـبــه فــي الـمـعـرفــه
أو لــم يـصــرخ أنــهــم سـفــهــاء ُمـــفــ ---------- تـونــون عـنــد الـتــوب مـمــا أسـلــفــه
ومـتــابُــهُ مـــن جـريــهــا بـلـســانــه --------- مــــن دون اذن أو لــصــعـــقٍ خـــوفـــه
أعـمـيــت عــن تـابـيــد لــن مـنـفـيـهــا------- وجـعـلـت فــي الـتـأكـيــد لــن مـتـوقـفــه
مــا بــال تـحـصـرهــا عـلــى تـأكـيـدهــا----------- لــولا الـتـجـاهــل فــي مـقــام الـمـعـرفــه
هــب إن بــرهــان الـعــقــول رَفـضــتــَه --------- فـالـنـص تـسـتـر شـمـســه مـتـكـشـفــه

أيـقــول ربــك " لـــن تــرانــي"فــارتــدع ----------- وتـقــول ســوف أراك خــلــف الـبـلـكــفــه
أو لــيــســه هــــذا عــنـــاد ظــاهـــر -------------- فـاذهــب أمـامــك مـوعــد لــن تـخـلــفــه
أبــآيـــة الانــعـــام أدنــــى شــبــهــة --------- أم آيــــة الاعــــراف وَيــــكُ مــحــَّرفــه
هـل فـيـهـمـا بـعـض الـتـشـابــه مـوهـمــا ------------- ايـجــاب سـلـبـهـمــا لـمــن لــم يـانـفــه
كــلا ولـكــن الـخــوى سَــلــبَ الُـنــهــى ------------ واضـلـهــا فـتـهـوكــت فـــي الـزخــرفــه
ومـن الـمـصـيـبــة ضــل سـعــيُ مـعـاشــر --------- قـلـدتـهــم تــخــذوا هــواهــم مـزلــفــه


ألـمـحــت مــن نــور الـتـجـلــي لـمـحــة ً --------- فـجـعـلــت ذات الـحــق تـلــك مـكـشــفــه
سـبـحـانــه جــلــت صـفــات كـمــالــه ---------- عـن كـل مـا لـحـق الـحــدوث مــن الـصـفــه
الـطــور أتـحـفــه الـتـجـلــي عــن حـقــيـ ----------- قـتــه ومـوســى مـصـعــق مــا اتـحــفــه
أجــهــلــت أن تـجــلــيــات جـــلالـــه --------- ظـهــرت لـسـائـلــة الـمـحــال مـخــوفــه
طـلــب الـتــي نـأفــت خـصـائــص ذاتـــه ---------- فـاسـتـخـطـفـتـهـم غـضـبـة مـسـتـخـطـفـه
انــكــرت دك الــطــور مــنـــه بــآيـــة --------- زجــرا ًلـعـاتـيــة الـيــهــود الـمـســرفــه

فـهـب الـتـجـلــي مــا تـقــول فـأيــن فــي ---------- أثــنــاء آيــتــه مــقـــام الـبـلــكــفــه
واذا أنــفـــت تــجــلــيــا بـــالآيـــة الـــ ---------- كـبــرى وحـســبــك ضــلــة أن تـأنــفــه
فــجــلالـــه وجــمــالـــه وكــمــالـــه ------------ شـاهـدتــه فــي الــذات أم فـعــل الـصــفــه
أعــلــمــت ربــــك قـــــادراً إلا بـــــمـا ---------- ظـهــر الاقـتــدار لــذاتــه الـمـتـصــرفــه
مــاذا تــرى فــي جــاء ربــك هــل عـنــى ----------- بــالــذات أم أمـــر الـقـيــامــة كـشــفــه
مـــا جـــاء إلا أمـــره وعـظــيــم قــــد ---------- رتــه وأجــنــاس الـخـلـيــقــة مـوقــفــه
أتــراه جـــآء مـــع الـمــلائــك نـفــســه ---------- بـالــذات فــي ظـلــل الـغـمــام مـكـنــفــه

هـــل جـــاء إلا أخــــذه وألــيـــم بــــطـــــ --------- شـتــه بـجــاحــدة لـــه مـسـتـنـكــفــه
أظـنـنــت مـحـجـوبـيــن عـــن جـنــاتــه ------------ وشـهـود عـيــن الـرحـمــة الـمـتـعـطـفــه
مـنــح الـحـجــاب عـيـونـهــم عــن ذاتــه ------------ اخـطــأت أو فـاعــبُــد حـجــابــاً كـنــفــه
هــل زاد أم نـقــصَ الـحــجــاب أم اســتــوى ---------- وتـــراه مـــن أي الـجــهــات تـكــنــفــه
مــزق حـجــابَــك يـــا مـجــســمَ ربـــه --------- وحـجــاب جـهـلــك انـــه مـــا أكـنَــفَــه

واعــرج إلــى تـقـديــس ذات الـحــق بـالـ ---------- نــور الــذي أوحــى وَحَـسُــبــكَ مـعــرفــه
قـــدس نــعــوتَ الله عــــن مـخــلــوقــه ---------- وانـبــذ نـعــوتَ الـبـدعــة الـمـتـحــرفــه
واذا نـزعــتَ إلــى الـهــدى عـــن غــيــره ----------- فـالاسـتـقــامــة نــزعــة الـمـتـصــوفــه
لـلــه نـحـلـتـنــا ونــعــم َ سـبـيـلــهــا ------------ أصــلا ًوفـرعــاً لا تـخــالــف مـصـحــفــه
هـي عـيـن مـا نــزل الأمـيــن بــه عـلــى الــ ------- هــادي الأمـيــن ومـــا ســواهــا زخــرفــه
لا نـعـبــد الـمـحـســوس ذاتــا كـــل مـــحـــ --------- ســــوس حــــدوث ذاتــــه مـتــألــفــه
بــل نـعـبــد الـــرب الـــذي عـرفـانــنــا ---------- أيـــاه عــرفــان بـــأن لـــن نــعــرفــه

أي عـجـزنــا عـــن دركـــه وهـــو دركـــه ----------- لا درك مـــا هـيــاتــنــا الـمـتـكــيــفــه
تـجــريــدنــا لـصــفــاتــه ولـــذاتـــه ----------- تـجـريــده هــو نـفـســه لـــن نـعــرفــه
تـوحـيــدنــا ايـــاه تــوحـــيد الــقُـــرآ ن ------------- بـذاتــه والـفــعــل مــنــه الـمـعــرفــه

ونـجــلِّــه عـــن رؤيـــة بـالــعــيــن أو -------- بـالـقـلـب فــي الـدنـيــا وأخــرى مـزلـفــه
والــديــن نــأبـــى أن نــقــلــده رجــــالا--------- غـيــر مـعـصـومـيــن عــمــا حــرفــه
ونـقــلــد الـــرأي الـمـطــابــق أصــلــه ----------- لـمـحـقــق اسـتـنـبـاطــه عــن مـعــرفــه
أفـلــت سـانـحــة الـهــدر فـاربــع عــلــى ---------- ضـلـع الـعـمــى وابــغ الـضـلالــة مـزلـفــه
أضــلــلــت صـديــقــيــة عــمــريـــة --------- وهـبـيــة تـهــب الـهــدايــة مـنـصــفــه
بــدريـــة أحــديـــة مــــا حــكــمـــت -------- عَــمــرا عــلــى قـرانــهــا لـيـحــرفــه
شـربــت بـمــاء الـنـهــر كــأس نـبـيـهــا----------- كـأســا بـامـزجــة الـرحــيــق مـقــروفــة
لا تــدَعــي هــتــك الــجـــلال بــرؤيـــة----------- حـسـب الـعـقـول مــن الـمـقــام الـمـعـرفــه

أقـصــر مـطـامـعــك الــتــي طـولـتــهــا----------- إن الـمـطـامــع فـــي مــحــال مـخـلــفــه
انـصـف حـقـيـقــة لــن تـرانــي تـلـقَـهــا-------- نـفـيــاً يــؤيــد قــاطــع الـمـتـشــرفــه
وانـظــر إلــى الـشــأن الـمـحــال وقـوعــه ----------- اذ بـالـمــحــال ثـبــوتــه قـــد أوقــفـــه
لــو جــاز يـــك بـالـمــحــال مـعـلــقــا ً ---------- كــلا ولا صـعــقــت يــهــود بـمـرجــفــه
قــد كــان فــي الـعـلــم الـقـديــم بــانــه------------ لا يـسـتـقــر الــطــور ســاعــة أرجــفــه
وان ادعـيــت بــأن هــذا الـمــنــع فـــي الــــ ---------- دنــيــا وبــالأخــرى حــقــوق مـوقــفــه
قـلــنــا حـكــمــت بــانــه مـتــغــيــر --------- لـمـا فـرضــت هـنــاك تـغـيـيــر الـصـفــه

وكـمــا لــه بــالــذات لــيــس مـوقــتــاً ------- كـــلا ولــيــس صـفــاتــه مـتــطــرفــه
مـا يـسـتـحـيـل عـلـيـه فـيـمــا لــم يــزل-------- قـــد رتــمــوه لـغــايــة الـمـتـشــوفــه
لا تـسـتـحــيــل صــفــات خـالــقــنــا الــ ---------- قـديــم ولا تـغـيــره الــدهــور الـمــردفــه
سـبـحــانــه لا مـنــتــهــى لـكــمــالــه -------- اذ لـــم يــكــن لـبــدايــة مـسـتـأنــفــه

عـد عـن طـريـقــك مــا لـعـيـنــك مـنـفــذٌ --------- الا إلــــى كـيــفــيــة مـســتــهــدفــه
إلا إلــــى جــهـــة تــحـــدد جَــوهـــرا ----------- ً مـتـلـبـســا ًعـرضــاً تـحـقــق مـوقـفــه
أولا فـلــيــســت رؤيــــة ًمــعــقــولــة ----------- فـنــرى حـديـثـكــم الـيــهــا مـصــرفــه
بـيـنـي وبـيـنـكـم الـكـتــاب فـقــد قـضــى -------- إنـــا عــلــى رشـــدٍ وان بــكــم ســفــه
لا تـجـعـلـوا الـتـوحـيـد عـرضــه وهـمـكــم ---------- غـرض الـحـقـيـقـة مـنـه عـيـن الـمـعـرفــه
مــا أبـعــد الـعـرفــان عـــن ألـبـابــكــم ---------- إن كــان تـقـديــس الـمـهـيـمــن بـلـكـفــه

آخر تحرير بواسطة المستبلي : 26/09/2004 الساعة 06:21 PM
  #28  
قديم 13/10/2004, 04:12 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

في تعريف الخلود والكبائر

أما الخلود فهو البقاء الدائم ، قال صاحب اللسان : ( الخلد دوام البقاء في دار لا يخرج منها ، خَلَدَ / يَخْلُد / خُلْداً / وخلوداً بقي وأقام ، ودار الخلد الآخرة لبقاء أهلها فيها ، وخلده الله وأخلده تخليداً وقد أخلد الله أهل دار الخلد فيها وخلدهم ) (1).

ومنه قوله تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مِتَّ فهم الخالدون ) الأنبياء 34 .

وكلام صاحب اللسان يدل على أن الخلد موضوع لغة للدوام الأبدي ، وهو مذهب الزمخشري وابن عطية والقرطبي والشوكاني من المفسرين ، وانتصر له أتم الانتصار العلامة البطاشي -رحمة الله تعالى عليه-.

واستعمال الخلود في المكث الطويل ، كقول لبيد في معلقته :

صُمًّا خوالد مـا يبين كلامها

وقول الأعشى :

ت لكم خالداً خلود الجبال


لن تزالوا كذالكم ثم لا زلـ



محمول عند هؤلاء على التجوز .

وذهب الفخر الرازي وأبو حيان وأبو السعود وقطب الأئمة إلى أنه موضوع للمكث الطويل ؛ مع قطع النظر عن دوامه أو انقطاعه ، فهو عند هؤلاء من باب المشترك الذي يتعين ما يراد به بالقرينة الدالة عليه ، وجعل هؤلاء دوام الثواب والعقاب بالدلائل الأخرى من الكتاب والسنة غير لفظة الخلود ، كاقترانه بالأبد في قوله تعالى - في اللذين آمنوا وعملوا الصالحات -: ( جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ) البينة 8 ، وقوله : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً) الجن 23 ، وما يستفاد من الأحاديث الصحيحة الصريحة في خلود أهل الدارين فيهما ، وإجماع الأمة - إلا من لا يعتد به - على عدم فنائهما .

وهؤلاء نظروا إلى إطلاق الخلود على المكث المنقطع في كلام العرب كبيتي لبيد والأعشى،وأن الحقيقة هي الأصل في الاستعمال.

وتعقبهم العلامة البطاشي بقوله: ( كما أخذت العرب من الخلد قولهم للأحجار ( خوالد ) فقد أخذوا من الأبد قولهم للوحوش ( أوابد )(2) .

وقال أيضاً : ( إن العرب كما أخذت أيضاً من الخلد خوالد الأحجار فقد أخذت من الأبد أوابد وحوش القفار ، وهذه الأوابد أقل بقاء من تلك الخوالد في الاعتبار)(3).

وحمل العلامة البطاشي ما جاء في الشعر العربي من إطلاق وصف الخلود على الجمادات ذات العمر المديد ، على عقيدة الجاهلية في اعتقاد عدم فناء الكون ، واستدل له بقول زهير بن أبي سلمى :



ولا خالداً إلا الجبال الرواسيا
وأيامـه معــدودة واللياليا


ألا لا أرى على الحوادث باقياً
وإلا السمـاء والنجـوم وربنا



قال : ( فلو لم يكن مراده من الخلود معنى الدوام لما غالى حتى أشركها في الدوام مع الله سبحانه ، بخلاف القول في التأبيد ؛ فإن انقطاعه بالإضافة إلى الدنيا ليس عنه محيد )(1).

وبحسب هذا المفهوم - وهو الدوام الأبدي - كان اختلاف الأمة في خلود المجرمين في النار كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

وأما الكبائر فهي جمع كبيرة ، وهي كل ما عظم من المعصية ، فترتب على ارتكابها وعيد في القرآن أو السنة الصحيحة ، سواء شرع لها حد في الدنيا كالزنا والسرقة وقذف المحصنات ، أم لم يشرع كأكل الربا والميتة والدم ولحم الخنزير .



--------------------------------------------------------------------------------

(1) لسان العرب ج2 ص1225 .

(2) رسالة في الخلود للشيخ العلامة سلطان بن محمد البطاشي مدرجة في تمهيد قواعد الإيمان ج2 ص19 .

(3) المرجع السابق ص20 .

(4) المرجع السابق ص20 .
  #29  
قديم 13/10/2004, 04:15 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الأول

في اختلاف الناس في خلود الجنة والنار



اقتضت مشيئة الله سبحانه أن تكون الحياة في الدار الدنيا حياة محدودة حتى لا يشارك الخالق في صفة البقاء ، ولم يخالف في ذلك أحد من الناس لأن تناهي الأعمار فيها أمر لا يتفاوت الناس في معرفته ، وقد جعلها الله سبحانه مرحلة من مراحل العبور التي يجتازها الإنسان ، والناس فيها متفاوتون في الراحة والتعب والنعيم والبؤس ، ولا يعود تفاوتهم هذا إلى قدر تفاوتهم في النفع والضر ، والاستقامة والانحراف ، والطاعة والعصيان ، فرُبَّ ذي سريرة طاهرة وخلق مستقيم ، ومسارعة إلى الخير يقضي حياته كلها في نكد وبؤس ، ومعاناة وحرمان ، ورُبَّ ذي سريرة خبيثة ، وشراسة في الأخلاق ، وسوء في المعاملة يتسنَّى له ما يريده ، وتتوفر له أسباب الراحة ، وتجتمع له أنواع الملاذَ ، وفي هذا ما يجعل الإنسان يعتقد اعتقاداً جازماً أن النعمة والبؤس في الدنيا ليسا جزاءً على ما يقدمه العبد من خير أو شر ، مع القطع بأن الناقد بصير ، والحاكم عدل ، فلذلك كانت النفوس تتطلع بفطرتها إلى حياة بعد هذه الحياة يجني فيها كل عبد ما غرس ، ويحصد ما زرع ، ويجد ما قدَّم ، وقد تعاقبت الرسالات الإلهية مبشرة ومنذرة بتلك الحياة ، ولم يختلف المؤمنون بها في كونها تختلف عن الحياة الدنيوية المنصرمة ، فهي حياة خلود ودوام إلا من شذ فزعم أنها متناهية وإن كانت أطول مدة وأوسع أمداً من الحياة الأولى .

وهؤلاء الشاذون طائفتان :

ـ أولاهما : محسوبة على هذه الأمة وهي الجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان .

ـ ثانيهما : لا صلة لها بالأمة المحمدية لعدم إيمانها بالكتاب ، وبنائها أفكارها على أسس مادية بحتة.

· أما الطائفة الأولى ـ وهي الجهمية ـ فقد استندت إلى شبهتين :

ـ الأولى : أن دوام المخلوقين مناف لاتصاف الله بالآخرية ، فإن من أسماء الله الأول والآخر ، ومعنى أوليته سبقه على كل موجود ، وهكذا يلزم أن يكون معنى آخريته بقاؤه بعد كل موجود .

ـ الثانية : أن أنفاس أهل الدارين لا تخلو إما أن تكون معلومة له تعالى وهو يستلزم حصرها ، وحصرها لا يتفق مع دوامهم ، وإما أن تكون غير معلومة ، وهو لا يتفق مع وصفه أنه بكل شيء عليم .

وأجيب عن الأولى ، بأن دوام حياة المخلوقين في الدار الآخرة لا ينافي آخريته تعالى ، لاختلاف دوامهم عن دوامه ، فإن دوامه ذاتي ودوامهم بإدامته إياهم ، فلذلك كان حقيقاً بصفة الآخرية دونهم .

وعن الثانية ، أن استمرار أنفاسهم لا ينافي أن يكون علمه تعالى محيطاً بها فإن علمه علم ذاتي لا يجوز أن يقاس على علم المخلوقين .

* وأما الطائفة الثانية فقد استدلت لمذهبها بفلسفة مادية ، مبنية على النظر في طبائع الأشياء المحسوسة ، وملخصها أن بقاء الأجسام متعذر لأنها مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية ، فهي معرضة للإستحالات المؤدية إلى الانحلال .

وأجيب بأن اعتقاد قدرة الله تعالى على كل شيء ينفي هذا الإشكال من أصله ، إذ لا يمتنع أن تعاد الأبدان بطبيعة أخرى لا تتحلل معها ، أو أن تكون كلما تحلل منها شيء عُوِّضت عنه بما يخلفه.

وإيقان المؤمنين أن الله تعالى على كل شيء قدير لا يدع لهذه الشبهة أدنى أثر في نفوسهم ، فإن الله سبحانه الذي طبع الأجسام في هذه الدار الدنيا بما طبعها به ، من التضاد بين أجزائها المركبة ، لا يعجزه أن يطبعها يوم القيامة بطبيعة أخرى مغايرة لما هي عليه في الدنيا ، ولعالم الغيب طبائع تكوينية خاصة تختلف كل الاختلاف عن طبائع عالم الشهود ، فلا يجوز قياس أحدهما على الآخر ، كما أن للبقاء المطلق أحوالاً تميزه عن البقاء المحدود .

وإذا أدركت أن الحياة في الدار الآخرة لا تتصرم لأنها حياة مصيرية وليست حياة مرحلية ، وحياة جزاء لا حياة كسب ، فاعلم أن جزاءها جزاء أبدي ، سعادة كان أو شقاء ، إذ لا فرق بين ثوابها وعذابها ، وإن ذهبت طوائف من الناس إلى التفرقة بينهما ، وفي مقدمة هؤلاء اليهود ، الذين حكى الله عنهم هذا القول في سلسلة تعداد مثالبهم ، وأنكره عليهم ، وطالبهم بدليل يستندون إليه فيه ، وبيَّن بأصرح عبارة أن الحق خلاف ما يقولون ، وذلك حيث قال : ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون . بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) البقرة 80/81 .

وبهذا تعلم أخي القارئ أن القول بتحول الفجار من العذاب إلى الثواب ما هو إلا أثر من آثار الغزو اليهودي للفكر الإسلامي ، وقد تنبه لذلك العلاّمة الجليل السيد محمد رشيد رضا ، فقال في مقدمة تفسيره لسورة البقرة من المنار : " القاعدة السادسة أن الجزاء على الإيمان والعمل معاً لأن الدين إيمان وعمل ، ومن الغرور أن يظن المنتمي إلى دين نبي من الأنبياء أن ينجو من الخلود في النار بمجرد الانتماء ، والشاهد عليه ما حكاه الله لنا عن بني إسرائيل من غرورهم بدينهم ، وما رد به عليهم حتى لا نتبع سننهم فيه ، وهو : ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة ) البقرة 80/81 ، وما حكاه عن اليهود والنصارى جميعاً من قولهم : ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى تلك أمانيهم .. ) الخ الآيتين 111/112 ، ولكننا قد اتبعنا سننهم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، مصداقاً لما ورد في الحديث الصحيح ، وإنما نمتاز عليهم بأن المتبعين لهم بعض الأمة لا كلها ، وبحفظ نص كتابنا كله ، وضبط سنة نبينا في بيانه ، وبأن حجة أهل العلم والهدى منا قائمة إلى يوم القيامة "(1).

وإذا كنا نُسَرُّ بإماطة هذا العلامة الكبير لحجاب التقليد عن عينيه حتى أبصر الحقيقة واضحة ، فأرسل لِقَلمه العنان لتسجيلها بهذه العبارة الواضحة هنا ، وتقريرها مرة بعد مرة في تفسيره لآيات من سورة البقرة وآل عمران وهود ، فإنا نأسف على وقوعه نفسه في هذه الأحبولة حتى تردد في هذه المسألة ، فقال تارة بالتمييز بين عصاة الموحدين وغيرهم ، كما في تفسيره لسورة يونس ، وذهب تارة أخرى إلى القول بانقطاع عذاب النار على الإطلاق متأثرأ بقول ابن القيِّم الموافق للجهمية في ذلك كما في تفسيره لسورة الأنعام .. وسأنقل إليك أخي القارئ ما يمكنني نقله من نصوص عباراته موثقة حسب اقتضاء المقام .

ومن خلال هذا الذي ذكرته هنا تعلم أخي القارئ أن ابن القيم قد أخذ في هذه القضية بشطر من مذهب الجهمية كما سيأتي بيانه إن شاء الله .

وذهب الأشعرية ، ومن حذا حذوهم من الطوائف المنتسبة إلى السنة ، إلى خلود الدارين ، وعدم انقطاع ثواب الأبرار ، وعذاب غير الموحدين من الفجار ، أما الموحدون ، فقالوا : إنهم يعذبون إلى أمد ثم يخرجون من النار ويدخلون الجنة فيتنعمون ويخلدون فيها مع الأبرار .

وعقيدتنا معشر الإباضية أن كل من دخل النار من عصاة الموحدين والمشركين مخلدون فيها إلى غير أمد ، كما أن من دخل الجنة من عباد الله الأبرار لا يخرجون منها ، إذ الداران دارا خلود ، ووافقَنَا على ذلك المعتزلة والخوارج على اختلاف طوائفهم ، وإنما خالَفَنا الخوارج من حيث إنهم يحكمون على كل معصية تؤدي إلى العذاب بالشرك المخرج من الملة ، فخالفوا بذلك نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة .


--------------------------------------------------------------------------------

(1) المنار ج1 ص112 الطبعة الرابعة -دار المنار .
  #30  
قديم 13/10/2004, 04:17 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم



الفصل الثاني

في أدلة القائلين بانقطاع العذاب

وقد علمتّ أن هؤلاء طائفتان ، طائفة تقول بانقطاع عذاب كل من في النار موحد ومشرك ، وهم جهم وأصحابه ومن سار في ركابهم كابن القيِّم ، وطائفة تقول بانقطاع عذاب الموحدين دون عذاب المشركين .

أما الطائفة الأولى فقد تعلقت بآيات من القرآن ، ورواية عن الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - وببعض النظريات الفلسفية .

أما الآيات فهي كما يلي :

1 ـ قوله تعالى : ( قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم ) الأنعام 128.

2 ـ قوله تعالى : ( فأمَّا الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق . خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعَّال لما يريد ) هود 106/107.

ووجه الاستدلال بالآيتين ما فيهما من استثناء مشيئة الله تعالى مع ما في آية هود من جعل بقائهم في النار منوطاً بدوام السماوات والأرض مع العلم أن السماوات والأرض فانية ، والمعلق وجوده على وجود الفاني فهو فان .

وأجيب عن الأول بأجوبة متعددة أقواها أن الاستثناء لا يدل على الانقطاع ، لأن الاستثناء بمشيئة الله يرد في كلام الله للتنبيه على أن المخبر عنه كائن بمشيته عز وجل ، فلو شاء خلافه لكان ، وذلك كما في قوله تعالى : ( سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) الأعلى 6/7 ، مع القطع بعدم نسيانه صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحاه الله إليه وأقرأه إياه ، ومثل ذلك تعليق وعده تعالى الجازم بمشيئته كما في قوله سبحانه : ( لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين ) الفتح 27 ، مع ما عهد من كون ( إن ) تدخل على الشرط غير المقطوع به وهو هنا لا يجوز قطعاً لمنافاته لتأكيد وعد الدخول بلام القسم ونون التوكيد مع ما سبقه من قوله سبحانه : ( لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق )

وأجيب عن الثاني بأجوبة متعددة بأجوبة متعددة كذلك أوْلاها بالاعتماد عليه أن السماوات والأرض المقصودة في هذه الآيات ليست سماوات الدنيا وأرضها ، وإنما المراد بها ما أظلهم وما أقلهم من سماوات الآخرة وأرضها ، لأن دخول الجنة الذي وُعد به الأبرار ، ودخول النار الذي توعد به الفجار لا يكون مع بقاء السماوات والأرض الدنيوية ، لأن ميقاتهما ينتهي بعدما تتداعَى أجزاء الكون في نشأته الأولى ، ويأتي ما وعد الله به في قوله : ( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) إبراهيم 48.

ولا يخفى على ذي بال أن الاستدلال على انقطاع عذاب أهل النار بالاستثناء الذي في آيتي الأنعام وهود ، والتعليق بدوام السماوات والأرض في آية هو يُلزمهم أن يقولوا مثل ذلك في ثواب المؤمنين في الجنة ، لأن آية هود أُتبِعَت بقول تعالى : ( وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك ) هود 108 ، فالاستثناء كالاستثناء ، والتعليق كالتعليق ، وهذا الإلزام خاص بابن القيم ومن نحا نحوه من المفرقين بين الثواب والعذاب دون الجهمية لأنهم يقولون بانقطاع كل منهما .

ولا مخلص لأولئك بقوله تعالى في خاتمة آية السعداء : ( عطاء غير مجذوذ ) هود 108 ، مع قوله فيما قبلها : ( إن ربك فعال لما يريد ) هود 107 ، لأن القرآن - وإن تباعدت آياته في الترتيب أو النزول - يصدق بعضه بعضاً ، وكما دل قوله : ( عطاء غير مجذوذ ) على استمرار النعيم ، دل قوله : ( وما هم بخارجين من النار ) البقرة 167 ، وقوله : ( لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ) فاطر 36 ، وقوله : ( كلما أرادوا أن يخرجوا منها أُعيدوا فيها ) السجدة 20 ، وقوله : ( إن عذابها كان غراما . إنها ساءت مستقراً ومقاما ) الفرقان 65/66 ، وقوله : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ) المائدة 37 ، وقوله : ( وما هم عنها بغائبين ) الانفطار 16 ، وقوله : ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) الأعراف 40 ، على استمرار العذاب وحرمان أهله من نعيم الجنة ، وكفى بهذه النصوص دليلاً على أن الله لم يشأ بهم إلا العذاب .

والمشيئة في هذه الآيات مجملة لم تُبَيَّن ، والآيات المصرحة بدوام العذاب كالتي أوردها صريحة ليس على دلالتها غبار ، والأمور العقائدية تتوقف على النصوص الصريحة فلا تستسقى علومها من الأدلة الإجمالية ، فكيف يلجأ إلى المجملات مع وجود التفصيل ، والتناسخ في أخبار الشارع لا يجوز بحال ، لأنه سبحانه لا تبدو له البدوات ، ولا يجهل شيئاً مما يكون ، ولا يوحي إلا بالصدق ، فلا معنى لما رواه ابن جرير وغيره عن جابر بن عبدالله رضي الله تعالى عنه أنه قال في هذه الآية - أي آية هود - تأتي على القرآن كله إذ لم يكن للقرآن أن يكذب بعضه بعضا ، وما كان لجابر - وهو الصحابي الجليل المتخرج من مدرسة النبوة - أن يَجْرُؤَ على مثل هذا القول ، وإنما هو من افتراءات أهل الأهواء وتلفيقات أصحاب الغرور .

ولصاحب المنار في تفسير آية هود تحرير وضع فيه المقصل على المفصل ، ونصه :

( خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض ، أي ماكثين فيها مكث بقاء وخلود لا يبرحونها مدة دوام السماوات التي تظلهم والأرض التي تقلهم ، وهذا بمعنى قوله في آيات أخرى : ( خالدين فيها أبدا ) ، فإن العرب تستعمل هذا التعبير بمعنى الدوام ، وغلط من قالوا : المراد مدة دوامها في الدنيا ، فإن هذه الأرض تبدل وتزول بقيام الساعة ، وسماء كل من أهل النار وأهل الجنة ما هو فوقهم ، وأرضهم ما هم مستقرون عليه وهو تحتهم ، كما قال ابن عباس لكل جنة أرض وسماء ، وروى مثله السدي والحسن .

( إلا ما شاء ربك ) أي أن هذا الخلود الدائم هو المعد لهم في الآخرة المناسب لصفة أنفسهم الجهول الظالمة التي أحاطت بها ظلمة خطيئاتها وفساد أخلاقها كما فصلناه مراراً ( إلا ما شاء ربك ) من تغيير هذا النظام في طور آخر فهو إنما وضعه بمشيئته وسيبقى في قبضة مشيئته ، وقد عهد مثل هذا الاستثناء في سياق الأحكام القطعية للدلالة على تقييد تأبيدها بمشيئته تعالى فقط لا لإفادة عدم عمومها كقوله تعالى : ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ) ( 7 : 188 ) أي لا أملك شيئاً من ذلك بقدرتي وإرادتي إلا ما شاء الله أن يملكنيه منه بتسخير أسبابه وتوفيقه ، ومثله في (10:49) مــع تقديم الضّر ، وقوله سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله ) (87 : 76) على أن الاستثناء لتأكيد النفي أي إنه تعالى ضمن لنبيه حفظ هذا القرآن الذي يقرئه إياه بقدرته ، وعصمه أن لا ينسى منه شيئاً بمقتضى الضعف البشري ، فهو لا يقع إلا أن يكون بمشيئة الله ، فهو وحده القادر عليه .

إن ربك فعال لما يريد ، فهو إن شاء غير ذلك فعله ، ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وإنما تتعلق مشيئته بما سبق به علمه ، واقتضته حكمته ، وما كان كذلك لم يكن إخلافاً لشيء من وعده ولا من وعيده ، كخلود أهل النار فيها ، فإن هذا الوعيد مقيد بمشيئته ، وهي تجري بمقتضى علمه وحكمته )(1) .

3 ـ قوله تعالى : ( لابثين فيها أحقاباً ) النبأ 23 ، ووجه استدلالهم به أن الأحقاب متناهية ، وما دام لبثهم فيها مقدراً بقدرها فهو متناه أيضاً .

وجوابه أنه كما لا تتناهى الأنفاس في الدار الآخرة مع أنها لا نسبة بينها وبين الأحقاب في مقدار ما تستغرقه من الزمن ، فالأحقاب أبعد عن التناهي ، على أن لفظة الأحقاب مأخوذة من أحقب إذا أردف فهي أدل على الترادف المستمر الذي لانقطاع له .

وقد أحسن الفخر الرازي حيث قال في تفسير الآية : فإن قيل : قوله : ( أحقاباً ) وإن طالت إلا أنها متناهية ، وعذاب أهل النار غير متناه ، بل لو قال لابثين فيها الأحقاب لم يكن هذا السؤال وارداً ، ونظير هذا السؤال قوله في أهل القبلة : ( إلا ما شاء ربك ) قلنا الجواب من وجوه :

ـ الأول : أن لفظ الأحقاب لا يدل على مضي حقب له نهاية ، وإنما الحقب الواحد متناه ، والمعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً ، كلما مضى حقب تبعه حقب آخر .

ـ والثاني : قال الزجاج المعنى أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يذوقون في الأحقاب برداً ولا شراباً ، فهذه الأحقاب توقيت لنوع من العذاب ، وهو أن لا يذوقوا برداً ولا شراباً إلا حميماً وغساقاً ، ثم يبدلون بعد الأحقاب عن الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب .

ـ وثالثها : هب أن قوله : ( أحقاباً ) يفيد التناهي لكن دلالة هذا على الخروج دلالة المفهـوم ، والمنطوق دل على أنهم لا يخرجون ، قال تعالى : ( يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم ) المائدة 37 ، ولاشك أن المنطوق راجح .

وذكر صاحب الكشاف في الآية وجهاً آخر ، وهو أن يكون أحقاباً من حَقِبَ عامُنا إذا قل مطره وخيره ، وحقب فلان إذا أخطأه الرزق فهو حَقِبٌ وجمعه أحقاب ، فينتصب حالاً عنهم بمعنى لابثين فيها حقبين مجدبين ، وقوله : ( لا يذوقون فيها برداً ولا شراباً ) تفسير له(2).

وما نسبه إلى الزجاج قاله كثير من المفسرين ، ووجهـه أن جملة ( لا يذوقون .. الخ ) حال من فاعل ( لابثين ) وفسروا ذلك أنهم يلبثون فيها أحقاباً وهو لا يذوقون فيها بردا ولا شراباً إلا ما ذكر ، ثم ينتقلون إلى لون آخر من العذاب وهو تعذيبهم ببرد الزمهرير ، الذي يتمنون أن ينفكوا عنه بالعودة إلى جهنم والعياذ بالله ، وعلى هذا فلا إشكال ولو باعتبار الأحقاب متناهية ، ومهما يكن فإنهم لم يستدلوا بنص يفيد ما دعوه ، وإنما بتأويلات تقابل بما يبطلها ، والأمور العقائدية - كما قلت - لابد من الاستناد فيها على النصوص القاطعة .

وأما الرواية فحديث عبدالله بن عمرو بن العاص ( ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ) ولا يتم به الاستدلال ، لأنه قبل كل شيء حديث آحادي لا تنهض به حجة في القطعيات ، فضلاً عما في متنه وإسناده من نُكاره ، ولو قدرنا صحته لكان الواجب تأويله بما يتفق مع قواطع النصوص ، وهو أن أهلها ينتقلون عنها إلى الزمهرير ، ومع ضعف الحديث لا داعي إلى مثل هذا التأويل .

وأما النظريات الفلسفية فمنها ما تقدم نقله عن الجهمية ، ومنها ما أورده ابن القيم في كتابيه الصواعق المرسلة وحادي الأرواح(1) .

ويتلخص في أن الرحمن الرحيم ، البر الكريم ، العزيز الحكيم ، أجَل من أن يخلق نَشْئاً للشر دون الخير ، وللعذاب دون الرحمة ، وأن فطرة الله في الإنسان هي التوحيد والتقوى والإخلاص غير أنها تتكدر بأكدار من العصيان متفاوتة ، منها ما تصقله الدعوة ، ومنها ما يصقله العذاب الموقوت بأمد أقل ، ومنها ما يحتاج صقله إلى فترة أطول في العذاب ، وأن الغاية من ذلك أن يدرك الإنسان ضعفه بين يدي ربه وافتقاره إلى رحمته ، واضطراره إلى لطفه ، وعدم طاقته على تحمل نقمته مع إدراكه قوة الله وبطشه ، وأنه عظيم المن والإحسان إلى خلقه ، فإذا أدرك العبد ذلك وانجلت فطرته من صدأ العصيان ، وتراجع إيمانه بعدما طار به طائر الكفران لم يبق معنى لتعذيبه ، لأن الله تعالى منزهة أفعاله عن التجرد من الحكمة ، ولا حكمة في العذاب الدائم ، وقد وزع ابن القيم ما استنتجه من هذه الفلسفة وتأوله من القرآن ، واستند إليه من الآثار إلى خمسة وعشرين وجهاً .

وقد أورد صاحب المنار نص كلامه في حادي الأرواح ، وأتبعه من عبارات الإعجاب والثناء ما يدل على أنه منجذب إليه ، وذلك في تفسير آية المشيئة من سورة الأنعام(2) ، وهو مخالف لما سبق نقله عنه في تفسير الاستثناء بالمشيئة في آية هود ، كما أنه مخالف لما نقلناه عنه من كلامه في مقدمة تفسيره لسورة البقرة ، وما سننقله إن شاء الله عنه من النصوص الأخرى .

ويدحض هذه النظريات أن الله تعالى لا تتقيد أفعاله بأنظمة تحكمها عقول البشر ، ولا ترتبط بنواميس تستوحىَ من خيالات الناس ، وإنما يفعل - جل شأنه - ما يشاء ويحكم ما يريد ، ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) وعلينا أن نعتقد أن عقولنا المحدودة أكَلَّ وأعجز وأحسر من أن تحيط بحكمه تعالى في أفعاله ، أو تكتنه أسراره في خلقه ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الإسراء 85 ، وما علينا إلا أن نسلم تسليماً لأخبار الله التي لا تتبدل ، ومن بينها أخبار الوعيد لِقَطْعِنا أن الله عز وجل لا يقول إلا الصدق ، كما أنه لا يأمر إلا به ( ومَن أصدق من الله قيلاً ) النساء 122 .

ولو فتحنا هذا الباب ، وأسندنا إلى عقولنا الحكم على أخبار الله ، لما كانت لذلك نتيجة إلا رد كثير من النصوص بل أكثرها ، لأن الشيطان لا يزال يوسع هذه الثغرات ويوالي ، توجيه طعنات التشكيك في النصوص ، لحمل الناس على ردها أو على تأويلها بمختلف التأويلات الباطلة المخالفة لما يراد بتلك النصوص ، على أن نصوص تأبيد عذاب النار كنصوص تأبيد نعيم الجنة ، فإذا جاز تأويل تلك فما الذي يمنع من تأويل هذه ؟ .

ومن دواعي العجب أن يلجأ ابن القيم إلى المدرسة العقلية في تعليل أفعاله تعالى مستنداً إلى ما يوحي به العقل من التحسين والتقبيح ، مع أنه هو الأثري المتعصب الذي يمنع كل المنع تأويل الآيات المتشابهات بما يتفق مع معاني أمهاتها المحكمات ، ويستلزمه تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه ، وتسوغه اللغات وأعرافها ، وتقتضيه القرائن السمعية والعقلية ، فما أبعد البون ما بين الموقفين .

وقد أعرضت عن سرد كلامه وتتبعه بالنقض ، مكتفياً بإيراد هذا الملخص وإتباعه بما ذكرته ، توفيراً للوقت وإراحة للقارئ من مزيد عناء ، في قضية أصبحت الآن من المسلَّمات عند الأمة ، إذ لم يبق - فيما أحسب - من يذهب مذهب ابن القيم في التفرقة بين بقاء النعيم والعذاب على الإطلاق .

أما الطائفة الثانية ـ وهم الذين يفرقون بين عصاة الموحدين وغيرهم من أهل النار في مدة العذاب - فهم يستدلون كذلك بآيات من الكتاب وروايات من السنة ، واستدلال عقلي لما ذهبوا إليه ، أما الآيات فقد تعلقوا منها بما تعلقت به الطائفة الأولى ، وكفى بما سبق من النقض لاستدلال أولئك رداً على دعوى هؤلاء ، على أن تلك الآيات ليس فيها ما يدل بأي وجه على تفرقة بين عصاة الموحدين وغيرهم ، وإنما هي في وعيد جميع أهل النار والعياذ بالله ، اللهم إلا ما في سورة النبأ ، فإن ما وليه من ذم المتوعدين قاض بأنهم منكرون للبعث ، وذلك قوله تعالى : ( إنهم كانوا لا يرجون حسابا . وكذبوا بآياتنا كذابا ) فلو كان مطمع في خروجهم يلوح من قوله : ( لابثين فيها أحقابا) لكان أولى به المنكرون للبعث المكذبون بالكتاب ، ولكن أنّى ذلك وقد اختتم هذا الوعيد بقوله : ( فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا ) النبأ 30.

وتعلقوا أيضاً بما لا يشير إلى ذلك من قريب ولا من بعيد ، كقوله تعالى : ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) الحجر 2 ، ووجه تعلقهم به أن ودهم ذلك يكون عندما يرون عصاة المسلمين يخرجون من النار مع بقائهم فيها .وهذا تأويل لا يقتضيه لفظ الآية ، ولم يقم عليه شاهد من غيرها ، لأن ودهم ذلك يحتمل أن يكون عندما يرون قوة الإسلام ضاربة في الأرض وسلطانه مهيمناً على الأمم ، وكلمته نافذة بين الناس ، فيودوا لو كانوا سابقين إليه ، ويحتمل أن يكون عندما تنتزع أرواحهم ، ويشهدون من طلائع أهوال الدار الآخرة ما لم يحتسبوه ، ويحتمل أن يكون عندما يبعثون من قبورهم ويواجهون الفزع الأكبر ، ويدركون أنه لا منجاة يومئذ إلا لمن اعتصم بحبل الإسلام وآوى إلى ركنه وأمسك بعروته ، وكل واحد من هؤلاء الوجوه مروي عن جماعة من مفسري السلف والخلف ، فلم يبق مجال للاستدلال بالآية على ما لم تكن نصاً عليه ولا ظاهرة فيه .

وأما الروايات فهي متعددة ولكن تقابلها روايات لا تقل عنها جودة ولا كثرة ، سأذكر بعضها إن شاء الله في آخر الفصل الآتي على أن روايات الخروج من النار معارضة لنصوص القرآن ، وروايات الخلود فيها متفقة معها ، ويتعين المصير في مثل هذه الحالة إلى ما اتفق مع القرآن لا إلى ما خالفه .

وأما الاستدلال العقلي فهو أنه لو تساوى عصاة الموحدين مع المشركين في الخلود لما بقي لكلمة التوحيد أثر ، ولا لأعمال البر فائدة .

وجوابه أنهم وإن تساووا في الخلود فهم غير متساوين في العذاب ، كما أن الأبرار لا يتساوون في الثواب بل يتفاوتون بتفاوت الأعمال ، والنار دركات كما أن الجنة درجات .



--------------------------------------------------------------------------------

(1) المنار ج12 ص160/161 الطبعة الرابعة دار المنار .

(2) التفسير الكبير للفخر الرازي ج31 ص13/14 ط2 دار الكتب العلمية بطهران .

(1) انظر الصواعق المرسلة ص22/240 ، مطبعة الإمام .. وحادي الأرواح ص252/277 دار الكتب العلمية .

(2) انظر المنار ج8 ص98/99 الطبعة الرابعة دار المنار .
  #31  
قديم 13/10/2004, 04:20 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

الفصل الثالث

في أدلة القائلين بخلود

جميع مرتكبي الكبائر في النار

وهي قسمان ، بعضها من الكتاب وبعضها من السنة :

أما من الكتاب فكثيرة نذكر منها ما يلي :

1 ـ قوله تعالى: ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون ، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) البقرة - 80 - 81 .

ودلالته عليه من وجوه :-

ـ أولها : أن هذه العقيدة يهودية المنبت كما هو ظاهر من هذا النص وقد ذُكرت في مساق التنديد بهم والتشهير بضلالهم .

ـ ثانيها : ما فيه من الاستنكار لهذا القول الوارد مورد الاستفهام المقصود به التحدي ، والتقرير بأنهم لم يستندوا في مقالتهم هذه إلى عهد من الله ، وإنما هي من ضمن ما يتقولونه عليه تعالى بغير علم ، وناهيك بذلك ردعاً عن التأسّي بهم فيما يقولون ، والخوض معهم فيما يخوضون .

ـ ثالثها : ما فيه من البيان الصريح بأن مصير كل من ارتكب سيئة وأحاطت به خطيئته لعدم تخلصه منها بالتوبة النصوح أنه خالد في النار مع الخالدين ، وهو رد على هذه الدعوى يستأصل أطماع الطامعين في النجاة مع الإصرار على الإثم .

وما أجدر العاقل بأخذ الحيطة وعدم الاغترار بهذه الأماني التي تشبَّث بها أهل الكتاب ، وحذر الله هذه الأمة من التشبث بها كما تشبثوا حيث قال : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ) النساء 123 .

واعترض على الاستدلال به بأمرين :-

ـ أولهما : أن السيئة هنا هي الشرك كما روي عن طائفة من المفسرين وإذا كان هذا الوعيد للمشركين فهو لا يعم الموحدين .

ـ ثانيهما : أن الخلود لم يرد به التأبيد وإنما أريد به المكث الطويل .

ويرد الاعتراض الأول أن حمل السيئة على الشرك وحده خروج بالآية عما يقتضيه لفظها ، فإن لفظ ( سيئة ) نكرة مطلقة في سياق الشرط ، والنكرات إذا وردت في الشرط فهي محمولة على العموم لأن الشرط كالنفي ، وحكم النكرة في سياق النفي عمومها .

وإن أردت مزيد البيان في ذلك فانظر في قول القائل لعبيده : من جاءني بعُملة فهو حرّ ، فإنه يعتق بقوله هذا من جاءه بأي شيء يصدق عليه أنه عُملة ، سواء كان درهماً أو ديناراً أو ريالاً أو جنيهاً ، أو غيرها ؛ وكذلك لو قال لهم من أتاني بثوب فهو حرّ ، فإن هذا الحكم يصدق على من جاء بما يصدق عليه اسم الثوب ، قميصاً كان أو إزاراً ، أو عمامة ، أو سراويل ، أو أي شيء آخر ، ولو حلف أحد أنه لم يرتكب سيئة وقد زنى ، أو سـرق ، أو شرب الخمر ، أو عقّ والديه ، أو أكل الربا ، أما يُعَدُّ حانثاً بقسمه هذا ؟

ولا متعلق لهم في قوله تعالى : ( وأحاطت به خطيئته ) وإن زعموا أن مرتكب الكبيرة إن كان موحداً لم تحط به خطيئته لأن له حسنات لا يحرم ثوابها ، ذلك لأنا نقول إن عدم التخلص من المعصية بالتوبة النصوح يجعلها محيطة بصاحبها ، مستولية عليه كالآخذ بناصيته الممسك بتلابيبه ، بخلاف ما إذا تخلص منها باللجوء إلى التوبة النصوح ، وهذا معنى ما روي عن السلف ودونكم بعض النصوص المروية في ذلك .

قال الإمام ابن جرير حدثنا أبو كريب قال ثنا ابن يمان عن سفيان عن الأعمش عن أبي روق عن الضحاك ( وأحاطت به خطيئته ) قال : مات بذنبه .

حدثنا أبو كريب قال ثنا جابر بن نوح ، قال ثنا الأعمش عن أبي رزين عن الربيع بن خيثم ( وأحاطت به خطيئته ) قال مات عليها .

حدثنا ابن حميد قال ثنا سلمة ، قال أخبرني ابن إسحاق ، قال حدثني محمد بن أبي محمد عن سعيد بن جبير أو عكرمة عن ابن عباس ( وأحاطت به خطيئته ) قال : يحيط كفره بما له من حسنة - والكفر يعم الكبائر كلها لأنها من كفران النعم .

حدثني محمد بن عمرو قال ثنا أبو عاصم ، قال حدثني عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد ( وأحاطت به خطيئته ) قال : ما أوجب الله فيه النار .

حدثنا بشر قال ثنا يزيد قال ثنا سعيد عن قتادة ( وأحاطت به خطيئته ) قال : أما الخطيئة فالكبيرة الموجبة .حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق عن قتادة ( وأحاطت به خطيئته ) قال : الخطيئة الكبائر .

حدثني المثنَى قال ثنا إسحاق قال ثنا وكيع ويحيىَ بن آدم عن سلام بن مسكين ، قال سأل رجل الحسن عن قوله : ( وأحاطت به خطيئته ) فقال : ما تدري ما الخطيئة ؟ يا بني أتل القرآن فكل آية وعد الله عليها النار فهي الخطيئة .

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال ثنا أبو أحمد الزبيري قال ثنا سفيان عن منصور عن مجاهد في قوله : ( بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته ) قال : كل ذنب محيط فهو ما وعد الله عليه النار .

حدثنا أحمد بن إسحاق قال ثنا أبو أحمد الزبيري ، قال ثنا سفيان عن الأعمش عن أبي رزين( وأحاطت به خطيئته ) قال : مات بخطيئته .

حدثني المثنىَ قال ثنا أبو نعيم قال ثنا الأعمش قال ثنا مسعود أبو رزين عن الربيع بن خيثم في قوله : ( وأحاطت به خطيئته ) قال : هو الذي يموت على خطيئته قبل أن يتوب .

حدثنا القاسم قال ثنا الحسين قال : قال وكيع : سمعت الأعمش يقـول في قولـه: ( وأحاطت به خطيئته ) مات بذنوبه .

حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر عن أبيه عن الربيع : ( أحاطت به خطيئته ) الكبيرة الموجبة.

حدثني موسى قال ثنا عمرو بن حماد قال ثنا أسباط عن السدي : ( أحاطت به خطيئته ) فمات ولم يتب(1) .

وهذا الذي نقله الإمام ابن جرير عن سلف الأمة في معنى الآية الكريمة ، هو الذي ذهب إليه الإمام المحقق محمد عبده بعد دقة إمعانه وتسريح فكره فيما يراد بالسيئة وبإحاطة الخطيئة ، وهذا ما جاء عنه في المنار : للسيئة هنا إطلاقها وخصها مفسرنا - الجلال - وبعض المفسرين بالشرك ، ولو صح هذا لما كان لقوله تعالى : ( وأحاطت به خطيئته ) معنى ؛ فإن الشرك أكبر السيئات ، وهو يستحق هذا الوعيد لذاته كيف ما كان ، ومعنى إحاطة الخطيئة هو حصرها لصاحبها ، وأخذها بجوانب إحساسه ووجدانه ؛ كأنه محبوس فيها ، لا يجد لنفسه مخرجاً منها ، يرى نفسه حرّاً مطلقاً وهو أسير الشهوات وسجين الموبقات ورهين الظلمات ، وإنما تكون الإحاطة بالاسترسال في الذنوب والتمادي على الإصرار ، قال تعالى: ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) المطففين 14 ، أي من الخطايا والسيئات ، ففي كلمة ( يكسبون ) معنى الاسترسال والاستمرار ، ران عليه غطاه وستره ، أي أن قلوبهم قد أصبحت في غلف من ظلمات المعاصي حتى لم يبق منفذ للنور يدخل إليها منه ، ومن أحدث لكل سيئة يقع فيها توبة نصوحاً وإقلاعاً صحيحاً لا تحيط به الخطايا ، ولا يرين على قلبه السيئات ، روى أحمد والترمذي والحاكم وصححه والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن العبد إذا أذنب ذنباً نكتت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه وإن عاد زادت حتى تعلو قلبه فذلك الران الذي ذكره الله تعالى في القـرآن : ( كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون ) " لمثل هذا كان السلف يقولون: (المعاصي بريد الكفر) (2) .

ويراد الاعتراض الثاني أن حمل الخلود هنا على المكث الطويل دون التأبيد يستتبع حمله على ذلك في نظيره ، وهو الخلود الموعود به الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة إذ لا دليل على الفرق بينهما .

وقد تحدث عن ذلك الإمام محمد عبده فقال : ومن المفسرين من ترك السيئة في الآية على إطلاقها ، ولم يؤولها بالشرك ولكنهم أولوا جزائها ، فقالوا : إن المراد بالخلود طول مدة المكث ، لأن المؤمن لا يخلد في النار وإن استغرقت المعاصي عمره ، وأحاطت الخطايا بنفسه فانهمك فيها طول حياته ؛ أولوا هذا التأويل هروباً من قول المعتزلة : إن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ، وتأييداً لمذهبهم أنفسهم المخالف للمعتزلة ، والقرآن فوق المذهب ، يرشد إلى أن من تحيط به خطيئته لا يكون أو لا يبقى مؤمناً ) . اهـ

وقال عقبه السيد محمد رشيد رضا : ( إن فتح باب تأويل الخلود يجرِّيءُ أصحاب استقلال الفكر في هذا الزمان على الدخول فيه ، والقول بأن معنى خلود الكافرين في العذاب طول مكثهم فيه ، لأن الرحمن الرحيم الذي سبقت رحمته غضبه ما كان ليعذب بعض خلقه عذاباً لا نهاية له ، لأنهم لم يهتدوا بالدين الذي شرعه لمنفعتهم لا لمنفعته ، ولكنهم لم يفقهوا المنفعة ، وإذا كان التقليد مقبولاً عند الله - كما يرى فاتحو الباب - فقد وضح عذر الأكثرين لأنهم مقلدون لعلمائهم - .. الخ ما يتكلم به الناس ولا سيما في هذا العصر ، فإن هذه المسألة قديمة ، وهي أكبر مشكلات الدين ، نعم إن العلماء يحتجون عليهم بالإجماع ولو سكوتياًّ ، ولكن التأويل باب لا يكاد يسده متى فتح شيء.(1)

وكلامه هذا يشير إلى ما ذكرته قبل ، من أن تأويل الخلود بالمكث الطويل دون التأبيد إذا قيل به في وعيد طائفة لزم منه أن يحمل عليه ما جاء من الخلود في وعيد غيرها ، بل يترتب عليه تسويغ مثله في وعد المؤمنين بالخلود في الجنة ، وقد أشار إلى مثل ذلك في تفسير سـورة النساء (3)، وبهذا ينتقض على قول من يحصر الخروج من النار في الموحدين مذهبهم للزوم أن يقولوا مثله في المشركين ، وأن يقولوا بانتهاء نعيم الجنة إلى أمد .

2 ـ قوله تعالى : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) البقرة 275 ، ووجه الاستدلال بالآية أنها وعيد لأكلة الربا وهم غير مشركين ، لأن الآية في معرض التحذير من أكل الربا بعد تحريمه .

واعترض بأن هذا الوعيد ليس على أكل الربا بل هو على استحلاله ، بدليل ما جاء في صدرها من حكاية قولهم المعارض لحكم الإسلام في الربا ( إنما البيع مثل الربا ) البقرة 275 ، والمُسْتَحِل لما حرم الله بالنص القطعي كالربا مشرك بالإجماع ، فلا يعم حكم الخلود مرتكبي الكبائر دون الشرك.

والجواب أن حمل الوعيد على الاستحلال دون الأكل يهون من وقْع أوامر الله تعالى ونواهيه في نفوس العباد ، ويقلل من أهمية حكم الحرمة في المحظورات ، على أن سياق ما قبل وما بعد هذه الآية إنما هو حظر الربا ، وتغليظ أمره على الناس ، وليس ذكر ما يقوله مستحلوه مخرجاً لهذا الوعيد عما يقتضيه السياق ، وإلا لما كانت فائدة في شيء مما ذكر قبلها أو بعدها .

وقد تفطن لذلك الإمام محمد عبده فأتى في كشف اللثام عن مخدرات معاني الآية للأفهام بما لخصه صاحب المنار حيث قال : ( أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد تحريمه فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عما يضرُّ بهم في أفرادهم أو جميعهم ، هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكونون خالدين فيها .

وقد أول الخلود المفسرون لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار ، فقال أكثرهم إن المراد ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقاداً ، ورد بعضهم بأن الكلام في أكل الربا ، وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم ، فهو ليس بمعنى استباحة المحرم ، فإذا كان الوعيد قاصراً على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل .

والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء ؛ يجب إرجاع كل قول في الدين إليه ، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس ، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد ، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال .

ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار انتصاراً لأصحابه الأشاعرة ، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث .

أما نحن فنقول : ما كل ما يسمى إيماناً يعصم صاحبه من الخلود في النار ، الإيمان إيمانان ، إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نُسب إليه ، ومجاراة أهله ، ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه ، وإيمان هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين على يقين بالإيمان متمكنة في العقل بالبرهان ، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان ، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال بحيث يكون صاحبها خاضعاً لسلطانها في كل حال إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان ، وليس الربا من المعاصي التي تُنسى ، أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش كالحدة وثورة الشهوة ، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان ، كالغيبة والنظرة ، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود في سخط الله ، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمداً إيثاراً لحب المال واللذة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح ، وأما الإيمان الأول فهو صوري فقط ، فلا قيمة له عند الله تعالى لأنه تعالى لا ينظر إلى الصور والأقوال ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما ورد في الحديث ، والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله تعالى كثيرة جداً ، وهو مذهب السلف الصالح وإن جهله كثير ممن يدَّعون اتباع السنة ، حتى جرأوا الناس على هدم الدين بناءً على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين ، وإن لم يعمل به ، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم ، كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال : إنني لا أنكر أنني آكل الربا ولكنني مسلم أعترف بأنه حرام ، وقد فاته بأنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد ، وبأنه يرضى أن يكون محارباً لله ولرسوله ، وظالماً لنفسه وللناس ، كما سيأتي في آية أخرى ، فهل يعترف بالملزوم أم ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ؟ نعوذ بالله من الخذلان . )(1) وكلامه صريح في أن مذهب السلف الصالح هو ما عليه أهل الاستقامة والحمد لله .

3 ـ قوله تعالى : ( ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون ) آل عمران 24 ، ووجه الاستدلال به ما سبق في نظيره من إثبات أن هذه العقيدة من عقائد اليهود ، وأنها جرأتهم على معصية الله ، وقادتهم إلى الإعراض عن كتابه ، وذُكرت في معرض تفنيد ضلالهم وتبكيتهم على عيوبهم ، ولصاحب المنار في تفسيره هذه الآية كلام جاء فيه : ( لعل المراد بعبارة الآية أنهم كانوا يعتقدون أن الإسرائيلي إذا عوقب فإن عقوبته لا تكون إلا قليلة ، كما هو اعتقاد أكثر المسلمين اليوم ، إذ يقولون إن المسلم المرتكب لكبائر الإثم والفواحش إما أن تدركه الشفاعات وإما أن تنجيه الكفارات ، وإما أن يمنح العفو والمغفرة بمحض الفضل والإحسان ، فإن فاته كل ذلك عذب على قدر خطيئته ثم يخرج من النار ويدخل الجنة ، وأما المنتسبون إلى سائر الأديان فهم خالدون في النار كيفما كانت حالهم ، ومهما كانت أعمالهم ، والقرآن لا يقيم للانتساب إلى دين ما وزناً ، وإنما ينوط أمر النجاة من النار والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار بالإيمان الذي وصفه وذكر علامات أهله وصفاتهم ، وبالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة ، مع التقوى وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن .

وأما المغفرة فهي خاصة في حكم القرآن بمن لم تحط به خطيئته ، وأما من أحاطت به حتى استقرت شعوره ورانت على قلبه فصار همه محصوراً في إرضاء شهوته ، ولم يبق للدين سلطان على نفسه ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) لهذا يحكم هذا الكتاب الحكيم بأن من يجعل الدين جنسية وينوط النجاة من النار بالانتساب إليه أو الاتكال على من أقامه من السلف فهو مغتر بالوهم مفتر يقول على الله بغير علم ، كما قال هنا : ( وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون ) آل عمران 24 ، أي بما زعموا من تحديد مدة العقوبة للأمة في مجموعها ، وهذا من الافتراء الذي كان منشأ غرورهم في دينهم ، ومثله لا يعرف بالرأي ولا بالفكر لأنه من أمر عالم الغيب فلا يعرف إلا بوحي من الله ، وليس في الوحي ما يؤيده ، ولا يوثق به إلا بعهد من الله عز وجل ، ولا عهد بهذا ، وإنما عهد الله هو ما سبق في سورة البقرة (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله مالا تعلمون ، بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) البقرة 80 - 82(1).

ثم تناول تفسير قوله تعالى : ( فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه ووفيت كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) آل عمران 25 ، وعندما تكلم على جملة ( وهـم لا يظلمون ) قال : ( وقد قال المفسرون في هذه الجملة كلمة أحب التنبيه على ما فيها ، قالوا فيها دليل على أن العبادة لا تحبط ، وأن المؤمن لا يخلد في النار لأن توفية جزاء إيمانه وعمله لا تكون في النار ولا قبل دخولها ، فإذاً هي بعد الخلاص منها ، والعبارة للبيضاوي ، ونقلها أبو السعود كعادته ، وأقول : إن الكسب هنا ليس خاصاً بالعبادة والإيمان ، بل هو عام وشامل لكل ما عمله العبد من خير وشر ، فإذا أرادوا أن الآية تدل على أنه لابد من الجزاء على الكسب كما هو ظاهر الآية ، لزمهم أن الكافر إذا أحسن في بعض الأعمال - ولا يوجد أحد من البشر لا يحسن عملاً قط - وجب أن يجازىَ عليه ، وهم لا يقولون بذلك ، ولذلك خصصوا وأخرجوا الآية عن ظاهرها ، وإذا نحن جمعنا بين هذه الآية التي وردت رداً لقول الذين زعموا أنهم لن تمسهم النار إلا أياما معدودة ، وآية البقرة التي وردت في ذلك أيضاً ، وعلمنا أن مراد الله في الجزاء على كسب الإنسان بحسبه ، وهو أن العبرة بتأثير العمل في النفس فإذا كان أثره السيئ قد أحاط بعلمها وشعورها ، واستغرق وجدانها كانت خالدة في النار ، لأن العمل السيئ لم يدع للإيمان أثراً صالحاً فيها يعدها لدار الكرامة ، بل جعلها من أهل دار الهوان بطبعها ، وإذا لم يصل إلى هذه الدرجة بأن أغلب عليها تأثير العمل الصالح أو استوى الأمران فكانت بين بيـن جوزيت على كل بحسب درجته كما قررنا آنفاً .(1)

هذا كلامه ولا يؤخذ مما سبق أو لحق منه أن غير المؤمن بملة الإسلام ينجّيه شيء من عمله من عذاب النار ، لأنه بفقدانه الإيمان الذي هو أساس العمل يحرم جني ثمرات إحسانه فيما عمل ، لأن الإيمان شرط لصحة الأعمال وقبولها ، قال تعالى : ( فمن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له كاتبون ) الأنبياء 94 ، وقال : ( ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضما ) طه 112 ، فترى أن الإيمان قيد لصحة العمل .

واستدلال القائلين بخروج أهل الكبائر من النار بقوله تعالى : ( وهم لا يظلمون ) ـ بجانب كونه مستلزماً لما قاله العلامة السيد رشيد رضا من اشتراك الكفّار في ذلك مع المؤمنين ـ يقتضي أن اليهود هم أولى بهذا الحكم لأن الآية نزلت فيهم ..

والتحقيق أن العبرة بخواتم الأعمال ، فمن ختم له بالعقيدة الصحيحة والعمل الصالح كان سعيداً عند الله مهما عمل من قبل ، فإن التوبة تمحو الآثام وتطهر صاحبها من الحوب ، ومن ختم له بالإصرار على الآثام لم تُجْدِهِ أعماله السابقة شيئاً لأنها مُحبطة بإصراره ، والله تعالى يقول : ( إنما يتقبل الله من المتقين ) المائدة 27 ، والتقوى لا تجامع الإصرار .

4 ـ قوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين ) النساء 14 ، ووجه الاستدلال به أنه جاء بعد تبيان أحكام المواريث ، والنص على أنها من حدود الله، ووعد من يطيع الله ورسوله بالخلد ، في جنات تجري من تحتها الأنهار ، فثبت من ذلك بأن من جاوز حكماً من أحكام الله صدق عليه هذا الوعيد ، وقد تحدث في تفسير هذه الآية كل من الإمام محمد عبده والسيد رشيد رضا بما يؤيد كلامهما السابق (2).

5 ـ قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيما ) النساء 93 ، ووجه الاستدلال بالآية أن الله تعالى توعد فيها قاتل المؤمن - فيما توعده به - بالخلود في النار مع أن القتل كبيرة دون الشرك .

وقد حاولوا التخلص مما دل عليه هذا النص بضروب من التأويلات التي أنكر فيها بعضهم على بعض ، ولم يتفقوا منها على شيء .

قال الفخر : ( وزعم الواحدي أن الأصحاب سلكوا في الجواب عن هذه الآية طرقاً كثيرة ، قال : وأنا لا أرتضي شيئاً منها ، لأن التي ذكروها إما تخصيص وإما معارضة وإما إضمار ، واللفظ لا يدل على شيء من ذلك - قال - والذي أعتمده وجهان ، ( الأول ) إجماع المفسرين على أن الآية نزلت في كافر قتل مؤمناً ثم ذكر تلك القصة ، ( والثاني ) أن قوله : ( فجزاؤه جهنم ) معناه الاستقبال ، أي أنه سيجزى بجهنم ، وهذا وعيد - قال - وخلف الوعيد كرم ، وعندنا أنه يجوز أن يخلف الله وعيد المؤمنين ، فهذا حاصل كلامه الذي زعم أنه خير مما قاله غيره ) .

وبعدما أورد الفخر هذا الكلام أخذ ينقضه مع ما عرف عنه من التعصب للقول بخروج أهل الكبائر من النار ، وهذا نص كلامه :

( أما الوجه الأول فضعيف ، وذلك أنه ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، فإذا ثبت أن اللفظ الدال على الاستغراق حاصل فنزوله في حق الكفار لا يقدح في ذلك العموم ، فيسقط هذا بالكلية ، ثم نقول كما أن عموم اللفظ يقتضي كونه عاما في كل قاتل موصوف بالصفة المذكورة فكذا هاهنا وجه آخر يمنع من تخصيص هذه الآية بالكافر ، وبيانه من وجوه :

* الأول : أنه تعالى أمر المؤمنين بالمجاهدة مع الكفار ثم علمهم ما يحتاجون إليه عند اشتغالهم بالجهاد ، فابتدأ بقوله : ( وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلا خطأً ) النساء 92 ، فذكر في هذه الآية ثلاث كفارات ، كفارة قتل المسلم في دار الإسلام ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الحرب ، وكفارة قتل المسلم عند سكونه مع أهل الذمة وأهل العهد ، ثم ذكر عقيبه حكم قتل العمد مقروناً بالوعيد ، فلما كان بيان حكم قتل الخطأ بياناً لحكم اختص بالمسلمين كان بيان حكم قتل العمد الذي هو كالضد لقتل الخطأ وجب أن يكون أيضاً مختصاً بالمؤمنين فإن لم يختص بهم فلا أقل من دخولهم فيه .

* الثاني : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : ( يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) وأجمع المفسرون على أن هذه الآيات إنما نزلت في حق جماعة من المسلمين لقوا قوماً فأسلموا فقتلوهم ، وزعموا أنهم إنما أسلموا من الخوف ، وعلى هذا التقدير فهذه الآية وردت في نهي المؤمنين عن قتل الذين يظهرون الإيمان ، وهذا أيضاً يقتضي أن يكون قوله : ( ومن يقتل مؤمناً متعمداً ) نازلاً في نهي المؤمنين عن قتل المؤمنين حتى يحصل التناسب ، فثبت بما ذكرنا أن ما قبل هذه الآية وما بعدها يمنع من كونها مخصوصة بالكفار .

* الثالث : أنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف المناسب له يدل على كون ذلك الوصف علة لذلك الحكم ، وبهذا الطريق عرفنا أن قوله : ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ) المائدة 38 ، وقوله : ( والزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما ) النور 2 ، الموجب للقطع هو السرقة والموجب للجلد هو الزنى ، فكذا هاهنا وجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو القتل العمد ، لأن هذا الوصف مناسب لذلك الحكم ، فلزم كون ذلك الحكم معللاً به ، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يقال أينما ثبت هذا المعنى فإنه يحصل هذا الحكم ، وبهذا الوجه لا يبقى لقوله : الآية مخصوصة بالكافر وجه .

* الوجه الرابع : أن المنشأ لاستحقاق هذا الوعيد إما أن يكون هو الكفر أو هذا القتل المخصوص ، فإن كان منشأ هذا الوعيد هو الكفر كان الكفر حاصلاً قبل هذا القتل ، فحينئذ لا يكون لهذا القتل أثر البتة في هذا الوعيد ، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآية جارية مجرى ما يقال إن من يتعمد قتل نفس فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ، لأن القتل العمد لما لم يكن له تأثير في هذا الوعيد جرى مجرى النفس ، ومجرى سائر الأمور التي لا أثر لها في هذا الوعيد ، ومعلوم أن ذلك باطل ، وإن كان منشأ هذا الوعيد هو كونه قتلاً عمداً فحينئذ يلزم أن يقال أينما حصل القتل يحصل هذا الوعيد ، وحينئذ يسقط هذا السؤال ، فثبت بما ذكرنا أن هذا الوجه الذي ارتضاه الواحدي ليس بشيء .

وأما الوجه الثاني من الوجهين الذين اختارهما فهو في غاية الفساد ، لأن الوعيد قسم من أقسام الخبر ، فإذا جوز على الله الخلف فيه ، فقد جوز الكذب على الله ، وهذا خطأ عظيم ، بل يقرب من أن يكون كفرا ، فإن العقلاء أجمعوا على أنه تعالى منزه عن الكذب ، ولأنه إذا جوز الكذب على الله في الوعيد لأجل ما قال إن الخُلف في الوعيد كرم فلم لا يجوز الخُلف أيضاً في وعيد الكفار ؟ وأيضا فإذا جاز الخُلف في الوعيد لغرض الكرم فلم لا يجوز الخلف في القصص والأخبار لغرض المصلحة ؟ ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في القرآن ، وكل الشريعة ، فثبت أن كل واحد من هذين الوجهين ليس بشيء .

وحكى القفال في تفسيره وجهاً آخر هو الجواب ، وقال : الآية تدل على أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، لكن ليس فيها أنه تعالى يوصل هذا الجزاء إليه أم لا ، وقد يقول الرجل لعبده جزاؤك أن أفعل بك كذا وكذا إلا أني لا أفعله ، وهذا الجواب أيضاً ضعيف لأنه ثبت بهذه الآية أن جزاء القتل العمد هو ما ذكر ، وثبت بسائر الآيات أنه تعالى يوصل الجزاء إلى المستحقين ، قال تعالى : ( من يعمل سوءاً يجز به ) النساء 123 ، وقال : ( اليوم تجزى كل نفس بما كسبت ) غافر 17 ، وقال : ( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) الزلزلة 7/8 ، بل إنه تعالى ذكر في هذه الآية ما يدل على أنه يوصل إليهم هذا الجزاء ، وهو قوله : ( وأعد له عذابا عظيما ) فإن بيان أن هذا جزاؤه حصل بقوله : ( فجزاؤه جهنم خالدا فيها ) فلو كان قوله : ( وأعد له عذابا عظيما ) إخباراً عن الاستحقاق كان تكرارا ، فلو حملناه على الإخبار عن أنه تعالى سيفعل لم يلزم التكرار ، فكـان ذلك أولى )(1) .

وبعد هذا التقرير الذي قرره الفخر في هذا المقام انثنى من الواضح إلى المشكل ، ومن اليقين إلى الشك حيث قال : " واعلم أنا نقول هذه الآية مخصوصة في موضعين ، أحدهما أن يكون القتل العمد غير عدوان ، كما في القصاص فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد البتة ، والثاني القتل العمد العدوان إذا تاب عنه فإنه لا يحصل فيه هذا الوعيد ، وإذا ما ثبت دخول التخصيص فيه في هاتين الصورتين فنحن نخصص هذا العموم فيما إذا حصل العفو ، بدليل قوله تعالى : ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء 48 ، وأيضاً في هذه الآية إحدى عمومات الوعيد ، وعمومات الوعد آكد من عمومات الوعيد " (2).



ونحن لا ننازع الفخر في كون هذا الوعيد لا يشمل القاتل غير المعتدي كالمقتص ، ولا التائب من قتله مع استيفاء شروط التوبة ، ولكننا ننازعه في تخصيصه بحصول العفو لغير التائب ، وبطلان ذلك ظاهر من وجهين :

ـ أولهما : إن هذا التخصيص إما أن يكون مقتضيا إبطال وعيد قاتل العمد بالخلود في النار رأساً، ويترتب عليه ما ذكره الفخر بنفسه ، وهو دخول الكذب في أخبار الله تعالى ، وقد نقل نفسه أن العقلاء مجمعون على عدم جوازه ، وإما أن يكون يقتضي حصول العفو عن بعض القتلة دون بعض، وعليه فلا بد من أن يخلد في النار بعض الموحدين ، وإقرار ذلك يوقعهم في ما فروا منه ، فإن هذه المحاولات المختلفة في تأويل هذه الآية وأمثالها لم يقصدوا بها إلا التهرب مما تدل عليه من خلود عصاة الموحدين غير التائبين في النار ، على أن العفو عن بعض العصاة دون بعضهم مع اتحاد جريمتهم منافٍ لعدل الله تعالى وحكمته ، كما أنه يستلزم إقرار ما نفاه الفخر من إخلاف الله خبره لأن الوعيد لم يخص بعضاً دون بعض .

ـ ثانيهما : أن قوله تعالى: ( ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ) لا يدل بحال على العفو عن أصحاب الكبائر دون الشرك مع الإصرار عليها ، ذلك لأن هذه الآية جاءت في موضعين من سورة النساء في مقام التحضيض على دخول من لم يسلم في الإسلام ، فهي في الموضع الأول مسبوقة بقوله تعالى: (يا أيها الذين أُوتوا الكتاب آمنوا بما نزَّلنا مصدقاً لما معكم من قبل أن نطمس وجوهاً فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنَّا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا ) النساء 47 ، ثم تلا ذلك قوله سبحانه : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ) فيفهم من هذا السياق أن المراد بالآية أن الله لا يغفر لمن بقي على شِركه غير نازع عنه إلى التوحيد ، ولو تاب من سائر آثامه فإن توبة المشرك لا تكون إلا بالتوحيد الذي هو أساس الصالحات ، ومحور البرّ ، كما أن الشرك أم الفجور ، وقوله : (ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ) أي مادون الشرك من معاصي المشركين لمن شاء أن يوفقه للتوبة من شركه منهم ، فإن الإسلام جب لما قبله ، وكل من أسلم مخلصاً لله تعالى خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، ولم تلحقه تبعة ، ولا يعلق به إثم مما قارفه في جاهليته من أنواع المعصية ، وهو معنى قوله تعالى : ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) الأنفال 38 ، ولا خلاف بين الأمة في ذلك ، وتفسير هذه الآية بغير هذا يخرجها عما يقتضيه سياقها .

وأما الموضع الثاني فقد سُبِقَت فيه بقوله تعالى : ( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى ونصله جهنم وساءت مصيرا ) النساء 115 ، فحملها على غير ما ذكرته من تفسيرها مخرج لها عما يدل عليه أيضاً سياق ما قبلها ، فإن قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) تقرير فيه معنى التعليل لقوله : ( ومن يشاقق الرسول .. الخ الآية ) وقوله : ( ويغفر مادون ذلك لمن يشاء ) وعد لمن أسلم من المشركين بغفران ما تقدم من خطاياهم بعد ما تقدمه من وعيد لمن أصر على شركه ، وبهذا يتبين وجه إعادة لفظ الآية مرة أخرى مع عدم اختلاف إلا في الفاصلة ، فقد فصلت أولاً بقوله تعالى : بـ ( ومن يشرك بالله فقد افترى إثماً عظيماً ) النساء 48 ، وفصلت ثانيا بقوله : ( ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيدا ) النساء116 ، وبهذا يمكن الجمع ما بينهما وبين آيات الوعيد القاطعة بإنجازه كالوعد .

وأما ما ذكره الفخر من أن آية قتل العمد هي إحدى عمومات الوعيد وعمومات الوعد أكثر من عمومات الوعيد .

فجوابه أنه لا تنافي بين هذه وتلك حتى يرجح جانب منها على جانب ، لأن عمومات الوعيد في المصرّين ، وعمومات الوعد في التائبين ، والكل من عند الله تعالى الذي لا إخلاف لميعاده ، ولا تبديل لكلماته ، ولا معنى لترجيح بعض أخبار الله على بعض مع استحالة الكذب في جميع أخباره تعالى ، وإنما يجب أن يوضع كل موضعه ، ويؤول بتأويله .

وقال صاحب المنار - بعدما تحدث في تفسير الآية - : ( قد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار ، وأوله بعضهم بطول المكث فيها ، وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار ، فيقال إن المراد به طول المكث أيضاً ، وقال بعضهم إن هذا جزاؤه الذي يستحقه إن جازاه الله تعالى ، وقد يعفو عنه فلا يجازيه ، رواه ابن جرير عن أبي مجلز ، وفيه أن الأصل في كل جزاء أن يقع لاستحالة كذب الوعيد كالوعد ، وأن العفو والتجاوز قد يقع عن بعض الأفراد لأسباب يعلمها الله تعالى ، فليس في هذا التأويل تفص من خلود بعض القاتلين في النار ، والظاهر أنهم يكونون الأكثرين ، لأن الاستثناء إنما يكون في الغالب للأقلين ، وقال بعضهم إن هذا الوعيد مقيد بقيد الاستحلال ، والمعنى ومن يقتل مؤمنا متعمدا لقتله مستحلا ، له فجزاؤه جهنم خالداً فيها .. الخ ، وفيه أن الآية ليس فيها هذا القيد ، ولو أراده الله تعالى لذكره كما ذكر قيد العمد وأن الاستحلال كفر ، فيكون الجزاء متعلقا به لا بالقتل ، والسياق يأبى هذا ، وقال بعضهم إن هذا نزل في رجل بعينه فهو خاص به ، وهذا أضعف التأويلات لا لأن العبرة بعموم اللفظ دون خصوص السبب فقط ، بل لأن نص الآية على مجيئه بصيغة العموم ( من الشرطية ) جاء بفعل الاستقبال فقال : ( ومن يقتل ) ، ولم يقل : ( ومن قتل ) ، وقال آخرون : إن هذا الجزاء حتمٌ إلا من تاب وعمل من الصالحات ما يستحق به العفو عن هذا الجزاء كله أو بعضه ، وفيه أنه اعتراف بخلود غير التائب المقبول التوبة في النار )(1) .

وبعدما قطع شوطاً في الكلام على توبة قاتل العمد : نقل عن الإمام محمد عبده ما يؤكد أن عقيدته في قاتل العمد إذا لم يتب أنه مخلد في النار والعياذ بالله .(2)

6 ـ قوله تعالى : ( للذين أحسنوا الحسنى وزيادة ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة أُولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ، والذين كسبوا السيئاتِ جزاء سيئةٍ بمثلها وترهقهم ذلة مالهم من الله من عاصم كأنما أُغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلما أُولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) يونس 26/27 ، والاستدلال به من وجوه :

ـ أولها : أن الله وعد بالجنة الذين أحسنوا وحصرها فيهم بقوله : ( أولئك أصحاب الجنة ) فعرَّف المسند والمسند إليه ، ووسَّط بينهما ضمير الفصل لتأكيد الحصر .

ـ ثانيهما : أنه أخبر عنهم أنهم لا يصيبهم قتر ولا ذله ، ولا يعقل أن يصلى أحد النار ولو لمدة ثواني فلا يرهقه فيها قتر ولا ذله .

ـ ثالثهما : أنه توعد الذين عملوا السيئات بالنار مخلدين فيها ، وهذا الحكم يصدق على من أتى أي سيئة ، فإن السيئات جنس غير محصورة أفراده ، وما كان كذلك فحكمه يصدق على كل فرد من أفراده سلباً وإيجاباً ، ألا ترى أن قول القائل تزوجت النساء لا يعني أنه تزوج جميع أفراد النساء ، بل يصدق على ما لو تزوج ولو واحدة منهن ، ولو حلف أنه لم يتزوج النساء ، وقد تزوج واحدة كان في قَسمه حانثاً .

فإن قيل : إن الله وعد المحسنين بالجنة ، وكل من أتى حسنة فقد أحسن ، على أن المفسرين من فسر المحسنين هنا بالموحدين لأن التوحيد أس الحسنات .

فجوابه لو كان الأمر كذلك لم يكن داع إلى أمر أو نهي في كتاب أو سنة ما دام المطلوب هو التوحيد وحده ، ولتساقطت جميع آيات الوعيد على ما دون الشرك من المعصية ، كترك الصلاة ، ومنع الزكاة ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، وقطيعة الرحم ، وقتل النفس المحرمة بغير حق ، والزنى ، وسائر أعمال الفجور ، ولاستلزم ذلك أن يكون القتلة ، والزناة ، واللصوص ، وسائر أهل الكبائر في تعداد المحسنين ماداموا يلوكون كلمة التوحيد بألسنتهم ، وإن من أعجب العجب أن يُفسَّر الإحسان بما ذكر ولو مع مقارفة هذه الفواحش وأمثالها ، والنبي صلى الله عليه وسلم يفسر الإحسان بقوله : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) .

7 ـ قوله تعالى : ( والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غـراما ) الفرقان 65 ، فإن وصفه بالغرام يدل على عدم انقطاعه ، قال في اللسان: ( والغرام : اللازم من العذاب والشر الدائم والبلاء ، والحب والعشق وما لا يستطاع أن يُتفصّى منه ) . وقال الزجاج : هو أشد العذاب في اللغة ، قال الله عز وجل : ( إن عذابها كان غراما) وقال الطرماح :

ر كان عذابا وكان غراما


ويوم النسار ويوم الفجا



وقوله عز وجل : ( إن عذابها كان غراما ) أي ملحا دائما ملازما ، وقال أبـو عبيدة : ( أي هلاكاً ولزاماً لهم ) (1).

وقال شارح القاموس : ( والغرام مالا يستطاع أن يُتفصَّى منه ، وأيضاً المُلِح الدائم المـلازم)(2).

8 ـ قوله تعالى : ( والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلـد فيه مهانا ) الفرقان - 68 - 69 ، فقد توعد الله فيه قاتل النفس المحرَّمة بغير الحق ، والزاني بما توعد به من دعا مع الله إلها آخر من الخلود في النار .

واعترض بأن هذا الوعيد خاص بمن جمع بين الكبائر الثلاث دون من أتى واحـدة منها .

وأجيب بأن هذا يعني أن من أشرك مع الله إلها آخر ولم يجمع مع شركه بين الزنا وقتل النفس المحرمة لم يَصْدُق عليه هذا الوعيد ، وهذا لا يقوله أحد منكم ، فإن قيل إن خلود المشرك ثبت بنصوص أخرى دلت على أن شِركه كافٍ في استحقاقه هذا العذاب ، فالجواب أن النصوص لم تفرق بين الشرك وغيره في الخلود ، بل دلت على خلود غير المشرك بالنص على بعض الكبائر كالقتل تارة والتوعد به على مطلق المعصية تارة أخرى كمـا في الآية الآتية .

9 ـ قوله تعالى : ( ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنـم خالدين فيها أبدا ) الجـن 23 ، ولا يماري أحد يؤمن بما أنزل الله أن مقارفة الكبيرة معصية لله ولرسوله ، فإن قيل إن هذا الوعيد خاص بالمعصية الكبرى وهي الإشراك بالله تعالى .

قلنا هذه مخالفة لصريح اللفظ بدون داع .

فإن قيل إن الداعي إلى ذلك حمل هذا الوعيد على ما جاء من وعيد المشركين بهذا الجزاء .

قلنا : إن ورود الحكم العام في بعض أفراد مدلولاته لا يخصص عمومه ، وكما تُوعِّد المشركون بهذا الجزاء توعد سائر أصحاب الكبائر به في نصوص أُخرى كما سبق بيانه .

10 ـ قوله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين وما هـم عنها بغائبين ) سورة الانفطار 13/16 ، ووجه الاستدلال به ما فيه من تقسيم الناس إلى طائفتين ، أبرار وفجار ، وتقسيم جزائهم إلى مصيرين ، نعيم وجحيم ، مع النص على عدم غياب أصحاب الجحيم عنها ، وذلك على حد قوله تعالى : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) الشورى 7 .

واعترض بأن المراد بالفجار الكاملون في الفجور الذين وصفهم الله بقـوله : ( أولئك هم الكفرة الفجرة ) عبس 42 ، حتى أن الفخر الرازي قال : ( لا نسلم أن صاحب الكبيرة فاجر )(1)

ويرد هذا الاعتراض أنهم ملزمون على قولهم هذا أن يكون الزناة ، ومن عَمِل عَمَل قوم لوط ، وأكلة الربا ، وقتلة الأنفس بغير حق ، ومانعو الزكاة ، وسائر أهل الكبائر ماعدا الشرك في تعداد الأبرار الموعودين بالنعيم ، ورضوان من الله أكبر ، ولعمر الله ما من وسيلة لهدم قواعد الدين واستئصال الفضائل ، وإشاعة الفحشاء ، ونشر الرذائل ، أبلغ من هذا الاعتقاد ، فإنه يهدم جميع أوامر الله ونواهيه وينسف كل ما جاء في كتابه ، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم من وعيد لأهل الكبائر ، وناهيك أن يكون الزنى ، واللواط ، وشرب الخمور ، والدياثة ، وسائر المنهيات من أعمال البر لأن مرتكبيها في صفوف الأبرار .

وأما من السنة فكثير من الروايات الصحيحة التي لا يمكنني جمعها إلا بعد جهد جهيد ، وإنما أقتصر منها على ما يأتي :

1 ـ روى البخاري ومسلم وغيرهما من طريق أبن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ثم يقوم مؤذن بينهم يا أهل النار لا موت و يا أهل الجنة لا موت كل هو خالد فيما هو فيه ) وروى مثله البخاري من طريق أبي هريرة رضي الله عنه والطبراني والحاكم - وصححه من طريق معاذ رضي الله عنه ، ودلالته على صحة عقيدة القائلين بخلود أهل الكبائر في النار لا غبار عليها ، فإنه يفيد أن ذلك يعقب دخول الطائفتين في الدارين .

2 ـ أخرج الطبراني وأبو نعيم وابن مردويه عن أبن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو قيل لأهل النار أنكم ماكثون في النار عدد كل حصاة في الدنيا لفرحوا بها ، ولو قيل لأهل الجنة أنكم ماكثون فيها عدد كل حصاة لحزنوا ولكن جعل لهم الأبد ).

3 ـ روى أحمد والبزار والحاكم والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يدخل الجنة عاق ولا مدمن خمر ) وفي رواية : ( ثلاثة قد حرم الله عليهم الجنة ، مدمن الخمر ، والعاق لوالديه والديوث ، وهو الذي يقر السوء في أهله ).

4 ـ روى الشيخان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من شرب الخمر في الدنيا يحرمها في الآخرة ) وهو كناية عن حرمانه من دخول الجنة ، لأن أهل الجنة لهم فيها ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم فلا يحرمون من شيء .

5 ـ أخرج البخاري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من استرعاه الله رعية ثم لم يحطها بنصحه إلا حرم الله عليه الجنة ) .

6 ـ روى الإمام الربيع في مسنده الصحيح عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( من اقتطع حق مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب له النار ) فقال رجل : وإن كان قليلاً يسيراً يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( وإن كان قضيباً من أراك ) ، ورواه الإمام مالك في موطئه ، ومسلم في صحيحه ، والنسائي في سننه من حديث أبي أمامة رضي الله عنه .

7 ـ أخرج الشيخان وغيرهما من طريق أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسمٍّ فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً فيها أبداً ، ومن نزل من جبل فقتل نفسه فهو ينزل في نار جهنم خالدا مُخّلداً فيها أبداً ) .

8 ـ روى مسلم في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( صنفان من أهل النار لم أرهما ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ) .

9 ـ روى البخاري ومسلم عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة نمَّام ـ وفي رواية قتَّات ) .

10 ـ روى الشيخان عن سعد وأبي بكرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( من ادعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام ) .

والروايات - كما قلت - في ذلك كثيرة ، تارة تدل على الخلود بالنص عليه ، وتارة بالجمع بينه وبين التأبيد ، وأخرى بالتوعد بحرمان الجنة أو حرمان شم ريحها ، ومحصلها واحداً وإن اختلفت ألفاظها ، فإن حرمان الجنة ينافي دخولها في أي وقت من الأوقات ، كما أن نفي دخولها يعم جميع الأزمنة ، وقد تقدم تحرير ذلك في نظيره .



--------------------------------------------------------------------------------

(1) جامع البيان عن تأويل آي القرآن ج1 ص386/387 ، ط دار الفكر .

(2) المنار ج1 ص363 ، ط4 دار المنار .

(1) المنار ج1 ص363/364 .

(2) المرجع السابق ج5 ص343 .

(1) المرجع السابق ج3 ص98/99 .

(1) المرجع السابق ص267/268 .

(1) المرجع السابق ص268/269.

(2) المرجع السابق ج4 ص432/433 .

(1) التفسير الكبير للفخر الرازي ج1 ص238/239 ط2 دار الكتب العلمية طهران .

(2) المرجع السابق ص342 .

(1) المنار ج5 ص341/342 الطبعة الرابعة دار المنار.

(2) المرجع السابق ص344/345.

(1) لسان العرب ج12 ص436 دار صادق للطباعة والنشر -دار بيروت للطباعة النشر، بيروت-.

(2) تاج العروس ج9 ص4 دار مكتبة الحياة .

(1) التفسير الكبير ج31 ص84 ط2 دار الكتب العلمية - طهران .
  #32  
قديم 13/10/2004, 04:38 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم



خاتمة

في نتيجة البحث

لا ريب - أخي القارئ الكريم - أنك بعد هذا التطواف بين هذه الأدلة وفحصك إياها بعين البصيرة أدركت أن عقيدة القائلين بخلود أصحاب الكبائر في النار ، التي أنكرها من أنكرها عليهم وحكم عليهم من أجلها بالكفر ، هي العقيدة التي نطق بها القرآن ، ودعمتها الأحاديث الصحيحة الصريحة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فهي العقيدة التي يجب على المسلم أن يعتصم بحبلها وأن يلقى الله عليها ، كيف وقد عزا القرآن الكريم ما يخالفها إلى اليهود ، وأنكره عليهم ، وقرر أنه منشأ انحرافهم عن الحق حيث قال : ( ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات ) آل عمران 24؟

ومن أمعن النظر في أحوال الناس يتبين له أن اعتقاد انتهاء عذاب العصاة إلى أمد ، وانقلابهم بعده إلى النعيم جرّأ هذه الأمة - كما جرّأ اليهود من قبل - على انتهاك حرم الدين ، والتفصِّي عن قيود الفضيلة ، والاسترسال وراء شهوات النفس ، واقتحام لجج أهوائها .

ولا أدل على ذلك من ذلك الأدب الهابط الذي يصور أنواع الفحشاء ، ويجلّيها للقراء والسامعين في أقبح صورها وأبشع مظاهرها ، وقد انتشر هذا الأدب في أوساط القائلين بالعفو عن أهل الكبائر ، أو انتهاء عذابهم إلى أمد ، انتشاراً يزري بقدر أمة القرآن ، وغلب على المؤلفات الأدبية ، مطولاتها ومختصراتها ، كالأغاني ، ومحاضرات الأدباء ، والعقد الفريد ، حتى كاد الأدب يكون عنوانا على سوء الأدب .

وقد صان الله من ذلك أدب أصحاب العقيدة الحقة ، الذين رسخ في نفوسهم ما جاء به القرآن من أبدية عذاب أهل الكبائر المصرّين كأبدية المطيعين المحسنين ، كما صان الله سلوكهم ، وطهر وجدانهم ، وسلّم سرائرهم من الاستهانة بحرمات الله تعالى ، والاستخفاف بأحكامه الزاجرة ، ولو قلّبت صفحات أدبهم لوجدتهم - في شعرهم ونثرهم - كما يقول الأستاذ أحمد أمين : ( لا يعرفون خمراً ولا مجوناً ، فلا تجد في أدبهم خمراً ولا مجوناً )(1) .

واسمح لي أخي القارئ الكريم أن أقول كلمة - والألم يعتصر قلبي والأسف يلهب وجداني - إن مما يضاعف المصيبة ويكثّف البلاء أن توجد صُوَرٌ من الخلاعة المستهترة ، والمجون الساقط مثبتة في تراجم رجال يعدّون قمما في أمة الإسلام ، هم أجدر الناس بتجسيد فضائل الدين والتحلي بمثله والاعتزاز بآدابه ، وقد ضربت صفحا عن الإشارة إلى بعض هؤلاء بالأسماء والكنى حرصاً على السلامة من مزالق القول ، وصوناً لأعراض المسلمين ، وحفاظا على حرماتهم .

وإنني لأبرأ من إقرار ما نسب إليهم ، فإن مبادئنا احترام حرمات جميع المسلمين ، خواصهم وعوامهم ، فضلاً عن علمائهم الذين زادهم الله حرمة العلم مع حرمة الإسلام ، ولكنني أقول إن نفس الاجتراء على نسبة هذه السفاسف إلى أعلام الأمة إجرام لا يستهان به في حقها وحقهم ، لم ينشأ إلا من الاستخفاف بأوامر الله الناتج عن الاستخفاف بوعيده الذي يتمثل في دعوى أن الموحد لا يعذّب ، وإن عُذب لم يخلد في العذاب .

ولست أنسى ما قاله لي الداعية الكبير العلاّمة المنصف الشيخ عبد المعز عبد الستار : ( لو أن الأمة أخذت بعقيدتكم في خلود صاحب الكبيرة في العذاب ، لكان لها شأن في الصلاح والاستقامة والنزاهة والعفاف غير ما نراها عليه )(1) .





--------------------------------------------------------------------------------

(1) ضحى الإسلام ج3 ص342 ط مكتبة النهضة المصرية.

(1) وقال لي مثل هذا الشيخ محمد بن زكي بن إبراهيم رائد العشيرة المحمدية بمصر : ليتنا أخذنا بآرائهم في اعتبار الغيبة والنميمة مفطرة للصوم ناقضة للوضوء ، وقد أشرت إلى ذلك في كتابي " الولاية والبراءة " اهـ مراجعه أبو الحسن .
  #33  
قديم 13/10/2004, 04:41 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

خاتمة الكتاب



معذرة أخي القارئ الكريم ، لم يكن في حسباني أن ألتقي بك على هذه الصفحات حول هذه الموضوعات التي شغلت قلمي وأخذت من وقتك ، فإنني أحْرَصُ على أن ألتقي بك وأنا أتحدث إليك من خلال هذه السطور في موضوعات هي أحرى بأن تصرف عناية الكُتَّابِ والقراء ، فإن الوقوف في وجوه الزحوم المتنوعة المجتمعة على صعيد واحد لغزو الإسلام ، وتشتيت أمة الإسلام ، سياسيا وفكريا ، أجدر بكل مسلم داعية من الاشتغال بخلاف عقائدي بين طوائف الأمة الإسلامية الواحدة ، مضت عليه قرون وقرون ، وتناولته بالتحرير والبحث أقلام شتى هي أرسخ علما وأعمق فهما ، وأبلغ بيانا ، وأقوى حجة وبرهانا ، غير أني رأيت سكوتي في هذا الموقف قد يزيده تأزما ، فقد تروق دعيات المغرضين لمن لم يدرس أبعاد ما تتعرض له من القضايا الخلافية التي انطلقت منها في الحكم على جزء من جسم الأمة الإسلامية بفصله عنها ، ولم يطلع على ما عند هذه الفئة من هذه الأمة من أدلة تستنير بها في مواقفها من هذه القضايا ، فإن مما تداولته الألسن وتناقلته الأقلام : الحكمة التي قيلت قديما : ( المرء عدو ما جهل ) وفي معناها الشعر الذي قيل حديثا :



والجهل بالشيء في عين البصير عمى


................................


فمن هذا المنطلق قمت بتحرير هذه الصفحات موضحا فيها الحق بالدليل ، محكما الحجة الثابتة من الكتاب والسنة والبرهان العقلي دون الرجال .

ومن تأمل كلامي متجرداً عن العواطف يجده منصفاً للطوائف المختلفة ، فقد حرصت على إيراد حجة كل طائفة ، ودليل كل قول ، ومناقشة هذه الأدلة نقاشا موضوعيا بعيداً عن كل المؤثرات ، ومن خلال ذلك أرجو أن يدرك اخوتي القراء صدق نيتي ، وسلامة طويتي .

ولا يفوتني - ونحن أمام قضية تتعلق بوحدة الأمة الإسلامية جمعاء - أن أناشد من وصل إليه كتابي هذا من علماء المسلمين بأن يمعن فيه نظره ، مخلصا نيته لله سبحانه ، ثم يعلن كلمة الحق غير هيَّاب من أحد ، ولا مجامل على حساب الحق والحقيقة ، ولست أعني بذلك أنني أطالب الناس بأن يرجعوا عن معتقداتهم ، وأن يوافقوني فيما قلت ، فإن العقائد لا يملك أحد أن يفرضها على العقول فرضا ، وإنما هي نتيجة اقتناع بالفكرة سواء كان ناشئا عن اجتهاد ونظر ، أو عن تقليد واتباع ، وإنما مرادي أن على علماء المسلمين - وهم مسئولون عن هذا الدين الحنيف وعن أمة الإسلام - أن تكون لهم في مثل هذه المواقف التي تهدد بانصداع الأمة - وقفة إيجابية في وجه الذين يحبون إثارة الشغب والمهاترات التي لا تعقبها إلا المصائب والويلات بين أمتنا الإسلامية وأن يرشدوا جمهور الناس إلى ما يفرضه الإسلام من التسامح ، والتعاطف ، والتعاضد بين المسلمين .

وأُعلن للذين لا يرون إلا حسم الخلاف في هذه القضايا حتى تتفق فيها عقيدة الأمة ، بأنني لا أستنكف من الحوار الموضوعي الهادئ الهادف ، الذي لا ينشد به إلا الحق ، ولا يفضي إلا إلى تجلي الحقيقة وظهور برهانها ، ثم لا يؤدي إلا إلى الألفة والمودة بين المسلمين ، وإنما أشترط أن يكون هذا الحوار مدروساً من كل الجوانب لتفادي التشنج والانفعالات التي لا تؤدي إلا إلى عاقبة سيئة ، وليس من شأنها إلا تشويه وجه الحقيقة ، وطمس نور الحق ، ومحاولة تغطية محاسنه ، والحيلولة بينه وبين البصائر .
  #34  
قديم 13/10/2004, 04:43 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
بسم الله الرحمن الرحيم

شكر وعرفان

إن الواجب ليفرض عليَّ والوفاء ليقتضيني أن لا أنسى - في وسط هذه الضجة التي أثارتها تلك الأصوات الصَّاخبة ضد الإباضية - أصواتاً هادئة ارتفعت من ألسنة صادقة ، وانبعثت من نوايا طيبة ، لتسجل ثناءها الصادق على هذه الطائفة التي حافظت على الإسلام الحق ، ودافعت عنه بأعز ما تملك من نفس ومال ، واستقامت على الصراط المستقيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخلفاؤه الراشدون ، وأصحابه المهديون رضي الله تعالى عنهم ، ولم تختلبهم الدنيا بزهرتها الفاتنة عندما كان الجم الغفير من الناس يتهالكون عليها فيتساقطون في أشراكها .

لقد قيض الله هذه الأصوات لتنير درب الحقيقة لطلابها ، وتمزق ما نسجته الأحقاد من الافتراءات التي لم تقم على أساس من الواقع ، ضد هذه الفئة المؤمنة التي اشتهرت في أوساط المؤمنين وغيرهم بلقب الإباضية ، ولست الآن في مقام الإحصاء لهاتيك الأصوات ومصادرها ، فإن الفرصة لا تسمح لي بذلك ، وإنما أكتفي بأن أسجل لأصحابها عموما أجمل الثناء وأطيب الدعاء ، وأود أن أشير إلى بعض هؤلاء المنصفين لأعرض على القارئ الكريم صورا من إنصافهم لهذا المذهب ورجاله ، وإلى القارئ مشاهد من هذه الصور :

1 ـ العلامة الجليل عز الدين التنوخي :

عضو المجمع العلمي بدمشق سابقاً ، الذي سجل بيراعه المنصف صفحات مشرقة بفضائل أهل الاستقامة ، حتى قال في متهميهم بالزيغ : ( كل من يتهم الإباضي بالزيغ والضلال فهو ممن فرَّقوا دينهم وكانوا شيعاً ، ومن الظالمين الجهَّال ) (1).

2 ـ العلاّمة الكبير السيد عبد الحافظ عبد ربّه :

من علماء الأزهر الشريف ، جاء في كلامه عن الإباضية : ( لقد استنبطوا مذهبهم من القرآن الكريم ، واقتبسوه من السنة المطهرة ، وسلكوا في مسيرتهم إلى عبادة الله نفس الطريق التي سلكها الصحابة ، وارتضاها الإجماع ، وحرصوا كل الحرص على أن تكون خطواتهم على ذات الدرب ، وفي نفس الطريق ، وفوق " إفريز " الشارع ، ومع السبيل التي قطعها الرسول صلوات الله وسلامه عليه في مشواره الطويل وشوطه البعيد جيئة وذهابا ، على مدى مسيرته المباركة ، ورسالته الميمونة عبر الثلاثة والعشرين عاماً ، ومع تحريهم الصدق ، وحتمية الحق ، ومجاهدة النفس ، وريادة المعاناة ، والرياضة والترويض على المشقة والمقاساة حتى استبان لهم الأمر ، ووضح أمامهم الطريق ، وتبيَّن للعَالم أجمع - أو المخلصين المنصفين - أن هؤلاء هم ( أهل الاستقامة ) أو هم في الواقع - وعلى الحقيقة ( الفرقة الناجية ) التي أخبر عنها الصادق المعصوم ، والتي أمر الله رسولَه أن يختارها وينتهجها سبيلاً يوصل إلى عبادته ومرضاته في قوله تعالى : ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) يوسف 108 .

والمذهب الإباضي ليس عجيباً في الدنيا ولا غريباً عن الحياة ، وإنما هو العملة الصحيحة التي يجب تداولها وتناولها ، والتعامل بها في شتى الأنحاء ، وفي جميع المناخات والأجواء ، وهي بعون الله عملة لا ينالها التزييف أو التلبيس ، ولا يطولها الوضع أو التدليس ، ولا يجوز في منطقها العمل بين بين ، ولا التنكر في وجهين ، ولا المشي على الحبلين ، فالحق عندها واحد لا يتجزأ ، وكل لا يتوزع )(1) .

وقال أيضاً : ( وعموماً - وبعد استقصاء واستحصاء ، ودرس وبحث ، وتحليل وتعليل - تبيّن أن الإباضية هي الطريقة المثلى في الأداء الإسلامي ، وفي تعاطي الحياة ، وفي التعامل مع الناس ... وأئمتها ودعاتها هم الذين واجهوا مواكب النفاق ، وناهضوا أعاصير الشرك وعواصف الإلحاد ، وتحدوا - بكل صرامة وشدة وبأس - تلك الأفاعيل الهوجاء النكراء التي تتبدّى في سلوك المبطلين أو المستهترين من الحكام والباطشين سواء على المستوى الديني أو التعامل الدنيوي بين أفراد وجماعات الأمم والشعوب تمشيا مع منطق الدين ، واستجابة لدعاءاته ، ونداءاته ، ومتطلباته .

وما أحوج الدنيا اليوم إلى هذا اللون المتميز في الفقه الإسلامي .

وما أحوج الدنيا إلى دعاة الإباضية وأئمتها الذين من مهمتهم - ومن أولى وظائفهم إصلاح المسار الديني ، ومؤاخذة التسيّب والقبض بشدة على خناق الاستهتار والانحراف واللا أخلاقيات ، وإعادة الانضباط في شتى السلوكيات إلى هذه الحياة )(2).

وقال أيضاً : ( فالإباضية أصبحوا في الواقع - وفي نفس الأمر - وعلى الحقيقة هم اللغة الصحيحة - الفصيحة ، والصيغة المشرقة الوضاءة بين الله والناس ، والغُدَّةِ النشطة السليمة التي تُفرز للدنيا ماهيات الدين ، وتُقدم على موائد الإنسانية ما لذ وطاب من طعوم الحق ، وطيّبات اليقين ، فهم الفرقة الناجية التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في كل أحاديثه ومروياته ، وكان وجود هذا الصِّنف - أو النوع - من البشر ضرورة ملحة أو حتمية مقتضية استقطبت رحمة الله بعباده ، واستوجبت منهم مقابلة هذه الرحمة بألوان شتى من العبادات والقربات ، وأولها الشكر الخاص ، والعبودية الصافية ، والاحتفاء بنعم الله ، والاحتفال بآلائه ، وترجمة ذلك كله إلى السلوك الذي يحبه الله ورسوله ، وكان من مظاهر رحمة الله الفياَضة الحانية إنه لم يترك عباده هكذا - في هذه الدنيا - ضياعاً أوزاعاً ، أو هملاً ، أو كميات هابطة ساقطة تحت ركامات الشك ، وأنقاض الفتنة ، وخرائب التيه ، وأطلال الحيرة والقلق ، والتخبط والاضطراب.

ولما كان من حتمية الوجود الإنساني - لتتأكد فاعليته وينمو وجوده وتستمر معه الحياة - أن يعبر الطريق ، ويجتاز الجسر من الحاضر إلى الماضي ، ويصاحب التاريخ ، ويرافقه في كل خطواته ، ومع أبرز العناصر التي أثرت في الإيجاب والسلب ، والثبوت والنفي ، كان حتما مقضيا أن يصطحب الإنسان مع التاريخ تلك الفئة الهادئة المهدية التي حملت أرواحها على راحاتها ، وحياتها على أسلحتها ، وهبّت وقت الفزع والروع مطالبة بإنسانية الإنسان ، وكينونته البشرية في نطاق ما شرع الله ، وفي الإطار الذي خطته يد القدرة ، وحبك نسيجه الشرع ، وتكفلت به عناية الإسلام ، وعمل على ترجمته وتطبيقه سلوك محمد - عليه الصلاة والسلام - .

وهل هناك من هو أتقى وأنقى ، وأبرّ وأوفى ، في تأدية هذا الدور العظيم ، والقيام بهذه الرسالة الكبيرة الخطيرة غير الإباضيين ؟ .

وهل هناك مذهب يتلاحم في هذا الترقي الروحي أو يتلائم مع ذلك السمو التشريعي الفقهي غير المذهب الإباضي ، والإباضية عموماً ؟ .

وهل هناك فوق ظهر الأرض وفي جيوب وبين طيَّات وطبقات الحياة من يمكنه أن يستوعب هذه التعاليم الإلهية ، أو يستطيع أن يستقطب تلك المواجيد الكونية السماوية غير الإنسان الإباضي - صادق الإباضية - مصدره من الله ومورده إلى الله ، وحياته بين المصدر والمورد ، ودائما مع الله؟)(1).

3 ـ الكاتب المنصف العالم الزيتوني الأستاذ عبد العزيز المجذوب :

جاء في كلامه عن الإباضية : ( وأبرز ما يتصف به الإباضيون تمسكهم الشديد بالدين ، بأداء فروضه وتجنب نواهيه - إلى حد الغلو - وبُغظهم المفرط لأصحاب الظلم والفساد ، وبفضل هاتين الصفتين استطاعوا أن يحققوا لأنفسهم عزًّا دينيا ، ومجداً سياسيًّا ، خلَّد ذكرهم في التاريخ )(2).

وقال أيضاً : ( حافَظوا على صفاء الرسالة المحمدية في أصول مذهبهم ، ولم ينحرفوا عن النهج القويم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصحابته البررة في سلوكهم وأمور معاشهم ، ولا اقترف ولاتهم إثماً ، ولا مارسوا في قيادتهم ظلماً ، ولا أي لون من ألوان العسف التي لم يبرأ منها إلا القليل من الولاة سواهم .

بل إن الظلم في حقهم كان مستحيلاً ، لا لكونهم معصومين ، بل لأن رجل الدين عندهم ورجل السياسة واحد ، والقائم بأمر الناس فيهم هو الإمام نفسه ، وتلك هي قاعدة الإسلام في الحكم التي سار عليها الخلفاء الراشدون ، وعليها حافظوا ودونها نافحوا ، فمن الطبيعي أن ينتشر مذهب هذا شأنه ، وأن يُقبل على أتباعه الناس ببلاد المغرب ليجدوا في أكنافه الأمن والكرامة ، وهم من سئموا حياة الاضطراب والظلم على أيدي الكثير من عمَّال بني أمية وبني العبَّاس )(3).

ثم قال : ( ولعلَّ أولَّ داعية إباضي قدِم هذه البلاد .. هو سلمة بن سعد الذي عَرف كيف ينتقل بالبلاد وأي الشعاب يسلك حتى يأمن ظلم الظالمين ، ويضمن لعمله التوفيق ولرسالته الانتشار، فاختار الطرق الجبلية البعيدة عن الصحراء القاحلة وأهوالها ، وعن المناطق الساحلية الخاضعة لسلطة الولاة ، وبجبال نفوسة ودمّر ، نفزاوة وما والاها من المرتفعات والجبال ، وكلها مناطق آهلة بالسكان كثيرة العمران ، أمكن له أن يستقر ، ويقوم في صفوف البربر بالدعوة ، موضحاً للأذهان الصورة الصحيحة للإسلام في الاعتقاد والعبادة والمعاملة ، وهي غير الصورة التي شاهدها الناس في الحاكمين وأتباعهم في ذلك الوقت ، فالتف من حوله الناس مستجيبين لدعوته ، وراح يتنقَّل من مكان إلى آخر ، وما ارتحل من موضع إلا خلَّف فيه أتباعاً تكاثروا مع مرور الأيام والأعوام ، حتى صار لهم شأن ، وأضحوا يمثلون قوة يقرأ لها ألف حساب .

ومن أفريقية انطلق شابان إباضيان - بعد أن تلقيا المبادئ الأولى للدين والمذهب على يد سلمة بن سعد - انطلقا إلى العراق ضمن بعثة تضم عدداً من الإباضيين سواهما ، فقضيا سنين في طلب العلم على يد إمام المذهب في ذلك الوقت ، أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة ، فالطالب الأول من القيروان وهو عبد الرحمن بن رستم ، أما الثاني فهو أبو داود من الجنوب ، ولما أتما الطلب واكتمل عندهما العلم ، واطمأن لنباهتهما إمامهما أوصاهما خيراً ثم سرَّحهما عائدين إلى موطنهما ، فكان لأبي داود شأن في عالم الإصلاح ، إذ تفرَّغ للجهاد الديني والعلمي فأنشأ بجهة نفزاوة وسواها من جهة الجنوب جيلاً إسلاميًّا فاضلاً في خُلقه ودينه ، كان البذرة الصالحة لما تبعته من أجيال تمسكت بالسنة والفضيلة ، وقاومت البدع والرذيلة )(4) .

وعندما تكلم عن مقاومة الإباضية بقيادة إمامهم أبي الخطاب المعافري لظلم قبيلة ورفجومة الصفرية التي كانت متمكنة في القيروان ، وانتزاعهم مدينة القيروان منها قال: (هذا هو أبو الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري وجه إليه عبد الرحمن بن رستم من صوَّر له بشاعة ما يجري بالقيروان فهبَّ لأداء الواجب الذي يفرضه عليه التعاطف الأخوي ، ويحتِّمه مبدأ من أهم المبادئ لمذهبه ، ألا وهو مقاومة أولي الأمر بالسيف واستباحة دمائهم إذ تعدُّوا حدود الله ، ومالوا في أحكامهم إلى الهوى ، وقدِم أبو الخطاب في جيش عظيم تطوَّع لإقامة العدل ومحق الفساد والظلم الذي اقترفه عاصم الورفجومي وأتباعه ، فكان له النصر .

ثم بعد أن أمَّن الناس حافظاً أرزاقهم وأعراضهم ، ولَّى على القيروان عبد الرحمن بن رستم ورجع إلى طرابلس ، ودامت ولاية ابن رستم سنتين اثنتين ذاق المسلمون فيهما بالقيروان وبأفريقية كلها طُعم الأمن ، وعرفوا معنى العدل ، وأدركوا لأول مرة تقريباً طعم العيش الكريم في ظل الحكم الإسلامي النظيف )(1) .

ثم تحدَّث عن دور الإباضية عموماً في بلاد المغرب فقال : ( والواقع أن الإباضية قد تمكنت من فرض وجودها التاريخي فحقَّقت عزًّا دينيا ذا بال بقيت آثاره إلى اليوم في أتباعه الذين يعيشون بيننا ، التزموا خدمة الدين ومقاومة البدع والرذيلة ، حازمين في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، كما حققت مجداً سياسيا كان له شأن في تاريخ الإسلام بالمغرب العربي ) { نفس المصدر ص110 } .

4 ـ الأستاذ الفاضل الشيخ محمد شحاته أبو الحسن الذي يقول :

( أنا لا أحابي أحداً في موقفي هذا ، ولكني أقول إن أصحاب هذا المذهب الذي تجنَّى عليه البعض ، أكثر منَّا تسامحاً واستجابة لأمر الله سبحانه بالتآلف ، فقد عشت بين أظهرهم ، أقوم بتدريس مادة التفسير في معهد القضاء الشرعي ما يزيد على اثني عشر عاماً لم أجد ما يكدِّر الصفو ، ولا ما يحملني على قولٍ بعينه دون دليل ، رغم الاختلاف في بعض المسائل ، وكنا أنا وطلابي والعلماء الأجلاء في المذهب نتبع الدليل الأقوى )(2) .

وبعد هذه الجولة التي قضيتها معي أخي القارئ الكريم - في هذه الصفحات بين أنحاء هذه القضايا - بحكم الظروف التي فرضتها علينا ، وتطوافنا بين هذه المعالم التي أرجو أن تكون الحقيقة طالعتك منها فشاهدتها رأي العين ، أستودعك الله تعالى مبتهلاً إلى الله سبحانه أن يوفقنا للِّقاء مرات ومرات تحت مظلة الإسلام الحنيف ، وقد التأم شمل المسلمين ، وتوحدت كلمتهم ، وتلاشت فقاقيع الخلاف التي تبدو فوق صفاء وحدتهم ، كما أبتهل إليه سبحانه أن يأخذ بأيدينا وأيدي هذه الأمة كلها إلى ما يحبه ويرضاه من صالح العمل وخالصه ، وصادق القول وزاكيه ، وأن ينوّر بصائرنا ، ويطهِّر سرائرنا ، ويكتب لنا السعادة ويباعدنا عن أسباب الشقاء ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين ) والسلام عليك أيها القارئ الكريم ورحمة الله وبركاته ؛؛

أخوك في الله

أحمد بن حمد الخليلي

سلطنة عمان ، مسقط ، 29 شعبان 1407 هـ



--------------------------------------------------------------------------------

(1) عز الدين التنوخي ، مقدمة " خلاصة الوسائل في ترتيب المسائل " ص ح ، ط1 . المطبعة العمومية بدمشق .

(1) السيد عبد الحافظ عبد ربه - الإباضية مذهب وسلوك ، ط1 ، القاهرة ص22/23.

(2) المرجع السابق ص237 .

(1) المرجع السابق ص246/247 .

(2) الصراع المذهبي بإفريقية إلى قيام الدولة الزبيرية ص104 ، الدار التونسية للنشر .

(3) المرجع السابق ص104/105 .

(4) المرجع السابق ص105/106 .

(1) المرجع السابق ص108/109 .

(2) رسالة بعنوان " بيان للناس " لم تزل بخط المؤلف لم تطبع بعد ص4 .
  #35  
قديم 13/10/2004, 04:50 PM
سحلا سحلا غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2004
الإقامة: عالم الحقيقة
المشاركات: 526
عذرا للتنزيل السريع و لكن طمعت أن أشبع رغباتكم بالحصول على الكتاب كاملا و أتمنى لكم جزيل الإستفادة منه و لا تنسونا بالدعاء


عما قريب ستجدون ملف وورد بالكتاب فترقبوا


أخوكم المدعو : سحلا
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز الصور لا تعمل
رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى


جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 01:24 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
سبلة العرب :: السنة 25، اليوم 127
لا تتحمل إدارة سبلة العرب أي مسئولية حول المواضيع المنشورة لأنها تعبر عن رأي كاتبها.