سبلة العرب
سبلة عُمان الصحيفة الإلكترونية الأسئلة الشائعة التقويم البحث مواضيع اليوم جعل المنتديات كمقروءة

العودة   سبلة العرب > سبلة الثقافة والفكر

ملاحظات

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع التقييم: تقديرات الموضوع: 3 تصويتات، المعدل 3.67.
  #101  
قديم 22/05/2004, 04:00 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

الكرة والسياسة
2004/05/19

محمد كريشان
صفر يا عالم ... هكذا صرخت بحرقة جريدة الأخبار القاهرية بعد خروج مصر بخفي حنين من تصويت تنظيم نهائيات كأس العالم 2010، وهكذا يفترض أن تعنون الصحف اللــيبية دون مكابرة وكذلك التونسية بعيدا عن التذرع بالانسحاب في آخر لحظة!!
تصويت أعضاء اللجنة التنفيذية للاتحاد الدولي لكرة القدم والذي توج باستضافة جنوب افريقيا لأكبر تظاهرة كروية عالمية بعد ست سنوات، والذي خرجت منه المغرب بنتيجة مشرفة، مناسبة يفترض أن يقف عندها كثيرون في هذه الدول العربية الإفريقية للتمعن في أسباب هذه الخيبة المتفاوتة الإيلام من بلد إلي آخر عسي أن تكون العبر الكروية سياسية أيضا:
ـ مصر هي الخاسر الأكبر وما أصابها يـُــعد فعلا، مثلما قـــالت جريدة الأهرام ، أقرب إلي الكارثة التي تستوجب تحقيقا واسع النطاق لإقصاء كل المسؤولين عن المهزلة ذلك أنه لم يكن مناسبا بالمرة أن تدخل مصر السبـاق وهي تمني النفس بالظفر مستقوية بما تراه عراقة التاريخ ورصيد البلد السياحي المفتوح والمكانة السياسية الرائدة في محيطها العربي والافريقي ثم تخرج خالية الوفاض ولو من صوت واحد يتيم. وبغض النظر عما يمكن أن يكون حمله الملف المصري من هنات رئيسية أو فنية فإنه من الصعب جدا إخراج نتيجة الصفر المجلجل عن تراجع مصر بشكل عام سواء في مكانتها القيادية التقليدية أو حتي لإإبداعاتها الفكرية والفنية فمصر اليوم لم تعد للأسف بــ أم الدنيا التي خبرها العالم والعرب وبالتالي فعندما تسود الرداءة ويعم الفساد كل المجالات من الصعب، بل ومن المستحيل، أن تكون الرياضة حتي بمعناها الحرفي البحت نقطة مضيئة في لوحة قاتمة.
ـ تونس وليبيا دخلتا في شراكة لم تقنع أحدا منذ البداية بل وألقت وبظلال كثيفة من الشك والريبة علي الساعين حقيقة للإستفادة من وراء صيغة لم يكن أحد يحبذ تكرارها بعد تجربة اليابانـ كوريا، ثم إنه لم يكن من الحصافة أصلا التقدم لاحتضان مناسبة دولية بهذه الضخامة فقط من خلال محاولة إقناع العالم بأن تعاون المال اللــيبي مع العقل التونسي سيفرز إعجازا فريدا بعد ست سنوات فقط!! وبعد أن اتضح أن استمرار هذه الشراكة لم يعد واردا فقد كان من المناسب الاقدام علي الانسحاب كليهما ولكن قبل وقت كاف وليس قبل يوم واحد، ولبلد دون الآخر، مع أن الاثنين كان يمكن أن يلعبا معا دورا متميزا في دعم الترشيح المغربي عوض هذا التشويش المجاني عليه.
ـ المغرب خرج مكسور الخاطر في منافسة خاض غمارها أربع مرات من قبل ولن تتاح له مرة أخري قبل أربعة وعشرين عاما أخري غير أن عزاءه الوحيد أنه خسر أمام منافس من الحجم الثقيل كاد أن يقتلع مثل هذا الشرف قبل أربع سنوات أمام ألمانيا. وقد يبدو إصرار الرباط الذي لا يمل علي احتضان كأس العالم أشبه بإصرار أنقرة علي دخول الاتحاد الأوروبي رغم كل العراقيل والمنغصات. وقد يكون من حق المغاربة إبداء العتب الشديد علي كل من ليبيا وتونس شقيقيها في الاتحاد المغاربي لعدم تعاونهما في ترشح كان واضحا أنه الأكثر بينهم جميعا إيفاءا بالشروط المطلوبة.
لا شك بأن اختيار البلد المحتضن لكأس العالم عملية معقدة وتتداخل فيها اعتبارات الشركات الكبري والبزنس وأشياء أخري لكنه ليس خاليا بالمرة من الاعتبارات السياسية المتضمنة لتقدير معين للبلد، من تجربة ديمقراطية وحريات و قداسة المؤسسات دولـــة القانون وشفافية التسيير الاقتصــــــــادي والبعد عن الفساد، أي باختصار الصـــورة الجيدة والصيت الحسن وهو ما تبدو جنوب افريقيا في سياقه الأكثر أهلية خاصة عندما يقترن كل ذلك بنضال أسطوري من أجل التحرر والانعتاق من نير التمييز العنصري بقيادة رجال من طينة نيلسون مانديلا وتابو مبيكي ولكن أين لنا رجال بهذه القامة؟!!


جريدة القدس العربى
  مادة إعلانية
  #102  
قديم 23/05/2004, 05:09 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Wink

ارهاصات نسائية خليجية وصناجة لغوية واقعية
2004/05/15


أنور القاسم

في الخليج العربي حراك صحي أنثوي هذه الأيام غير مسبوق، فأينما وليت ناظريك تري في وسائل الاعلام والتلفزات برامج وندوات ونشاطات نسائية مبرمجة، بدأت تطل علي استحياء تنشد دوراً حقيقياً أشمل وأفعل لمرأة تستحق ان تواكب ترائبها في المجتمعات الحديثة.
وقد شدني في هذه البرامج نقاش شيق عرضته محطة عُمان الفضائية عنوانه سنعمل استضاف سيدات خليجيات مسؤولات، استفاض في الحديث عن هموم وحاجات وتطلعات المرأة العُمانية خاصة والخليجية عامة، سابراً أعماق الوهاد التي ما زالت تغفو بها.
البرنامج يحاول تشجيع ودفع الفتيات الخليجيات لخوض غمار التعلم بكافة مشاربه والتأهيل في حقول العمل، الذي تتطلبه الحياة المعاصرة.
وقد دعا من خلال محاوريه أرباب المنازل للسماح للبنات بالتدرب والتأهيل خارج المنزل والمساهمة بنسيج المجتمعات الحديثة. وطالبت السيدة شكور بنت محمد الغماري الاباء والازواج بالتوقف عن التعفف من ارسال النساء الي حقول الانتاج.
واكدت السيدة ميمونة بنت عبد الله السرواري، وهي احدي المشاركات ايضا علي ضرورة انشاء واطلاق برامج تلفزيونية خليجية مشتركة لتوعية السيدات بأهمية العمل والاعتماد علي النفس لرفد حراك المجتمع ونهوضه، وبرامج اخري لتوعية أولياء الامور لحثهم علي اعطاء الفرص والدعم المالي والفني والمعنوي للنساء المترددات.
وتأتي هذه البرامج في الوقت الذي حققت المرأة العربية الخليجية بعض المكاسب السياسية علي مدي الاعوام القليلة الماضية، حيث باتت تشارك في مجالس الشوري والادارات وحتي الوزارات، فهناك نساء يمارسن حقوقهن في الحياة السياسية، كما هو الحال في عُمان او الانتخابات البلدية كما في قطر، تصويتا وترشيحا. وهناك النهوض والانفتاح اللذان تختبرهما الامارات والسعودية، لكن بتؤدة وهدوء واللذان كانا سرابا قبل اعوام فقط.
لكن هذه الحقوق لم يكن طريقها مفروشا بالورود ففي الكويت مثلا حينما صدر مرسوم اميري باعطاء المرأة حقها في الترشيح والتصويت قبل عام اثار موجة عارمة لدي المعارضة في الاوساط الاسلامية مما ادي لاجهاضه.
ومن اللافت مسارعة وسائط الاعلام، وخاصة الفضائية منها لتغطية هذا الحراك النسائي الخليجي ومتابعته، فقد شاهدنا كيف نقلت فضائيات الخليج مؤتمر نساء الاعمال السعوديات في مدينة جدة، والذي لاقي استحسانا، والمؤتمرات شبه الشهرية التي تعج بها دول الخليج العربية وترعاها سيدات المجتمع من اميرات وشيخات فاضلات.
وقد ارتقت مستويات هذه البرامج التلفزية، التي اخذت تنأي عن تقديم المرأة بين افراطين، اي اما هي قطعة هامة من اثاث المنزل او باربي للمتعة والاغواء.
الا ان واقع المرأة الخليجية ما زال يتنازعه تياران، تيار تحرري وآخر متزمت، وتحاول هذه البرامج ايجاد مكان للمرأة بينهما يتصف بالاعتدال والوسطية.
واذا ألقينا بعض تبعات تخلف واقع المرأة الخليجية مقارنة بالرجل علي المجتمع والتقاليد وبعض الآراء الدينية، التي تُستغل لمنع المرأة من الانتخابات والترشيح فان الامر الذي لا يقل أهمية هو عدم نضوج الجمعيات النسائية وغيابها احيانا كثيرة، كما هو حال جمعيات المرأة في البلاد العربية.
فتحسين واقع المرأة وتطويره ما زال يحتاجان قرارا سياسيا، ولم يكونا نتيجة تدرج في مطالب ومثابرة الجمعيات النسائية والاهلية والمجتمع المدني في نيل الحقوق، كما هو واقع الحال في المجتمعات التي تقدمت بهذا المضمار.
وربما نحن بحاجة اولا لنضج الوعي الاجتماعي والسياسي لدي الرجل قبل المرأة، فبهما ينتصر المجتمع علي العادات الباليات والمشكلات التي تواجه مجتمعاتنا الحديثة، فالمرأة العربية اشتركت عبر تاريخها في البيعة السياسية وفي الدفاع وفي المشورة وفي اختيار الخليفة الراشدي.
واي تخطيط واستثمار للمستقبل مرتبط ومرهون كليا بنصف المجتمع المغيب وغير ذلك انحراف عن مسار التنمية الحقيقية والتقدم وتأجيل للمؤجل.
فالمرأة العربية عموما كما يراها الراحل نزار قباني في برنامج قديم اعادت بثه فضائية تونس ليلة الجمعة ما زالت مواطنة من الدرجة الثانية. وقد رحل شاعر الانثي وهو يؤكد انه لا يقيم حدا جغرافيا بين المرأة والرجل، فالمرأة وطن قبل كل شيء.
وحان للمرأة العربية أينما كانت وحيثما وجدت ان تتحرر ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، فالوطن الذي يُهمل المرأة وطن مُستعمَر.

Mi Lebanon تيئبريني أبوشي

اتسعت أحداق صبايا تلفزيون الواقع علي وسعها وقد باغتهن مذيع آل. بي. سي الوسيم، الذي اختير لتدريسهن اصول النطق باللغة العربية سائلا اياهن تشكيل وقراءة بيت الشعر الجميل التالي، وتحديد الحروف المرققة والحروف المفخمة:
حاملُ الهوي تعبُ يستخفهُ الطربُ
إن بكي يحقُ له ليس ما به لعبُ
وتفرفطت الصبايا وتاهت ألسنتهن، فبدّلن كلمتي يستخفه الطرب بـ يستحقه التَرب وإن بكي يحقُ له الي يحكُ له. انتفض مدرس الضاد متذمرا، وقال: رجاء رجاء يا صبايا اللغة جمال وأناقة، ولفظـها صحيحا موسيقي.. ألم تسمعن بأن في اللغة أحرفا شمسية واخري قمرية.. فأنا لا اطلب منكنْ إلا اتقان لغة بسيطة وصحيحة. ودار حوار مطول حول اللفظ واللغة وتأثيرها علي المستمعين والمشاهدين.
وصحح لهن نطقهن بأن القول يستقيم بقول: قررت وليس أررت والقصة وليس الايصة ودنيا وليس دنيي ولا تقل وليس لا تكل والقوافي وليس الكوافي والافق وليس الافك .
ثم طالبهن بترديد بيت الشعر التالي بلغة صحيحة ومخارج صوتية سليمة: تعبجينَ من سقمِي صحتي هي العجبُ
فردد معظمهن: تعجبين من صقمي و سِحتي هي العجب، فيما سألت احداهن: شو يعني صقمي؟ فطالبهن أن يشددن حناكهن قليلا. وخرس الكلام حينما نطق كلمة تتبوأ فوقعت علي اسماعهن كالصاعقة، متسائلات شو بتعني .
وفيما هو منفتح كليا علي تفاصيل ومنعرجات اللغة كانت الصبايا سارحات شاردات مع اغاني عالي عالي بابا Uh baby.. baby و let us go party. ولست احسده علي نتائج دروسه هذه بل لوجوده بينهن يئبروني ابوشي .
وهذا البرنامج الذي احتل مكانه بجدارة في السابع من الشهر الحالي علي شاشة ستار اكاديمي والذي تبثه محطة LBC1 الذي ستناط به مهمة انتخاب ملكة جمال لبنان من هؤلاء الصبايا الست عشرة متبارية، اللواتي تتراوح اعمارهن ما بين 18 و24 عاما وقد اصطفين من بين ألف متقدمة.
وخصص للمتباريات الفاتنات الدلوعات شفافات الروح واللباس بناء زهري انثوي منعزل، يمضين فيه فترة اقامتهن التي تستمر ستة عشر اسبوعا متتاليا يمارسن فيها حياتهن اليومية بخفاياها وسجاياها، حيث ترصد حركاتهن وانفاسهن وسكناتهن كاميرات التصوير، مما يسمح لملايين المشاهدين بالتلصص والفرجة لساعات طوال علي مسلسل انثوي خالص، نصه مرتجل ومستقي من التفاصيل الحميمة جدا كما المملة علي مدار الساعة لبنات يعبرن عن مشكلاتهن وآمالهن وامانيهن ودلعهن ايضا.
وتتلقي هؤلاء الحوريات دورات في تابلوهات الرقص والازياء واللغات والسياحة والارشاد والمعلومات العامة.
وفيما تعتبره نسبة واسعة من المشاهدين مسليا ومشوقا، وجذابا، تجده شريحة اخري مضيعة للوقت وسخيفا بل ورتيبا ايضا.. وبينهما مشاهد انبهر للفكرة المستقدمة من اوروبا، في اشتهاء للجديد، والتي مثلت لديه انقلابا ابيض علي تقليدية المحطات العربية ومنهجيتها المملة.
والجانب الخفي في البرنامج هو تلك الصيغة العبقرية في ابتزاز المشاهدين من خلال التصويت لصالح مشتركة دون غيرها علي ارقام ظاهرة بأناقة علي مدار 24 ساعة، فقد حقق وصيفه برنامج ستار أكاديمي العربي ريعا بالملايين لم يصرح عنها بعد، فيما حقق Star Academy الفرنسي 120 مليون يورو. وهكذا فان التحالف بين أصحاب رؤوس الاموال والتلفزيونات بات امرا مسلما به ضمن معادلة السيطرة والربح.
وهي برامج ـ مهما قيل فيها ـ علي كل حال تروي لدي المشاهد عطشا مزمنا للمشاركة في القرار وحق تقرير المصير في مجتمع يمر بمرحلة قاسية جدا تشهد انهيار المشاريع الكبري، مما يدفع المشاهد المقهور للانطواء والانكفاء علي ذاته، هاربا الي الجانب الانساني والفني ليصنع من ممثليه الحقيقيين ابطالا في الحياة العامة بعد ان طال المطال وعز وجود الابطال.


كاتب من أسرة القدس العربي
  #103  
قديم 25/05/2004, 05:24 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Smile

تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة..!
د .عبد العزيز بن عبد الله الدخيل*


أظهرت الانتخابات الأخيرة للهند مفاجأة نادرة في المجتمعات النامية. إذ بالرغم من كل التوقعات فإن الانتخابات البرلمانية أطاحت بالحكومة القائمة لصالح أحزاب المعارضة بقيادة حزب المؤتمر الهندي.
ندرة هذه النتيجة لم تأت فقط من كون أن الشعب الهندي صوت ضد حكومته، بل كذلك من كون أن الحكومة القائمة أذعنت لهذا الصوت ولم تحاول المقاومة بتزييف الانتخابات أو تعطيل النتيجة بشكل أو بآخر خصوصا أن التوقعات كانت لصالحها.
إن الشيء الذي يستحق الإكبار هو أن القيادات السياسية في الهند انخرطت في مجريات اللعبة السياسية بطواعية وانقياد فائقين منذ بداية الاستقلال فلم يحاول أي منها الاستئثار بالسلطة.
لا أعرف الأسباب الدقيقة التي جعلت القيادات الهندية تسير على هذا النحو ولكن لا شك أنه كان للبدايات مع جواهر لال نهرو الدور الأكبر في ذلك، إذ ربما حرص على تجذير قوانين اللعبة السياسية بهدوئه في التعامل مع معارضيه وببناء سلطة سياسية راسخة، بما في ذلك النظام الفيدرالي، أعاقت على مر السنين أي محاولات للخروج من الأطر الرئيسة للعبة السياسية. حتى عندما حاولت ابنته إنديرا غاندي فيما بعد، كما يبدو، الخروج عن نطاق اللعبة السياسية بفرض حالة الطوارئ في البلاد فإنها لم تنجح في ذلك إذ سرعان ما أطيح بحكومتها بمفاجأة مثل التي شاهدناها حديثا. وعندما بدأت الحكومة التي حلت محلها باتخاذ إجراءات ضد القيادات المعارضة، خصوصا إنديرا غاندي، صوت الشعب مرة أخرى ضدها وأرجع إنديرا غاندي إلى الحكم مرة أخرى. فالتأسيس الصحيح لإجراءات السلطة، خصوصا فيما يتعلق بتداولها، مكن الديمقراطية من هذا النجاح الباهر.
ولأن باكستان وبنجلادش لم تمرا بنفس التجربة في البدايات الأولى ومنيتا بقيادات لم تحرص على تخفيف حدة المواقف السياسية والعقائدية، كما فعل نهرو في الهند، بل ربما أذكتها، أصبحت اللعبة السياسية تسير بدون انضباط، خصوصا عندما تدخل الجيش في الصراع على السلطة. فالفهلوة أو الحدة أصبحت الوسيلة السائدة للحكم وللعلاقات بين عناصر السلطة للأسف. إن السبب الرئيس لنجاح الديمقراطية في أي بلد هو حرص قياداته السياسية والثقافية على تخفيف حدة المواقف السياسية، إذ أن المواقف المتطرفة من العناصر المختلفة للسلطة تولد الاستقطاب وتذكي ناره، ولذلك تحرص السلطة المتنورة على مكافحته وتحاول الابتعاد عن التطرف في العلاقة بين عناصر السلطة وفي التعامل مع القضايا المختلفة.
السؤال الآن هو لماذا صوت الشعب الهندي ضد حكومته الحالية بالرغم من النمو الاقتصادي الذي تشهده البلاد؟ هناك لا شك الكثير من التفاصيل التي يمكن أن تفسر هذه المفاجأة، وقد تطرقت صحيفة النيويورك تايمز لبعض منها في مقال لأحد كتابها في 15 مايو الحالي. فبعض هذه التفاصيل يخص السياسات الزراعية الفاشلة لبعض حكومات الولايات المحسوبة على حكومة فاجبايي، خصوصا أن الجفاف الذي أصاب بعض أجزاء الهند في السنوات الأخيرة ضاعف من فشل هذه السياسات. ولكن بدلا من أن تكرس هذه الحكومات جهدها لحل هذه المشاكل اتجهت إلى الاهتمام بمشاريع مثل تقنية المعلومات لا تصل فوائدها بالسرعة الكافية والوضوح الساطع إلى الطبقات الفقيرة التي ما زالت تشكل الأغلبية الفائقة في الهند. وفي العموم فإن النمو الاقتصادي المتسارع الذي تشهده الهند لم تصل نتائجه بعد للغالبية العظمى من الناس بالرغم من تنامي الطبقة الوسطى، فبدت السياسات الحكومية وكأنها تحابي بعض الطبقات على حساب الطبقة الفقيرة. وقد أصاب هذا التباين الأغلبية الفقيرة بالإحباط الذي ترجم في الانتخابات إلى أصوات غاضبة ضد الحكومة وحلفائها، ولم تنج الحكومة الحالية من هذا المصير تمسحات أحزابها اليمينية بالعصبيات الهندوسية، فقرقرات البطون علا صوتها على ضجيج العقائديات. بل أن هذه التمسحات القصيرة النظر دفعت الأقلية المسلمة والأقليات الأخرى إلى التصويت مع المعارضة ولم تنفع الإلهاءات التي حاول رئيس الحكومة تقديمها للأقلية المسلمة خصوصا فيما يتعلق بموضوع مسجد بابري.
ما هو الدرس الذي يمكن الخروج به من هذه التطورات؟
الشيء المؤكد هو أن الحكومة الجديدة لن تستطيع أن تحل المشاكل الاقتصادية الكبيرة في الوقت المتاح قبل الانتخابات القادمة في خلال أربع سنوات. هل يعني هذا أن الشعب سيصوت ضد هذه الحكومة في الانتخابات القادمة، وتتكرر الإطاحات مثلما كان يحدث في إيطاليا وفرنسا منذ زمن ليس بالبعيد؟ وهل وصلت الهند إلى هذه المرحلة وستظل معها إلى وقت بعيد؟ أعتقد أن هذا وارد إلا إن قامت الحكومة الجديدة بإجراءات تذكي آمال الغالبية الفقيرة بدلا من أن تحبطها. وتستطيع هذه الحكومة أن تفعل ذلك إن هي واصلت سياسة النمو الاقتصادي الحالية عن طريق الاستمرار في تمكين القطاع الخاص من لعب دوره بدون إعاقات تذكر. أقصد من ذلك أن لا تعمد الحكومة الجديدة إلى فهم الأصوات الغاضبة على أنها أصوات من أجل إجراءات اشتراكية تصيب القطاع الخاص المتنامي في مقتل، وتقضي بالتالي على الدجاجة التي تبيض ذهبا. فقد يكون من المفيد بدلا من ذلك أن تحقق هذه الحكومة تطلعات الغالبية في حياة أفضل عن طريق تصميم أنظمة للإعانات المالية والعينية تساعد العائلات الفقيرة على تحمل شظف العيش بدون تشجيع على الاتكالية وخنق للإنتاجية.
سبق أن استعرضت بإيجاز في مكان آخر السياسات التي اتبعتها الحكومة الأمريكية من أجل تعزيز الطبقة الوسطى في الولايات المتحدة، وقد يكون من الممكن منهجيا تطبيق سياسات مماثلة في الهند.
ولكن الشيء الأهم في نظري هو أن توطن القيادات السياسية في الهند نفسها على احتمال تبادل السلطة بتعاقب سريع ومتكرر، فقد لا تستطيع أي حكومة في الوقت المتاح لها قبل الانتخابات حل الكثير من المشاكل الاقتصادية، لذا فبدلا من أن تعمد كل حكومة جديدة إلى إلغاء إنجازات الحكومة التي سبقتها لأسباب عقائدية بحتة عليها أن تبني على ما أنجز وتضيف إليه ما يعزز مسيرته. هذا يعني أن التباعد الأيديولوجي بين الأحزاب والحكومات المتعاقبة لم يعد مفيدا. نحن عادة نستهزئ بالنظام السياسي الأمريكي لعدم وجود تباين عقائدي كبير بين الحزبين الرئيسين هناك، ولكن ربما أن أحد أسرار النجاح الاقتصادي للولايات المتحدة هو أن التقارب العقائدي بين هذين الحزبين مكن من استمرارية السياسات التنموية فيها بدون خضات متعاقبة تعيق تراكم فوائدها، مع عدم التردد في تصحيح مسيرتها إن لزم الأمر. كذلك فإن المنجزات الاقتصادية الأخرى سواء في اليابان أو في أوروبا حاليا ربما تحققت بسبب وجود هذا العامل، إذ لم تعد الأحزاب متباينة في سياساتها الاقتصادية في معظم الأحوال بحيث أصبحت متقاربة، باستثناء تلونات سطحية تكسر الرتابة وتحيي الآمال لدى العامة. وعلى هذا النحو فإنه حتى إن غير الشعب حكومته لأسباب آنية فإن المسيرة التنموية تستمر بثبات بدون انقطاع أو تلكؤ.


* مدير جامعة الملك فهد للبترول والمعادن سابقا

آخر تحرير بواسطة صقر الخالدية : 25/05/2004 الساعة 05:33 PM
  #104  
قديم 26/05/2004, 04:27 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

نجمات الكوميديا في مصر غائبات وفي سورية مجتهدات وفي الخليج يراوحن مكانهن: سوق الكوميديا النسائية هذه الايام مضروب!
2004/05/18



محمود ابو عبيد

كنت اشد اعصابي بالمذياع وانا لم ابلغ الحداثة، بعد في اوائل الخمسينات عندما استمع الي خيرية احمد ضمن اسرة ساعة لقلبك مع فؤاد المهندس، مدبولي، احمد الحداد، الخواجا بيجو، وكنت مع اقراني هواة الاستماع للراديو انذاك نحفظ عن ظهر قلب ما يقوله نجوم الفكاهة من نوادر ونضحك حتي تتشقق خواصرنا كما يقولون باللهجة الدارجة، واذا عرض فيلم لاسماعيل يس نحرص الا يفوتنا حتي مسرحيات عادل خيري وماري منيب بالابيض والاسود عندما بدأ التلفزيون بثه، من مصروفنا اليومي كنا نقتصد لنهاية الاسبوع، لم يكن في قرية الحصن سينما، السينما في المدينة اربد عروس الشمال، وبعد نهاية عرض اي فيلم ضاحك نمشي علي نمرة 11 مسافة سبعة كيلومترات حتي نصل القرية، لان الحافلة وقتها ينتهي عصرا وتمر الذكريات كما يمر الكابوس فوق النائم. احضروا ذات مساء لا ادري من هم آلة عرض سينمائي في الهواء الطلق والشاشة كانت جدار بيت والفيلم عن الحرب العالمية الثانية، ونحن جلوس في ارض براح فاذا اتجهت الطائرة نحونا هكذا يخيل الينا نهرب ونصيح حتي انتهي الفيلم ولم يتكرر العرض ثانية.
الانسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يضحك ويبكي، وقد يكون الانسان فكها دون ان يكون سعيدا ولكن قلما يكون سعيدا دون ان يكون فكها وضحكة من القلب كفيلة بأن تسري عن الانسان وتخفف من عبء الضغط الذي يرزح تحته. ان النكتة العذبة تصدر عن الذهن اما الفكاهة فمصدرها القلب، وروح الفكاهة تزيل عن الانسان الاكتئاب وضيق الصدر والدنيا مع الاسف مملؤة بنفر غير قليل من الناس يبدو لك انهم يعطون انفسهم لحياة مظلمة خالية من اشراقة البسمات، نعم ان الرزانة ضرورة من ضرورات الحياة، ولكن يجب ان نفرق بينها وبين الاكتئاب، وكم من خلافات ومشاحنات امكن تجنبها لان طرفا فيها اوتي روح الفكاهة والدعابة، ولا ننكر ان اطيافا من الكآبة لا ينفع في تبديدها المرح الطبيعي وان من الاحزان ما تبلغ من الشدة والعمق حدا لا تفلح الفكاهة في تبديده، ولكن روحوا القلوب ساعة بعد ساعة فانها اذا كلت عميت.
شد ما كنا نضحك مع دريد ونهاد ورفيق في مقالب غوار وفي حمام الهنا، وكان التلفزيون السوري يعرض مسرحيات ضاحكة وهادفة لمحمود جبر بالع الموسي علي الحدين، وام كافل سواء في الاذاعة او التلفزيون وعبد اللطيف فتحي وفطوم حيص بيص، وفي لبنان شوشو، وفي السعودية لطفي زيني ودردير وفي الكويت مريم الغضبان وحسين عبد الرضا وفي الاردن عمر القفاف وابراهيم حداد وربيع شهاب وأمل دباس وهشام يانس، ونبيل صوالحة، اما ثلاثي اضواء المسرح فكان لهم جمهور عريض وعندما توفي الضيف احمد تفرقت بهم السبل، الكوميديا المصرية الان شد حبل بين عادل وجيل الشباب، لا ندري لمن تكون الغلبة؟
الدراما فن جماعي، يشترك فيه عدة اشخاص بقصد اعادة خلق الروح فوق خشبة المسرح. لن اتحدث هنا عن نظرية ستانسلافسكي في التمثيل والتي تتعلق اساسا بدراية العناصر والمشكــلات التي تتصل اتصالا مباشرا بالوســـائل التي يستخدمها الممثل للدخول في مشاعر الدور الذي يلعبه بل اتساءل: نجمات الكوميديا في الدراما العربية اين هن؟ كلنا يترحم علي ماري منيب وزينات صدقي، اسماء برعت في اضحاك المتفرج ثم احتلت المشـــــهد الكوميدي نجـــــمات اخريات مثل اسعاد يونس، سهير البابلي، ســــــناء يونس، هالة فاخر، نجحن في فن الاضحاك لكنهن حولن وجهتهن من الكوميديا الي التراجيديا، اكثر من سؤال طرح علي الدراما المصرية فكانت الاجابة: الكوميديا النسوية في مصر مصابة بفقر دم، وحول الكوميديا السورية كانت الاجابة: موجودات ومجتهدات وفي الخليج يراوحن مكانهن وفي الاردن مريضات.
سعاد نصر سئلت اكثر من مرة عن سبب هجرها للكوميديا فقالت: سوق الكوميديا هذه الايام مضروب فأي شيء مضحك اصبح يسمي كوميديا حتي ان الضحكة اصبحت تقتلع بالقوة من المشاهدين، واصبح الممثلون يعتمدون علي الكليشهات المحظوظة والمستهلكة.
هالة فاخر في لقاءاتها الصحافية قالت: اغلب النصوص المتوفرة غير مناسبة وغير قادرة علي الاضافة للممثلة، بحيث تجد نفسها مجبرة علي الاضافة لتلك النصوص، خفة الدم موجودة لكن اين هي الاعمال الجيدة؟
سناء يونس اضحكت وتفوقت علي نفسها في مسرحية صك علي بناتك سئلت فاجابت: الكوميديا في مصر مصابة بالانيميا نظرا لعدم وجود منتج جيد ولوجود نظرية الجمهور عايز كده، لذلك اثرت البقاء في البيت فهذا انسب لها علي حد تعبيرها.
وفي سوق الكوميديا السورية نجد التألق دائما وابدا من صباح الجزائري الي شكران مرتجي، ومواقف طريفة تجيد اضحاك المشاهد اينما كان وحيثما وجد ففي سورية للحقيقة كوميديات متألقات.
كنت اتمني ان اتحدث عن الكوميديا في تونس لكن اللهجة تقف حائلا دون انتشارها في الاردن او سورية او السعودية.. الخ هناك نعيمة الجاني وقبلها الزهرة فايزة، وزهيرة بن عمار، متألقات قادرات علي التمييز في اعمال كوميدية، وفي الكويت مريم الغضبان لكن لا خبر ولا شربات عنها، وفي الاردن لا يمكنك ان تشير الي واحدة منهن ادخلت الضحكة الي قلب مشاهد، صدقوني اذن نجمات الكوميديا حاضرات غائبات فما علي الكوميديا العربية الا ان تستفيد منهن.
نحن بحاجة الي ضحكة سكوب ولو ان الضحكات لا نشاهدها الا في رمضان، وحتي لا ننسي في حياة نجوم الكوميديا وبالاخص نون النسوة اسرار وقفت خلف موهبتهن، هم مضحكون لكنهم مفلسون.
وفي العالم العربي الان الافلاس من نوع آخر، افلاس في النص عندما يحاولون ويلجأون للتقليد، اي تقليد هذا؟ وتحت اي باب في الكوميديا يندرج، نجوم الكوميديا الكبار عاشوا قصص الكفاح ورغم ذلك لم يشفع لهم فنهم لدي الجمهور الذي ظل يطالبهم دائما بالالتزام بمفردات النجومية الخالصة وحينما بدأ المنحني في الهبوط ادار لهم ظهره واتجه الي نجوم جدد وهؤلاء تعلموا الدرس فانتفخت جيوبهم.



اعلامي وكاتب من الاردن

القدس العربى
2
  #105  
قديم 27/05/2004, 09:31 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Smile

لبنان بلد «ثقافة سياحية» أم «سياحة ثقافية»؟
سوسن الأبطح


كان كل شيء يشي، حين هدأت نيران الحرب الأهلية اللبنانية اللعينة، بأن البلد لن يعود، مرة جديدة، جسراً بين الشرق والغرب أو مركزاً ثقافياً للعرب. وهو اجتهاد تبناه الكثيرون، وكان له من الأسباب الموضوعية ما يبرره. فالسلام يطرق الأبواب بقوة، وإسرائيل بمقدورها ان تأكل الأخضر وما يبس، والعرب رعاهم الله لن ينتظروا عبور الجسر اللبناني إلى أوروبا وأميركا، وبقية العالم وأمامهم الأقنية الفضائية والإلكترونية مشرعة على مصراعيها لنقلهم بكبسة زر إلى أقاصي المعمورة. هكذا كان الظن وبيروت تبحث عن مكان لها، يوم استعادت الحياة كأهل الكهف، واستيقظت من سباتها، فإذا بالدنيا تحولات يصعب إدراكها. لكن الحادي عشر من سبتمبر أرجع المنطقة عقوداً إلى الوراء، ولبنان من ضمنها، ومن لا يصدق عليه ان يزور بيروت ليعرف كيف أنها ومن دون علم منها رجعت لتعيش مجداً غابراً، هشاً، مفرحاً، بقدر ما هو مثير للقلق.«ابتسم أنت في بيروت» وبمقدورك ان تسرح وتمرح وتحضر ما شاء لك من المؤتمرات حول كل موضوع ومعضلة من قضية «القدس» وإشكالات «العولمة» مروراً بـ«الإرهاب» وصولاً إلى «مشاكل الأطفال النفسية المدرسية» وحتى «الحوار العلماني ـ الإسلامي» لو أحببت. وبمقدورك أن تقابل من تعشق من الشخصيات الثقافية شرقية غربية، وتجلس في المقهى وتسترق السمع للهجات ولغات تعرف بعضها وتجهل البعض الآخر. بيروت تحتفل بولادات ووفيات سارتر وغوته ونيرودا وجاك بريل، وتقول لك ببساطة في إعلانات مهرجاناتها، ان حفلاتها واستعراضاتها الراقية آتية للتو من نيويورك وباريس وروما وبكين، وان ما تشهده على مسارحها مستقدم إليك من كل أنحاء الدنيا. وباتت مألوفة في إعلانات الحفلات عبارة «لأول مرة في العالم العربي». فبيروت سبّاقة، ولن تدع عاصمة أخرى تسرق ريادتها أو حيويتها، فبدل مهرجان واحد للرقص ثمة في العام مهرجانات، وللمسرح مثلها وكذلك للسينما والموسيقى والكتاب والرقص والأغنية، عدا أعياد الصيف الذي يلتهب اشتعالات فنية عالمية الطابع. «كل شيء زاد عن حدّه انقلب إلى ضده» ومنصور الرحباني يعترض مستهجناً فيض الاحتفاليات فيقول:« أكلّ من وجد في منطقته درجاً عتيقاً، ظنه أثرياً ونظّم مهرجاناً، حتى صرنا نرى بعضها يقام في ملاعب كرة القدم». ولكن ما تفعل، هذا هو لبنان، وهكذا هم أهله، طموح فائض وتلقائية متسرّعة ومشاريع لا تنتهي إلا ليبدأ غيرها.
جلّ العاملين في المجالات الثقافية يشتكون الخسارة المادية، لكنهم مع ذلك ينمون كالفطر من غاليريات المعارض التشكيلية إلى المنتديات والملتقيات والتجمعات. وإن علمت أن الدنيا قد قامت ولم تقعد لأن «مسرح المدينة» قد أغلق قصراً لأسباب مالية أو إجرائية، سمعت صاحبته نضال الأشقر، في الوقت ذاته، تقول ان تجار شارع الحمراء دبروا لها مسرحاً جديداً ليحتضنوها بينهم، وأنهم لن يدعوا سيدة نشيطة مثلها تفلت منطقتهم. ولو أضناك ان يغلق مقهى «المودكا» الشهير أبوابه ويطرد مثقفيه إلى قارعة الطريق، فستجدهم قد اتخذوا لهم من كل زاوية في المدينة مقهى وملتقى. تضيق القاعات باللقاءات والفنادق بالزوار وتزدحم الأجندات بمواعيد متضاربة، فماذا تفعل هذا المساء، أتحضر عرضاً لفيلم جديد يصاحبه المخرج، أم تختار أمسية شعرية، أم تراك تلجأ إلى حفل موسيقي شرقي أصيل؟ وبمن تلتقي من أصدقائك العرب الزائرين الذين ما ان يغادروا حتى يعودوا وتظن ان بعضهم قد اتخذ له من بيروت مقراً ومستقرا؟ انهم يبحثون عن الحرية في بلد رأسماله ورأس الحربة فيه تنوعه وتعدديته. وبينما المنطقة كلها تلتهب ناراً وخراباً، يستريح المحاربون في لبنان وقد كانوا رواداً في القتال أيضاً. وحينما بدا ان أوروبا وأميركا تحكم القبضة على الحدود وتقيم السدود في وجوه المخربين السمر، صادف ان لبنان كان يفتش عن هؤلاء المطرودين من رحمة الغرب والهاربين من سوء ظنه. هو يبحث عن مكانته وهم يبحثون عن مكان وسطي لهم لا شرقي ولا غربي، يعيشون فيه تناقضاتهم وتساؤلاتهم ورغباتهم. تكاد بيروت تصير منبراً للجميع. فها هو الشاعر السعودي عبد الله باشراحيل يمنح جائزته للأدباء والباحثين من بيروت، ويقرر شاعر آخر، كويتي هذه المرة، وهو عبد العزيز البابطين أن يكون موقع مركزه للترجمة بيروت وشراكته مع أحد ناشريها، وقبلهما كانت «مؤسسة الفكر العربي» قد أقامت مركزها. وبعد هؤلاء وغيرهم كثيرين ممن يتعذر سرد أسمائهم، تسعي «المؤسسة العربية للتحديث الفكري» هي الأخرى، إلى مكتب في العاصمة اللبنانية. ولو سألت هؤلاء عن سبب اختيارهم بيروت لبادروك بالقول:« وهل من مكان عربي آخر بمقدوره أن يحتملنا»؟ لماذا في بيروت تفتح مكاتب المؤسسات الثقافية التي تريد أن يكون لها اسم وحركة ووجود وجدال، أوليست هي عاصمة ماهرة في الترويج للحدث، وفي صناعته من لا شيء إذا اقتضى الأمر ذلك؟!
ما نقوله يعرفه القاطنون في العاصمة اللبنانية ويتنفسون حيويته صيفاً وشتاء. فما عادت المواسم تهمّ ولا شهر التسوق المفتعل هو الصنارة التي بها يصطاد السياح. ففي بيروت تنتعش «الثقافة السياحية». وكان وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة قد دعا وكافح بقوة من أجل«سياحة ثقافية» أغفلها السياسيون الذين أعشتهم الأضواء. والفرق بين الأولى والثانية، قد يبدو ضئيلاً، لكنه في العمق كبير. فالمثقفون العرب يعثرون في لبنان على مساحة فيها بحبوحة وجمال. وكان المطلوب أن يعمّق دور بيروت ويؤسس لثقافة أقوى وأمتن، ثقافة مكتبات ومتاحف وآثار ودراسات وتوثيق ودكّ مداميك علمية، تراكم في أرض صلبة، بدل الاكتفاء بثقافة«رغوة الصابون» التي يكثر فيها الكلام وتتضاءل الأفعال. كان سلامه يريد لبنان جذّاباً لا للعرب وحدهم وإنما لكل أولئك الباحثين عما هو أبعد من الاحتفاليات الخاطفة، هذه الاحتفاليات المؤسسة على حالة عربية هي نفسها على كفّ عفريت. مثير للعيش فيه هذا الغليان الثقافي الذي تحتضنه بيروت بمحبة الأم الحانية، لكنه في الوقت نفسه، محكوم بمائة شرط وشرط. فبيروت التي لا تعرف كيف تتصالح مع حالها تدّعي قدرتها على المساهمة في مصالحة المتناقضات الآتية إليها بحثاً عن ملجأ دافئ وأمين. وهو أمر يفهم حين يلتقي أصحاب السؤال في زمن البحث عن إجابات لا تأتي. وهنا تحديداً مكمن الخطر والتحدي الكبير لعاصمة مثل بيروت: هل هي حقاً قادرة على بلورة غيمة ممطرة من الأفكار الضبابية الهائمة في سمائها، أم ان المسألة هي تمضية وقت جميل والسلام؟!


جريدة الشرق الاوسط
  #106  
قديم 30/05/2004, 01:42 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
لماذا لن تذرف الشعوب العربية دموعا علي انظمتها: الموسيقي التي يريد النظام السوري سماعها!
2003/12/23

سعيد أبو غنام

يتعامل بعض المثقفين السوريين وكأن لهذه الفترة التاريخية حساسية خاصة تجعلهم مرتبكين أو كمن يتوخي الحذرفي مشيه علي حبل رفيع وأية حركة غير متوازنة قد تؤدي به للسقوط في هذا الجانب أو ذاك، فالكلام ضد نظام قمعي استبدادي توتاليتاري يظهر وكأنه حمل سلاح جورج دبليو بوش ضد...، والإستفاضة في الحديث عن أهداف الإدارة الأمريكية تبدو وكأنها شرعنة لحكم تسلطي قائم في سورية وإطالة في عمره. وفي كلتا الحالتين هناك خسارة تاريخية إن بدا المواطن السوري وكأنه يقف مع هذا الطرف أو ذاك. والمشكلة الرئيسية في المعادلة المعروضة علي هذا الشكل، والتي تهيمن علي تعاطي البعض مع الواقع السياسي والإجتماعي، هي افتقارها إلي رؤية المعالم بوضوح. بالتأكيد يعيش النظام السوري أزمة تبدوهي الأصعب عليه ويتخبط حماة النظام جاهدين ليعرفوا بدقة ما هوالمطلوب منهم أكثر كي ينفذوه لهثاً وراء بريق أمل قد تلوح به إشادة أمريكية بحسن تعاونهم في حملة مكافحة الإرهاب ، والذي هم ـ يا للمفارقة! ـ علي قائمته منذ زمن طويل.
والأسئلة التي ينبغي طرحها بدون تأجيل إزاء هذا الحال تتعدد ونتوقف عند بعض منها الآن: هل الوطن في خطر أم التشكيل الحاكم في خطر؟ أين النظام الحاكم من الوطن؟ وأين الوطن وأين المواطن؟ هل الوطن لنا جميعاً ونحن شركاء به؟ بل، وما هو الوطن في ظل هذا النظام؟ وهل ينبغي أن تخيفنا تهويلات النظام من الخطر الخارجي عن تسمية الأشياء بأسمائها؟

الوطن بين الصورة والواقع:

قد يؤدي الكلام عن حجم التفاوت ما بين ماض غني ثقافياً وحضارياً، علي الأقل، وحاضر بائس علي كل الصعد إلي تمييع المأساة الحقيقية التي تحتجز السوري، مثل كل عربي، وهي تغييب الوطن والمواطن المنهجي والمنظم وما يتأتي عن ذلك مرحلياً وعلي المدي البعيد. فالملاحظ هو تهميش ومن ثم اضمحلال اسم وشكل وفعل الوطن والمواطن مقابل تضخيم صورة النظام ممثلةً بفرد واحد، يصل معها هذا الفرد إلي مرتبة توصف وكأنها مقدسة. السؤال عن مدي تصديق الحاكم لمنزلته الموصوفة والهالة المحيطة به هو أمر وأما تحديد هذا الشخص الرمز كنواة لزرع ثقافة الخوف بين الناس فهو أمر آخر. وفي كل الأحوال، يجب التذكير بأن مفاهيم ابتُدعت ووضعت أسس تحدد خطوط العرض لحركة الفرد والمجتمع وخطوط حمراء يحرم تخطيها أو حتي الإقتراب منها. فسياسة وأقوال وتصريحات الرئيس ليست موضع نقاش ولا تقبل الشك أو التساؤل. وبنفس الوقت، يتم النأي باسم الرئيس عما يحدث يومياً من انتهاكات لحقوق المواطن فتسرب أبواق النظام ما مفاده أن الرئيس لا يسمع بما يجري ويمارس في داخل البلد من قبل ضابط الفلاني، وعناصر أمن فرع كذا، وأمين فرع حزب منطقة كذا، ووزير الفلاني، بل وأخوة الرئيس وأولادهم ومرافقة أولادهم وإلا لكان...
ترافقت عملية ترسيم القوة هذه مع ممارسة العنف والقمع والتهديد، فالسجن والقتل والتشريد والحرمان من لقمة العيش بانتظار كل من لايرضي عنه مشرعو التسلط. كل هذا في غياب القانون وحضور حالة الطواريء. وأصبح المواطن مثل المقيد العاري في الصقيع لا أمان ولا حول له ولا قوة، يلبسه الخوف من كل من و ما حوله، فصمت خوفاً من المجهول الأشد هولاً وخمد صوت الجميع حتي أصبحنا نعيش في ـ ما سماها رياض الترك مرة مملكة الصمت .
إلي جانب الخطرالناجم عن ثقافة الخوف، لا بد من التذكير بالبشاعة والوحشية في ما مارسته وتمارسه تشكيلات منفذي عملية ترسيم القوة والتسلط بالشكل القائم. وأتقصد استخدام كلمة تشكيلات هنا لأنها الأنسب في توصيف حماة وحافظي النظام علي مدي العقود الثلاثة المنصرمة ونيف إذ لا يرقون في شكلهم وممارساتهم إلي مستوي طبقة سياسية فلا أيديولوجية ولا طبقية ولا تكتيك ولا استراتيجية ولا قواسم أخري تجمعهم باستثناء انتهازيتهم ولصوصيتهم واستعدادهم للعب دور الإستعلاء علي الناس والفتك بالضعفاء العزل. وهذه التشكيلات علي قدر ما من التعقيد في هوياتها وانتماءاتها. تشكل المخابرات ـ بفروعها السرطانية كماً وكيفاً ـ القوة الرئيسية في هذا الخليط، ولانأتي بالجديد عندما نقول إن مراكز القرار وصمامات الأمان كانت ـ وتكون دائماً ـ مؤتمنة طبقاً لاعتبارات ضيقة جداً. وأما الأدوار التي تقتضي حمل أسلحة من نوع آخر فتودع بيد أنماط معينة ـ تتهافت مبدية استعدادها لتكون جزءاً من اللعبة ـ منها التاجر والوسيط ومنها الحرامي ومنها من ينظرإلي انتزاع حصته من الغنيمة ومنها المشـــوه نفسياً ويبحث عن دور يستبد به علي ضعفاء أبناء حيه في حلب ودمشق وحمص واللاذقية (بل وحتي في بعض أرياف اللاذقية)... علي مدي العقود تعيث التشكيلات الحاكمة وعوائلها وحواشيها في طول البلاد وعرضها فساداً وتزرع الرعب والهلع في غياب وتغييب القانون مجردة المجتمع صفاته الحقوقية والفرد من كيانه وإنسانيته، والجراح التي سببها هؤلاء أكثرمن أن تحصي وما زالت تنزف. ومن يجاهربالسؤال عن ماذا؟ أوكيف؟ أوأين؟ أومن؟ يساق إلي السجون أو يقتل أو ُيخفي...ولا ينتهي الأمر هنا، فعندما يختفي السوري ويبدأ أهله وذووه بالسؤال عنه تبدأ إنتهاكات من نوع آخرلحقوق وكرامة الإنسان، وما حصل ويحصل أفيض من أن يوضع في قائمة والأمثلة علي ما يجري بشكل يومي أكثرمما هو مسموع، والغاية الرئيسية في ممارسات السلطة والمتسلطين هي تجريد الإنسان وتفريغه من شعوره بإنسانيته كي يصل إلي حد يتقبل به الذل ويستكبر علي نفسه حتي حق الحياة، ولتنحصر اهتماماته في كيفية تأمين لقمة العيش بصمت وخوف وليفهم بأن كل ما يصدرعن السلطة الطاغية هو رحمة.
مات الأسد ولكن الخوف بقي .. وكأن الأسد ـ بتعبير أحد الصحافيين: يحكم البلاد من قبره! وما زال المواطن لا يأمن علي نفسه أوعلي أي شيء حوله ما دام القانون غائباً، ما دام قانون الطواريء هو تشريع البلاد، ما دام المرء يسجن بدون سبب، ولا لذنب اقترفه إلا لأنه ولد ـ كما يبدو ـ في المكان الغلط، وما دامت الــ تشكيلات المذكورة تدير البلاد وتلصق التهم بمن تشاء عندما يخرج المواطن عن الحجم والحيز المرسومان كأن يفكر بممارسة حقوق المواطنة، أو يذهب أبعد من ذلك فيتساءل عما يجري له في وطنه . ما أكثر التهم الدارجة والتي تلصق بالمواطن بسهولة فيقال عن هذا أنه يريد النيل من الوطن ، وذاك يريد الإعتداء علي الدستور ، أو يبغي إثارة النعرات ، أو يسعي إلي جزأرة الوطن ، أو يقبض بالدولار من السفارات الأجنبية . والذريعة التي يريدها النظام دائمة الحضورلكم الأفواه وللبطش والتنكيل هي الكلام عن حالة حرب و تربص الأعداء بأمتنا، وتكتسب الذريعة تلك قوة عندما يُدلي بتصريح ما في العالم يتعلق بسورية، أو حتي عندما تصدر منظمات دولية تقاريرها عن الإنتهاكات لحقوق الإنسان في سورية.
إلي جانب الخوف من التخوين الذي يحدد انتقاء السوري لكلماته، أو متي وأين يتفوه بها، يصمت السوري علي القهر والتجويع والقمع والسجن والتهجير والتعذيب وهو يعرف أن النظام لن يتغير من تلقاء ذاته ويتذكر جيداً ما تردد حينما استبشربـ التغيير عند بداية تنصيب الإبن (الأسد الثاني) في السلطة من أنه ـ أي من وعد بالتغييرـ لا يملك عصا سحرية ، ولكن الجميع لمسوا وخبروا علي مدي الأيام والسنين أن الـ عصا التي يملكها النظام هي القديمة نفسها التي رفعت فوق رأس شعب بأكمله منذ سبعينات القرن الماضي وحتي هذه اللحظة، هي نفس العصا التي قتلت وسجنت وشردت وهجرت عشرات الآلاف من السوريين علي اختلاف ألوانهم في الطيف السياسي وتشابهها في حبهم للوطن، هي نفس العصا التي قتلت وتقتل وتخفي الناس، هي نفسها التي سجنت رياض الترك وما زالت تسجن عبد العزيز الخير وعارف دليلة (دون اعتبارلحالته الصحية) ورياض سيف ومأمون الحمصي و..... (وعذراً لعدم ذكري المزيد من الأسماء فالقائمة أطول مما ُيتسع لذكره هنا)، هي نفس العصا التي تلاحق الناس لتجريمهم بسبب منتديات لم يحضروها بالأساس.
يستمر النظام التسلطي بالحكم بنفس العقلية متبعاً نفس الأسلوب الذي اتبعه منذ سبعينات القرن الماضي، أي قمع المواطنين وكأن ذلك أمراً عادياً يجري داخلياً ولن يسمع به أحد في العالم، كما ولن يؤثرـ في حال سماعه ـ علي تعامل العالم الخارجي مع النظام ما دامت هناك مراعاة لمصالح أقوياء العالم وابتعاد عن مهب رياحهم. في أحاديث وتصريحات نائب الرئيس وحتي في حديث الرئيس الأخير لصحيفة نيو يورك تايمز نقرأ فيما نقرأه أنه لا يوجد في القانون ما يسجن عليه المرء إن يتكلم ضد الدولة، وليس لدينا قانون لذلك ونسأل إذا كان الأمر كذلك فعلاً، فلماذا يحاكم ـ وبعد أيام فقط من حديث الرئيس لنيويورك تايمزـ المواطن السوري عبد الرحمن الشاغوري أمام محكمة أمن الدولة العليا في دمشق لأن المدعي عليه كما جاء أخذ يتلقي بناء علي طلبه أخباراً ومقالات عبر الإنترنت... وقد كانت هذه المقالات في معظمها يحصل عليها من موقع أخبار الشرق . هذه المحاكمة تجري لأنه تلقي أخبارا فكيف سيكون الأمر لو أنه تكلم ضد الدولة؟ ونقرأ أيضاً أن سجناء الرأي هم من يتهرب من الضرائب! ونريد أن نعرف من أية ضرائب تهرب عارف دليلة؟ وهل القول أنه لايوجد سجناء رأي أوسجناء سياسيين يمحي الواقع؟ أو أن ما يحدث في سورية لن يسمع به أحد في العالم؟ لا تستطيع كلمات الإنكار إلغاء أو إخفاء حقيقة ما يجري فمن يسجن أو يختفي ستسأل عنه أم وأب وأخ وأخت وابن وابنة وجيران وزملاء مدرسة وغيرهم ، وسؤال هؤلاء، شكراً للتكنولوجيا، لم يعد متموضعاً في بقعة ضيقة بل، وبوقت قصير جداً، يسمع في العالم وتتناقله الأخبار.
في تصريحات المسؤولين نقرأ أيضاً أن المعارضة متفقة مع النظام عندما يأتي الأمر إلي سياسة النظام الخارجية. والسؤال الآن: هل تستطيع تصريحات من هذا النوع أن تغير الحقائق؟ هل ترفض المعارضة السورية الديمقراطية حقاً لمجرد أن أمريكا تتكلم عن غياب الديمقراطية في المنطقة العربية؟ هناك بعض التساؤلات عن جدية ما تطرحه الإدارة الأمريكية بهذا الشأن، ولكن تعاملها مع الأنظمة العربية يشير إلي انقلاب في سياستها في السنتين الأخيرتين. فالنظام في المملكة العربية السعودية، وهو الصديق الأول للولايات المتحدة في العالم العربي، يخضع للضغوط الأمريكية للتغيير وذلك لقناعة الأخيرة أن وجود العدد الأكبر من منفذي عمليات 11 سبتمبر من السعوديين ليس مصادفة، الأمر الذي يدعو إلي مساءلة مجمل الشروط السياسية والإجتماعية التي عاشها هؤلاء السعوديون. بعبارة وجيزة، يبدو أن النظام السوري لا يأخذ التغييرات التي حصلت في العالم علي محمل الجد ليدرك أن المعايير الدولية تغيرت، وأن الإدارة الأمريكية ـ والحكومات الأوروبية ـ تعي جيداً أن مصداقية السياسة الخارجية لنظام ما ترتبط ارتباطاً وثيقاً بنجاح ومصداقية سياسته الداخلية.
كم تعتمر واحدنا الكآبة عندما نري شعوب العالم تتكلم حرة كريمة في أوطانها دون خوف من الملاحقة والقمع والسجن! وعندما يعالج الآخرون مشاكل بلدانهم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية بشفافية و في جو من الحريات العامة، بجو من الأمان والثقة دون الخوف من المخابرات والإعتقالات السياسية والتهم والتخوين والحرمان من لقمة العيش! أما نحن فنعيش في دوامة الخوف ونتساءل عن أين، وما هو، الوطن؟ هل الوطن هو ذكريات وأحلام وأمنيات موجودة فقط في رؤوسنا؟ وهل هو وطن ذاك الخيال الذي نعيش فيه بعقولنا ولا نستطيع بأجسادنا؟ هل الوطن هو تلك العلاقات الحميمية الإنسانية التي حرمنا منها المتسلطون؟ هل الوطن هو الأرض، الماء والهواء وقد حرمنا منها ودنسها ولوثها هؤلاء بصفقاتهم وجشعهم؟ لا أعتقد أننا نستطيع أن نتكلم عن الوطن كحجر وشجر دون أن تحتبس الكلمات في حلقنا إذ نصطدم بمن يُسمون ـ وبغير حق ـ بشر !
أسئلة كثيرة تلك التي تطرح نفسها وأكرر القليل منها هنا. هل نصمت إلي ما لانهاية نحن من رفضنا ونرفض أن تكون لنا انتماءات ومحسوبيات ضيقة؟ نحن من يرفض المافيات وممارساتها الإجرامية؟ نحن من نرفض أن نكون أذلاء للإستبداديين؟ هل نستسلم للأمر الواقع ونندب حظنا علي ما حل بنا؟ هل ننتظر أن يترأف هؤلاء بحالنا مثل الجائع المنتظر علي مائدة اللئام علهم يتصدقون علينا بشيء؟ أم هل نقول يجب انتزاع حقوقنا بدءاً من أبسطها ...ومروراً بكل تفاصيلها؟ هل نقول إن المرحلة حرجة والظرف الراهن لا يحتمل الكلام؟ أم هل نقول وبصوت عال كل ما يجب أن يقال وبدون خوف ـ وليس لدينا ما نخاف منه أوعليه ـ وبدون أية حسابات تسكتنا وتفيد النظام الطاغي وحده؟ وإن كان هناك من يتكلمون عن الوطن وشراكتنا به فليتفضلوا بتجسيد ذلك علي أرض الواقع، وليصدروا قراراً واحداً يشعر بذلك، قراراً يفرج عن المعتقلين ويبيض السجون، يرسم دستوراً للبلد، يلغي قانون الطوارئ، يمنح حق الإنتخاب، يعوض لكل المتضررين من عقود الظلم والإستعباد والإستبداد. ونسأل أيضاً فيما علينا قوله وفعله: أنُسمعُ النظام السوري الموسيقي التي يريد أن يسمعها بالقول برفض قطف ثمار ما قد تأتي به الدبابة الأمريكية؟ لا. بل نقول: لا علاقة لنا بالدبابة الأمريكية ولكن لن تذرف دمعة عليكم إن أزاحتكم تلك الدبابة ـ إن صدقنا أنكم فعلاً مهددين، ولن يبكي نظامكم و وطنكم أنتم من استلبتم وطنه وجعلتموه بلا وطن.

كاتب من سورية
  #107  
قديم 30/05/2004, 04:39 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
هذا الناقد نحن محتاجون إليه

فاروق شوشة:

السبت 29 مايو 2004 23:25
من عجائب هذا الزمان ــ الذي لا نهاية لعجائبه ــ أننا نري من لايحسنون أمرا من الأمور‏,‏ وهم يتظاهرون بأنهم الأساتذة والخبراء فيه‏.‏ والأكثر عجبا أنهم ــ في أحيان كثيرة ــ لايملكون المفاتيح الأولي التي تعد بمثابة ألفباء الأشياء‏,‏ ومع ذلك فهم يلبسون مسارفين‏,‏ ويتنطعون في محاولة لإخفاء جهلهم والتظاهر أمام حوارييهم ومريديهم ــ الذين يشاركونهم جهلهم وتخلفهم ــ بأنهم فرسان هذا الزمان وحاملو راياته وأصحاب فتوحاتهمن العجيب فعلا أن نجد محققا كبيرا‏,‏ يعكف علي تحقيق ديوان شاعر كبير‏,‏ فإذا بهذا الديوان ــ عند نشره ــ يمتليء بمئات الأخطاء مصدرها الرئيسي الجهل بعروض الشعر وأوزانه وموسيقاه‏!‏ وأن نجد من يتصدون لإنجاز رسائلهم للماجستير والدكتوراه عن البنية الإيقاعيشاعر من الشعراء‏,‏ وعن تحليل موسيقاه وتأمل البناء العروضي لقصائده‏,‏ وهم لايفرقون بين الوافر والكامل‏,‏ أو بين السريع والمنسرح‏,‏ ولا بين المقتضب والمضارع‏,‏ بل لا يدركون الفرق بين البحور ذات الوحدة المفردة والبحور ذات الوحدة المركبة‏,‏ لكنه كمعجائب‏,‏ والعجائب لاتنتهي
هذه مقدمة ضرورية قبل الولوج إلي هذا العمل المتسم بالجدة والجدية في آن‏.‏ الجدة لأنه يقدم دراسة ثرية ممتعة عن التحليل النصي للشعر‏,‏ والجدية المتمثلة في أن صاحب البحث يمتلك عدته‏,‏ ويناجز بأدوات قادرة علي النزال‏,‏ ويمسك بناصية اللغة والشعر معا‏,‏دراسته بحصاد موفور‏.الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في كتابه‏:‏ الإبداع الموازي ــ التحليل النصي للشعر يدعو إلي تناول الشعر باعتباره فنا لغويا‏,‏ من هنا فإن النحو يعد أحد الأبنية الاساسية التي ينبغي الاعتماد عليها في تفسيره لأن العلاقات النحوية في النص ــ علي مستواه الأفقي ي التي تخلق أبنيته التصويرية والرمزية‏,‏ وعلي مستواه الرأسي هي التي توجد توازيه وأنماط التكرار فيه وتحكم تماسكه واتساقه‏,‏ وهذا كله يؤسس بنية النص الدلالية والدكتور محمد حماسة يتوسع في مفهوم النحو بحيث يشمل منظومته القواعد الصوتية والصرفية والتركيبية اتحكم بنية النص في ترابط وانسجام‏,‏ لأن كل عنصر في بنية النص اللغوية يمثل جزءا في بناء دلالته‏.‏ والتفسير الدلالي لأي نص يقوم علي كل هذه المعطي
من ميزات هذا الكتاب أنه ــ وهو يؤسس لمنهج في التحليل النصي للقصيدة ــ يدير البحث من حول التنظير والتطبيق‏.‏ وهو علي مستوي التنظير يري أن التحليل النصي لابد أن يؤسس علي النص نفسه‏.‏ ولايصبح النص نصا إلا إذا كان رسالة لغوية تشغل حيزا معينا فيها جديلة محكضفورة من المفردات والبنية النحوية‏.‏ هذه الجديلة المضفورة تؤلف سياقا خاصا بالنص نفسه ينبث في الرسالة اللغوية كلها‏.‏ وكما أن لأبناء اللغة المعنية سليقة تهديهم إلي معرفة النظام النحوي للغتهم بكل أبعاده الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية‏,‏ فإن لديك حسا مدربا أو سليقة نصية تساعد علي إدراك وحدة النص‏.وهناك عدد من المعالم الخاصة بهذا المنهج أهمها يكمن في ضرورة النظر إلي القصيدة علي أنها نص واحد وبنية متكاملة لايغني جزء منه عن جزء آخر‏.‏ والنص الواحد يتفاعل بعضه مع بعض بطبيعة كونه نصا واحدا‏.‏ وقد تبدو القصيدة في بنيتها الظاهرة جامعة لعدد من الصور لينها ــ كما يظهر ــ رباط جامع‏,‏ إلا أنها جميعا في قصيدة واحدة ذات وزن واحد وروي واحد‏.‏ ولها بنية عميقة تجمع هذه الصور في إطار واحد علي تباعد ما بينها ظاهري
ومنها أيضا أن النص الواحد تحكمه علاقات لغوية ودلالية تعمل علي تماسكه وترابط أجزائه‏,‏ وعلي من يتصدي لتفسير النص أن يستعين بهذه العلاقات بنوعيهاويترتب علي الاهتمام بالنص‏,‏ بوصفه وحدة دلالية واحدة‏,‏ الاعتماد علي القصيدة وحدها في استخراج كل المعطيات التي تعين علي تفسير النص دون النظر إلي مساعدات من خارجه‏,‏ حتي لو كانت تفسيرات الشاعر نفسه‏.‏ فالشاعر بعد ان ينشيء قصيدته يصبح مثله أمامها مثل آخر‏,‏ ولايكون الشاعر بالضرورة أقدر علي تفسيرها من غيره‏,‏ فهو قد قال ما قاله بالطريقة التي يجيدها‏,‏ وأما التفسير فهو مهمة نوع آخر من المت
حرصت علي أن أنقل فكر الباحث الجاد ــ أستاذ الدراسات النحوية‏,‏ الشاعر‏,‏ أستاذ العروض والموسيقي‏,‏ عضو مجمع اللغة العربية‏,‏ وكيل كلية دار العلوم ــ أنقله بكلماته هو‏,‏ حرصا علي أمانة العرض‏,‏ ورغبة في توصيل هذا الفكر دون تشويه‏.‏ منتقلا إلي ألق فيها وهو يقدم تطبيقاته علي منهجه‏,‏ من حول نصوص مختارة‏:‏ طلل الوقت للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي‏(‏ مع الاهتمام بظاهرة انكسار الإيقاع‏)‏ وآية جيم للشاعر حسن طلب‏(‏ والتوقف عند آية الجنون بالشعر أو الاحتماء باللغة‏)‏ وحصاد الريح للشاعر الكويقيان‏(‏ والتركيز علي المفارقات الساخرة‏),‏ وبعض مفاتيح النص الشعري عن حطان بن المعلي وأبي ذؤيب الهذلي وزهير بن أبي سلمي وأحمد شوقي‏(‏ في همزيته النبوية‏)‏ ومالك بن الريب في مطلع مرثيته لنفسه‏,‏ وقصيدة أحد الأعراب في موقف ندم علي زواجه من امرأتين نمط صعب من العلاقة بين وزن الشعر ومادته عند الأستاذ محمود محمد شاكر‏.يري الدكتور محمد حماسة أن من الوسائل الإجرائية أو المفاتيح التي قد تفيد في بعض النصوص حركة الضمائر علي سطح النص‏,‏ وتنوع هذه الضمائر من متكلم أو مخاطب أو غائب‏,‏ وغلبة بعضها في النص علي البعض الآخر‏,‏ والتحول الذي يتم بينها‏,‏ واكتناف بعضها للبعضواحتواء بعضها للبعض الآخر‏.‏ وما يظهره كل ذلك من حركة دلالية في النص نفسه تعد انعكاسا لحركة الضمائر في النص‏,‏ فضلا عما تقوم به الضمائر من التماسك النصي من حيث الإحالات المتطابقة أو غير المتطابقة‏,‏ أو التبادل بين الظاهر والمضمر أو ال
في التحليل النصي الذي يقدمه الدكتور محمد حماسة يقول‏:‏ في هذا النص نجد ضمير المتكلم‏(‏ المفعول به‏)‏ هو الغالب‏,‏ فهو ــ إذن ــ مقهور‏(‏ أنزلني ــ غالني ــ أبكاني ــ ربما أضحكني‏).‏ هذا المتكلم المقهور بضميره المفرد عندما يأتي في حال الامتلاك ‏ ليس لي مال‏)‏ أو في جواب‏(‏ لو‏)‏ الامتناعية ــ فهو أيضا منفي‏(‏ لكان لي مضطرب واسع‏),(‏ لامتنعت عيني عن الغمض‏)‏ فهو أيضا مقهور بالعدم‏.‏ ضمير المتكلمين المفرد هذا يتحول إلي ضمير المتكلمين الجمع‏(‏ وإنما أولادنا ــ بيننا ــ أكبادنا‏)‏في جمع كبير مما يفيد أن القضية هنا كلية‏,‏ فهي حقيقة عامة تنطبق علي الجمع‏,‏ ومما يوحي بأنه ليس وحده في هذا‏,‏ ولو أن غيره مكانه لفعل مثل ما يفعل‏.‏ ونجد هنا أيضا أن ضمير المتكلم المفرد يقوم مقام الجمع‏,‏ فقد كان السياق يقضي أن يقول‏‏ لامتنعتلغمض‏)‏ لكن الذي قيل هو‏‏ لامتنعت عيني‏)‏ فأدخل نفسه مرة أخري ضمن الجمع‏,‏ وناب عنهم جميعا في الامتناع عن الغمض مما يوحي بقدر عال من الإنسانية التي ترق وتبكي لأن هناك فلذة من كبد أي إنسان تهب عليهادور الضمير وتنوعه في النص يعطي مجالا آخر لتعدد الأصوات في النص مما يكسب النص درامية‏,‏ خاصة إذا اقترن تنوع الضمائر بحوار في البنية النصية فإن هذا الحوار يضفي علي النص حيوية وتدفقا‏,‏ وينفي عنه أحادية الصوت التي قد تدفع الملال‏,‏ أو تحول النص إلي الإفلبوح الذاتي إذا استطاع أن ينجو من الإملال‏.
هذا ناقد نحن في حاجة إليه‏.‏ إنه يكتب لنا ويخاطبنا نحن القراء وليس لغيره من النقاد كما يفعل كثير من نقدة هذا الزمان‏.‏ وهو يحرص علي أن يستخدم ثقافته اللغوية ومنهجه في التحليل النصي لإضاءة النصوص الشعرية‏,‏ والكشف عن مفاتيحها وأسرارها‏,‏ والولوج بنالمها التركيبية والدلالية‏,‏ والنفاذ إلي بنيتها العميقةوفي مثل هذا النقد ــ الذي يتميز بالجدة والجدية ــ يكمن الإبداع الموازي للإبداع الشعري نفسه‏.‏

الأهرام المصرية
  #108  
قديم 31/05/2004, 05:05 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
: أشباح الماضي في ثياب الحاضر‏!‏

أحمد عبدالمعطي حجازي


بعضهم يظن أننا حين نتحدث عن تجديد الخطاب الثقافي نقصد ما كان يقصده البلاغيون القدماء‏.‏ فالخطاب في نظرهم هو اللغة التي نستخدمها في التعبير عما نريد أن نتداوله من أفكار ننجح في فهمها بقدر ما ينجح المتحدث في التعبير عنها‏,‏ فيختار اللغة التي يمكن أن تحمل فكرته للناس‏.‏

والناس ليسوا دائما عقلية واحدة‏,‏ لأنهم ليسوا بيئة واحدة أو ثقافة واحدة‏,‏ أو رغبات واحدة‏,‏ فاللغة التي تصل إلي رجال الثقافة والفكر لا تصل إلي رجال المال والسياسة‏,‏ أو إلي غيرهم من الطبقات والفئات‏,‏ ولا تثير إعجابهم‏,‏ ولا تستطيع إقناعهم‏,‏ وإذا كان المثقفون يستطيعون أن يتحدثوا فيما بينهم عن المطلقات والمجردات‏,‏ وأن يسوقوا في حديثهم من الأمثلة والشواهد ما يعلمون أنه معروف لديهم‏,‏ متداول في أوساطهم‏,‏ فهم في حديثهم مع عامة الناس مضطرون للتبسيط والبعد عن المجردات‏,‏ وضرب الأمثلة من الحياة اليومية‏,‏ وهذا هو ما يسميه البلاغيون مطابقة الكلام لمقتضي الحال‏.‏

ونحن نفهم من هذه العبارة أن الكلام يطابق الحال التي يكون عليها السامع‏,‏ لكن بوسعنا أن نفهم منها أيضا أن الكلام يطابق ما يريد المتكلم أن يعبر عنه من أفكار كانت موجودة لديه قبل أن يعبر عنها‏,‏ لأن التفكير في نظر القدماء هو عمل العقل‏,‏ أما الكلام فعمل اللسان‏,‏ وهما عمليتان أو ملكتان منفصلتان‏.‏

التفكير هو الجهد الذي نبذله في إدراك الحقائق أو المعقولات التي لا نصنعها نحن أو نخلقها من العدم‏,‏ بل نكتشفها فحسب ونهتدي لها بقوانا العاقلة التي تنتمي للعالم الروحي الذي تنتمي له هذه الحقائق وهذه المعقولات‏,‏ فالحقائق قديمة متاحة للناس جميعا‏,‏ لأن الناس جميعا لهم عقول يفكرون بها‏,‏ ولأن الأفكار أو المعاني ـ كما يقول الجاحظ ـ مطروحة في الطريق‏,‏ يعرفها العجمي والعربي‏,‏ والبدوي والقروي‏.‏ أما التعبير عن هذه المعاني فيختلف باختلاف قدرة المتكلم علي الكلام الذي يطابق المعني من ناحية‏,‏ ويطابق حال السامع من ناحية أخري‏.‏

باختصار تجديد الخطاب في نظر فريق واسع من الناس هو إعادة النظر في اللغة التي نستعملها حتي يفهمها المستمعون الذين يمكنهم أن يفهموا كل ما نستطيع أن نقدمه لهم من أفكار‏,‏ إذا نجحنا في التعبير عن أفكارنا بالطريقة التي تتيح لهم أن يفهموها‏.‏

غير أن هذا المعني الذي فهمه الكثيرون من تجديد الخطاب الثقافي ليس هو المعني المقصود من هذه العبارة‏.‏ تجديد الخطاب الثقافي ليس شيئا آخر غير الخروج من ثقافة الماضي وقيمه وأفكاره‏,‏ والدخول في ثقافة العصور الحديثة وعلومها وقيمها وأفكارها‏.‏

ونحن لا نجدد الخطاب الثقافي إذا غيرنا لغته أو طعمناها ببعض المفردات المترجمة والشعارات المتداولة في هذه الأيام‏,‏ كالحداثة‏,‏ والديمقراطية‏,‏ والعقلانية‏,‏ والعولمة‏,‏ والعلم‏,‏ وحقوق الإنسان‏.‏

وما أكثر الذين يرددون هذه المفردات ويرفعون هذه الشعارات دون أن يؤمنوا بها‏,‏ أو ينجحوا حتي في إخفاء ما يتناقض في تفكيرهم معها‏.‏

إنهم يتحدثون عن العلم ويضربون بالمنطق عرض الحائط‏,‏ ويتحدثون عن الديمقراطية في الوقت الذي لا يطيقون فيه سماع الرأي المخالف‏.‏

ولقد رأينا نماذج مختلفة لسياسيين ومثقفين يغيرون مفرداتهم ويبدلون شعاراتهم دون أن يغيروا مسلماتهم أو يتزحزحوا عن مواقفهم السابقة التي تبدو معها اللغة الجديدة مجرد لكنة مستعارة ملفقة لا تكشف حقيقة خارجية أو داخلية‏,‏ لأنها لم تكن استجابة لنقد العقل أو مراجعة النفس‏,‏ وإنما كانت مداراة وتلونا نتج عن اختلاف المناخ وتغير النظام‏.‏

والواعظ الذي يستخدم العامية أو يطعم بها كلامه لا يجدد في خطابه الديني شيئا‏,‏ ولا يساعد المؤمنين علي فهم العصر‏,‏ ولا يزيل التناقض الذي يقع فيه البعض حين يخلطون بين العلم والدين‏,‏ فيطلبون من الدين أن يكون علما‏,‏ أويطلبون من العلم أن يكون دينا‏,‏ فيضيعون العلم‏,‏ ويضيعون الدين‏.‏

و المؤذن الذي يزعق في الميكروفون لا يجدد الأذان‏,‏ ولا يضيف له قيمة فوق قيمته‏,‏ أو تأثيرا فوق تأثيره‏,‏ وربما بالغ حتي صك الأسماع وعجز عن مخاطبة القلوب‏.‏

ويبدو أنها آفة قومية لاتقتصر علي فئة دون فئة‏.‏ فالجميع يتبنون الفكرة ونقيضها‏,‏ ويسمون الأشياء بغير أسمائها‏,‏ وينتمون للماضي والحاضر في وقت معا‏,‏ ويقابلونك بوجهين أثنين‏,‏ لاتدي أيهما الأصل وأيهما القناع؟

سائق التاكسي الذي يعطل العداد ليفرض عليك أجرة مضاعفة‏,‏ في الوقت الذي يثبت فيه الراديو علي اذاعة القرآن الكريم‏.‏
والفتيات اللأئي يغطين شعورهن‏,‏ ويحزقن سراويلهن‏!‏

والنظم السياسية التي تجمع بين أدوات العصور الحديثة وقوانين العصور الوسطي‏.‏ انها تستخدم وسائل العصر واكتشافاته واختراعاته‏,‏ وربما كانت وسائل المتخلفين المستبدين أمضي وأحدث من وسائل المتقدمين المتحضرين‏,‏ وربما استطاعوا أن يركبوا مركبات المستقبل ليعودوا بها إلي العصور البائدة‏,‏ ويدافعوا بها عن أفكارها وقيمها‏.‏

الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية التي كانت تستطيع أن توقظ العقول‏,‏ وتثير الفضول‏,‏ وتشيع المعرفة في الناس‏,‏ وتقدم لهم قيم العصر وهداياه‏,‏ وتنتشلهم من السلبية واللامبالاة والخرافة‏,‏ والتطرف‏,‏ والتعصب‏,‏ والتواكل‏,‏ هذه الأدوات أو معظمها تتبني علي العكس ثقافة الماضي وقيمه‏,‏ وتجتهد في إشاعتها‏,‏ وتسلحها بما تملك من قوة ونفوذ‏.‏

تجديد الخطاب الثقافي إذن ليس تغيير الأدوات اللغوية المستخدمة في توصيل الأفكار والتأثير علي المستمعين‏,‏ وليس مخاطبة الناس علي قدر عقولهم‏,‏ وليس مطابقة الكلام لمقتضي الحال‏,‏ لكنه إعادة النظر في المنطلقات الفكرية التي نبدأ منها‏,‏ وفي المسلمات التي نؤسس عليها ما نبذله من جهد وما نقوم به من نشاط لنفهم الواقع وندرك الحقيقة ونجسدها‏.‏

نحن لا نستطيع أن نفهم الواقع إذا ظللنا نعتقد أن هذا الواقع بسيط واضح‏,‏ نصفه كما يبدو لنا‏,‏ ونطلق عليه الاسم الذي يتفق مع رؤيتنا له‏,‏ كأن كل ما فيه ظاهر ملموس‏,‏ أو كأنه خلية واحدة‏,‏ وكأنه ثابت لا يتغير‏,‏ فلنا أن نصفه كما نراه‏,‏ وأن يكون حكمنا عليه ثابتا نهائيا كما كانت أحكام القدماء ثابتة نهائية‏,‏ لأنهم تعودوا أن يتلقوا هذه الأحكام وأن يمتثلوا لها‏,‏ وأن يخافوا من أنفسهم‏,‏ ويتشككوا في عقولهم‏,‏ ويتشبثوا بما فرض عليهم من أفكار‏,‏ وما ورثوه من تقاليد‏.‏

هذه الثقافة الجامدة المستبدة هي التي يجب أن نخرج منها لندخل في ثقافة العصور الحديثة التي نضجت وأدركت أن الحقيقة الإنسانية متعددة الوجوه‏,‏ وأن القانون الطبيعي نفسه متقلب‏,‏ يصدق بشروط‏,‏ ولا يصدق إذا تغيرت الشروط‏,‏ فهو مجرد احتمال‏,‏ لأنك لا تعبر النهر مرتين كما كان يقول الفيلسوف اليوناني القديم‏,‏ وكل شيء في العالم يتطور ويتغير‏,‏ ويتبدل ويتحول‏,‏ فعلينا أن ندخل في هذه التحولات‏,‏ وأن نسابق الزمن لنصبح من هذا العصر ولا نكتفي بأن نضع قدما فيه وقدما في العصور الماضية‏.‏

نحن جميعا متفقون علي أن الديمقراطية هي النظام السياسي الأمثل‏,‏ لكن بعضنا لا يري في الديمقراطية إلا شعارا يتردد في أنحاء العالم فلا بأس من أن يرفع به صوته مع الآخرين‏.‏ وهناك من يجردون الديمقراطية من جوهرها ولا يجدون فيها إلا وسيلة للوصول إلي السلطة‏,‏ فإن أوصلتهم لهدفهم فقد انتهت وظيفتها‏,‏ وبوسعهم حينئذ أن يستغنوا عن الديمقراطية‏.‏

وأنا لا أرجم بالغيب‏,‏ وإنما أتحدث عن هؤلاء الذين يطالبون بحقهم في الديمقراطية في الوقت الذي يعترضون فيه علي حرية التفكير والتعبير‏,‏ كأن الديمقراطية ليست هي النظام الذي انبثق من الحرية ليضمن لنا كل الحريات‏.‏

هؤلاء يقولون إننا متفاوتون في القدرة علي إدراك الحقائق ومعرفة الصواب والخطأ‏,‏ وبما أن الأمر كذلك فلابد أن تتفاوت أنصبتنا من الحرية بقدر ما تتفاوت أنصبتنا من الحكمة‏,‏ وأن تكون هناك سلطة تضع للحرية حدودا‏,‏ وتحاسب من يتجاوزون هذه الحدود‏,‏ وهكذا تصادر بعض الكتب‏,‏ ولا تعرض بعض الأفلام‏,‏ دون أن يعترض هؤلاء الديمقراطيون الذين يزايد بعضهم علي السلطة التي أفلتت من قبضتها بعض الكتب وبعض الصور وبعض التماثيل والأفلام‏.‏

هذا الموقف من حرية التعبير يكشف عن الموقف الحقيقي لهؤلاء السادة من الديمقراطية التي تقوم علي أن الحقيقة ليست ملكا لأحد بعينه‏,‏ ومادام نصيب كل منا محدودا من الحكمة‏,‏ ومادام كل منا يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا‏,‏ فليس لأي منا أن ينصب نفسه رقيبا علي الآخرين‏,‏ وإن يكن له الحق دائما في أن يناقش ما يقال‏,‏ فيؤيده أو يعارضه‏,‏ ويصحح ما يجد فيه من خطأ‏,‏ أو يشهد بصحته ويؤمن عليه‏.‏

والديمقراطيون الذين يجعلون تفاوتنا في العلم أو في القدرة علي إدراك الصواب سببا لحرماننا من الحرية لا يختلفون عن الذين يرفضون الديمقراطية من الأصل‏,‏ لأن الشعب كله في نظرهم قاصر‏,‏ أو يقصرونها علي طبقة دون طبقة‏,‏ أو علي جنس دون جنس آخر‏,‏ فهم يخلطون الديمقراطية بالاستبداد‏,‏ وينطقون الماضي بلغة الحاضر فيزيفونهما معا‏,‏ ويعجزون عن الفهم والإفصاح‏.‏
الخطاب الثقافي إذن ليس كلمات جديدة فحسب‏,‏ لكنه فكر جديد‏.‏

الأهرام المصرية
  #109  
قديم 01/06/2004, 05:23 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
الشخصية في رواية مدن الملح
2004/05/18


د. نبيه القاسم
مهما اختلفت الآراء تظل الشخصية هي التي تستحوذ علي الاهتمام لدي تناول اي عمل ابداعي، واذا كانت شخصية البطل في الرواية، كما عرفناها في روايات زولا وبلزاك، قد تلاشت في القرن العشرين، فإن الرواية العربية ظلت تستأثرها وتتميز بها حتي اواسط السبعينيات، وكانت الكثير من الدراسات الادبية تتمحور حول شخصية البطل وتهتم بتصنيفاته، وتُهمل جوانب النص الابداعي الاخري.
وقد اهتم عبد الرحمن منيف في رواياته الاولي بشخصية البطل في مثل قصة حب مجوسية، شرق المتوسط، حين تركنا الجسر، النهايات ، رغم انه كان قد وزع البطولة علي شخصيتين في روايته الاولي الاشجار واغتيال مرزوق . بينما قصد عدم وجود مثل هذا البطل المركزي الوحيد في رواية مدن الملح.
لا نستطيع في رواية مدن الملح ان نشير الي شخصية محددة علي انها الشخصية الرئيسية التي حولها تدور معظم الاحداث وتتشكل الرواية. فرواية مدن الملح تحوي علي عدد كبير من الشخصيات، منها المهمة التي تأخذ دورا مهما في الاحداث، ومنها الثانوية التي تلعب دورا اقل اهمية، او مجرد تذكر او تؤدي دورا هامشيا. ولكن كل هذه الشخصيات معا تشكل هذا العالم الواسع الذي ترسمه الرواية.
هذا يعني ان منيف في روايته هذه تأثر بتحوّل موقف النقد الغربي من دور شخصية البطل في الرواية حيث حاول هذا النقد اهمال الشخصية الرئيسية وحتي الغاء دورها كليا، واستغني عن دور البطل الرئيسي المُوجه للاحداث والشاغل لها، وهو نفسه يفسر هذا التحول في الموقف بقوله: إن بطل الرواية الفرد، الذي يملأ الساحة كلها، وما الآخرون الذين يحيطون به الا ديكورًا لابرازه واظهار بطولاته، ان هذا البطل الوهمي الذي سيطر علي الرواية العالمية فترة طويلة، آن له ان يتنحي، وأن لا يُشغل الا ما يستحقه من مكان وزمان . الكاتب والمنفي، (ص 76) العديد من الشخصيات في مدن الملح تظهر وتختفي بعد ان تقوم بدورها ولا تُذكر ابدا، واصبحت الرواية عبارة عن بانوراما كبيرة متناسقة متكاملة تتوالي فيها الاحداث وتتداخل وتتباعد، ومثلها ايضا الشخصيات التي تقوم بادوارها. وذلك بخلاف ثلاثية نجيب محفوظ، حيث للشخصيات وللاحداث استمرارية واضحة.
وكما في ثلاثية نجيب محفوظ لا توجد الشخصية المتفردة التي تشغل دور البطولة الفردية وانما كل افراد عائلة السيّد تقوم بدور البطولة، هكذا ايضا في رواية مدن الملح لم تعد البطولة تقتصر علي واحد او اثنين من شخصيات الرواية، وانما اصبحت تتوزع علي العديد من الشخصيات التي تحرك الاحداث وتدفعها، ولم تعد تحتمل تلك الصفات المثالية النموذجية للغير، وانما نجد فيها صفات مكروهة ومنفّرة، وقد نجد النموذجين المتناقضين معا في الوقت نفسه، يتصارعان ويحاول احدهما السيطرة علي الآخر.
اهمية الشخصية ومدي تأثيرها ودورها في العمل الابداعي، كل هذا يتقرر من خلال فعل الشخصية في النص نفسه، ومع ان الاهتمام لم يعد يتركز بالبطولة الفردية، اي الشخصية المركزية في الرواية التي تتمحور حولها باقي الشخصيات والاحداث، الا ان الشخصية تستطيع ان تفرض الاهتمام بها، مهما كان دورها صغيرا ام كبيرا، من خلال فاعليتها في النص والعلاقات التي تقيمها مع باقي الشخصيات ومع عناصر النص الاخري، حيث تفرض وجودها وتمنع امكانية حذفها او تجاهلها.
المشترك الوحيد بين عشرات الشخصيات التي تظهر علي مسرح الاحداث في رواية مدن الملح انها كلها تسير نحو مستقبل مجهول، نحو النهايات ونحو التيه في بحر من الظلمات، وقد يكون الكاتب قد هدف الي ذلك من خلال اختياره لاسماء اجزاء الرواية. هذه الشخصيات التي تبدو علي مسرح الاحداث، منها التي تشق طريقها واثقة من خطواتها وهي لا تدري انها تدفع بنفسها نحو التيه والظلمات والنهاية، ومنها المهزومة التائهة التي تريد تأمين ما يضمن بقاءها في الحياة لا اكثر، ومنها التي لا تجد امامها من حيلة، امام التغير الهائل الذي تشهده في المكان والزمان، الا البكاء والتحسر علي الذي كان ولن يعود.
ومن هذه العشرات من الشخصيات التي تظهر وتختفي وينساها القارئ بمجرد ان انتهي دورها، ومنها التي تأخذ قسطا في تطور الفعل ودفع الاحداث ولكنها تكون محدودة في مدي فاعليتها، ومنها شخصيات تفرض وجودها وتدفع بديناميتها ووهجها الاحداث وتظل عنصر جذب وتأثير حتي لو انها اختفت عن المسرح. مثل متعب الهذال الذي رغم اختفائه بعد تدمير وادي العيون في الجزء الاول (التيه) ص 106، من رواية مدن الملح ظل يفرض وجوده علي الناس والاحداث لعشرات السنين.
تراكم الشخصيات وعددها الكبير وتوالي الاحداث وتفجرها وانتشارها في كل الاتجاهات والامكنة عبر الازمنة غير المحددة، ليس وحده الذي يميز رواية مدن الملح عن روايات عبد الرحمن منيف الاولي، ففي الروايات الاولي كانت الشخصيات محددة الهوية والتوزيع، واضحة المعالم والاهداف، والاحداث رغم ضخامتها واهميتها الا انها محددة واضحة، والاماكن يمكن التعرف عليها، والزمان يتمحور في زمان القهر العربي الذي يعيشه الانسان العربي منذ خمسينات القرن العشرين.
ما يميز رواية مدن الملح انعدام وجود شخصية المثقف الفاعلة والمحركة التي كانت البارزة بين شخصيات الروايات الاولي، بينما برزت وبقوة الشخصية الشعبية القريبة من الشخصية الملحمية التي افتقرت اليها شخصيات الروايات الاولي وان كانت شخصية عساف بطل رواية النهايات تُشكل مدخلا مهما في بلورة الشخصية الشعبية الملحمية التي ظهرت في رواية مدن الملح.
لقد توزعت الشخصيات في الروايات الاولي ما بين الشخصيات المثقفة والشعبية التي تواجه السلطة الحاكمة الظالمة رغم ان الشخصية السلطوية انحصرت في الموظفين الصغار والسجانين الذين لم يكونوا الا ادوات محركة فاقدة للتميز في ملامحها وعملها وفكرها مما ابقاها في حدود النكرات، ولم تبرز في شكل الحاكم الكبير صاحب الفكر والخطة والهدف، بينما في رواية مدن الملح اخذت الشخصية السلطوية مكانها المركزي والفعال في صنع الاحداث وتطورها، وتوزعت علي عشرات الشخصيات، من الموظف الصغير حتي تصل الي السلطان بنفسه.
كذلك ظهرت في رواية مدن الملح الشخصيات العديدة التي لم تنتم الي المكان وانما هي وفـَدت اليه طمعا في كسب الغني والمال، ووجودها كان له الأثر علي تغير المكان وتشكله من جديد، ومثل هذه الشخصيات لم تظهر في روايات منيف الاولي.
كاتب من فلسطين
  #110  
قديم 01/06/2004, 09:58 PM
صورة عضوية جزيل
جزيل جزيل غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 25/12/2002
المشاركات: 350
الخليج في عام 2003

الخليج في عام 2003

عرض/ إبراهيم غرايبة
يرصد هذا التقرير -وهو الأول من نوعه- الذي يصدر عن مركز الخليج للأبحاث الأحداث والتطورات في منطقة الخليج ويحللها، ويستشرف المستقبل في مجموعة من الاتجاهات والمحاور هي: التطورات السياسية والداخلية، والمجتمع، والنفط والغاز، والاقتصاد غير النفطي، والأمن والدفاع، والعلاقات الخليجية البينية، والعلاقات العربية والإقليمية والدولية لدول المجلس، وموقفها من الصراع العربي الإسرائيلي.

التطورات السياسية في دول المجلس
شهدت دول مجلس التعاون الخليجي تطورات سياسية مهمة شملت تعديلات دستورية، وإجراء انتخابات نيابية وبلدية، وحالات انفتاح سياسي غير مسبوقة، وزيادة مشاركة المرأة في الحياة العامة، وإجراء حوار سياسي وديني يستند إلى مبدأ التسامح.


وبغض النظر عن الأسباب التي دعت إلى عملية الإصلاح السياسي في دول المجلس، فقد تكونت قناعات جديدة شعبية ورسمية بضرورة الإصلاح وأهميته واعتباره المدخل الرئيسي لتجديد أسس الشرعية السياسية، وصياغة عقد اجتماعي جديد بين الحكام والمحكومين، بما يسهم في تعزيز المشاركة الشعبية في الشأن العام، وتقوية مؤسسات المجتمع المدني، وتحديث أجهزة الدولة ومؤسساتها على النحو الذي يجعلها مؤهلة للتعامل مع تحديات مرحلة ما بعد الطفرة النفطية واستحقاقات عصر العولمة.

وفي ظل المتغيرات الحالية ونظرا لصعوبة الأوضاع الاقتصادية في بعض دول الخليج، فمن المتوقع أن يتحول الشباب الخليجيون إلى تبني أهداف تهتم بقيم مثل حرية التعبير، والمشاركة السياسية، والمعارضة السياسية الخليجية ضعيفة التنظيم، وتعتمد على الدعوة إلى الإصلاح، والممارسات السلمية.

والنمط السائد للمعارضة الخليجية هو النمط الاجتماعي القائم على الاتصالات الشخصية مع الحكام عبر حضور المجالس التي تجمع في العادة بين الحكام وأعيان المجتمع، وتشكل فرصة سانحة للتداول في القضايا العامة. وهناك نمط آخر يتمثل في التنظيمات والجمعيات السياسية في بعض الدول الخليجية مثل الكويت والبحرين.

وتتزامن النزعة إلى تشكيل أحزاب وكيانات معارضة سياسية مع الكثير من المتغيرات المتمثلة في ارتفاع معدلات التعليم كما ونوعا، وتنامي بعض المشكلات الاقتصادية. ويسود المعارضة توجه نحو الضغط لإدخال الإصلاحات مع بقاء الأسر الحاكمة، وهي في هذا تنتهج التدرج في التطور السياسي.

المجتمعات الخليجية
يركز التقرير في هذا المجال على ثلاث قضايا هي: واقع التركيبة السكانية، وحالة المجتمع المدني، وواقع المرأة. ويبدو أن ثمة خللا كبيرا في التركيبة السكانية في الكويت والإمارات وقطر، فقد بلغت نسبة غير المواطنين في الإمارات 76.6% من السكان، وفي قطر 72.9%، وفي الكويت 61.9%.

ويلاحظ أيضا أن المجتمعات الخليجية مجتمعات فتية بسبب ارتفاع نسبة الأطفال والشباب إلى إجمالي عدد السكان، وهو أمر له انعكاساته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المستقبل، وبخاصة مع تنامي ظاهرة البطالة.

ويرصد التقرير الواقع الراهن لمنظمات المجتمع المدني في دول المجلس، النسوية والخيرية والمهنية والثقافية والدينية، والنقابات والاتحادات العمالية، ويظهر أن المجتمع المدني من حيث طبيعته وتأثيره يتفاوت في ذلك من دولة إلى أخرى حسب خبرتها التاريخية وظروف تطورها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وقد بلغ عدد مؤسسات المجتمع المدني في دول المجلس 37 جمعية خيرية، و84 جمعية مهنية، و69 جمعية نسوية.

وقد شهدت السنوات الأخيرة تطورا في مجال مشاركة المرأة على صعيد الأطر الدستورية والقانونية والممارسات العملية، فحصلت المرأة على حق الترشيح والتصويت في عمان وقطر والبحرين، وخاضت المعترك الانتخابي. ولكن فرص المرأة في التمكين السياسي مازالت ضعيفة مهما دعتها النخب الحاكمة، فتجد صعوبة في تمرير قناعتها عبر صناديق الانتخابات، ولم يبق أمامها كما يبدو إلا فرض تلك الرؤى عبر نظام الكوتا أو التعيين كمخرج مرحلي من تأثير الموروث الاجتماعي المعيق لدور فاعل للمرأة في الحياة السياسية.

ومن ثم فإن الدور السياسي للمرأة يعتمد على رغبة وقدرة الأنظمة السياسية في دول الخليج، ودرجة نمو الوعي السياسي لدى المرأة الخليجية، ومدى تغير نظرة المجتمع الخليجي للمرأة ودورها في الحياة العامة، ومدى قدرة المرأة على تنظيم نفسها في بناء مؤسسي يدافع عن قضاياها وحقوقها، والعوامل الخارجية الدافعة نحو تغيير الوضع القائم للمرأة.

النفط والغاز
يبدو أن قرار الولايات المتحدة احتلال العراق جاء مدفوعا بالرغبة في النفط، وفي تكريس الهيمنة من خلال توسيع القوة العسكرية والاقتصادية الأميركية, فالنفط ونشر القوة العسكرية حول العالم يعتبران أهم هدفين إستراتيجيين دفعت إدارة الرئيس بوش الحالية نحو غزو العراق لتحقيقهما. ولكن لم يكن الهدف المباشر هو النفط العراقي بقدر ما يتعلق بالدور الأميركي وبالسيطرة على قطاع النفط، وكذلك بالقدرة على فرض أسعار النفط في السوق العالمية.

إن أغلب الدراسات تشير إلى أن احتياجات العالم من النفط ستبلغ عام 2020 حوالي 112 مليون برميل، وأن ست دول فقط هي السعودية وإيران والعراق والكويت والإمارات وفنزويلا سيكون بإمكانها تلبية هذا الطلب. وتعتبر الولايات المتحدة أكبر مستهلك للنفط في العالم، فبينما يبلغ معدل استهلاك المواطن الأميركي من النفط 28 برميلا في اليوم لا يتجاوز معدل استهلاك النفط في الصين برميلين يوميا لكل مواطن صيني.

وفي تقرير لديك تشيني نشر في أميركا عام 2001 أن النفط الذي تستورده الولايات المتحدة سيرتفع من 10.4 ملايين برميل يوميا إلى 16.7 مليون برميل عام 2020. وأكد التقرير على الحاجة إلى سياسة خارجية ثابتة بإمكانها توفير الحماية لإمدادات الطاقة الأميركية لحماية الأمن والاقتصاد الأميركيين.

والاحتياطات النفطية في العراق والكويت والإمارات ستدوم أطول من الاحتياطيات في أي بلد آخر، وبلا شك فإن السيطرة على نفط العراق سيوفر للولايات المتحدة نفوذا كبيرا على أسواق النفط العالمية. فزيادة الإنتاج العراقي للنفط ستغرق الأسواق العالمية وتدفع الأسعار إلى الانخفاض، مما يؤثر على الإنتاج الروسي للنفط لأن تكلفة الإنتاج فيها مرتفعة.

وسيفتح نجاح الحملة الأميركية على العراق باب الثراء أمام شركات النفط الأميركية التي أبعدت من العراق فترة طويلة، وستتعثر الصفقات بين بغداد وكل من فرنسا وروسيا وألمانيا. ويعتقد كثيرون في الإدارة الأميركية بأنه على المدى الطويل سيعوض عراق ما بعد الحرب الهيمنة السعودية على أسعار النفط، وسيهمش تأثير محتكري أوبك بقيادة السعودية.

ويرى كبار المسؤولين الأميركيين أن العراق سيعوض المملكة العربية السعودية -ولو جزئيا- في قلب الإستراتيجيات الأميركية النفطية والعسكرية في المنطقة، وتكمن أهمية النفط العراقي في أنه يوفر للولايات المتحدة النفوذ لحماية مصالحها ومصالح حلفائها.

إن ارتباطات إدارة بوش بمشاريع النفط والغاز ليست واسعة فقط، بل هي متجذرة ومتغلغلة، فمن القمة إلى القاعدة يبدو الجميع متورطا في مشاريع النفط، والكل يحمل الرؤى نفسها حول أهمية النفط بالنسبة للولايات المتحدة وبقية الدول الصناعية، ولا يمكن أبدا فهم أي صراع من خلال النظر إلى عامل واحد فقط، ولكن فهم أبعاد سياسة النفط ينير الحقائق التي تغيب عادة تحت غبار المعركة, فمن الواضح أن النفط يلعب دورا رئيسيا في تحريك سياسات بوش وإدارته ومسانديهم.

فالعراق يمتلك ثاني أكبر احتياطي من النفط في العالم، وهذا أمر مهم بالنسبة لتسهيل عملية النمو في الاقتصاد العالمي، ويمثل النفط بالتأكيد المصلحة الحيوية على المدى الطويل بالنسبة للولايات المتحدة وأوروبا واليابان في منطقة الخليج العربي.

وتمتلك السعودية أكبر احتياطي للنفط في العالم، وبسبب قرب العراق من المملكة فإن الولايات المتحدة تعتبر موقعه حساسا ومهما على نحو إستراتيجي. ويبدو أن شركات النفط الأميركية أكبر مستفيد من تغيير النظام في العراق. وأخيرا فإن العراق يستهلك ربع الإنتاج العالمي من النفط، مما يجعله الدولة الأولى في العالم في استهلاك النفط.

وتخشى الولايات المتحدة أن تغير البلدان المنتجة للنفط عملة تداولها من الدولار إلى اليورو، وهذا التصرف من شأنه أن يلحق أضرارا كبيرة بالاقتصاد الأميركي، ويزعزع موقع الولايات المتحدة كقوة عالمية وقائدة للعالم، ويهدد كذلك صناعة النفط في العالم.

وقد تميزت أسواق النفط عام 2003 بعدد من الظواهر مثل: ارتفاع أسعار النفط ارتفاعا مستمرا منذ بدء الاستعدادات للمواجهة مع العراق، وقد حدث في هذا العام أيضا أن الأعاصير في خليج المكسيك أدت إلى إغلاق العديد من المصافي وتوقف إنتاج النفط فيها، وحدثت اضطرابات سياسية في نيجيريا وفنزويلا، وهما دولتان نفطيتان مهمتان في سوق النفط العالمي، وحققت منظمة أوبك نجاحا كبيرا في إدارة الصراع النفطي.

الأمن والدفاع في منطقة الخليج
تعيش منطقة الخليج حالة مستمرة من عدم الاستقرار في الأوضاع الأمنية منذ أواخر سبعينات القرن العشرين، فقد أضرت الخلافات السياسية والحدودية بين دول المنطقة بالأوضاع الأمنية، وخلقت الثورة الإيرانية تحديات وتفاعلات جديدة، ثم وقعت الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج الثانية التي أعقبت الغزو العراقي للكويت التي ألقت بتداعيات كثيرة وخطيرة على الوضع الدفاعي والأمني للمنطقة.

وقد ولدت الحرب الأنغلوأميركية على العراق مناخا جديدا سادته حالة من الشك والحذر بالنسبة لدول المنطقة المجاورة، خاصة أن الحرب أسفرت عن وجود 150 ألف جندي أميركي في العراق.

وبعد انتهاء الحرب سيطرت مسألة الأمن على اهتمامات قادة وشعوب دول مجلس التعاون الخليجي، ولوحظ ذلك بوضوح في قمة المجلس التي عقدت في الكويت يومي 21 و22 ديسمبر/كانون الأول 2003.

ويمكن تقدير ملامح البيئة الأمنية في الخليج في ضوء حرب الخليج الثالثة في النقاط التالية: خروج العراق من معادلة ميزان القوة وزيادة اختلال التوازن العسكري في المنطقة، وتمثل حالة الفوضى في العراق تحديا حقيقيا لكل دول المنطقة الخليجية وغيرها.

وستكون الولايات المتحدة مهتمة أكثر في الفترة المقبلة بأوضاعها العسكرية في المنطقة، وقد أخذت العلاقات الإيرانية–الأميركية أبعادا جديدة مختلفة عن السياق الذي ظل سائدا منذ قيام الثورة الإيرانية عام 1979.

وأصبحت دول الخليج بحاجة إلى نموذج جديد وفاعل لنظام أمني يصلح للتطبيق في مرحلة العراق الجديد قائم على تخفيف التوتر وتعزيز الترابط والتعاون، وتطوير قوات درع الجزيرة، وتقليص الاعتماد على القوات الأجنبية.

العلاقات الإقليمية والعربية والدولية
اتسمت العلاقات الخليجية العربية خلال العام 2003 بقدر ملموس من الحيوية والتفاعل، ولم ترصد خلافات أو نزاعات مزمنة بين أي من دول مجلس التعاون الخليجي وأي دولة عربية. ولكن ثمة أزمة بين دول المجلس والأمانة العامة للجامعة العربية، وربما تشهد علاقات اليمن فتورا نسبيا نتيجة ما تعتبره صنعاء بطئا في معدل إجراءات الانضمام إلى أجهزة ومؤسسات مجلس التعاون.

وتواصل دعم دول الخليج للقضية الفلسطينية سياسيا وماليا، ولكن القضية الفلسطينية نفسها دخلت مرحلة صعبة تلقي بظلالها على دول المجلس.

وتطورت إيجابيا العلاقة مع تركيا، وقد تتجه في المستقبل نحو فضاءات اقتصادية وتجارية مشتركة. وتواصلت العلاقات الكثيفة مع الهند وباكستان، حيث يعمل أكثر من خمسة ملايين عامل هندي وباكستاني في الخليج، وبلغ حجم تحويلاتهم المالية في العقد الماضي حوالي 300 مليار دولار.

وفي المقابل فقد أسهمت الهند وباكستان في مساعدة دول الخليج على تطوير بنيتها التحتية وهياكلها الاقتصادية والحصول على خدمات علمية وتقنية متقدمة. ويمكن لدول الخليج أن تلعب دورا مؤثرا وفاعلا في استقرار شبه القارة الهندية وإبعاد شبح الحرب عنها.


المصدر : موقع الجزيرة الالكتروني http://www.aljazeera.net/books/2004/5/5-31-2.htm
  #111  
قديم 03/06/2004, 06:20 PM
صورة عضوية جزيل
جزيل جزيل غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 25/12/2002
المشاركات: 350
الأبعاد القانونية والاجتماعية للتغيير

الأبعاد القانونية والاجتماعية للتغيير
بقلم‏:‏ السيد يسين


لا يمكن القيام بإصلاح شامل أو تغيير مجتمعي مخطط بعبارة أخري‏,‏ بغير رؤية استراتيجية تحدد صورة المجتمع الذي نرجوه بعد عدة عقود من السنين‏.‏ وهذه الرؤية الاستراتيجية ـــ كما أكدنا أكثر من مرة ــ لا يجوز أن تنفرد بوضعها النخب السياسية الحاكمة في العالم العربي‏,‏ لأنها قد تكون منحازة لأوضاعها السلطوية أو الطبقية‏,‏ وإنما لابد من خلال حوار ديموقراطي شامل أن تشارك كل فئات المجتمع في مناقشة مكوناتها وتحديد أبعادها‏.‏
ومن هنا العلاقة الوثيقة بين صياغة الرؤية الاستراتيجية والأوضاع الديموقراطية‏.‏ فهذا الحوار الشامل الذي نشير إليه‏,‏ يتطلب وجود مجتمع مدني ناشط وفعال بمؤسساته‏,‏ والتي تتمثل في الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والعمالية‏,‏ واتحادات الكتاب وجماعات المثقفين والجمعيات التطوعية‏.‏

غير أن تعدد الأطراف المشاركة في وضع الرؤية الاستراتيجية‏,‏ وقبول أهل السلطة عن رضا وقناعة بضرورة إسهام كل الاتجاهات السياسية والقوي الاجتماعية في رسم صورة المستقبل‏,‏ ليس سوي مطلب أول في هذا الصدد‏.‏ غير أن المطلب الثاني والذي لا يقل أهمية هو قدرة هذه الأطراف جميعا علي القراءة الدقيقة والنقدية لمتغيرات المجتمع العالمي‏.‏
ويقف في صدارة هذه المتغيرات تغير موازين القوي العالمية‏,‏ وخصوصا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي ودول أوروبا الاشتراكية‏,‏ وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالساحة العالمية باعتبارها القطب الأوحد الأعظم‏,‏ والذي تحول إلي إمبراطورية كونية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر‏,‏ والتأثيرات العميقة لهذا الوضع علي مجمل التفاعلات الدولية‏,‏ سواء بالنسبة للدول المتقدمة ذاتها أو بالنسبة للدول النامية‏,‏ وذلك علي صعيد السياسية والاقتصاد والثقافة‏.‏

ومما لا شك فيه أن العولمة بكل تجلياتها السياسة والاقتصادية والثقافية والاتصالية أصبحت هي العملية التاريخية الكبري التي ستؤثر بشكل بالغ العمق علي مسار القرن الحادي والعشرين‏.‏ والعولمة ــ كما فصلنا في عديد من كتبنا ستكون لها آثار بعيدة المدي علي حياة البشر في العالم كله‏,‏ وفي العالم النامي علي وجه الخصوص‏.‏ هذا العالم الذي ينبغي علي نخبة السياسية وطلائعه الثقافية أن تجيد إدارة التعامل مع قوي العولمة الصاعدة سياسة واقتصادا وثقافة‏.‏ والتعامل الكفء مع العولمة لا يتعلق فقط بفهم قوانينها الحاكمة ورسم الاستراتيجيات المناسبة لمختلف المواقف التي تفرضها‏,‏ ولكنه يتمثل أساسا في النهوض بالمجتمع‏,‏ من خلال التركيز علي رفع مستوي القوي البشرية من ناحية التعليم والتدريب وزيادة الوعي الاجتماعي‏,‏ حتي يمكن التفاعل بكفاءة مع باقي الأمم والشعوب‏,‏ مادمنا نعيش في عصر التنافسية العالمية والذي شعاره البقاء للأصلح‏!‏
القراءة الدقيقة لمتغيرات المجتمع العالمي إذن هي المطلب الملح الذي يقع علي عاتق الأطراف الاجتماعية المتعددة المشاركة في الحوار‏,‏ من أجل صياغة الرؤية الاستراتيجية أن تنهض بأعبائه‏.‏ وفي هذا المجال ليس هناك مكان للرؤية الإيديولوجية المتطرفة التي تتبناها بعض القوي السياسية‏,‏ سواء كانت تنتمي إلي اليسار أو إلي اليمين‏.‏ علي جبهة اليسار هناك قوي في المجتمع العربي أدمنت الهجوم علي العولمة باعتبارها مرحلة عليا من مراحل الامبرالية الرأسمالية‏,‏ وتدعو بعض أصواتها إلي قطع الصلة مع النظام الرأسمالي العالمي‏,‏ من خلال رفع شعار غامض هو التنمية المستقلة‏.‏ مع أنه من الواضح أن التنمية المستقلة كما تدعو لها هذه الأصوات تكاد أن تكون مستحيلة في عالم يقوم علي الاعتماد المتبادل‏,‏ وأهم من ذلك كله في عالم أصبحت تحكمه معاهدة منظمة التجارة العالمية التي تحرس مبدأ حرية التجارة‏,‏ ولديها من الوسائل القانونية الفعالة ما يكفل لها عقاب أي دولة عضو في المنظمة تخرج علي قواعدها‏.‏

أما علي جبهة اليمين فهناك الدعوات الشهيرة التي تنادي بأن الإسلام هو الحل بالنسبة لكل المشكلات‏,‏ بدون بيان كيف يمكن تحقيق ذلك علي وجه التحديد‏,‏ في سياق عالمي زاخر بالتحديات السياسية والاقتصادية والثقافية‏.‏
وهذه التيارات اليمينية التي تعيش برؤاها المتخلفة وبمفاهيمها الرجعية لا تركز علي المتون ولكنها تغرق ــ للأسف ــ في الهوامش‏,‏ وتركز طاقاتها علي التافه من الأمور‏!‏

لقد نشر في الصحف مؤخرا أن أنصار هذا التيار نجحوا والحمد لله في برلمان إحد البلاد العربية في إتخاذ قرارات خطيرة تتمثل في إباحة تطويل اللحية للذين يعملون في الدوائر الحكومية من الرجال‏,‏ وإباحة النقاب للعاملات في نفس الدوائر‏!‏ العالم يغلي بالمشكلات‏,‏ والعدو علي الأبواب‏,‏ وهذه الحفنة من البشر مشغولة بطول اللحية وبالنقاب‏!‏
وكان أجدر بهم أن يلتمسوا أسباب القوة المعرفية والسياسية والاقتصادية التي تسمح لهم بالعيش والمنافسة في مجتمع القرن الحادي والعشرين‏!‏

الأبعـاد القانونيـة للتغييـر
ولابد لمن يشاركون في وضع الرؤية الاستراتيجية للمجتمع أن يلتفتوا إلي أهمية الاعتبارات الدستورية والقانونية في عملية التغيير‏.‏
ففي بعض البلاد العربية لا يوجد دستور يحدد حقوق المواطنين وواجباتهم‏,‏ وقبل ذلك كله يحدد سلطات الدولة‏,‏ ويضع نظرية الفصل بين السلطات موضع التطبيق‏,‏ وهي نظرية ترتبط بالتطور الديموقراطي ارتباطا وثيقا‏.‏

وهناك بلاد عربية أخري فيها دساتير‏,‏ ولكنها تعطي رؤساء الدول سلطات شبه مطلقة مما يجعل السلطة التنفيذية ــ مع أنها إحدي السلطات ــ تتغول علي السلطتين التشريعية والقضائية‏.‏ ومن هنا لابد من تعديل مثل هذه الدساتير‏,‏ للوصول إلي صيغة متوازنة بين السلطات الثلاث‏.‏ كما أن بعض هذه الدساتير تضع قيودا جسيمة علي حرية التنظيم وحرية التعبير وحرية التفكير‏,‏ ومن ثم فهناك ضرورة قصوي ــ ونحن نعيش في عصر الموجة الثالثة من موجات الديموقراطية ــ لرفع هذه القيود جميعا‏.‏
ولابد في غمار عملية الإصلاح من مراجعة شاملة للتشريعات‏,‏ لإلغاء تلك التي تقيم تمييزا علي أساس الدين أو الجنس أو اللون‏.‏ ذلك أنه من المفروض أننا نعيش في عصر المساواة بين البشر‏,‏ وحتي لو كان ذلك مجرد شعار مثالي فعلينا ــ لو كنا واعين بمنطق التطور التاريخي ــ أن نحاول تطبيقه في كل الميادين‏.‏

ويرتبط بذلك ارتباطا وثيقا إحياء فكرة المواطنة‏.‏ ذلك أن الأفراد في عديد من بلادنا العربية‏,‏ لا يعتبرون مواطنين بالمعني الدقيق للكلمة‏,‏ ولكنهم مجموعة من رعايا الدولة‏,‏ ليست لهم حقوق واضحة وإن كانت تقع علي عاتقهم واجبات متعددة‏.‏
وفي هذا الإطار ــ كما طالبت وثيقة الإسكندرية ــ التي صدرت عن الاجتماع الذي نظمته مكتبة الإسكندرية في شهر مارس‏2004‏ بعنوان قضايا الإصلاح العربي‏:‏ الرؤية والتنفيذ‏,‏ لابد من صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطنين في كل بلد عربي‏.‏

تقرر الوثيقة في البند‏(33)‏ ما يلي‏:‏
ومن منطلق المواجهة الفعالة لسلبيات الممارسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة للدول العربية‏,‏ يري المجتمعون ضرورة صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن في المجتمع العربي‏.‏ هذا العقد من شأنه أن يحدد علي وجه قاطع حقوق الدولة والتزاماتها إزاء المواطن‏,‏ كما يحدد بشكل حاسم حقوق المواطن العربي وكيفية الحفاظ عليها‏.‏
وغني عن البيان أن هناك علاقة وثيقة بين تعميق شعور المواطنة وتدعيم مشاعر الانتماء‏.‏ ويمكن القول ــ بدون أدني مبالغة ــ أن قوة الشعور بالانتماء بين المواطنين من شأنها أن تؤثر تأثيرا إيجابيا علي جهود التنمية المستديمة‏.‏ لأن عمق الانتماء من شأنه أن يساعد علي رفع الروح المعنوية للجماهير‏.‏ وذلك مشروط بطبيعة الحال بقدرة الحكومات علي إشباع الحاجات الأساسية للناس بصورة فعالة‏,‏ وبدون تمييز‏,‏ وفي إطار من توسيع فرص الحياة وتكافؤ الفرص‏.‏

ولا شك أن عملية الإصلاح أو التغيير الاجتماعي المخطط لابد أن تقوم علي تدعيم الشفافية الكاملة‏,‏ بما يتيح حرية المواطن في الحصول علي المعلومات الثابتة الصحيحة فيما يتعلق بمختلف الموضوعات القانونية والسياسية والاقتصادية‏.‏ والثقافية‏.‏ بالإضافة إلي ما تعطيه للمواطنين من سند قوي لمتابعة القرارات الحكومية وتقييمها مما يساعد علي تحجيم ظاهرة الفساد‏,‏ والتي أصبحت عالميا من أكبر معوقات التنمية‏.‏ ويرتبط بالشفافية توسيع القدرة علي المحاسبة‏,‏ ولا شك أنه يرتبط ارتباطا وثيقا بعملية الإصلاح الإعلاء من وضع جهات المحاسبة في الدولة‏,‏ وإخضاع كافة العاملين بالدولة من أول الوزراء إلي أصغر الموظفين لقواعد ومعايير المحاسبة‏,‏ وفقا لضمانات دستورية وقانونية واضحة‏,‏ بحيث يطبق القانون علي الجميع بدون تمييز‏.‏ وأيا ما كان الأمر‏,‏ فلابد من التأكيد علي أنه لا إصلاح بغير التأكيد علي مبدأ هام‏,‏ هو أن الدولة في الوقت الحاضر لابد أن تكون دولة مدنية تقوم علي ضرورة الفصل بين الدين والدولة‏,‏ دولة عصرية تقوم علي التشريع تحت رقابةالرأي العام‏,‏ ولا تقوم علي الفتوي التي يصدرها من لا يعيشون العصر بكل متغيراته‏.‏
ولا يعني ذلك علي الإطلاق الفصل بين الدين والمجتمع‏,‏ فالأديان جميعا تتخلل نسيج كل المجتمعات‏,‏ وينبغي أن يتاح أمام معنتقيها حرية تطوير الفكر الديني الخاص بها‏,‏ بما يتفق مع روح العصر‏,‏ وفي إطار التأكيد علي المقاصد العليا للدين والتي هي متشابهة في الأديان جميعا‏.‏

نحن نعيش في عصر ينادي بالديمقراطية وحقوق الإنسان‏.‏ وينبغي أن نضيف إلي ذلك أيضا أهمية رفع شعار التسامح الديني في ضوء الاحترام العميق لكل دين‏.‏
هذا هو صوت الشعوب في مختلف الثقافات‏,‏ حين تبرأ من دعاوي التعصب الجاهلة‏,‏ ومن شعارات التطرف المدمرة‏.‏

جريدة الاهرام.
  #112  
قديم 05/06/2004, 03:08 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

الحرية تعني احترام القانون والرأي الآخر

عبدالله بن محمد المسن:

كثر خلال هذه الفترة الحديث عن الديمقراطية بحيث اصبحت كلمات الديمقراطية والايدولوجية والليبرالية والحرية والتعددية والكثير من الكلمات الرنانة الاخرى تحمل في طياتها معاني وأهدافا مختلفة لها مبرراتها حينا وفي أحيان كثيرة تتخيل او قد تصل بالفعل الى قناعة تامة.
ان معظم الذين يتحدثون عنها او غالبية المتحدثين عنها نتيجة للاحداث الواقعة على الارض لا يكاد يطبقونها ولكن يتخذونها مبررا لمصالح شتى بالرغم من الادعاء بتطبيقها كل ذلك نتيجة للشعور المتزايد ببحث الانسان الدائم عن احلامه وآماله وحقوقه وواجباته ورغبته الملحّة الى معرفة المعنى الحقيقي من استخدام مثل هذه الكلمات الرنانة والحديث عنها من وقت الى آخر وما هي الوسائل التي تجعله يفهم حدودها والمعنى الحقيقي من العمل بها وكيف له ان ينعم بها..؟ وهل تعني الحرية وصولا للمساواة للجميع..؟ وهذا ما يطمح اليه كل انسان.. هناك اسئلة كثيرة الا ان الحقيقة تقول ان الانسان مسؤول عن ما يصدر عنه من اعمال ومعنى المسؤولية ان الاعمال التي تصدر عنه في نطاق اداء الواجب متوقفة عليه ويحمل مسؤوليتها في اطار القانون ولا شك انه كلما تقدم الوعي في المجتمع نجحت المشروعات الاصلاحية فيه وحققت اهدافها في اقصر فترة ممكنة، وهذا يعني ان الانسان حر عندما يتكامل مع مجتمعه في اطار ثقافي يجمع بين العقيدة والجهود التي تتفق مع قيم المجتمع وتقاليده وكذلك نقول ان الحرية وثيقة الصلة بالاخلاق.
ومهما تكن الكلمات وعظمة الحديث عنها لا بد ان نعترف بأن هناك موضوعا محددا بعينه وهدفا ينبغي تحقيقه من وراء هذه الكلمات وما تحمل من معان واضحة وخفية ليس من الصواب ان نبقى صامتين حتى تأخذ الامور مجراها كما هو مخطط لها من الجانب الآخر، ومن الاجدر بنا ان نصل الى قناعة مشتركة ان الحقوق والواجبات تعتبر حجر الزاوية ومدخلا حقيقيا لكي يتمكن الانسان من الحصول علىحريته التي يعمل من اجلها منذ أن خرج الى هذه الدنيا ولذلك فهو يبحث ان تكون له حرية في اختيار ما يريد، وفي سبيل ذلك فهو يسعى ويتصرف بطريقة واخرى متوخيا تحقيق حريته وتأكيد وجوده وكيانه باعتبارهما من القيم العليا التي يعمل من اجل تحقيقها وصولا للعدالة الاجتماعية مع كافة افراد المجتمع وفي اطار القانون الذي ينظم ذلك، سعيا لتحقيق الرفاهية والسعادة لجميع افراد المجتمع. ولإزالة العوائق التي تؤدي الى الحواجز والفوارق بين الناس حتى تسود المحبة والسلام والوئام بين كافة افراد المجتمع.
ومما لا شك فيه ترى ان موضوع الحرية يعد من اهم الموضوعات الشائكة التي تواجه الانسان منذ قديم الزمان الى ايامنا التي نعيشها الان وليس من شك انها ستظل مشكلة شأنها شأن عدم احترام القانون والرأي الاخر والكرامة الانسانية وستبقى هكذا الى ان تتم زيادة الوعي باهمية تحمل المسؤولية مع الالتزام التام بتطبيق الحدود والضوابط التي يرضى بها المجتمع ويطالب بها بشكل مستمر. واذا كان هذا هو الحال فما علينا الا ان نهيب بتوجهنا هذا الى العلماء والمفكرين واهل القلم والاسرة لما لهم من دور كبير في وضع التحديد اللازم للمعنى الحقيقي للحرية، فالحرية الشخصية كما هو معروف ليست حرية مطلقة، كما انها ليست أبدا الدعوة الى الاباحية، فالحرية التي تهمنا تعني المحافظة على حقوق الفرد وحقوق الاخرين في ظل القانون اي ان هناك ضوابط لحماية حقوق كافة افراد المجتمع ولا بد من الوقوف الى جانب ذلك ووضع ما يلزم من الضوابط لتتوافق مع ديننا وعاداتنا وتقاليدنا والمصالح المشتركة بيننا وبين الاخرين، وصولا لتحقيق العدالة فيما بيننا وعلى هذا النحو نكون قد توصلنا الى مفهوم يعزز الديمقراطية فتتحقق الحقوق والواجبات وصولا للمساواة، وفي اعتقادي ان الديمقراطية التي نسمع عنها الآن هي في الاصل موجودة والدين الاسلامي اشار اليها في الكتاب والسنة في اكثر من موقع وكذلك الكتب السماوية الاخرى.
وعموما فقد اخذ الحديث عن الديمقراطية ابعادا كثيرة وتهافت الكثير الى تقليد الآخرين دون الوعي بمفهوم ما يراد من ذلك. وهكذا اتيحت الفرصة لهؤلاء الدعاة من بث آرائهم ومن الاجدر بنا ان نتفق اولا مع انفسنا هل نحن نحترم حقوق الاخرين..؟ ما هي الحقوق الواجب ممارستها. وما هي الواجبات؟ وما هي الواجبات الواجب ايضا تأديتها..؟
ولا شك ان الحرية الواقعية تتوقف علينا باعتبارها وثيقة الصلة بالاخلاق وحتى يتم تحقيق الحرية واعطاء الناس حريتهم في كذا.. وكذا. وتشعر بالفعل وقد حققت كيانك وحلمك بالحرية وبالتالي بالديمقراطية فالامر يحتاج الى الاتجاه نحو تجديد الفكر الانساني وحيويته حتى يواكب العصر الذي نعيشه الآن بكل تبعاته وان نسعى في المقام الاول الى احترام القانون حتى يتم تحديد مسؤولية الفرد عن تصرف له يد فيه او لا يد له فيه. ويمكننا القول حينئذ ان كرامة الانسان ومكانته تتمثل في ان الحرية هي الاخلاق خالصة وان تتوقف حريتك عندما تبدأ حرية الآخرين لاننا لا يمكننا ان نتحدث عن كرامة الانسان والانسانية الا اذا كانت الانسانية في نظرنا هي الحرية، وان الانسان مسؤول عن تصرفه واعٍ بما يجري حوله وليس آلة منفذة، فعلينا ان نضع في الاعتبار ان حياتنا العاطفية ليست هي كل شيء وانما هنالك الحياة في كافة مستلزماتها وظروفها وتداعياتها وليس ثمة شك في ان الحرية التي نحن بصدد الحديث عنها وصولا للديمقراطية التي نسمع ونتحدث عنها هي النقطة المحورية التي تدور حولها حياة الانسان والحرية تعني في الحقيقة تحقيق ارادة الانسان التي لا بد ان تسترشد بعقله وتتوخى حبه للخير مستلهما ضميره وصولا الى الحرية في حدود المنفعة العامة والعدالة والمساواة لكافة الجماعة الانسانية التي تعيش في مجتمعها. ولقد حرصت المجتمعات على وضع اللوائح والقوانين لكي يتحقق الخير للناس جميعا في ظل الحدود العامة التي يطبقها لاعطاء كل فرد حريته المنشودة بما لا يؤذي حقوق الآخرين، وبما لا يجعل البعض يتجاوز الحدود على البعض الآخر. وقد يتبادر للذهن ــ انه بالفعل ــ الحرية هي التي تكفل التكامل الاجتماعي وتحول دون تجاوز بعضنا على البعض الآخر ولذلك يتراءى للباحث عن معنى الحرية انه لا يستقر لها مفهوم واضح الا اذا ارتبطت بسلطة عقيدة المجتمع فحرية الفرد وسلطة عقيدة المجتمع امران متلازمان لا غنى لاحدهما عن الآخر. ولا يمكن ان يكون بينها تعارض او ينشأ بينهما خلاف الا حين تنقلب الحرية فوضى وتحكما فتضرب موازين الحياة الاجتماعية وتفتقد الى الكرامة الانسانية، وللحديث بقية ان شاء الله.



جريدة عمان
  #113  
قديم 06/06/2004, 05:53 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
إلى متى هذا الخلط المعيب بين الثوابت اليقينية.. والأخرى الوهمية..؟

زين العابدين الركابي

كانت «المنهجية الفكرية والإعلامية لمعالجة ظاهرة الغلو» هي موضوع البحث الذي قدمناه إلى المؤتمر الفكري الثاني للحوار الوطني الذي انعقد في مكه المكرمة في الأسبوع الماضي.. والمنهجية أو المنهج هو أحب القضايا إلينا، فليس يصح التفكير في دين ودنيا، في علم ومعرفة، في اجتماع وسياسة، في لغة وأدب، في تاريخ وحضارة، في تربية وسلوك وخلق، في وطنيه وعولمة، في حاضر ومستقبل.. ليس يصح التفكير في شيء من ذلك، إلا إذا انبثق التفكير وانضبط واستعصم بالمنهج القويم الصحيح ذي القواعد المنتظمة ـ باطراد، والملَتَزمة دوماً.
وكان من محاور ذلك البحث المقدم: ضرورة التفريق الواضح الحاسم بين قضيتين لا يجوز ـ قط ـ الخلط بينهما، لأن بينهما من التباعد، بل التناقض، ما يجعل الخلط بينهما «غشاً معرفياً»، وتضليلاً فكرياً للناس.
هاتان القضيتان المتباعدتان المتعارضتان هما قضية «الثوابت اليقينية» مثل: وجود الله ووحدانيته، وعصمة القرآن وحفظه، وعصمة الرسول في البلاغ، والعبادات التوقيفية.. وقضية «الثوابت الوهمية». ولقد ضرب مثل لها بـ«الدعاء البِدْعِي» الذي غدا ـ لطول الإلف والممارسة ـ « ثابتاً يقينياً»!! مع انه ـ في حقيقته ـ: وهم انتحل صفة الثبات.. ويتمثل هذا الدعاء البِدْعِيّ في الدعاء على غير المسلمين بالهلاك التام، والاجتثاث الكلي، والمحق الشامل.
وفي أثناء المداخلات: تبدت ملاحظة ذكية ونابهة فحواها: قد يعترض معترض فيقول: كيف يُمتنع عن مثل هذا الدعاء في حين أن نوحاً قال: «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا»؟
فكان جوابنا:
إن شرع من قبلنا: شرع لنا، ما لم يرد في شرعنا ما ينسخه أو يخالفه.
إن هذه المخالفة موجودة وموثقة:
إن غير المسلمين هم من أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أي أنهم عالم مشمول ببلاغ الرسالة الخاتمة.. وهذه الأمة بشقيها ـ شق الدعوة، وشق الإجابة ـ: تأذن الله ألا تجتث بهلاك عام.. والواقع التاريخي يؤكد هذه الحقيقة.
إن نوحاً عليه السلام دعا على قومه بالمحق التام، والاجتثاث الكلي «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. انك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا». ويبدو أن نوحا توصل إلى هذه النتيجة من خلال تجربته أو خبرته الطويلة التي استغرقت 950 سنة. فقد تبين له على هذا المدى الزمني الطويل: انه كلما نشأ جيل جديد: نشأ على الكفر والضلال «ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا»، لكن نبينا رفض الاجتثاث الشامل للمشركين حيث قال: «فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني الله إليك لتأمرني بأمرك، فما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين (جبلان عظيمان بمكة)، فقال النبي: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».
موقفان مختلفان جداً:
«ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا».
«أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً».
ج ـ طُلب من نبينا أن يدعو على المشركين فأبى وقال «إنما بعثت رحمة ولم ابعث لعانا».. وهذا يرفع التناقض عن المنهج. فالله أرسل سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».. ومعلوم: أن اللعن إنما هو الطرد من رحمة الله.. فكيف يكون من أرسله الله رحمة للعالمين: سببا في طرد الناس من رحمه الله؟
د ـ في اللحظة التي شج فيها المشركون وجهه الشريف، وكسروا رباعيته. في هذه اللحظة التي يسيل فيها دمه الزكي، قال: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
هـ ـ في البخاري بابان: باب الدعاء على المشركين وباب الدعاء للمشركين. فكيف يُفهم هذا؟ .. يفهم بان يكون الدعاء على المشركين الظلمة المعتدين. وهذا يشمل كل ظالم معتد: أمس واليوم وغداً، فالدعاء سبب من أسباب رفع الظلم، وهو سبب متاح لكل إنسان سواء كان مسلما أو غير مسلم. فهو من الدعاء الاضطراري الذي يستجيب الله فيه للمسلم وغير المسلم: «أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض».. ثم أن الأمر يُفهم بأن يكون الدعاء للمشركين المسالمين.. وهذا يشمل كل مسالم غير مسلم: أمس واليوم وغدا.
وقد اقتضى توضيح هذه الحقيقة: حقيقة أن (الدعاء البِدْعِيّ) إنما هو (ثابت وهمي) لا حقيقي: اقتضى ذلك: مزيداً من البسط والتأصيل وتوسيع دائرة الفائدة والنفع عن طريق هذه الجريدة.
يقول أبو عبد الله القرطبي ـ في تفسير آية: «ليس لك من الأمر شيء»: «في صحيح مسلم عن ابن مسعود قال: «كأني انظر إلى رسول الله يحكي نبيا من الأنبياء ضربه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». قال علماؤنا: فالحاكي في حديث ابن مسعود هو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو المحكي عنه بدليل ما قد جاء صريحاً مبينا: إنه عليه الصلاة والسلام لما كسرت رباعيته، وشج وجهه يوم أحد، شق ذلك على أصحابه شقاً شديداً وقالوا: لو دعوت عليهم، فقال: «إني لم ابعث لعانا، ولكني بعثت داعياً ورحمة، اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».. ويبينه ايضاً ما قاله عمر له في بعض كلامه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله. لقد دعا نوح على قومه فقال «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا»، و لو دعوت علينا مثلها لهلكنا من عند آخرنا، فقد وُطِئ ظهرك، وأدمي وجهك، وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيراً فقلت: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
وقال القرطبي ـ كذلك ـ في تفسير «رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا»: دعا عليهم حيث يئس من أتباعهم إياه، وقال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه «انه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن».. وقال ابن العربي: دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلى الله عليه وسلم على من تحزّب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة. فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يُدعى عليه، أن مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة، وإنما خص الله عتبة وشيبة وأصحابهما لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. وان قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا: للناس في ذلك وجهان: احدهما: أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة، والشفاعة تكون عن رضا ورقة فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم.. الثاني: انه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك، فخاف الدَّرْكَ فيه يوم القيامة».
وندير الحديث إلى زاوية أخرى فنقول: إن لهذا المقال أو الموضوع: صلة مبدئية ووظيفية ومقصدية بمقال الأسبوع الماضي «عيسى صلى الله عليه وسلم ورسالته وصورته وشخصيته» فأبرز خصائص المسيح ابن مريم: خاصية (الرحمة) كما قال الله ـ جل ثناؤه ـ: «ولنجعله آية للناس ورحمة منا».
كذلك فان ابرز خصائص خاتم النبيين ـ صلى الله عليه وسلم وآله وسلم ـ: خاصية (الرحمة)... وهذا هو الدليل:
«يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم».
«لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم».. ومن مفاهيم هذه الآية: انه يشق على النبي: أن يرى الناس في عنت ومشقة، وانه لا يطيق رؤيتهم تعساء، وانه يحرص على كل ما ينفع الناس ويسعدهم ويريحهم، وهذا عين الرحمة.
«وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين».. وهذه هي الرحمة العامة للخلق أجمعين.. ومن معاني هذه الرحمة العامة: ألا يدعو الرسول على غير المسلمين ـ من غير الظلمة المعتدين ـ باجتثاث ولا هلاك عام، وألا يطردهم من رحمة الله. فمفتاح رحمة الله لا يكون أبداً مغلاقاً لهذه الرحمة.
والرحمة.. ما الرحمة؟
الرحمة هي: الرقة، والعطف، والرأفة، والحنان، والتلطف، واللين فهي ـ من ثم ـ جماع الخير، والرغبة في الإحسان إلى الخلق.
ما خلاصة الإسلام؟
خلاصته هي: الرحمة.
يضم إلى ما تقدم: حجة عقلانية ساطعة وهي: ان بقاء البشر والحضارات هو (موضوع) الإسلام، ومناط رسالته، فإلى من يتوجه الإسلام بهداه إذا فني البشر، واجتثوا من فوق الأرض: وفق رغبة الذين توهموا أن (الدعاء البِدْعِيّ) على غير المسلمين بالمحق الشامل: من ثوابت الإسلام؟
وتمام الكلم: أن الدعاء قربى إلى الله:
قربى إلى الله بتجريد الدعاء له وحده لا شريك له.
وقربى إلى الله، لأن الله يحب من يدعوه: «فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان».
ومن هنا، فإن الدعاء البدعْي لن يكون قربى إلى الله من حيث أنه دعاء مخالف لسنة الله الكونية، وشرعه الديني.

جريدة الشرق الاوسط
  #114  
قديم 07/06/2004, 02:39 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Wink

في مديح الورق
2004/06/05

عزت القمحاوي
مرة أخري أثبتت مملكة الورق أنها لن تزول بسهولة، بعد أن هزمت سريعا المخاوف والشكوك التي صاحبت ميلاد شبكة الإنترنت.
لم تكن شبكة العنكبوت الامتحان الأول؛ فقد نجحت الكلمة المطبوعة من قبل في امتحان البث الإذاعي، فالتليفزيوني، حيث عاشت الصحف وانتعشت إلي جوار الوسيلتين الجديدتين مثلما ازدهر الكتاب المطبوع جنبا إلي جنب مع السينما.
ورغم الانتصارات السابقة اعتبر البعض أن الإنترنت هي المواجهة الأخيرة التي دخلتها مملكة الورق مجبرة ولن تخرج منها إلا مهزومة تجرجر خيبتها إلي المتحف.
في الصحافة ألقي الفاشلون بفشلهم علي الوسيلة الجديدة واعتبروها سببا في تراجع توزيع صحفهم، وعلي صعيد الكتاب سارعت بعض دور النشر في الاستثمار في مشروعات الكتاب الإلكتروني واستحدثت بعضها بنودا جديدة في عقودها مع الكتاب تؤمن حقها في التصرف في النصوص بكل طرق النشر ومنها الطريق الإلكتروني. وبعد سنوات قليلة أصبح الناشرون أكثر ترددا وأكثر شكا في قيمة هذه الوسيلة الجديدة، قبل أن ينجزوا شيئا ذا قيمة في هذا الطريق.
التراجع السريع للرهان علي شبكة الإنترنت وعلي النشر الإلكتروني يبدو وثيق الصلة بطبيعة هذه الوسيلة الملغزة التي بقدر ما توفر من حرية في نوع المادة التي يمكن أن يتلقاها القارئ بقدر ما توفر من شكوك حول مصداقيتها.. في الخبر يأخذ المتلقي تلك الصحافة الافتراضية بشك، إما لعدم معرفته بمصدرها أو لإحساسه باستحالة محاسبتها علي معلوماتها الزائلة التي يسهل عليها التخلي عنها، ولذلك فإن مواقع الصحف هي الأكثر مصداقية حتي الآن لإحساس القارئ بوجود مرجعية ورقية في السوق، حتي لو لم تصل إلي يده هو.
وفي الإبداع تعطي مادة الإنترنت انطباعا بأنها مادة عير مُحكّمة، أي ليس هناك من أجاز مرورها بعد كاتبها، كما يحدث عادة في الصحف وفي دور نشر الكتب.
وإذا ما اعتبرنا توفر الحرية فيما تقدمه الإنترنت ميزة مطلقة، فإن ما يتلقاه القارئ من توسيع لحريته في نوع المادة يقابله الانتقاص من هذه الحرية في كيفية هذا التلقي، فالكمبيوتر بحاجة حتي الآن إلي مصدر كهربي للتشغيل، وبالتالي وضع معين للتلقي لا يسمح بحميمية الاستلقاء في الفراش أو علي الشاطئ، كما أن وجود النص يظل مرهونا بسلامة الآلة المستخدمة.
هذه الهشاشة تذكر القارئ بحقيقة وجوده المؤقت والعابر، أي تضعه بالتمام في الوضع المضاد لأحد أهم أهدافه من القراءة: الإحساس بملمس الخلود!
إضافة إلي كل هذا فإن تاريخ قراءة صحيفة معينة أو كتاب معين لم تصنعه العـــــين وحدها، بل الأنف أيضا، وهذا ما لا يمكن أن نحصله من الإنترنت؛ فنحـــــن لا نحب فقـــط ما تنشره صحيفتـــــنا المفضلة أو شكل إخراجها فقط، بل نميز رائحتها، كما أننا لا نتذكر فقـــط الرسوم الممـــــيزة وقصص مجلات طفولتنا، لكننا نستعيدها برائحتها، وربمــــــا بعثت معها روائـــــح الطفولة المصاحبة، وكـــــذلك الكتاب الذي لا يمــــكن أن نقـــــرأه للمرة الثانية إلا وتهــــب من صفحــــاته رائحة وطعم زمن القراءة الأولي.
لا يفتقر النص الإلكتروني إلي الماضي فقط، بل إنه عاجز عن بذل أي وعد بمستقبل للعلاقة مع قارئه؛ فنحن ندخل إلي النص الإلكتروني ـ المفتقر إلي الجسد الملموس والرائحة الخاصة ـ مجردين من الحلم ببناء علاقة جديدة كما يحدث عادة في اللقاء مع الكتب.. ليس بوسعنا أن نطوي زاوية الصفحة أو نضع خطوطا تحت الفقرة التي نشعر بأنها تمثلنا أكثر من غيرها. ولأن تبادل الكتب الرقمية ليس بحاجة إلي اللقاء، فهو يحرم العشاق الصغار من الحجة الجميلة التي طالما استخدمناها لتدبير المقابلات الخاطفة: حجة مبادلة الكتب.
والأسوأ أن الوردة الإلكترونية التي يمكن أن نزود بها النص المعار بضغطة زر لا يمكن أن تخرج من بين صفحاته لتستقر تحت الوسادة!
لا شيء من فضائل الورق تتيحه الإنترنت عديمة الرائحة التي بالغنا في رهاننا عليها، واعتبرناها وسيلة مؤكدة للتحديث السياسي!
وهذا الرهان انطوي هو الآخر علي قدر كبير من التفاؤل. وقد جربت بنفسي في بعض الاحتدامات الكبري أن أتلقي وأعيد إرسال رسائل الاحتجاج والتضامن مع الشعوب والأفراد المأزومين، لأكتشف أن هذا النفق المؤمَّن جيدا والمظلم يضمن للاحتجاجات أن تظل فردية وقليلة الإيذاء. لا يخلق هذا النوع من الاحتجاج رأيا عاما صلبا كذاك الذي تكونه وترعاه المطبوعات العلنية، بل يبقي مجرد فعل تصريف لا يختلف في شيء عن إعلان الرأي أو الغناء في الحمامات!
علي أننا لم نخسر شيئا بوجود هذه الإمكانية الجديدة خصوصا في الدول التي لا تزال تطارد الكلمة المطبوعة. أنا مثلا، لولا الإنترنت لم يكن بمقدوري أن أتابع القدس العربي بعد أن قررت الحكومة المصرية خطورة هذه الصحيفة علي ديمقراطيتها العريقة. وأن تصلني القدس دون رائحة أفضل من ألا تصل علي الإطلاق. فليبارك الله الإنترنت التي تعمل أيضا بكفاءة عالية كوسيلة نقل سريعة ومنخفضة التكاليف، الأمر الذي يساعد الصحف ودور النشر علي إنجاز عملها بشكل أسهل، حيث لم تعد النصوص بحاجة إلي رسوم البريد أو تكلفة الفاكس والتليفون الدولي الباهظة. ولو كانت هذه الوسيلة الجديدة متاحة قبل أربعة عقود لكان من شأنها أن توفر وجبة أو وجبتين لكاتب مجيد مثل غابرييل غارثيا ماركيز الذي عاني ألم الجوع ذات يوم لأنه أنفق بيزواته الأخيرة في إرسال مخطوط روايته مئة عام من العزلة إلي دار النشر، بينما لا يمكن للقارئ أن يضحي بروائح الغواية في الرواية ذاتها؛ والتي لا يمكن تشممها من خلال حركة مؤشر ضوئي سيان عنده إذا ما مر بكلمة الحب أو الحرب .
0


القدس العربى
  #115  
قديم 08/06/2004, 04:01 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up السعودية: قبل تغيير ثقافة الارهاب يجب تغيير الواقع

السعودية: قبل تغيير ثقافة الارهاب يجب تغيير الواقع
2004/06/08

د. مضاوي الرشيد

بعد سلسلة من الاحداث الدامية والمواجهة بين الجهاديين وجهاز الامن تحاول الدولة السعودية ان تنتزع النصر من براثن الهزيمة. بعد كل مواجهة مسلحة او تفجير او عملية استشهادية نري الدولة مشغولة بتجنيد اجهزتها الاعلامية وطاقاتها الدعائية التي تصرف عليها الاموال الطائلة لتكرس في ذهن المواطن والعالم الخارجي معادلة باطلة تقوم علي تمويه الحقائق وتمييع الموقف، المعادلة تقوم علي اظهار الدولة بتركيبتها الحالية واطارها المعروف للجميع وكأنها الخيار الوحيد والحتمية التاريخية غير القابلة للجدل والمناقشة والتفسير والتأويل. اذ انها تظهر ان المعادلة المضادة تتألف من خلايا قتالية شرسة تقوض الاقتصاد وتطعن الوحدة الوطنية و تفتك بالابرياء من المسلمين وغيرهم وتتألف من لصوص وقطاع طرق مجرمين لا يعرفون الرحمة بل هم فئة ضالة من بقايا الخوارج والغلاة.
في هذا الخطاب الدعائي تحاول الدولة ان تكسب بعض النقاط الايجابية وتبسط الخيار للمواطن الذي يُطلب منه بعد كل مجابهة مسلحة ان يعلن ولاءه ويجدد بيعته في المسجد والشارع ومكاتب العمل وعلي صفحات الجرائد وشاشات التلفاز. فبعد عملية غسل الأدمغة يسأل المواطن: لك ان تختار بين نعيم الدولة القائمة وجحيم المستقبل الذي يترتب علي سقوط الانظمة الديكتاتورية. وتستشهد هذه الدولة بدول الجوار وترهب شعبها بتجربة العراق تحت الاحتلال حيث يغيب الامن وتكثر الجريمة وتنسي الدولة ان العراق يقاوم احتلالا مباشرا ويمر بمرحلة عصيبة لها خصوصيتها التي لا تنطبق علي معادلتنا السعودية هذه.
وباختصار بعد كل مواجهة عنيفة تحاول الدولة ان تبني شرعية جديدة علي اشلاء القتلي وركام المباني. وهذا رد سريع قد يقنع العامة ولكن يعجز عن ترسيخ الولاء لان الكثير اليوم يعرف ان المعادلة ليست محصورة بالدولة القائمة من جهة والجهاديين من جهة اخري. هناك حل ثالث او خيار مطروح علي الساحة تتجاهله الدولة بل تحاول كل جهدها لطمسه وتغييبه غيابا كليا. طرح هذا الحل في عدة مناسبات ونوقن من قبل مجموعات كبيرة من الشعب وما لقي حتي يومنا هذا التعتيم والتجاهل. الكل يعرف ان الخيار الثالث موجود ولكنه مرفوض.
الدولة اليوم تعاني من حرب تدور رحاها ببطء ربما تصح تسميتها بـLow Intensity Warfare كان اخرها ما حصل في الخبر، هذه الحرب تستنزف الدولة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا عدي تأثيرها علي نفسية المجتمع وسيكولوجيته. بالاضافة الي الخطاب الدعائي المذكور تحاول الدولة معالجة النزيف هذا بطريقتين. اولا: الحل الامني الذي ينطلق من مبدأ اجتثاث الخلايا المسلحة ومطاردتها عسكريا واستخباراتيا مع ما يتضمنه هذا من اختراق لحقوق العامة. وقد اصبح من المسلم به ان الحرب علي الارهاب قد ادت الي تقليص الحريات وانتهاك الحقوق المسلم بها في البلدان التي كانت تؤمن وتطبق مثل هذه المبادئ. فكيف هو الحال اذا في دول لا تقيدها مثل هذه التفاصيل بل هي ترفضها لانها تتعارض مع الثقافة المحلية و التراث القديم ؟
ثانيا: تتعامل السعودية مع النزيف الحالي بتفعيل الخطاب الوعظي الذي يركز علي مبدأ القضاء علي ثقافة الارهاب والتي حددت الولايات المتحدة مصدرها وشخصت اسلوب علاجها. وبذلك خففت علي الدولة السعودية مهمة البحث والاستكشاف حين زعمت ان المناهج التعليمية بشكل عام والثقافة الدينية بشكل خاص يشكلان المصدران الرئيسيان للارهاب في العالم. فبالاضافة الي محاولات جادة لتغيير المناهج التعليمية من اجل القضاء علي ثقافة الارهاب وزرع ثقافة الحوار والقبول بالاخر وخاصة بالولايات المتحدة نري ان الخطاب السياسي الرسمي يتبني اسلوب الوعظ عندما يضطر الي مواجهة الخارج والداخل من خلال وسائل الاعلام والتي تبحث دوما عن الصوت المحلي الذي يفسر لها ما يجري علي الساحة من اعمال عنف بدأت تزداد حدتها وشراستها يوما بعد يوم. الموقف الرسمي يكرر دوما ان الحل لمواجهة هذه الدوامة هو في الرد بيد من حديد بينما تجري عملية اقتلاع ثقافة الارهاب والفكر الذي يغذيه ويضفي عليه شرعية دينية خلف الكواليس وعلي مقاعد الدراسة.
يجب ان تقتنع الدولة السعودية والمجتمع ان الحل الحقيقي للازمة لا يكمن في العلاج الامني فقط، ويجب ان تتعلم الحكومة السعودية من تجربة الولايات المتحدة في عدة مناطق ان العدو اليوم يتغلغل في المجتمع الذي يوفر له غطاء حاميا وليس للجبهة المكان او الزمان المحددين لذلك لن يجدي حشد الجيوش والعساكر ويبدو انه كلما انطفأت خلية اشتعلت اخري. وكلما صمت عالم تكلم آخر، وكلما استشهد رجل ولد آخر.
اما الحل المبني علي تغيير ثقافة الارهاب فمن المؤكد ان سياسة الوعظ وغسل الادمغة هي ايضا لن تنجح لسبب علمي بحت الا وهو الحقيقة المبنية علي اهم البديهيات القائلة انه قبل تغيير الفكر يجب تغيير الواقع. الفكر نفسه والثقافة بكافة اطيافها هي وليدة واقع وليس العكس. الواقع هذا يولد الثقافة ويجعل الانسان مهيأ ومخولا لانتاج فكري معين. ان اليد الحديدية والتغيير الثقافي الفوقي لن يؤديا الي تغيير الحالة الامنية وايقاف النزيف واقتلاع جذور العنف السياسي من باب البديهيات والمسلمات.
ان الثقافات بكافة اطيافها تنمو وتترعرع بطريقة تعكس بيئة معينة ذات صفات اجتماعية وسياسية خاصة بها وكذلك تنبت الثقافات في محيط وجغرافيا لها ميزاتها. ان الواقع هو الذي يخلق الثقافة وليس العكس كما تزعم الدولة السعودية، ومتي ان تطورت ثقافة ما واستتب امرها تصبح هي المحرك المهم والاداة الفعالة في صياغة الشخصية الفردية والاجتماعية والوطنية. ان محاولة الدولة اقتلاع ثقافة الارهاب مهما كانت جديتها لن تجدي نفعا ولن يؤدي ذلك الي نتيجة ملموسة طالما ان الواقع ما زال كما هو عليه. وان جردت الدولة اكبر طاقم وعظي وشطبت فصولا وحذفت مراجع بل حتي لو حرمت تفسيرات معينة فانها لن تستطيع ان تقلب القناعات لان هذا يتطلب تغييرا جذريا للواقع الذي يغلف المجتمع السعودي والذي يكوّن شخصيته وميوله وافكاره. من باب تغيير الواقع يترتب الغاء بعض التصرفات والممارسات التي اصبحت ملتصقة بهوية الدولة وكيانها. منها ما يلي:
1 ـ القضاء، عن طريق الممارسة وليس الوعظ، علي التناقض والازدواجية السياسية التي تصل الي مرحلة الحالة المرضية مثل انفصام الشخصية او الكيتزوفرنيا فمن جهة تدعي الدولة مناصرة قضايا الاسلام والمسلمين وتفتخر بصرفها وكرمها علي مثل هذه القضايا ومن ثم نراها علي صعيد الواقع تتبني سياسة ان لم تكن تآمرية فهي موافقة علي مشاريع الخارج. ومن جهة تنتقد الدولة السياسة الامريكية في المنطقة ولكنها من جهة اخر تسخر كل طاقاتها وثقلها السياسي والديني لخدمة مصالح الولايات المتحدة. ومؤخرا وضعت الدولة ثقلها الاقتصادي خلف مصالح الاقتصاد الامريكي. في كل هذه المواقف نجد الدولة تتبني سياسة الازدواجية (اذا استعملنا المصطلح العلمي لهذه الحالة ـ اما المصطلح الديني فربما يكون النفاق).
ومؤخرا كبرت الفجوة بين السياسة المعلنة والسياسة الخفية، وفي زمان ماض كان من الصعب ربما اكتشاف هذه الازدواجية وفضح التناقض. ولكننا اليوم نعيش في عصر يصعب فيه التعتيم والمراوغة والنفاق بسبب تعدد مصادر المعلومات فالدول اليوم غير قادرة علي التعتيم هذا. الازدواجية السعودية اصبحت واقعا حقيقيا افقد الدولة هيبتها وقدرتها علي اقناع الشعب بصدقها وحسن نيتها. ومهما حاولت الدولة اقتلاع الثقافة التي تدين الولايات المتحدة فهي لن تنجح ما دامت الولايات المتحدة تتبع سياسة واضحة في معاداتها للقضايا العربية والاسلامية من العراق الي فلسطين مرورا بمناطق اخري وسجون ممتدة من غوانتانامو الي ابو غريب. وطالما ان الدولة يُنظر لها بمنظور الدولة التآمرية المروجة لمصالح الغرب بالمنطقة لن يجدي الوعظ بحب الغربي ضعيفا كان ام عسكريا ام رجل اعمال. وطالما ان الدولة تستنزف مواردها الاقتصادية في سبيل مصالح الغير وتستعمل اموالها لشراء اسلحة تنعش اقتصاد الغير وتفشل في الدفاع عن امنها الداخلي والخارجي هي ذاتها فلن تجدي عملية اقتلاع ثقافة الارهاب هذه.
هذا هو الواقع الذي يعيشه الشعب اليوم وما لم يتغير هذا الواقع وتتقلص الفجوة بين الظاهر والباطن ويقضي علي التناقض والازدواجية لن نري اي نجاح في سياسة مكافحة الارهاب. ان ثقافة وممارسة كره الاجنبي لا تنتج عن ثقافة بل هي نتاج واقع الازدواجية والتناقض.
ومن تغيير الواقع يجب القضاء علي الازدواجية والتناقض في الحيز الديني. وهذا يعني ان تكف الدولة عن محاولاتها الفاشلة في اقناع الجميع انها تتبني سياسات متلائمة تماما مع الدين وتعاليمه وهذا يتضمن الكف عن تعداد الانجازات وصرف الاموال علي المشاريع الدينية والتوقف عن نشر احصاءات عن عدد من المساجد والمدارس الدينية فلا تردد بعد اليوم ان بين المسجد والمسجد يوجد مسجد لان الكل يعرف ان عددا كبيرا من هذه المساجد قد بني بأموال الشعب والاوقاف وليس كلها من كرم الدولة ورموزها فيجب علي الدولة تجاوز معضلة الكمية والوقوف عند النوعية. اليوم لا احد ينبهر بالمظاهر. وتتكرر الازدواجية الدينية علي اكثر من منبر. فبينما تظهر الدولة نفسها كرمز للعفة والطهارة نراها في الواقع تسمح بممارسات اجتماعية واقتصادية وسياسية اقل ما يقال عنها انها لا تتعلق مع جوهر الدين وهذا حسب رأي طيف كبير من علماء الداخل الذين ربما هم اليوم في السجون، يجب علي الدولة ان تحسم موضوع الازدواجية وتوقف حملتها الوعظية الدعائية باسم الدين. ان واقع الازدواجية والتناقض هو المصدر الرئيسي الذي يولد العنف الحاصل علي الساحة السعودية ويغذيه ويبث الروح فيه. الواقع المتميز بالتناقض ما بين المقولة والممارسة، والهوة بين الخطاب الدعائي والحقيقة المرئية علي الارض تشكل واقع العنف السياسي وتدفع الي التمرد علي السلطة والخروج عليها وحتي رفع السلاح في وجهها.
باب اخر من ابواب الازدواجية والتناقض الواقع الاجتماعي والاقتصادي للعمالة الاجنبية الغربية في السعودية والهوة بين ما يسمح لهذه اليد العاملة وما يسمح للشعب وما يتمتع به هؤلاء وما يتمتع او لا يتمتع به الشعب. اليد العاملة الغريبة ذات المهارة العالية تحصر في مجمعات سكنية مسورة تشبه الغيتو ذي الخمسة نجوم. فالغربي يعيش خلف اسوار هذا الغيتو المرفه وكأنه في بلاده له صلاحيات خاصة وعادات تحترمها الدولة فهي تغض النظر عن ممارساته الاجتماعية بينما هي تتدخل في كل شاردة وواردة علي مستوي الحياة الاجتماعية لعامة الشعب. هذه الازدواجية القائمة علي ارض واحدة خلقت نوعا من Apartheid المطبق في جنوب افريقيا خلال هيمنة البيض. لتتصور ان العمالة العربية ذات المهارات في بريطانيا تأخذ اجورا اكثر من اليد العاملة المحلية وتوفر لها شركات العمل او الحكومة البريطانية مساكن خاصة مسورة ولها حرسها الخاص وتعفي هذه العمالة من الضريبة ويسمح لها بذبح خرافها يوم العيد علي الطريقة الاسلامية وفي حدائق المنازل ويسيل دمها علي الطرقات وعتبات البيوت وكلما انتقل عامل الي بيت كرر الذبح وسالت الدماء طلبا للبركة والخير. ثم نادت هذه العمالة للصلاة بمكبرات الصوت خمس مرات في اليوم واسمعت خطبة الجمعة لكل قريب وبعيد ومن كان من الشيعة خرج يلطم في مسيرات عاشوراء في شوارع لندن معبرا عن حزنه والمه في موسم العزاء ومن ثم تكبرت واستعلت هذه العمالة علي اهل البلد ونظرت لهم نظرة ازدراء واعتبرتهم مثالا للكسل والخمول واحتقرتهم لانهم يملكون المال وليس الفكر. وان ارتكبت هذه اليد العاملة جريمة ما علق الحكم وكل ما تستطيع الدولة المضيفة عمله هو اعادتنا الي اوطاننا وان تجرأت الدولة هذه علي عقابنا هبت دولتنا الام لنجدتنا وتبنت صحافتنا الام قضيتنا ودافعت عنا، وبينما نحن نتمتع بنعيم الغربة يقوم وطننا الام بقصف اخواننا في بلدان مجاورة لبريطانيا ويساعد الغير علي احتلال ارضهم ويمده بالسلاح والعتاد. اتساءل كيف ستكون ردة فعل المجتمع البريطاني علي وجود هذه العمالة الاجنبية المرفهة؟ هل ممكن لهذا الواقع ان يولد ثقافة الاخاء والحوار والقبول بالاخر ام انه سيولد وضعا متفجرا ينتظر شرارة تشعله؟ الازدواجية والتناقض هما الواقع الذي يجب ان يلغي في السعودية قبل ان نحلم بتغيير ثقافة الارهاب .

القدس العربى
  #116  
قديم 12/06/2004, 02:51 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Wink

الصفر الوطني والصفر الاستعماري
فيصل القاسم:

الأحد 06 يونيو 2004 21:48


نلاحظ منذ فترة أن معظم الأنظمة العربية التي رفعت شعارات عريضة جداً وتشدقت بمشاريع ثورية عظمى قد بدأت تتنكر أو تتخلى عن مشاريعها واستراتيجياتها بخفة عجيبة لا تبعث على الذهول فقط بل ربما على ضحك مجلجل لشدة استخفافها واستهزائها بالشعوب التي تحملت تخبطها وكوارثها على مدى السنين. ويتفاوت الأمر من نظام إلى آخر من حيث الفجاجة، فقد أعلن بعضها أنه سيتخلى عن معظم مشاريعه الداخلية والخارجية "العظيمة" المعهودة وسيعود إلى قوانين ونواميس ما قبل الثورات "الميمونة" التي قادها قبل أعوام عديدة مديدة، هكذا وبكل يسر وسهولة وهدوء أعصاب، وكأن العقود الثلاثة أو الأربعة التي جرب فيها نظرياته العبثية ومنطلقاته "الكبرى" كانت مجرد ضربة "ودع" أو يا نصيب إما أن تخسر أو تصيب, وبما أنه خسر فلا مانع أن يضرب ضربة يا نصيب أخرى كما لو أن إدارة الأوطان عبارة عن لعبة قمار أو مجرد رهان على أحصنة سبق يمكن أن نكررها طالما لدينا القدرة على دفع ثمن بطاقة المراهنة. ما العيب في المقامرة ثانية؟ أليس لدى معظم أنظمتنا ذرية لها أول وليس لها آخر مستعدة على أحر من الجمر لأن تخوض غمار التجربة من جديد حتى لو كانت إمكانية النجاح فيها تعادل الصفر، فمن الواضح أن المهم بالنسبة لأنظمتنا وورثتها ليس النجاح من عدمه في المرة القادمة بل الاستمرارية في الحكم حتى لو حكموا أطلالاً وآثاراً متهاوية,علماً أن بعض الحكومات التي تحترم نفسها تـُخلي الساحة لغيرها عادة عندما تـُمنى بفشل بسيط جداً فما بالك أن تبذر مقدّرات وعمر أوطانها على تجارب سخيفة غارقة في الأوهام والأكاذيب.
وإذا كان بعض الأنظمة قد اعترف بكل صفاقة بفشل نظرياته محملاً الشعوب عدم القدرة على فهمها وتطبيقها ويريد العودة الآن إلى البداية دون أن يرمش له جفن فإن هناك أنظمة أخرى تعرف تمام المعرفة في أعماق أعماقها أنها فشلت فشلاً ذريعاً على كل الأصعدة وذهبت مشاريعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية أدراج الرياح لأنها كانت مجرد أكاذيب أيديولوجية قبيحة، لكنها ما زالت تكابر ولا تريد إعلان فشلها على الملأ بل تكتفي بالكلام عن الإصلاح والاستفادة من أخطائها وهي في الواقع كناية عن إخفاق مقيم.
ولو قابلت أحد وجهاء تلك الأنظمة العربية العديدة في جلسة خاصة بعيداً عن عيون الإعلام لقال لك بالفم الملآن إننا بددنا العقود الماضية سدى ونحن الآن نحاول أن نبدأ من جديد لعلنا نصحح أخطاء السابقين مع العلم أنهم كانوا من أزلام أولئك السابقين الذين يلومونهم الآن ثم التحقوا بالجدد. وقد سمعت كلاماً كثيراً من هذا القبيل في الآونة الأخيرة من شخصيات لها شأنها وتاريخها في بعض الدول العربية. ولم يعد الأمر سراً على ما يبدو.
لاحظوا انعدام الشعور بالذنب والمسؤولية الأخلاقية لدى تلك الأنظمة الهابطة، فبدلاً من الخروج من الساحة أو على الأقل إشراك الآخرين للمساعدة في تخليص البلاد العربية من مآزقها القاتلة نرى أنها تفكر بأن تعيد الكرّة مرة أخرى شاء من شاء وأبى من أبى حتى لو كانت فرص النجاح معدومة تماماً في التجربة القادمة. فالمهم هنا أيضاً ليس أن تنجح التجربة أم لا تنجح بل أن لا يُمس النظام بسوء ويبقى سالماً آمناً حتى لو تسبب في خراب البلاد وأعادها إلى الحضيض مرات ومرات. وهذا ما حصل وسيحصل. إنها العودة إلى الصفر. وما أدراك ما الصفر!!
ولو تأكدت الشعوب أن العودة بها إلى الصفر ستكون ذات جدوى هذه المرة على أمل أن تصحح الأنظمة التي أوصلتها إلى الصفر أخطاءها القديمة لربما كظمت الشعوب غيظها وحسرتها وقالت لنجرب ثانية، فالحياة تجارب، علنا نفلح فنعلو مرتبة عن الصفر. لكن الشعوب فقدت ثقتها بحكامها وهي تعرف أن الصفر الذي ستعود إليه لا يبشر بالخير أبداً، وهو صفر مُكعّب بلغة الراسبين. ويمكن أن نطلق عليه اسم "الصفر الوطني" الذي لا يستطيع حتى الحفاظ على صفريته العدمية ويمكن أن تتدهور قيمته إلى ما دون الصفر ويغدو العدمي أكثر عدمية.
هذا ما سيحدث على الأرجح لأن الحكام الذين يقودون تلك الشعوب هذه المرة، كما ألمحت، ليسوا غرباء أو مختلفين كثيراً عن أولئك "التاريخيين" الذين حكموها في الماضي وأعادوها إلى خانة الصفر، فهم، أي المُجرِّبون الجدد، امتداد للقدامى إلا ما رحم ربي كي لا يتهمونا بالتعميم المقيت. ويقول المثل الشعبي عادة " اللي بيجرب مجرَّب بيكون عقلو مخرَّب". لا عجب إذن أن ابتكر أحد المفكرين العرب بعد الغزو الأمريكي للعراق مصطلحاً جديداً أطلق عليه اسم "الصفر الاستعماري" كبديل للصفر الوطني المعرّض للانحدار والتدهور القيمي.
وكما نرى من خلال تعريف "الصفر الاستعماري" فإنه صفر ذو قيمة، برأي مخترعي ذلك المصطلح . صحيح أنه يعود بالشعوب العربية إلى الحضيض الأول الذي انطلقت منه بعد الاستقلال، إلا إنه صفر قابل للنمو في كل الاتجاهات ويبعث على أمل من نوع ما، على عكس الصفر الوطني اللعين الذي تتدهور قيمته مثل العملات العربية لينخفض درجات ودرجات تحت الصفر حتى يصل قاعاً لا يعرف غير الله عز وجل مداه السحيق. فبينما "الصفر الاستعماري" مرشح للصعود إلى أعلى لأسباب موضوعية كثيرة فإن "الصفر الوطني" ليس أمامه حسب التجربة إلا الهبوط إلى أسفل.
وبناء على هذا التمييز بين الصفرين الوطني والاستعماري يرى أصحاب تلك الأطروحة أن الشعب العراقي مثلاً الذي عاد إلى مرحلة "الصفر الاستعماري" هو شعب محظوظ للغاية مقارنة بالشعوب العربية الأخرى التي عادت أو ستعود إلى نقطة "الصفر الوطني"، وهي على الأرجح كثيرة. فالاحتلال الأمريكي، برأيهم، أعاد العراق إلى لحظة الصفر الذي يمكن أن "يفتح طريق المجتمع العراقي نحو الديموقراطية والتحرر الحقيقي" وفق تعبير الموضوعات في حين أن النظام سابقا كان يقود المجتمع ما تحت الصفر إلى الهاوية. بعبارة أخرى، صحيح أن العراقيين سيبدءون من جديد لكن فرص تطورهم ستكون أكبر بكثير من فرص نظرائهم المبتلين بالصفر الوطني، فالتخلص من المستعمر الخارجي أسهل ألف مرة من التخلص من المستعمر الداخلي.
لقد شبه أحدهم الاستعمار الأجنبي بالدّمل الذي يظهر على الجسد، فهو واضح للعيان وبالإمكان استئصاله والتخلص منه جراحياً. أما الاستعمار الوطني فهو كخلايا السرطان المنتشرة في كل أنحاء الجسم ومن الصعب جداً رؤيتها كي تكافحها دفعة واحدة. بعبارة أخرى فإن الشفاء من الاستعمار الداخلي أصعب بعشرات المرات من الشفاء من الاستعمار الخارجي.
فبينما تنتقل الخلايا السرطانية بالمريض من سيء إلى أسوأ كما هو الحال مع الصفر الوطني المتدهور فإن المُصاب بالدّمل، برأي أصحاب النظرية المذكورة، قابل للتحسن كما هو حال الشعوب العائدة إلى نقطة الصفر الاستعماري. لا عجب إذن أن وصف أحد المعلقين الشعبين الفلسطيني والعراقي بأنهما أكثر الشعوب العربية الآن حرية وتحرراً وامتلاكاً لزمام المبادرة، فهما، مقارنة بالشعوب العربية الأخرى الرابضة تحت ربقة "المستعمر الوطني"، يتمتعان بحيوية عز نظيرها وهما يناضلان ضد المحتلين الصهيوني والأمريكي.
فالشعبان يمران بمخاض عظيم، وغالباً ما ينتج عن أي مخاض ولادة جديدة من نوع ما. أما الشعوب الأخرى فهي في حالة سبات قاتل. وقد سمعت البعض يتهكم متسائلاًً: "متى سنخطر على بال الغازي الأمريكي كي ينقلنا من الصفر الوطني إلى الصفر الاستعماري؟" لاحظوا أن أملنا بات معلقاً ليس على التنافس ومناطحة الشعوب العظيمة بل على الانتقال من صفر إلى آخر أو بالأحرى المراهنة على أضعف الإيمان، هذا إذا كنا مصيبين في مراهنتنا فعلاً؟ يا للتفاؤل!
بعبارة أخرى فإن "الصفر الاستعماري" الذي يهلل له البعض الواهم ويتعلق بأهدابه البعض الحالم قد يتيح، برأيهم، التحرر من ربقة الاستعمار الخارجي، "إذ يفتح الطريق أمام العد التصاعدي على طريق الحرية والتحرر والديموقراطية، بينما استبداد وطغيان الكثير من الأنظمة العربية لم يكن ليفتح سوى نفق الهبوط من جحيم إلى آخر، إذ أن العد التنازلي تحت "الصفر العربي" هو هبوط بآدمية البشر إلى هاوية لا قرار لها، تماما كالعبودية التي ليس لها حدود". لا مانع برأيهم إذن أن يحل المستعمر الخارجي محل الوطني لأنه أسهل كنساً.
لا شك أن البعض سيرى في التطرق إلى أطروحة "الصفر الاستعماري" محاولة يائسة ودنيئة لتبرير الحملة الاستعمارية الأمريكية الجديدة على المنطقة أو التهليل لها أو التبشير بها بطرق ملتوية، لكنه بالتأكيد ليس لذلك الغرض (إلا عند "الليبراليين العرب الجدد" الذين فقدوا صوابهم) بل ربما جاءت هذه الأطروحة من قبيل الدعاء القائل: "اللهم ادفع الظالمين بالظالمين"، فالذي سمح للاستعمار الفاشي الجديد بالعودة إلينا تحت حجج شتى ليسوا كتابنا ومفكرينا المساكين بل أنظمتنا الحاكمة التي أعطت المبرر تلو الآخر للمستعمرين الجدد كي ينفذوا من خلاله. لقد جعلونا "ملطشة للي يسوى وما يسواش" حسب التعبير العامي بسبب الفراغ السياسي والاقتصادي والحضاري الهائل الذي خلقته في بلداننا مما جعل لعاب الكثيرين يسيل من أجل التدخل في أوطاننا. ولو تمكنت أنظمتنا من بناء مجتمعات متينة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لما فكر أحد بغزوها أو تهديدها بالغزو، لكنها لم تفعل وكان جل اهتمامها حماية النظام وزبانيته وليأت من بعدهم الطوفان. وهذا هو الطوفان قد جاء إلى العراق ويهدد بالمجيء إلى دول أخرى خاصة إذا نجح "الصفر الاستعماري" في بلاد الرافدين ولو نسبياًً.
ألا يحق للشعوب العربية في هذه الحالة أن تصرخ قائلة: "اللهم اضرب الصفر الوطني بالصفر الاستعماري لعل يتولد من ذلك شيء" مع العلم طبعاً أن صفر ضرب صفر يساوي صفراً في الحساب. فالوقائع التي تحدث على الأرض تؤكد أن نظرية "الصفر الاستعماري" خاطئة إلى حد كبير، "فقد ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه لا يوجد "صفر استعماري" و إنما يوجد إذلال و تشريد و قتل و تهديم للدول و الممتلكات و استباحة صهيونية للبلاد". لا بل غدت كلمة ديموقراطية "الاسم الحركي للدمار والقتل والاغتصاب والتشريد".
يا الله! هل أصبحت الشعوب العربية محكومة بالاختيار بين إبليس والشيطان فقط، أم "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر"؟


الشرق القطرية
  #117  
قديم 19/06/2004, 12:43 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Smile

(اقتصاد المعرفة).. أين نحن منه?


محمد دياب
فرع جديد من فروع العلوم الاقتصادية ظهر في الآونة الأخيرة هو (اقتصاد المعرفة), يقوم على فهم جديد أكثر عمقًا لدور المعرفة ورأس المال البشري في تطور الاقتصاد وتقدم المجتمع.


إن مفهوم (المعرفة) ليس بالأمر الجديد بالطبع, فالمعرفة رافقت الإنسان منذ أن تفتّحَ وعيه, وارتقت معه من مستوياتها البدائية, مرافقة لاتساع مداركه وتعمقها, حتى وصلت إلى ذراها الحالية. غير أن الجديد اليوم هو حجم تأثيرها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية وعلى نمط حياة الإنسان عمومًا, وذلك بفضل الثورة العلمية التكنولوجية. فقد شهد الربع الأخير من القرن العشرين أعظم تغيير في حياة البشرية, هو التحول الثالث بعد ظهور الزراعة والصناعة, وتمثّل بثورة العلوم والتقانة فائقة التطور في المجالات الإلكترونية والنووية والفيزيائية والبيولوجية والفضائية.

وكان لثورة المعلومات والاتصالات دور الريادة في هذا التحول. فهي مكّنت الإنسان من فرض سيطرته على الطبيعة إلى حد أصبح عامل التطور المعرفي أكثر تأثيرًا في الحياة من بين العوامل الأخرى, المادية والطبيعية. لقد باتت المعلومات موردًا أساسيًا من الموارد الاقتصادية له خصوصيته, بل إنها المورد الاستراتيجي الجديد في الحياة الاقتصادية, المكمل للموارد الطبيعية. كما تشكل تكنولوجيا المعلومات في عصرنا الراهن العنصر الأساس في النمو الاقتصادي. فمع التطور الهائل لأنظمة المعلوماتية, تحولت تكنولوجيا المعلوماتية إلى أحد أهم جوانب تطور الاقتصاد العالمي, حيث بلغ حجم السوق العالمية للخدمات المعلوماتية عام 2000 حوالي تريليون دولار. لقد أدخلت ثورة المعلومات المجتمعات العصرية (أو, لنكن أكثر دقة, بعضها الأكثر تطورًا) في الحقبة ما بعد الصناعية. وقد أحدثت هذه الثورة جملة من التحولات التي طاولت مختلف جوانب حياة المجتمع, سواء بنيته الاقتصادية أو علاقات العمل أو ما يكتنفه من علاقات إنسانية - مجتمعية.. إلخ.

مع ثورة المعلوماتية هذه ظهرت مفاهيم من نوع (الأمن المعلوماتي) و(الحرب المعلوماتية). والمثال على ذلك أن يلجأ البلد المنتج لأجهزة الكمبيوتر عند تصديرها إلى بلد ما لأغراض حكومية أو دفاعية, إلى تغذيتها ببرامج مع فيروسات خاصة مهمتها تخريب شبكة المعلومات الوطنية في البلد المعني وتشويش أقنية الاتصالات فيه أو حتى قطعها وشل المنظومات الكمبيوترية للحسابات المالية.. إلخ. إن الانتصار في مثل هذه (الحرب المعلوماتية) يكون بالطبع حليف الدول المتقدمة المصنعة لتكنولوجيا المعلومات.

تدفعنا هذه الحقيقة للإشارة إلى (الهوة التكنولوجية) المتنامية بين هذه الدول, والبلدان سواء النامية أو حتى الصناعية ولكن التي فاتها لهذا السبب أو ذاك قطار التطور التكنولوجي. إن هذه الهوة تزداد اتساعًا ويصبح من الصعب أكثر فأكثر جسرها, فتتفاقم (التبعية التكنولوجية) والتفاوت في التطور الاقتصادي.

إن التقدم الحاصل في التكنولوجيا والتغير السريع الذي تحدثه في الاقتصاد يؤثران ليس في درجة النمو وسرعته فحسب, وإنما أيضًا في نوعية حياة الإنسان.

فثورة التكنولوجيا, وبالأخص ثورة الاتصالات والإنترنت, تؤثر في تعليم الإنسان وتربيته وتدريبه, وتجعل عامل السرعة في التأقلم مع التغيير من أهم العوامل الاقتصادية الإنتاجية. فالمجتمع, وكذلك الإنسان, الذي لا يسعى إلى مواكبة التطور العلمي والتكنولوجي سرعان ما يجد نفسه عاجزًا عن ولوج الاقتصاد الجديد والمساهمة فيه. والدولة التي لا تدرك أن المعرفة هي اليوم العامل الأكثر أهمية للانتقال من التخلف إلى التطور ومن الفقر إلى الغنى ستجد نفسها حتمًا على هامش مسيرة التقدم, لتنضم في نهاية المطاف إلى مجموعة ما يسمى (الدول الفاشلة).

إن لاقتصاد المعرفة مستلزمات أساسية, أبرزها:

أولاً: إعادة هيكلة الإنفاق العام وترشيده وإجراء زيادة حاسمة في الإنفاق المخصص لتعزيز المعرفة, ابتداء من المدرسة الابتدائية وصولاً إلى التعليم الجامعي, مع توجيه اهتمام مركز للبحث العلمي. وتجدر الإشارة هنا إلى أن إنفاق الولايات المتحدة في ميدان البحث العلمي والابتكارات يزيد على إنفاق الدول المتقدمة الأخرى مجتمعة, ما يساهم في جعل الاقتصاد الأمريكي الأكثر تطورًا ودينامية في العالم (بلغ إنفاق الدول الغربية في هذا المجال 360 مليار دولار عام 2000, كانت حصة الولايات المتحدة منها 180 مليارًا).

ثانيًا: وارتباطًا بما سبق, العمل على خلق وتطوير رأس المال البشري بنوعية عالية. وعلى الدولة خلق المناخ المناسب للمعرفة. فالمعرفة اليوم ليست (ترفًا فكريًا), بل أصبحت أهم عنصر من عناصر الإنتاج.

ثالثًا: إدراك المستثمرين والشركات أهمية اقتصاد المعرفة. والملاحظ أن الشركات العالمية الكبري (العابرة للقوميات خصوصًا) تساهم في تمويل جزء من تعليم العاملين لديها ورفع مستوى تدريبهم وكفاءتهم, وتخصص جزءا مهما من استثماراتها للبحث العلمي والابتكار.. إلخ.

الثورة العلمية.. الوجه الآخر

يركز الباحثون عمومًا - ونحن نوافقهم في ذلك - على تقديم ثورة تكنولوجيا المعلومات كفرصة للتطور الاقتصادي والمعرفي الذي يتيح تشكيل قاعدة راسخة للازدهار الاقتصادي. ولكن مما لا شك فيه أن هذه الثورة تخلق في الوقت نفسه معضلة إضافية, تضاف إلى مشكلات الاقتصاد العالمي الرئيسية, نعني بها تفاقم فائض رأس المال واليد العاملة. ربما تبدو هذه الفكرة مستغربة, ومتناقضة مع المسار الرئيسي للتحليل الذي يؤكد على الفرص الكبيرة للتطور التي تنتجها هذه الثورة. ولكن لو حاولنا التمعن في المسألة عن قرب, لوجدنا أن الدافع الرئيسي لمثل هذا الاستنتاج يتلخص في كون معظم المجالات الاستثمارية, الصناعية والخدماتية, التي خلقتها هذه الثورة, (مثل ما يسمى (البيع الإلكتروني), أي بيع السلع والخدمات عبر شبكة الإنترنت), هي ببساطة بدائل للنشاطات القائمة, كالبيع بالمفرق أو العقود التجارية التقليدية, ولا تشكل بالتالي زيادة صافية في الطلب الاستهلاكي الكلي أو في مستوى التوظيف على الصعيد الاقتصادي الكلي. كما أن الصناعات الجديدة (الإلكترونية, مثلاً), رغم أنها تتطلب استثمارات كبيرة في مراحلها الأولى, المرتبطة خصوصًا بميدان الأبحاث والتطوير العلمي, فإنها لا تتطلب في مراحلها اللاحقة إنفاقًا استثماريًا كبيرًا أو درجة عالية من تشغيل اليد العاملة, مقارنة بصناعات (تقليدية), كصناعة السيارات مثلاً. ونتيجة لذلك, فإن الطلب على رأس المال ينحو منحى سلبيًا, حيث إن هذه الصناعات الجديدة تتطلب حجمًا قليلاً نسبيًا من رأس المال الثابت (الآلات والمعدات والتجهيزات والأرض.. إلخ), وعددًا محدودًا نسبيًا من اليد العاملة ذات الاختصاص المميز والمهارة العالية.

هذا الانتقال بالبنية الاقتصادية نحو نشاطات تتطلب معرفة أكثر مما تتطلب من رأس مال ويد عاملة, يحمل دون شك دلالات مهمة, وينطوي على انعكاسات خطيرة بالنسبة للاقتصاد الرأسمالي (سواء في البلدان المتطورة أو النامية), والذي كانت آلية تطوّره وتقدمه منذ نشوئه تتطلب تحريك تدفقات كبيرة من رءوس الأموال لتحقيق ثورته الصناعية الأولى, ثم المراحل والحقبات التالية في تطوّره, وصولاً إلى نهايات القرن العشرين.

إن هذه الظاهرة يمكن أن تخلق تناقضًا داخليًا ضمن آلية عمل النظام الاقتصادي الرأسمالي. فالطلب على رأس المال, الذي يأخذ طابعًا تنازليًا طويل الأمد نتيجة الثورة المعلوماتية والإلكترونية, من المحتمل أن يخلق بصورة متزايدة (في نظام قائم على مفهوم الربح كهدف رئيسي لأي نشاط استثماري) صعوبة في تحقيق مبدأ تعظيم الأرباح وصولاً إلى الحدود القصوى. وقد أبرزت هذه التطورات بشكل أوضح من أي وقت مضى, على حد قول الباحث الأمريكي هاري شات في كتابه (الديمقراطية الجديدة - بدائل لنظام عالمي ينهار), الذي صدرت ترجمته العربية أخيرًا: (المشكلة المزمنة لنظام الأرباح الرأسمالي: كيفية الحفاظ على معدل أرباح كتلة رأس المال المتنامية دائمًا في ظل محدودية قدرة السوق على التوسّع المستمر بمعدل سريع بما فيه الكفاية لتوفير منافذ الاستثمار الضرورية). ويستنتج الباحث أن الدلائل تشير إلى عدم إمكان الحفاظ على نمو اقتصادي على المدى الطويل يفوق المتوسط السنوي التاريخي, وأن التغير التكنولوجي سيحتّم تراجعًا في الطلب على رأس المال الثابت إلى ما دون المتوسط التاريخي, مما يجعل البحث عن فرص استثمار جديدة مستميتًا أكثر من أي وقت مضى!

التقنيات والعمالة

رغم المخاوف من البطالة المكثفة الناتجة عن التقنيات القائمة على الإلكترونيات الدقيقة, فإن الخبرة الخاصة لكل من الدول الصناعية المتطورة والدول النامية, تبين أن أثر تلك التقنيات في التوظيف المباشر وغير المباشر يمكن أن يكون في الحقيقة إيجابيًا بشكل هامشي. وتشير بعض الدراسات إلى أن التقنيات الحديثة يمكن أن تحل مكان العمالة في الأنشطة القديمة, ولكنها يمكن أن تولّد في الوقت نفسه طلبًا إضافيًا على العمالة من خلال خلق سلع وخدمات جديدة. وبصرف النظر عن الآراء المتعارضة في هذا الخصوص, يمكننا - من دون تردد - تأكيد أن تأثيرات التكنولوجيا الحديثة في مجال التوظيف لن تشمل فقط حجم العمالة وبنيتها المهنية وسوق العمل, ولكنها ستشمل أيضًا وبصورة أساسية نوعية العمل, خصوصًا فيما يتعلق باعتماد ما يمكن تسميته (الأنواع المرنة) للعمالة ذات الطابع التعاقدي والعمل المنزلي, وكذلك الاتجاه نحو تقليص ساعات العمل....إلخ. وباختصار, أن أسواق العمل في البلدان الصناعية المتطورة والبلدان النامية على حد سواء ستصبح أكثر مرونة. وسيظهر تخصيص سوق العمل والإنتاج في شكل زيادات في فرص التوظيف المؤقت وساعات العمل المرنة غير الثابتة. وتجد هذه الظاهرة انعكاسًا لها في تبدّل سياسات الحكومات في معظم الدول الرأسمالية باتجاه تراجع دور (الدولة الراعية), الذي يقترن بتقلّص التقديمات الاجتماعية, ولتلك الظاهرة جانبها السلبي المتمثل في شعور المرء بعدم الاستقرار وعدم الثقة بالغد, وعمومًا بانعدام الأمان الاجتماعي في ضوء عدم استمرارية العمل والحرمان من التقديمات الاجتماعية والضمانات التي يؤمنها العمل الثابت.

ومن الواضح أنه سيكون للثورة التكنولوجية الجديدة أثر كبير في توزيع الدخل, سواء في داخل البلدان أو في ما بينها. بحيث تجري هذه العملية لمصلحة الفئات الأكثر احتكاكًا بالتكنولوجيا الجديدة, ولمصلحة الاختصاصات العصرية والأكثر حداثة, التي يغلب فيها عنصر الشباب, وذلك على حساب المجالات والاختصاصات التقليدية. كما أنها ستكون لمصلحة كبار المنتجين والشركات الكبرى العابرة للقوميات والمؤسسات ذات الإنتاج الموجه للتصدير. وبديهي أنها ستكون أيضًا في مصلحة الدول الأكثر تطورًا, القادرة على الاستفادة من الميزات المطلقة والنسبية التي يوفرها لها امتلاك ناصية التكنولوجيا واحتكار القسم الأعظم منها, من خلال التبادل الدولي, ومن ثم تكريس تفوّقها ومفاقمة (الهوة التكنولوجية) مع البلدان النامية والأقل تطورًا, والتي تصبح أكثر اتساعًا وعمقًا واستعصاء على التذليل.

فمن الواضح أن التدويل المتزايد للإنتاج واشتداد المنافسة الدولية يجعل الدول التي تركز على اقتصاد التصدير, أكثر اضطرارًا لاستخدام التكنولوجيا الحديثة, وبالتالي إلى استيرادها في حال عدم قدرتها على إنتاجها بنفسها. ويؤدي هذا, بالطبع, إلى (تبعية تكنولوجية) متزايدة.

أخطار تهدد البيئة

ويتجلى هذا التهديد على نحو الخصوص في كون المستويات المرتفعة للنشاط الاقتصادي تسبب ارتفاع درجات الحرارة, وتؤدي إلى تغييرات فجائية وسريعة في المناخ (تقترن بذوبان أجزاء من جليد القطبين الشمالي والجنوبي, مثلاً) مع ما يرافق ذلك من نتائج سلبية على الزراعة, أو على إمكان العيش في بعض المناطق التي كانت موطنًا للإنسان منذ آلاف السنين. فضلاً عن ذلك, تؤدي أنماط معينة من الإنتاج والاستهلاك إلى تزايد نسبة تلوث الهواء والتربة والمياه السطحية والجوفية والبيئة البحرية...إلخ, بحيث إن الطبيعة تصبح عاجزة عن القيام بما كانت تقوم به منذ الأزل, أي إعادة إنتاج نفسها وإصلاح ما كان يلحق بها من أضرار أو استنزاف, نتيجة عوامل مختلفة, سواء كانت طبيعية أو من صنع يد الإنسان.

إن هذه التطورات تفرض إما إبطاء نمو النشاط الاقتصادي العالمي إلى درجة تتوافق مع متطلبات الحفاظ على البيئة, أو على نحو يتيح للطبيعة إصلاح ما أفسدته يد الإنسان, وهو أمر مستحيل في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يشكّل مثل هذا التباطؤ موتًا حقيقيًا له, كما أنه غير قابل للتحقيق خصوصًا في ضوء (الثورة الديمغرافية) وتنامي عدد سكان العالم على نحو غير مسبوق في التاريخ, وتزايد حاجاتهم اللامحدودة في ظل نمط حياة استهلاكي بامتياز, وإما تعديل التكنولوجيا الصناعية وأنماط التطور وعقلنة النشاط الاقتصادي ونمط معيشة الإنسان الحديث عمومًا, بشكل يجعله (يتصالح) مع البيئة, ويوظف طاقاته العظيمة والذرى المعرفية التي وصل إليها في معالجة التحديّات الهائلة التي تواجه المجتمع الإنساني على مختلف المستويات, وفي خدمة المصالح الحقيقية للأجيال الحالية والقادمة.

* * *

إن السؤال الذي يطرح نفسه بحدّة هو: أين نحن, كمجتمعات عربية, من هذا التطور العاصف للعلوم والتكنولوجيا, من هذا الاتساع الهائل لنطاق المعرفة ودورها?! من الواضح أن مجتمعاتنا لم تدخل بعد (اقتصاد المعرفة). فنحن لانزال في موقع المتلقي السلبي, لا المنتج, لثمار وإنجازات الثورة العلمية التكنولوجية في كل مراحلها, ولانزال على مسافة سنوات ضوئية عن مرحلتها الأخيرة المتمثلة بثورة الاتصالات والمعلوماتية (غير أن ذلك لا يجعلنا بمنأى عن آثارها السلبية). إن مجتمعاتنا لاتزال في بدايات الدخول حقبة (المرحلة الصناعية) بمفهومها المتطور, في حين أن الدول المتطورة أصبحت في قلب ما يسمى (مرحلة ما بعد الصناعة). وهذا ما يضاعف الهوّة بيننا وبينها, ويزيدها عمقًا واتساعًا. إن ثقافة التغيير والتأقلم مع متطلبات التطور المعرفي لم تصل إلى مجتمعاتنا بعد. إننا بحاجة ماسّة إلى إعادة النظر في مقاربتنا لمفهوم (المعرفة), وفي وعينا لحقيقة أن دخولنا (اقتصاد المعرفة) هو السبيل الوحيد لنجاحنا في مواجهة تحديات العصر ولاحتلال موقع لائق بين الأمم.

محمد دياب

المصدر مجلة العربى عددمايو2004
http://www.alarabimag.com/arabi/Data.../Art_64816.XML
  #118  
قديم 19/06/2004, 03:52 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

في ركاكة اللغة الوسيطة : لغتنا ولهجاتنا في مَهبِ العُجمة
2004/06/19

محمد الحارثي

يُصابُ الضيف الطارئ أوالزائر العربي، لأول مرة، إلي بلدان الخليج العربي بالدهشة عندما يطلبُ عشاءً مُتأخراً في الفندق الذي استضافتهُ فيه هذه المؤسسة أو تلك، عبر خدمة الغرف، ليجد أن مُحدِثهُ آسيويٌ، لا يتقن سوي الانكليزية في الغالب، ويحتار فيما عليه أن يطلب من طعام يسد رمقه إثر رحلة طويلة إلي صحار والرستاق، مثلاً، أو نزوي أو رمال وهيبة. تماماً كما يحتارُ المُقيمُ ويتكلف محنة طلب قهوة أو ساندويتش في إحد مقاهي المراكز التجارية بإنكليزيةٍ تُشعرهُ فوراً بالضعف أمام الفتاة الفيليبينية أو البلغارية أو الفتي الهندي (القادم من الأرياف) الذي يتعالي عليه بإنكليزيته، مستغرباً متسائلاً، ذلك الضيف العربي القادم من مصر أو الشام أو المغرب، سواء كان من عباد اللشه العاديين الباحثين عن قوت يومهم في صحراء الخليج الزرقاء ـ وفق تصنيفٍ لا نستسيغه بالطبع ـ أو كان ذلك الضليع في فرنسية موليير:
هل أنا في بلد عربي حقاً؟..
المشهدُ بحذافيره يتكرر، كما نعلم، في الرياض، المنامة، أبوظبي، دبي والدوحة، حتي يألف ذلك الزائرُ المكان ـ إن كان مُقيماً ـ ويتعودَ شيئاً فشيئاً، وِفق قانون التقادُم، علي استخدام تلك (اللغة الوسيطة) التي تواطأ علي ابتكارها كل من (المُواطن) و(الوافد)، إن استعرنا خطاب صحافة دارجٍ في إحدي الدول المُجاورة.
لقد ابتكرنا منذ أواسط السبعينيات من القرن المُنصرم لغة وسيطة، هي من الرَكاكة بمكان، تخلينا عبرها طواعيةً عن لغتنا الأم ولهجاتها، لتسهيل التواصل مع الآخر، دون أن نتساءل، آنذاك، عما سيترتب علي ذلك التساهل المُر من تبعات. ولعبنا، دون أن ندري، دوراً مُخرِباً لجمالية لغتنا العربية (إحدي أجمل لغات العالم) عبر محاولة تبسيط قواعدها لذلك (الآخر) الذي ظننا، خطأً، أنه لن يستطيع تعلمها كما تعودنا التحدث بها سليقةً، فوقعنا في فخ لا فكاك منه: هو اضطرارنا، أبداً، لمُجاراته في استحلاب لغته /لغتنا التي ترسخت في لاوعي أبنائنا حتي أصبحنا غير قادرين، في آخر الشوط الخاسر، علي العودة للرضاعة من ثدي لغتنا الأم. ويصل الأمرُ بنا أحياناً حدَ التهوُر اللاواعي في تقربنا من ذلك الآخر، والتندِر في الحديث مع بعضنا البعض بتلك اللغة الوسيطة، التي ربما اختزلها مثالٌ سريعٌ كهذا: (أنا ما فيه مَعلوم إنته ليش فيه يرُوح شُغل بكره، هذا ترتيب مال إنته. ليـكَن فُلوس مَال سيارة لازم فيه يَعطي جَلدي.. جَلدي. أول أنا فيه كلام هذا نَمُونه. كله نفرات داخل هذا بلاد فيه معلوم. نفرات مال تنكَر ماي فيه معلوم. جيب فُلوس مَال أنا أول، بعدين فيه ماي زياده)!
أتذكرُ قبل سنوات أن الناقدة اللبنانية المعروفة يُمني العيد زارت بلادنا بدعوة من النادي الثقافي لقراءة نقدية في مُجمل تجربة القصة القصيرة في عُمان، واصطحبناها أنا والكاتب محمد اليحيائي في رحلة إلي الرستاق ونَخَل لزيارة القلعتين والفلج والينابيع والنخلات العاكفة في صلاة أبدية علي الوادي، ترسيخاً من كلينا، لتحضُرٍ بدوي ومُقاربة عيانية تعفينا الشواهد التاريخية الجاثمة أمامنا عن أية مُساءلة نقدية حول الواقع المزدوَج الذي ترسف فيه حياتنا الاجتماعية والثقافية علي أكثر من صعيد. لنجدَ أنفسنا، فيما كنا نتناول الغداء، بعد تلك الجولة (التاريخية) في مطعم فندق شاطئ السوادي، حديث العهد آنذاك (قبل شيوع الفكرة السديدة بتعريب قوائم الطعام في المرافق السياحية). لكن يُمني العيد فوجئت بأن قائمة الطعام مكتوبة باللغة الانكليزية فقط، دونما اهتمام بترجمة مُحتواها إلي العربية، كما افترضَت علي الأرجح (والعكس هو الصحيح، في بلد كانت العربيةُ لغته الأمُ والأبُ، إلي عهد قريب). قالت لنا: هذا غير معقول! غير معقول! كيف أستطيع طلب ما أختاره من الطعام أيها المُحمدان؟... أعرف الفرنسية بطبيعة الحال، لكن من حقي في بلد عربي قُحِ الأرومة كـ عُمان أن تخاطبني قائمة الطعام بلغتي، وأن يخاطبني النادل بلغتكم: أي العربية، في تجليات لهجاتها المختلفة، كما حدث لي في تونس ومصر والمغرب.
وقد كانت مُحقة، وحَذقة في ملاحظتها تلك، لولا أن محمد اليحيائي تلافي الأمر بلباقته، وطلبَ من إدارة الفندق جرسوناً يتحدث العربية حتي نستطيع (هو وأنا) كعُمانيَين إتمام واجب الضيافة تجاهها بعربيَتنا المحلية (وهي فُصحانا) أثناء التشاور مع النادل العُماني حول أنواع الوجبات التي يمكن لمطعم منتجع سياحي أن يُقدمها لضيفٍ رسمي علي النادي الثقافي!
بعد الغداء، وفي طريق عودتنا من فندق السوادي لاحظت يُمني العيد في الدَوارات المتاخمة للسيب تلك المناديس الفائضة بسلاسل وخلاخيل الذهب والفضة، لتتساءل من جديد: ألا يوجد في بلدكم لصوص يسرقون كل هذا الذهب وهذه الفضة المطروحة لمن يشاء في الشوارع؟.. في لبنان لا يوجد لدينا شيء مُماثل. أنتم تعيشون في يوتوبيا أمانٍ لا نظير لها إلا في الفردوس، لكن عليكم استرجاع لغتكم ونثرها، كالماء والأرز، شِعراً ونثراً في الشوارع، تماماً كما تفعلون بهذا الذهب وهذه الفضة وإلا لظننت، مجازاً، أنني كنت في رحلة إلي الهند أو الفيليبين الأخرَويَتين! لا إلي دولةٍ عربية أعمَنَ إليها الأولون، ولهجاتها المحلية ـ كما تناهي إلي مسمعي ـ واحدةٌ من أصفي لهجات الفصحي التي لم تشُبها شائبة، كما حدث في الشام ومصر، حيث تمكنت الدولة العثمانية أيام مجدها من التأثير علينا في مُجمل ما نقول، أو كما هو الحال في التأثير العارم للفرنسية في شمال إفريقيا.
كانت مُحقة فيما تقول. ولم نكن نملكُ أنا واليحيائي سوي مُحاولة كتابة قصص قصيرة وقصائد علي منوال تلك الفصحي التي تحلُمُ بها يُمني العيد في بلاد الخليل بن أحمد الفراهيدي. فإن كان للمد التركي في لهجات أهل الشام ومصر ما يبرره، فما الذي يُبرر لنا عُجمَتنا في (اللغة الوسيطة) التي لم تكن يُمني العيد بقادرة علي فك رموزها علي الأقل في قائمة طعام المُنتجع المُضيف! وبالتالي لن يكون غريباً أن (الأرض بتتكلم أوردو) كما جاء في عنوان مسرحية من تأليف الشاعر الإماراتي أحمد راشد ثاني في تحوير ذكيٍ لأغنية شهيرة بعنوان (الأرض بتتكلم عربي) لـ سيد مكاوي، تلك المسرحية التي عُرضت منتصف الثمانينيات في الكويت والإمارات، طارحة بلهجة تهكمية ذات السؤال الذي لا يَنِي يتجدد دونما إجابة جادة بعد أكثر من عشرين عاماً عصفت فيها رياح التغيير حتي بذلك الطرح الجريء لتلك المسرحية في علاقتنا بـ (الآخر)، علي تعَدُدِه، والمُقيم في خيامنا (ومُعسكراتنا مدفوعة الثمن) وبيوتنا وقصورنا الفارهَة، إن كان لا بُد من ذيلٍ معكوس للتسلسل الهرَمي.
الغريب في أمرِ ما لا نحاول الانتباه إليه، هو أن (الآسيوي) القادم من ريف بلاده الرائق والغارق في فيضان الطبيعة الغالب، أغلب الأحوال، هو من يفرض ركاكة لغته الانكليزية و(اللغة الوسيطة) التي ساهمنا معه، بامتنان قلَ نظيره، في ابتكارها وتأسيسها ومَوضعَتِها ومن ثم ترويضها في حظائر البداوة النقية. وبالتالي نجد أنفسنا بين ظهراني لغتنا الفصحي (التي طالما تغنينا بفصاحتها أمام المَعاجم) في حالة من العُجمة والحُبسة اللغوية لا مثيل لها في التلاقح الذي يؤطره ويُكسبه ملامحه ذلك التلاحق والتتالي والتوازي الدائم في مَشتل الديمومة التي تخضرُ بها الحضارات، إن شاء لنا الادعاء أن نُسمي ما حدث ويحدث تلاقحاً حضارياً، لأن الظاهرة أعقد من ذلك بكثير، وأكثر مدعاة لتأمُلٍ نقدي والتفات سوسيولوجي، في الخيمة العربية، يُعيدان الشَدَة والضمة والكسرة إلي نِصابها غير المنصوب في مَحلِه. ولنا نحن العُمانيين درس تاريخي في ذلك، إن شئنا مكاشفة الذات بضربٍ من الدِقةِ لا نتحرج منه في بؤبؤ الإفصاح عن وعيٍ جديد؛ لأننا عوضاً عن أن نفرض لغتنا وثقافتنا (كقوة مُستعمِرة، في زنجبار ذات يوم) نعودُ، إلي بلادنا بعد حين من الدهر، لنتحدث اللغة السواحيلية، عوض أن يتحدثوا هم هناك فصحانا، فصحي المُستعمِر، بين أكثر من قوس وأقل من مُزدوجتين في مَهمَة الدلالة.
لكن السؤال المحوري الذي يطرح نفسه بكثافة:
لمَ نفعل ذلك؟
هل لأننا طيبون أكثر من اللازم
أم لأننا مُغفلون..
أم لأننا كونيون Universels وِفق التِقية الفرنسية في لثغة العَولَمة؟
أم لأننا مسخٌ لا من هذا ولا من ذاك، رغم تشدقنا الدائم باستحضار ظِلال حضارة لها إسهامها الفتان بين المشرقين والمغربين في لَوزة توازنهما الأبدي...
وإذا ما كنا كذلك، فلمَ تتأسس وتتمأسس تلك (الكونية) أو (العالمية) علي حساب ما حسبناهُ جلدنا وجذرنا السحيق، فضلاً عن لساننا (لسان آدم) الذي أصبحنا وأمسينا، دونما غايةٍ، في حِلٍ من تناسُل ما أضحي وأمسي يقوله ويرطن به علي شاشات التلفاز لإرضاء يَرقة هذا العالم التي لا تني تعود إلي غُبيراء الوراء في شرنقته الأولي. تلك الشرنقة التي لم ننسَ، بعدُ، حتي لو كنا ضيوف الكاميرا التلفيزيونية علي مشارف غار حِراء أنها هي ما علينا تذكرهُ لحظة موت اللغة وانصهارها الطوعي في عُجمة الآخر، سواء بسواء: تحققَ الأمرُ في الجنة أم علي الأرض، لا فرق.
فإذا ما كانت العربية، حسب عبدالفتاح كيليطو في كتابه القيم لسان آدم ، إذا ما كانت: هي لسان الجنة. فماذا سيكون، إذن، لسان الهبوط؟ هل سيستمرُ آدم، بعد طرده من جنة عَدن، في التكلم بالعربية، أم سيُعيرُ بلسان آخر؟.. وما لم يخطر علي بال باحث كـ عبدالفتاح كيليطو أننا، هنا، علي هذه البقعة من الأرض استطعنا الإجابة علي تساؤله المُرِ ببساطة، دونما حاجة إلي صعود أو هبوط بين السماوات السبع والأرضين. فهذه الحياة لم تكن في يوم من الأيام سوي ملهاة ومأساة: تراجيديا وكوميديا تتعاركان وتتحققان، كلٌ منهما ـ بشرط الاخري ـ بجدارة لا تتوقعها غالباً هذه من تلك، علي خشبة المسرح، في أقصي مَرابعهما قسوة. وتلك ليست فضيلة، فيما أحسب، لهذه أو لتلك، لكنها حقيقة لا بد من العودة إليها من فرجة أكثر من دريشة وباب.
وربما كان عبدالفتاح كيليطو محقاً في استدراكهِ الأخَاذ: الحريري، صاحب المقامات، هو الكاتب العربي الأعظم انتشاراً بين القراء ما بين القرن الثاني عشر والقرن التاسع عشر، لكنه اليوم صار منسياً للغاية. لقد تعرضت الأنساق الأدبية لتحول عميق في العالم العربي نتيجة للتأثير الذي مارسهُ الأدب الأوروبي. فصارَ الحريري رمزاً لكتابة لا يجب إعادة إنتاجها. وها نحن اليوم نكتب ضد الحريري .
ومرة أخري، يصل كيليطو إلي استنتاجه الصحيح هذا، غير عارفٍ بموازين (اللغة الوسيطة) التي تعصف وتطوِحُ حتي بغايته من استنتاجهِ النقدي. فالرمز أضحي يَمَسُ، في أكثر من صقعٍ، مفردة الكلام اليومي، وفق نسقٍ لغوي طارئ لا قِبَلَ له باستنتاجاته التي تؤرخ لسجالٍ معرفي ناتج عن تأثير الأدب الأوروبي في مسار التطور الطبيعي للُغةٍ ما صلبة وهشة كاللغة العربية.
واستطرادٌ لغويٌ في العُجمة لا ضير منهُ هنا، اقتباساً من ابن منظور، صاحب لسان العرب. يقول: عجم: العُجمُ والعَجَمُ: خِلافُ العُرب والعَرَب، يعتقِبُ هذان المثالان كثيراً، يُقال عَجَميٌ وجمعُهُ عَجَمٌ، وخلافهُ عربي وجمعُهُ عَرَبٌ.

سَلُومُ، لو أصبحتِ وسطَ الأعجَمِ
في الرُومِ أو فارسَ، أو في الدَيلمِ
إذاً لزُرناكِ ولو بسُلَمِ

المُعجمُ: حروف أ ب ت ث، سُميَت بذلك من التعجيم، وهو إزالةُ العُجمة بالنقط. ومنها أعجَمتُ الكتابَ: خلافُ قولكَ أعربتُهُ؛ قال رُؤبَة:
الشِعرُ صَعبٌ وطويلٌ سُلَمُه
إذا ارتقي فيهِ الذي لا يَعلَمُه
زلَت بهِ إلي الحضيضِ قَدَمُه
والشِعرُ لا يَسطيعُهُ من يَظلِمُه
يُريدُ أن يُعرِبَهُ فيُعجمُه
.. ومعناهُ، يُريدُ أن يُبينهُ فيَجعلهُ مُشكلاً لا بيانَ له. واستطراداً في الاستطراد: أي يأتي بهِ أعجمياً. أي يلحَنُ فيه، قالَ الفراء: رفَعَهُ علي المُخالفَة، لأنهُ يُريدُ أن يُعرِبَهُ ولا يُريدُ أن يُعجِمَه؛ وقال الأخفش: لوقوعه موقع المرفوع، لأنه أرادَ أن يقول يُريد أن يُعرِبَهُ فيقع موقع الإعجام، فلما وضع قولَهُ: فيُعجمُه موضعَ قوله فيقعُ رفعَه.
لذلك أنشد الفراءُ من جديد، مستشرفاً ما آلَت إليه الحالُ بين البلاد والعباد:

الدارُ أقوَت بَعدَ مُحرَنجمِ
مِن مُعرِبٍ فيها ومِن مُعجمِ

.. وعَوداً علي بدء:
لنفترض، مثلاً، في مدينتين خليجيتين تتنافسان عبر المهرجانات إلي ذات المسعي التراجيوكوميدي ـ أقولُ لنفترض ذلك ـ ولنفترض في لغط الرطانة أن مواطناً عربياً من اليمن أو الجزائر يطلب عصير فراولة طازج، فيرُدُ عليه النادل: (Strawberry?) فلا يفهم المغزي، رغم إرغام النادل الفيليبيني أو النادلة الرُومانية لزبونهما (بتعالٍ مُتقصَد) أنها: فراولة. أشهي فاكهة في حذافير الفصحي عليهما تحاشي نطقها دونما عُجمة لسان، رغم أن الأمر لا يعدو كونه، في العمق وعلي سطحه الرائب، سوي طلب عصير من الفاكهة في مقهي، لا يفهم زبونُهُ لسانَ نادلهِ، كما لا يفهمُ قائمة مشروباته ومأكولاته الخفيفة، فيما يفرض عليه حقيقة بليغة: هي أنه لا يُحسن الحديث إلا بلغة شكسبيرية لن يكون لها محل في عُجمَة الإعراب سوي إثارة الرعب في مخيلة ذلك الزبون وجيبه اللذين سيتقهقران عن طلبه الفاخر، ولن يطلب في آخر الأمر سوي قهوة مُرةٍ ليسهو، في لا وعيه الباطن، عن تلك الأخطاء اللغوية التي يرتكبها النادل، والتي لن يغفرها شكسبير نفسه بين عُطيل و الملك لير ، لو كان علي قيد الحياة قليلاً.
في مقام آخر، نجد أن عودة إلي السائد بين اللهجات في صحن فصحانا لا بد منها. أي إلي حصار اللهجة المصرية التي اتخذها إخواننا المصريون حجاباً يُدارون به، في مضمارٍ آخر، تساؤلاً كهذا يمتد من نواكشوط حتي حضرموت عبر استنساخهم لذات الفكرة التي تُكرِسُ سهم الخط البياني المُتصاعد لمفهوم اللغة الوسيطة، تلك التي شجعهم الآخرون عليها. فكثير من عرب شمال إفريقيا يتعرفون إلينا، ويتقربون إلي لهجاتنا، نحن سكان هذا الخليج المغلوب علي أمره، عبر اللهجة المصرية، رغم البون الشاسع بيننا وبينهم عُجمة وفصاحةً مقلوبتين في مرآة المفهوم السائد وشجرته الخضراء علي كلِ شاشةٍ هبت ودبت في سماوات الفضائيات.
وهو تساؤلٌ يتمَرأي في تلك المِرآة حمالةِ الأوجُهِ تحت غُبار أكثر من إجابة مصقولة بذلك الابتذال في غالبية تلك المسلسلات المبثوثة من السماء أو الفضاء المُدهش والمُغري بسرنمَته اللغوية، كما بألوانه السخية علي شاشة التليفزيون.
لكن التساؤل الأمَرَ من ذلك هو: من نحن؟
ومن نكون؟
وكيف ينظرُ إلينا، في مُسلسلهِ، ذلك الهندي والفليبيني والباكستاني والبنغلاديشي الذي يعود إلي بلده بشيء من حذافير هذه الفصحي. إذ لم تجبره أية ثقافة علي ضرورة استخدامها في أرضها، تلك التي لم تتفتق، للأسف، عن مفردة تصغيريةٍ لهُويته أكثر وأقل من مفردة (رفيق) التي قادته إلي فَصحَنَتِها ـ في الرِفقة ـ عبرَ تكسيرٍ نحويٍ لم يرَ حتي المُقيمون من عَرَب وعاربة حرجاً من استخدامهِ في مهبِ عُجمَتهم الجديدة (رفيك)، كما لم يَرَ (هُوَ) بأساً في اللعب عليه والتكسُب منه في ذلك البرزخ الوسَطي الذي لا حول لهُ ولا قوة بين الخليل بن أحمد الفراهيدي ووِليَم شكسبير، إذا ما أزحنا جانباً اقتباسنا المُطوَل حول العُجمةِ من تعريف مُعجَمِ (لسان العَرَب) للإمام العلامة أبي الفضل جَمال الدِين مُحمَد بن مَكرَم ابن منظور، رحمهُ الله.


شاعر وكاتب من عُمان
المصدر القدس العربى

آخر تحرير بواسطة صقر الخالدية : 19/06/2004 الساعة 04:13 PM
  #119  
قديم 22/06/2004, 03:19 PM
Alwali Alwali غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 03/09/2002
الإقامة: UK
المشاركات: 281
جزيت خيرا يا صقر الخالدية وفقك الله والى الأمام دائما ان شاء الله
  #120  
قديم 22/06/2004, 03:20 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Wink أسرار دبي المعلنة

أسرار دبي المعلنة


ما إن تعود إلي دبي بعد اشهر قليلة من مغادرتك لها حتى ترى أن الورشة التي أقامتها اكبر مدينة خليجية سرعة في التوسع، تكبر إلي درجة انك تحتاج إلى بعض الوقت للتعرف على المعالم التي كنت تعرفها في السابق، أما إذا كنت مثلي تحتفظ بذكرى جلسات رجال أهل البحر على الخور في ستينيات القرن الماضي، فلا شك أن المقارنة تصل إلى حالة عدم التصديق.
ما هي أسرار دبي، التي جعلتها قبلة للمستثمرين وللسياحة بكل أشكالها حتى في اشهر القيظ بالغة الحرارة، قد تتلخص في كلمة واحدة، وهي تصور واضح من القيادة لما يحتاجه عصر معولم، أما التفاصيل فهي كثيرة.
صديق قال لي وهو شاب في ريعان صباه رافقني إلي بعض المشاريع العمرانية، ان عيون دبي مثبتة على ثلاثين مليونا من الطبقة الوسطي في الهند،سوف يقصد عددا منهم مدينة دبي أما للبقاء فترة أو العمل كوسيط لتوزيع الإنتاج الهندي المتعاظم في السلع و الخدمات على أسواق الشرق الأوسط الآخذة في النمو.
ثم يضيف صاحبي أن مدينة نيويورك التي هي ملتقى وبوتقة لكل نصف الكرة الغربي، تفتقد أن يكون قريب منها سوقا فيه بليون ومائتي مليون من البشر، ينمو دخلهم الوطني بأكثر من ستة في المائة سنويا، ويختزنون قدرة بشرية وتقنية هائلة، هؤلاء على بعد ساعتين طيران فقط من مطار دبي الدولي، ليس هؤلاء فقط، إنما الجوار الخليجي الذي تتوفر فيه فيوضات نقدية تزداد كل عام، ولا تجد لها مكانا آمنا في العالم بعد كل ما حصل منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001، وقد وجدت لها مرفأ دافئا وحصينا هي دبي.فأصبحت قبلة للمال الخليجي و أيضا للسياحة الخليجية.
لقد أسقطت دبي بعض المحاذير التي تكاد تكون مرجعا لا حيدة عنه في دول الخليج الصغيرة.
بدا هو احتكار الداخل ضد الخارج، وكانت تلك المقولة بمثل التابو للجميع في الخليج،أن يحافظ على نسبة لا تزيد عن مقدار معين في استضافة اليد العاملة أو المستثمرة، بحجة إتاحة الفرصة للمواطنين، وعدم غلبة الخارج على الداخل،لقد كانت النسب بين المواطنين وغير المواطنين في بلداننا تأكل ذخيرة الفكر العربي الوطني، وكان المحك لدى كثيرين في جدية الدول من عدمها، واحسب أن تلك الفكرة المعوقة ما زالت صحيحة لدى البعض، لدى هؤلاء ،الإجابة عن السؤال، كم نسبة المواطنين وكم نسبه غير المواطنين في سوق العمل؟ وعلى نوع الإجابة عن ذاك السؤال ترتبت المواقف.
أما في دبي اليوم فقد سقطت تلك الحجة التي لم تعد عملية أو حتى عقلانية، فان كنت عربيا أو غير عربي، من الخليج أو من خارجه، و لديك أفكار ورأس مال وقدرة على التنفيذ وإرادة، فان دبي لن تقول لك لا بل تفضل على الرحب و السعة، تستطيع أن تحصل على ترخيص لمزولة عملك الذي تختاره دون تعقيدات.
قد تكون هذه النسبة الصماء في حساب الكتلة السكانية بين مواطن ومقيم ، مقبولة في دول ومجتمعات تتميز بالثقل البشري الكثيف، ولكنها لم تعد مقبولة اليوم في عصر العولمة، خاصة في الدول الصغيرة ذات كتلة سكانية لا تشكل سوقا اقتصادية، فهؤلاء السكان القادمون من الخارج، يضمهم إطار قانوني واضح، كما يرفدون الخبرة الوطنية بخبرة عالمية، وبالتالي يثرون رأس المال البشري ولا ينقصون منه.
ودعوني انقل لكم الأتي وهو يفضح شكلا من إشكال التخوف المرضي من الهجرة في مجتمعات أخرى يقول النص : ( لدي كثير من التحفظات حول هؤلاء المهاجرين بسبب ارتباطاتهم العشائرية وقلة معرفتهم بالإنكليزية وأعلامهم، وازدياد الحاجة للمترجمين، وخلال سنوات أظن أننا سنحتاج إلى مترجمين في الكونغرس ليخبروا نصف مشرعينا ما يقوله النصف الآخر!)
هذا النص ليس نقلا عن احد المتشددين في الربع الأخير من القرن العشرين، ولا حتى من مخلفات القرن العشرين نفسه، ان هذا النص قاله بنجامين فرانكلين احد ( الآباء المؤسسين) في الولايات المتحدة في سبعينيات القرن الثامن عشر ،الذي أخافه وقت ذاك تأثير المهاجرين الألمان على الكتلة السكنية في أميركا الوليدة ! ثم أصبحت أميركا بفضل المهاجرين اغنى وأقوى بلد في عالم اليوم، إذا كان الأمر صحيحا وقتها فهو أكثر صحة اليوم، وتجده في دبي موزاييك من الأجناس المحيطة من الصين حتى المغرب،ومن هولندا حتى جنوب افريقيا يعيشون ويعملون في تناغم إنساني لافت للنظر.
قال لي الصديق في دبي انه باع قطعة ارض على رجل من أصول آسيوية بمبلغ كبير يعد بملايين الدراهم، وقال له المشتري لقد جئت إلي هذه البلاد منذ ثلاثة عقود وأنا البس قميصا قطنيا رخيصا وبنطالا واحد، حاملا ثلاث (كرتونات) من السجائر لاستهلاكي الشخصي، ذاك ما كنت املكه ، وفي بحر سنوات وبكثير من العمل أصبحت املك ما املكه اليوم!.
الخيال و إلارادة هما من عناصر النجاح المعروفة في الفكر الاقتصادي الحديث، ولكنها متعلقة بالافراد، في دبي تنعكس الآية فتصبح الحكومة المحلية هي القائدة في التطوير، وهنا الاختلاف الملحوظ.الذي يخيف البعض أن تتضخم الحكومة إلي حد يعجزها عن القيام بمهامها، هذا التخوف في دبي له حلول، وهو الحكومة الالكترونية. في نهاية العام الماضي تستطيع في دبي أن تحصل على ستمائة خدمة عامة وأنت أمام جهاز حاسوب، لا يعبس في وجهك احد أو يدعوك للقدوم غدا! ابسطها أن كثيرا ما يقف البشر صفا طويلا ومتعبا في بلداننا لدفع مخالفة مرور، في دبي تدفع المخالفة وأنت تتسوق أمام حاسوب منصوب في أكثر من مكان، ادخل رقم سيارتك تعرف كم من المال يتوجب عليك دفعه ثم ادخل المبلغ فقط لا غير، ثم أكمل تسوقك،مثل هذه الخدمة يوجد خمسمائة وتسع وتسعون أخرى و الحبل على الجرار.
سائق من القارة الآسيوية تكرم صديقي بإعارته لي لفترة فأصبح دليلا لي في دبي، وبعد طواف تخلله الشرح و التعريف، انتبهت على انه يشير في كلامه إلى (نحن) في شرحه للمواقع أو إشارته للاماكن ، نحن فعلنا كذا، ونحن سوف نقيم هنا المشروع الفلاني،تحيرت كيف يشير إلى نحن بهذه الصيغة المكررة، فسئلت من هم نحن؟ ثم تبين انه يشير إلى من ساهم ويساهم في بناء دبي ويعتبر نفسه منهم وهو سائق سيارة بسيط، قال بعد سؤالي أن لي فترة أقيم هنا في دبي وأنا اشعر إني من أهلها، وكل تقدم فيها يعود علي وعلى أسرتي بالخير، هذا ما تسميه الأدبيات الولاء ،أليس كذلك؟
تلك واقعة شهدتها تؤكد أن القرن الواحد و العشرين والعولمة التي يدخل البشر فيها لها قواعد إما أن تلعب، أو تترك فتهمش، لذا نجد دبي بسبب فهمها للقواعد تلك قد تجاوزت المحذورات القديمة.
لا اربد أن يفهم احد أن ذلك تم على حساب الأهل المحليين، فأين تذهب تجدهم يؤدون عملهم بصمت وإتقان، في المطار على بوابات الدخول، أو فتيات يعملن كمروجات للبيع في ذلك المشروع الكبير الذي زرته مع الصديق، وهنا يأتي الأمر الآخر المهم وهو أن التنمية الشاملة، لا تسقط من حسابها المواطن، ولكنها لا تحميه حماية تفقده المناعة ويصير عبئا على الدولة في معيشته، بل تشجعه على المبادرة وحب العمل و الانخراط في مجتمع تعددي.
في تجمع إنساني مثل هذا لا بد من وجود قانون عادل ورادع ومطبق على الجميع، هذا ما يفضله المستثمر، لان التغييرات المستمرة على القوانين حسب الأمزجة، تفقد ثقة المواطن والمقيم في الاستمرار التي هي صلب أي تنمية حقيقة.
واحترام القانون في دبي يتجاوز قاعدة أن أهل البلاد وغيرهم متساوون أمامه، بل وحتى يتجاوز ما يحب بعضنا أن يسميه ( التسامح ) هو أكثر من ذلك، هو القبول، التسامح يعني انك بشكل ما متفضل على الآخر المختلف فتتسامح معه، أما القبول فهو العيش المشترك في ظل القانون دون منة.
تلك بعض أسرار دبي المعلنة، والتي كانت قبل عقود قليلة فقط تتطلع إلي القوانين في بلاد الخليج من اجل اقتباس النافع منها، إلا أنها أوجدت اليوم تجربة ناجحة بحد ذاتها، فيها من الابتكار و الجسارة ما تتسابق بسببه المدن الخليجية الأخرى، كي تصبح دبي ثانيةّ! إلا أن النجاح لا يخفي أسرار،خيال خصب وقراءة للمستقبل وجسارة في التنفيذ.

د. محمد الرميحي
باحث كويتي
  #121  
قديم 22/06/2004, 05:17 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

شعار "تاريخية النص"... ليس هو الحل!

د. محمد عابد الجابري


منذ سنوات وعبارة "تاريخية النص" تتداولها أقلام بعض الكتاب، وهي تنطوي عندهم على اختيار "استراتيجي" لابد منه لفهم النص الديني، وبالتحديد القرآن الكريم، فهما "حداثيا". هذا بينما لا يُخفي كتاب آخرون ممن ينتمون إلى الاتجاه المقابل، الذي ينعت بالسلفية أو الماضوية، رفضهم، ليس فقط لاستعمال تلك العبارة، بل أيضا تحرجهم من استعمال عبارة "أسباب النزول"، مع أنها عبارة إسلامية أصيلة، خوفا من أن يفهم لفظ "الأسباب" بالمعنى الفلسفي الذي يجعل السبب علة في وجود المسبب، بينما هو عندهم وعند الأشاعرة عموما مجرد مناسبة. وعندما يستمع المرء إلى هؤلاء وأولئك ويتأمل الهواجس التي تحرك الفريقين يخيل إليه أن كلا منهما يجهل ميدان الآخر، وبالتالي لا يتعامل معه على أساس يقوم على الفهم والتفهم. والأدهى من ذلك أن الذي يقف موقفا نقديا مما يقرأ ويسمع يمتلكه شعور قوي بأن كل فريق من هذين الفريقين يجهل ليس فقط ميدان خصمه بل يجهل أيضا ميدانه هو نفسه. وهدفنا من هذا المقال أن نبين أن بين هاتين العبارتين ("تاريخية النص" و"أسباب النزول")، من وشائج القربى ما يسمح باستعمالهما معا في نفس المعنى. وبعبارة أخرى: إن استعمال الواحدة منهما دون الأخرى لا يعني بالضرورة القيام باختيار استراتيجي يخدم قضية الحداثة أو يزكي مقابلها الذي قد نعبر عنه بالأصالة أو بالسلفية أو بما أشبه.

لنبدأ بمفهوم "تاريخية النص" من الواضح أن مصطلح "تاريخية" يحيل إلى التاريخ، ومن الواضح كذلك أن هذا المصطلح ليس عربيا بالأصالة، بل هو ترجمة لمصطلح Historicité (بالفرنسية وهو مترجم عن الألمانية). أما معناه الأولي فيفيد النسبة إلى التاريخ: فعندما يوصف به الشيء فإن ذلك يعني أن ذلك الشيء له وجود حقيقي، أي أنه وجد فعلا وجودا تاريخيا يتحدد بالزمان والمكان، وليس مجرد وجود افتراضي أو أسطوري.

هذا عن المعنى الأولي للعبارة، وهو معنى محايد، أعني أنه لا يدل على مدح ولا على قدح. أما عن المعاني الفلسفية والإيديولوجية التي أُلْبِست لهذا المفهوم في العصر الحديث فهي أكثر من تحصى. لقد عرف تاريخ الفكر الأوروبي منذ القرن السادس عشر إلى اليوم فلسفات ومذاهب فكرية تتخذ من مفهوم "التاريخية" أحد الأركان الرئيسية في صروحها. وبما أن المجال هنا لا يتسع لشرح أوسع فسنقتصر على الإشارة إلى بعض الجوانب الرئيسية التي تعين القارئ غير المختص على اكتساب تصور غير سطحي عن هذا المفهوم المركزي في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر.

لقد طرح مفهوم "التاريخية" أول ما طرح بوصفه يجسم الفرق الأساسي بين الإنسان والطبيعة: الإنسان له تاريخ والطبيعة لا تاريخ لها. وتاريخية الإنسان تعني في هذا المجال أنه وحده بين الكائنات يعي وجوده التاريخي، يعي تاريخيته. هذا من جهة، ومن جهة أخرى اتخذت النسبة إلى التاريخ في الفكر الأوروبي في وقت من الأوقات معنى قدحيا، وذلك عندما يراد أن الموصوف به ينتمي إلى الماضي وأنه لم يعد موجودا، وبالتالي لا قيمة له لا في الحاضر ولا في المستقبل. وعلى العكس من هذا تماما أعطي في مرحلة لاحقة لمفهوم "التاريخية" معنى "الأهمية التاريخية" بلغتنا الرائجة، بمعنى أن الشيء الذي يوصف بها إما أنه يشكل حدا فاصلا بين عهدين، عندما يتعلق الأمر بالكلام في الماضي، أو أنه يدشن عهدا جديدا، وأنه لحظة من لحظات التطور نحو الأكمل والأفضل. وحول هذا المعنى الأخير تستعمل "التاريخية" في فلسفات التاريخ، الفلسفات التي ترسم تصورات عن المستقبل بوصفه قمة التطور الذي جرى عبر التاريخ ويجد لحظة اكتماله في الصيرورة التي تربط الماضي بالحاضر بالمستقبل.

من هنا يتفرع معنى آخر لمفهوم "التاريخية"، وهو الذي كان له الصدى الأكبر في القرنين الماضيين، مع الماركسية أولا، ثم مع علم الاجتماع المعرفي (سوسيولوجيا المعرفة) ثانيا. والقضية الأساسية المطروحة في هذا المجال هي قضية علاقة الفكر بالواقع، أو المعرفة بالأطر الاجتماعية. وكما هو معروف فالفكرة السائدة في الماركسية الرسمية هي أن الوجود الاجتماعي للناس هو الذي يحدد وعيهم، أي نوع نظرتهم للشأن السياسي والاجتماعي. وفي هذا المعنى قال ماركس قولته المشهورة: "ليس الوعي -أو الفهم- الذي للناس عن أنفسهم هو الذي يحدد وجودهم (الاجتماعي)، بل بالعكس إن وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد هذا الوعي"، والمقصود هو أن الوضع الطبقي هو الذي يحدد نوع الآراء السياسية والاختيارات الإيديولوجية، أي ما سماه "هيجل" بـ"الروح الموضوعي". أما "الأشكال العليا للوعي"، وهي أساسا الفن والدين والفلسفة، أي ما عبر عنه هيجل بـ"الروح المطلق"، فقد لاحظ ماركس نفسه أنها لا تتحد بالوضع الاجتماعي بهذه الصورة بل هي تمتلك استقلالا يجعلها تعلو على المجتمع وأطره. وفي هذا المعنى كتب يقول:"إن الصعوبة ليست في فهم كيف أن الفن والملحمة الإغريقيين كانا مرتبطين ببعض أشكال التطور الاجتماعي، بل إن الصعوبة هي في فهم لماذا لا يزالان يُوَلِّدان فينا متعة فنية ويحتفظان بقيمتهما من بعض الوجوه، كمعيار ونموذج لا مثيل لهما". ويمكن بسهولة أن نقول الشيء نفسه عن النص القرآني:"إن الصعوبة ليست في فهم كيف أن القرآن وسيرة النبي كانا مرتبطين ببعض أشكال التطور الاجتماعي، بل إن الصعوبة هي في فهم لماذا لا يزالان يُوَلِّدان فينا متعة فنية (بلاغية) ويحتفظان بقيمتهما من بعض الوجوه، كمعيار ونموذج لا مثيل لهما".

وإذا عدنا الآن إلى عبارة "تاريخية النص" - والمقصود القرآن- وأردنا أن نحدد معناها على ضوء ما سبق نجد أنها تنطبق عليها جميع المعاني التي ذكرنا:

1- فمن جهة: القرآن نص تاريخي، بمعنى أنه وجد وجودا حقيقيا في زمن ومكان. وهو نفسه يؤكد ارتباطه بالزمان والمكان، فيقول تعالى: "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلًا" (الإسراء 106)، هذا فضلا عن إشارته إلى أحداث تاريخية وقعت في عصره مثل "الم، غُلِبَتْ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ" (الروم 1-3)، والأمثلة كثيرة وهي كلها تؤكد تاريخية القرآن. الشيء الذي لا يسمح بتاتا بنسبة أي نوع من الوجود الأسطوري لهذا الكتاب المقدس. هذا بينما يصعب جدا نزع نوع ما من الوجود الأسطوري لكثير من الأحداث والرجال فيما تحكيه الإسرائيليات مثلا أو "الإلياذة" و"الأوديسا" لهوميروس.

هذا الوجود التاريخي للنص القرآني تفصله تفصيلا روايات المفسرين وأهل الحديث والفقهاء في ذلك الصنف من الأبحاث والمرويات التي تدرج منذ القديم تحت اسم "علوم القرآن"، ونقصد بذلك ما يعبر عنه بـ"أسباب النزول"، والمقصود الحوادث والملابسات والمناسبات والتساؤلات التي جاء الوحي المحمدي ليبينها أو يرد عليها أو يحكم فيها.. الخ.

2- ومن جهة ثانية القرآن الكريم تاريخي بمعنيين: بمعنى أنه ينتمي إلى الماضي، ولكنه في المقابل تاريخي بمعنى أنه كان حدثا تاريخيا أسس المستقبل فجعل تاريخ العرب، ثم تاريخ العالم، ينقسم إلى ما قبل ظهور الإسلام وما بعد قيامه وفتوحاته.

3- ومن جهة ثالثة القرآن نص تاريخي بمعنى أنه مرتبط بظروفه التاريخية، وهو يشهد على ذلك من خلال جداله مع خصومه، الملأ من قريش ومجادليه من أهل الكتاب، ومن خلال ما يعرف بالناسخ والمنسوخ وبأسباب النزول ..الخ، كل ذلك يشهد ويؤكد أنه مرتبط بظروف تاريخية معينة هي ما يسمى في الاصطلاح الإسلامي بـ"معهود العرب". وقد يصح القول أيضا إن تلك الظروف هي بمعنى ما من المعاني نتيجة له، لأن منهجه الجدالي أو السجالي يقوم على الفعل ورد الفعل، وكثير من الوقائع التاريخية التي سجلها القرآن في فترة نزوله كانت عبارة عن ردود فعل من خصومه.

4- والإشكال الذي يطرحه هذا النوع من الطرح، أعني القول بـ"تاريخية النص القرآني"، هو تلك المشكلة المعقدة المعروفة في تاريخ الفلسفة بمشكلة "علاقة الفكر بالواقع"، وفي علم الاجتماع بمشكلة "علاقة المعرفة بالمجتمع وأطره". ووراء هاتين المشكلتين تثوي مشكلة فلسفية أكثر تعقيدا -على الأقل في زمانها- هي مشكلة الأبدي والزمني، مشكلة المطلق والنسبي. وقد لا نبعد إذا قلنا إن الذين يطرحون مسألة "تاريخية النص" من الكتاب المعاصرين إنما يقصدون بذلك ربط القرآن، كنص معرفي، بكل من الواقع، والمجتمع، والزمني، والنسبي. وهذا موقف تقول به مدارس فكرية عديدة ليس بالنسبة القرآن وحده بل بالنسبة لكل نص، مقدسا عند أهله أو غير مقدس. ومع ذلك يبقى أن الدين والفن والفلسفة قطاعات معرفية تخترق الزمنية وتنفصل عن ظروف المكان لتشكل نماذج ملموسة لما هو أبدي مطلق.

يقول "لوكاتش" أحد الماركسيين المستقلين المجتهدين في كتابه "التاريخ والوعي الطبقي"، الترجمة الفرنسية:"إن هذه الأشكال العليا من الوعي (الفن والدين والفلسفة)، على الرغم من علاقتها بمحيطها الطبيعي والاجتماعي وارتباطها به، فإنها إذ تمارس تأثيرها حسب خصائصها الذاتية وقوانينها الخاصة - بمجرد ما تتشكل وتتبلور- تحتفظ باستقلال أكبر كثيرا من ذلك الذي تحتفظ به أشكال الفكر السياسي الاجتماعي... إن أشكال "الروح المطلق" (أي الفن والدين والفلسفة) يمكن أن تبقى قائمة ومحتفظة بقيمتها ومعاصرتها (للأجيال المقبلة)، بل محتفظة أيضا بقيمتها كنموذج. وما يؤسس هذه "الأشكال العليا من الوعي" أنها جملة من الترابطات تحمل في ذاتها، وإزاء التغيرات المتواصلة التي تعتري الأشكال الاجتماعية الخالصة، مظهرا من "الأبدية" مبررا على مستوى الذات، لأنها قادرة على أن تبقى قائمة حية بعد التغيرات العديدة والعميقة أحيانا التي تعتري الأشكال الاجتماعية ، مما يعني أن زعزعتها تتطلب تغيرات اجتماعية أكثر عمقا من تلك، تغيرات تفصل بينها عصور بكاملها".

المطلوب في نظري ليس رفع شعار "تاريخية النص"، فالشعارات التي من هذا النوع لا تغير من الواقع شيئا. المطلوب هو "تغيرات اجتماعية أكثر عمقا... تغيرات تفصل بينها عصور بكاملها"..! إن شعارات الحداثة هي نتيجة لتغيرات عميقة كانت وراء قيام الحداثة نفسها. إن الحداثة نتيجة وليست سببا. إنها نتيجة التحديث الذي يجري في المجتمع من داخله بفعل قواه الداخلية الخاصة، البشرية والمادية. إن شعار "تاريخية النص" ليس شعارا فاعلا بل هو مجرد وصف تحوَّل إلى مفهوم يجر معه هو الآخر تاريخيته بالمعنى الأولي للكلمة، أعني انتماءه إلى تاريخ الفكر الأوروبي.

تبقى مسألة كون النص القرآني وحيا من عند الله، وأنه كلام الله. وهذه مسألة لا يلغيها ولا ينال منها لا شعار "تاريخية النص" ولا مفهوم "أسباب النزول"، حتى بالمعنى الفلسفي للسببية.


  #122  
قديم 27/06/2004, 04:36 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up

الحرب ضد الفساد واستعادة الدولة العربية

د. محمد السيد سعيد

في الأسبوع قبل الماضي بدأت محاكمة رجل الأعمال الروسي الشهير وأغنى أغنياء روسيا الجديدة ميخائيل خودوركوفسكي بتهمة التهرب الضريبي والفساد. ويتفق المراقبون على أن هذا الحدث سيكون واحدا من أهم الأحداث السياسية والقضائية في تاريخ روسيا بعد انهيار النظام الشيوعي وأنه سيحدد نمط التحول الرأسمالي في روسيا وأنه سيؤثر على علاقات روسيا الدولية. ماذا عن العرب؟
هذه المحاكمة هي جزء لا يتجزأ من استراتيجية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لاستعادة قوة وحيوية الدولة الروسية بعد أن انهارت كلية تقريبا في ظل رئاسة بوريس يلتسين. وما يثير الاهتمام في التجربة الروسية في ظل بوتين هو أنها حققت – حتى الآن- نجاحا كبيرا ومشهودا من حيث استعادة الحيوية الاقتصادية لروسيا وإن على حساب تكميش التعددية الفعلية ومستوى الأداء الديمقراطي بما في ذلك الاستقلال الفعلي للقضاء كما يشير كثير من المراقبين الغربيين. وكأن بوتين يحاول الاقتراب من النموذج الصيني في التحول الى الرأسمالية دون أن يتبنى تماما نموذجها الواحدي الصارم فى المجال السياسي أو ينقلب تماما على الديمقراطية والتعددية.

هل تحمل لنا هذه التجربة مغزى مؤكدا؟

ليس من الحكمة أو من تقاليد المعرفة العلمية أن نتسرع في استنباط نتائج مؤكدة من نموذج واحد بكامله. فالنتائج الظاهرة من تجارب التحول الى الرأسمالية في أوروبا الشرقية وفي العالم ككل خلال العقد الماضي ليست متجانسة. فلدينا تجارب ناجحة مثل بولندا وتشيكيا والمجر. ولدنيا تجارب فاشلة مثل رومانيا ويوغسلافيا وبلغاريا. ومن المبكر الحكم على التجربة الروسية في ظل بوتين. فالنموذج الذي يرتبط به طبق في حالة رومانيا بدون نجاح يذكر.

وليس من الضروري أن تكون لتجربة بوتين انعكاسات مباشرة أو مهمة بالنسبة للتجارب العربية. فقد بدأت مصر تجربة التحول الى الرأسمالية في ظل الرئيس السادات الذي يشبه يلتسين في نواح كثيرة. وخلال الولاية الأولى للرئيس مبارك حاول أن يطبق ما يسعى بوتين لتطبيقه منذ توليه السلطة. فقد تخلص الرئيس مبارك من عدد لا بأس به من رموز الفساد التي انتعشت في ظل الرئيس السادات. غير أن هذه العملية لم تكتسب قوة دفع كبيرة مع الوقت. بل حدث العكس تماما. فرغم استمرار التصدي لحالات فردية كثيرة عدديا وخاصة في ولاية مبارك الرابعة فإن الفساد وصل الى مستويات من العمق والاتساع لم يبلغها أبدا في تاريخ مصر الحديث.

وبتعبير آخر قد لا يزيد مغزى محاكمة خودوركوفسكي في روسيا في اللحظة الراهنة عن محاكمة عصمت السادات في مصر خلال بداية الثمانينيات. فالمحاكمة الأولى قد تكون حالة من بين حالات معزولة ينتشر الفساد في ظلها ويتعمق مع الوقت بالارتباط بتعزيز التحول الرأسمالي وقيام علاقات وثيقة بين رجال الأعمال الكبار الذين يتمتعون بمكانة احتكارية وجهاز الدولة ورجالاتها. ولأن مصر سبقت روسيا بأكثر من عقدين في الانتقال الى الرأسمالية قد يكون بوسعنا أن نطبق دروس تجربة مصر على روسيا بأكثر مما نستطيع تطبيق دروس تجربة روسيا على مصر. ويصدق ذلك بالنسبة لعدد من الدول العربية التي بدأت نفس عملية الانتقال بعد مصر بقليل مثل الجزائر والمغرب والسودان وبدرجة أقل العراق وسوريا.

ثمة سمات مشتركة كثيرة في تجربة روسيا في ظل بوتين ومصر في ظل الرئيس مبارك. ففي الحالتين تمت تجربة الانتقال في غياب الأطر التشريعية والخبرات العملية التي تضمن "ضبط" عملية الانتقال. فليست هناك تشريعات لمناهضة الاحتكار وحماية المستهلك والحقوق النقابية. وفي الحالتين تقوم الدولة بالإشراف شبه المباشر على نمو وتطور الطبقة الرأسمالية الجديدة. كما توجد سياسات تضمن "الانعاش" الاصطناعي لأفراد يتم اختيارهم من رجال الأعمال أو المرشحين للانتماء لهذه الطبقة. وبينما لعبت خصخصة القطاع الصناعي وقطاع الموارد هذا الدور في روسيا لعبت سياسة تمليك الأراضي وسياسات سعر الصرف ونمط ادارة البورصة هذا الدور في مصر. وللأمانة فقد تمت عمليات الخصخصة في مصر بقدر أكبر من الانضباط والاحتراف بالمقارنة بما حدث في روسيا في ظل يلتسين.

ولكن هناك سمات مختلفة تمام الاختلاف. فالرأسمالية لم يكن قد تم القضاء عليها في مصر على النحو الذي حدث في التجربة السوفييتية. ولم يقع انهيار الدولة المصرية كما حدث للدولة السوفييتية. وتوفرت لمصر ميكانيزمات كثيرة لتخفيف أثر صدمة الانتقال مثل فرص الهجرة الجماهيرية للدول العربية النفطية وللعالم الخارجي عموما. وبوجه عام كانت عملية الانتقال أقل قسوة بما لا يقاس في مصر عنها في روسيا بالنسبة للطبقات الفقيرة وللطبقات الوسطى.

ولذلك فان أي دروس لا تستند على تشريح عملية الانتقال في عدد كبير من التجارب قد لا يكون لها مغزى عام. وقد لا يمكن استمداد أي دلالات عامة من مجمل التجارب العالمية إلا من منظور محدد أو للاجابة على سؤال بعينه.

إن السؤال الذي يتمتع بأكبر قدر من الأهمية في السياق العربي المحاط بتهديدات خارجية وداخلية كبيرة هو، الى أي مدى يمكن استعادة قوة الدولة مع ضمان أكبر فرصة ممكنة لنجاح التحول الرأسمالي. فبغض النظر عن موقفنا الفكري والعقيدي من هذا التحول يبدو من شبه المؤكد أنه سوف يستمر لفترة طويلة مقبلة وأن مستقبل الاقتصاد والمجتمع في العالم العربي وعلاقات العرب الدولية تتوقف بدرجة أكبر كثيرا مما نتصور على نجاح عملية الانتقال هذه. لدينا بعض الدروس ذات المغزى العام في جميع التجارب المماثلة.

أولا: إن التحول الرأسمالي لا يعني بالضرورة إضعاف الدولة. ففي جميع الحالات تقريبا تمت هذه العملية تحت إشراف الدولة أو رجالاتها الكبار بارادتهم وليس نتيجة لضغوط لا تقاوم من جانب رجال الأعمال. وبدأت تلك العملية بسبب الفشل في إدارة الاقتصاد بالأوامر وعبر التجاهل التام لقوانين السوق في المستويين المحلي والخارجي. ولدينا نماذج للقوة المطلقة ونماذج أخرى للضعف المفرط للدولة. ولكن أغلب الحالات تشتمل على جوانب قوة وجوانب ضعف. وفي الحالات العربية نلحظ أن الدولة قوية بمعنى أنها باطشة وضعيفة بمعنى أن قدرتها على ضبط المجتمع بنظامه الكلي ونظمه الفرعية وفقا لقانون واضح ونزيه بالغة الوهن. كما أنها تزداد ضعفا كمجال مؤسسي بينما يزداد رجالها- كأشخاص-قوة من حيث التعسف في إدارة المجتمع.

وعندما نتحدث عن "استعادة قوة الدولة" كقيمة ايجابية نقصد العكس تماما: أي نتساءل عن كيفية تقوية قدرة الدولة كمجال مؤسسي على "ضبط" وتنمية المجتمع مع تخفيف طابعها الباطش وضمان احترامها للحريات والحقوق الأساسية للمواطنين. وهذا الأمر لا يمكن أن يتم إلا إذا اجبرت الدولة رجالها على احترام القانون وحاسبتهم على التعسف والفساد. ويدرك المصريون والجزائريون والسوريون هذه الحقيقة أكثر من غيرهم. ولذلك يسألون رؤساءهم بيأس أن يتصدوا لنهب الثروة من جانب الرجال الأقوياء في جهاز الدولة ذاتها.

ثانيا: تضعف الدولة عندما تضطر للتعايش مع الفساد على كل المستويات بما في ذلك مستوى النخبة السياسية والوظيفية. وبينما ينتشر الفساد وتتم عولمته في جميع التجارب والنظم الاقتصادية والاجتماعية بل وفي جميع النظم السياسية الديمقراطية وغير الديمقراطية كما تشير لذلك دراسة البنك الدولي الشهيرة بعنوان "الفساد والاقتصاد العالمي" فإن الفساد يتحول في بعض النظم والحالات – ومن بينها الحالات العربية- الى قانون أساسي يظلل المجتمع كله، أي يصبح ترتيبا اجتماعيا جوهريا أو القانون الأساسي لتوزيع السلطة والثروة. وهو بهذا المعنى لا يتشكل كممارسات بعينها مثل الرشوة والاقتصاد الأسود وإنما يمكن تعريفه كحالة تفكك أو تحلل اجتماعي شامل. وهذا هو ما يتسق مع المعنى الفعلي للفساد في الطبيعة حيث تفسد الأشياء عندما تبلى وتتحلل وتتفكك ولا يصبح لها ضابط من قانون وجودها الكلي.

ثالثا: إن استعادة قوة الدولة العربية لن تكون ممكنة بمجرد عقد محاكمات لأي عدد من الفاسدين وإنما عندما تعاد صياغة الدولة عبر عقد اجتماعي جديد يعيد لها القدرة على "ضبط وتنمية" المجتمع على ضوء قانون عام نزيه وعادل يضمن استقلال الدولة وتعاليها عن التوظيف التعسفي للقانون أو الثروة للحصول على الشرعية أو القوة. وهذا هو ما نعنيه بالحرب على الفساد
.

المصدر وجهات
  #123  
قديم 28/06/2004, 07:16 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up

الخطوط الإعلامية الحمر
2004/06/28

يحيي اليحياوي


-1-
لا يتم الحديث عن الخطوط الإعلامية الحمر أو اللجوء إليها إلا حينما يمس هذا المنبر أو ذاك أعراض الناس وذممهم أوعندما يعرض بالفضاء العام لخصوصياتهم وحميمياتهم أو لما يعمد إلي استصدار أحكام بشأنهم قبلما يبث في ذلك القضاء أو يتسني لهم بالتالي المرافعة دفاعا عما قد يعتبرونه شتما أو قذفا أو تشهيرا أو ما سوي ذلك.
والواقع أن ذات الخطوط (في الدول الديمقراطية علي الأقل) لا تثار فقط عندما يتعرض علياء القوم إلي القذف أو التشــــهير أو التجريح، بل أيضا وبالقدر ذاته عندما يتعلق الأمر ببسطاء الناس ومتوسطيهم في حال تمت الإشارة إليهم بالأصبع أو وردت أسماؤهم وسيرهم في سياق عام يتراءي لهم أنه لا يعنيهم.
هي خطوط في تجاوزها يسقط المرء حتما وتلقائيا في المحذور سواء تعلق الأمر في ذلك بالتجريح المباشر أم بالتلميح البائن أم بلي عنق الكلمة والصورة لتفيد الأمر نفسه أو تفيد بدلالته.
وهي حدود تعارفت الجماعة (بالعرف الضمني أو بالنص الصريح) علي عدم الاقتراب منها ضمنا وعلانية ضمانا للعيش المشترك ودرءا لسبل الفتنة ودفعا للاحتراب الذي من شأنه إيذاء الجماعة كما الفرد سواء بسواء.
ولما كان الأمر كذلك، فلأنه بداية وبالمحصلة إفراز (وتراكم أيضا) لقيم تستند إلي الدين أو التقليد أو الرمز أو الأخلاق أو إليها مجتمعة لا يجرأ علي ***** إلا جاهل بذلك أو غير معترف به أو له في تجاهلها مصلحة من المصالح.
من غير الوارد تعليق ذات الخطوط إن تعلق الأمر (بمجتمعاتنا) برأس الدولة أو بمحيطه أو بالدائرين في فلكه، فهي تستحضر لدرجة الاستنفار في هذه الحالات، فيوضع صاحب المنبر جراء ذلك خلف القضبان لربما قبل أن يبلغ الخبر عامة الناس، لكنها غالبا ما تضيع في تأويلات ردهات المحاكم في حال البسطاء من بيننا حيث تنعدم الحماية والجاه والسلطة.
بالتالي، فالقاعدة العامة السائدة بالدول الديمقراطية هي ببلداننا أبعد من أن تكون كذلك: هي أقرب ما تكون الاستثناء (بل قل هي الاستثناء ذاته) الذي لا يجوز البناء عليه أو التطلع إلي التأسيس له حالا أو حتي في الأمد المنظور.
لا يروم القصد هنا حالات صحافيين وإعلاميين اقتيدوا من الاستوديوهات أو تم إفتاء المحاكم بسجنهم احتكاما إلي رمزية حجر، بل إلي حالات أفراد وجماعات وآراء جر أمر مساندتهم لهذا الفكر أو ذاك أو التعاطف معه الويلات علي هذا المنبر كما علي غيره بالتأويل الممطط في الغالب الأعم.
وعلي هذا الأساس، فإذا كان من المنطقي الادعاء بأن القانون يسري علي الأفراد والجماعات في تمثلهم له كما في حال جهلهم بمواده ونصوصه، فإنه من المنطقي أيضا إعمال ذات المواد والنصوص علي الحاكم كما علي المحكوم إن اعتبر أحدهما أنه عرضة تجريح أو تشهير أو مساس بالذمة والعرض.
بالمقابل، فليس من المفروض في المنبر الإعلامي أن يقيم ذات التمييز بين الحاكم والمحكوم ماداما في سلوكهما كما في ذواتهما خاضعين لمنطوق القانون وروحه.
والسر في ذلك لا يكمن، فيما نزعم، في تجاهل من لدن المنبر إياه لسمو مقام الحاكم قياسا إلي مقام المحكوم، ولكن أيضا لأنه (المنبر الإعلامي أعني) كرس نفسه لأن يكون *** حراسة للديمقراطية لا يتسامح في ذلك مع المحكوم فما أدراك إن تطاول علي هذه الأخيرة الحاكم
.
-2-
لا يمكن أن ينتابنا أدني شك، بناء علي ما سبق من حديث، بأن الذي هو موضع المحك بمجتمعاتنا بداية هذا القرن إنما يكمن في معادلة الصحافة والقضاء في سمو مقامهما كما في أدني صور ممانعتهما والتحامل الخطير علي سلوكيات بعضهما البعض.
ومكمن الممانعة الملمح إليه في هذا الباب لا يقتصر فقط علي مستوي الاحتكاك القائم بينهما علي خلفية من تحيز القضاء ونسبية الاستقلالية من بين ظهرانيه، بل وأيضا علي خلفية ثلاث قضايا كبري لطالما وضعتهما وجها لوجه دونما كبير اعتبار للتراتبية الوضعية السائدة:
ـ الأول لأن فضاءي القضاء والإعلام يتغيآن إنصاف الحاكم كما المحكوم بالكلمة والصورة للثاني، بقوة القانون الصريح أو المؤول بالنسبة للثاني.
قد لا يزايد الإعلام علي القضاء قراراته إن بني لها هذا الأخير بنص صريح لا مجال بشأنه (في ثبوت التهمة أو الجرم) للاجتهاد كبير، لكنه يكون مجال ذلك وأكثر عندما يجتهد القضاء فيعمد (تحت هذا الظرف أو ذاك، تحت هذا الضغط أو ذاك) فيصدر أحكاما جائرة يتسابق إلي التشكيك في نزاهتها وخلفيتها المتتبع العادي قبل المنبر موضوع ذات التأويل.
إذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف التسليم بنزاهة واستقلالية قضاء يشهر بوجه صحافي حجرا جامدا أضفيت عليه صفة القداسة ولكأننا بإزاء بلد لم يعرف نبيا أوحي إليه بالرسالة في زمن كان البشر يقدسون الحجر والنار ويعبدونهما؟
هذا محك حقيقي بين الإعلام والقضاء لا استقلال لهما أو تجاورا لفضائهما طالما ظل التأويل طاغيا من لدن قضاة يوحي إليهم بالحكم دونما قدرة من لدنهم علي استهجان ذات السلوك أو رفضه بالجملة والتفصيل.
ـ أما الثاني فموضعه إشكال الحرية التي للإعلام بإزائها رأي وللقضاء بشأنها رأي مخالف لدرجة التناقض في بعض الأحيان.
فالحرية التي يدفع بها الإعلام تتغيأ الشفافية وحرية البلوغ للخبر وحق المتلقين في المعرفة و الحصول علي ذات الخبر، في حين أن الحرية التي يتغيأها القضاء هي الحرية التي لا تطاول موازين القوي السائدة أو المستويات القائمة عليها بما فيها المؤسسة القائمة علي التشريع أفرادا وأحزابا ومؤسسات وما سواها.
لن يكون بمستطاع المرء تجاوز مبدأ وضرورة حرية الإعلام بداية هذا القرن (بالدول الديمقراطية كما ببلداننا)، لكنه لن يستطيع بالمقابل مجاراة ذات الحرية (أو بعض من المتعصبين لها) لدرجة استهداف حياة الأفراد والجماعات وحميميتهم وطقوسهم في العيش.
وبقدر ما لا يستطيع المرء ذلك بين جماعته وضمن مجتمعه، فإنه لن يوافق إطلاقا علي أن تتحول ذات الحرية إلي سيف يقطع أعناق المؤمنين بها كما الذين يضعون لها المتاريس.
قد لا يكون كل هذا مثار اختلاف كبير، لكن الاختلاف إنما يتأتي عندما يدفع منبر إعلامي بالحرية، وفي صلبها الشفافية في نشر الخبر والتعليق عليه، ويتحفظ القضاء (النيابة العامة) علي ذلك جملة وتفصيلا علي خلفية من سرية التحقيق وعدم السماح بتداول أخبار ومعطيات لم يتسن لهذا الأخير تبيان درجة صحتها من الخطأ الممكن وروده بها.
ليس الملمح إليه هنا فقط تخوف الدفاع من دنو مكانته أمام الاتهام، بل وأيضا ذوبان قدسية الحرية الإعلامية (وفي صلبها شفافية الخبر وحرية سريانه) أمام دهاليز التحقيقات التي قد تبدأ ولا يدري الصحافي متي ستنتهي سواء تعلق الأمر به مباشرة أم تعلق بقضية قد ينتظر عامة الناس مصيرها ومصير المدانين في جريرتها.
وليس الملمح إليه أيضا حرية الصحافة أمام الدفع بطرح سرية التحقيق، ولكن أيضا إلي طبيعة اللاتوازن التي تجعل وجها لوجه مؤسسة قائمة كمؤسسة القضاء والقانون مقابل مؤسسة لم يتسن لها بعد المأسسة لفضائها (قياسا إلي الفضاءات التقليدية الأخري) لدرجة التشرعن.
ـ الأمر الثالث ويتعلق بمسألة التراتبية الوظيفية التي تجعل حرية الإعلام رهينة للتأويل من لدن قضاء قد لا يضبط جيدا حركية مفهوم الحرية وسرعة وتيرة تطورها في الزمن والمكان.
فبقدر عصي الترسانة القانونية علي التحول السريع لضبط تحولات الفرد والجماعة، بقدر اتساع رقعة ومدي الحرية التي قد لا يستطيع القانون ملامستها وتأطيرها بالسرعة المطلوبة، فتطبق بالتالي نصوصا قارة علي فضاء متحرك.

-3-
يبدو إذن أن الخطوط الإعلامية الحمر لا تفترضها فقط معايير الأخلاق والتقاليد أو مبادئ الدين والرمز وما سواها، بقدر ما تقوم علي وضعها أيضا اجتهادات وتأويلات غالبا ما تحكمها موازين قوي قائمة أو تشترطها توافقات ضمنية أو تدفع بجهتها مصالح ولوبيات يكون جهاز القضاء بشأنها المنفذ لا الآمر، الخاضع لا الفارض لقراراته.
لا يقتصر الأمر عند حد ممانعة فضاء القضاء بفضاء الإعلام، بل يتعدي الأمر ذلك إلي درجة المجابهة المباشرة ينتصر فيها سلطان القوة وعنفها علي سلطة الكلمة وعنفوانها:
ـ فمهمة المنبر الإعلامي تقرير الحقيقة في الوقت الذي يستشعر أن الآخرين يعمدون إلي إخفائها أو التستر عليها أو التواطؤ في التنديد بمقرريها لحسابات قد لا تكون بريئة أو خلفها مصالح أو تدفع بها لوبيات.
وعلي هذا الأساس، فإذا كان المطلب المشروع هو معرفة مشاريع القائمين من بيننا علي قضايا الشأن العام، فإن التأكد من نظافتهم وصدقيتهم وانتفاء الشذوذ من سلوكهم هو مطلب أكثر مشروعية وشرعية...إذ لا قياس علي الشاذ كما يقال.
ـ ومهمة المنبر الإعلامي لا تقتصر علي السبق الذي قد يتسني له تحقيقه في الحصول علي الخبر (من هذه الجهة أو تلك) ولا في التأكد من مصدره وبراءة ذات المصدر وخلو سوء النية من بين ظهرانيه، بل وأيضا من قدرته علي التصرف في ذات الخبر والعمل علي تصريفه في إطار يخدم المصلحة العامة القائمة أو الواردة دونما مزايدة علي هذه الجهة أو تلك أو ابتزاز أو استفزاز.
وعلي هذا الأساس، فالقاعدة السائدة في حالة ما ثبت للصحافة هذا السلوك أو ذاك وأضحي ظاهرة قائمة إنما تنازل الملمح إليه عن صلاحياته ووضع نفسه رهن التحقيق والمساءلة حتي يتبرأ مما نسب إليه أو يقصي عن تسيير الشأن العام في حالة التثبت من خروجه عن القاعدة المتعارف عليها.
ـ ومهمة الصحافي (بل وحقه أيضا) ألا يصرح بمصادره لهذه الجهة أو تلك حتي وإن كان المستوي القضائي ذاته وإلا لتحول الصحافي إلي مخبر ومتواطئ يتجسس علي الناس ويسهم في إدانتهم بالحجة والدليل.
هي إذن وبالمحصلة كلها خطوط إعلامية (وقضائية) حمر لا يمكن للمرء أن يتجاوزها أو يتغافلها تحت مسوغ هذه الحصانة أو تلك، تحت أولوية هذه الحماية أو تلك.
إن المطلوب اليوم (المطالب به أعني) ببلداننا لا يتمثل في إلغاء الخطوط الحمر أمام الممارسة الإعلامية كما يتراءي الأمر لبعض من غلاة الحرية، ولكن في العمل علي إعادة صياغتها من لدن الصادقين من رجال الإعلام ورجال القضاء يكون الرابح بمحصلة ذلك حقيقة الخبر ومصداقية الطريقة في صياغته وتقديمه للناس.
لن يترتب عن هذا المطلب وضع الحد الفاصل بين المنابر الجادة ومنابر الرصيف، بين الصحافي المسؤول والصحافي المتربص بأعراض الناس، بل وأيضا بين القضاء المستقل و القضاء المنتظر للتعليمات.


كاتب من المغرب


القدس العربى
  #124  
قديم 29/06/2004, 08:16 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

إيجابيات وسلبيات قطاع السياحة اليوم

د. محمد إبراهيم الرميثي
لا شك أن مفهوم السياحة، شأنه شأن باقي المفاهيم، يتغير بتغير الزمان والمكان وتغير الإنسان ذاته. فبالأمس القريب، وقبل زمن لا يتجاوز العقدين، كان السياح من مختلف بقاع الأرض يركزون على الاستمتاع بما أبدعته عقول البشرية من فن وتراث وعمران وحضارات خلدها تاريخ الأمم والشعوب مثل التراث الفرعوني، والتراث الإيطالي، والتراث الصيني، والتراث الهندي، والتراث الفرنساوي، والتراث الإسلامي المنتشر في مختلف بقاع الأرض مثل تركيا وسوريا والعراق وأسبانيا، وغيرها من أنواع التراث والحضارات القديمة. فكان السائح بالفعل يجد متعةً في النظر إلى تلك الحضارات والتفكر والتأمل والتدبر في ذلك التراث، والذي يعكس، بلا شك، عظمة تلك الأمم والشعوب. وبناءً عليه فالسائح يشبع حاجةً اقتصاديةً معنويةً في ذاته ويحقق هدفه الذي يسعى إليه. إضافةً إلى ذلك فقد كانت المناظر الطبيعية الخلابة مثل السهول والبراري الخضراء، والأنهار، والينابيع، والشلالات، والجبال، والبحار، والطقس اللطيف من الأهداف والمقاصد التي يقصدها السائحون، حيث يجدون فيها إشباعا حقيقياً لحاجاتهم المعنوية. أي أنهم يجدون فيها سلوتهم وترويحهم وبعدهم عن هموم الحياة الروتينية المملة. فكان للسياحة مفهوم خاص ينبع من حاجة السائح وأهدافه وطلبه. وبناءً عليه صنفت دول العالم إلى دول سياحية وأخرى غير سياحية، ولا مجال للمنافسة بينهما. وكان تأثير قطاع السياحة في القطاعات الاقتصادية الأخرى محدوداً للغاية.

أما اليوم ومع التطور التكنولوجي والانفتاح الذي يشهده العالم، فقد تغير مفهوم السياحة تغيراً كبيراً. حيث احتل التراث القديم والمتاحف أهمية ثانوية في نظر أغلبية الأجيال الجديدة. فلم يعد التراث والتاريخ القديم والمتاحف والحضارات، رغم ارتباط أغلبيتها بالأديان، تشكل أولوية بالنسبة لهذه الأجيال الجديدة. ولقد تم بالفعل إعطاء الأولويات لأهداف ومقاصد أخرى. ومن أهم تلك الأهداف والمقاصد التكنولوجيا المعاصرة والإبداع الصناعي، ومن أهمها وسائل الاتصالات والمواصلات والفضاء الخارجي، وقطاع الرياضة بمختلف فنونه وفروعه، والتسوق، والألعاب والمرح الذي يناسب كل الأعمار وكل الميزانيات الأسرية، فضلاً عن حرص السائحين على الخدمات الفندقية الممتازة. فأصبح الجيل الجديد يشبع حاجاته الاقتصادية السياحية بأنماط مختلفة. لا شك أن ذلك لا يعني زوال اهتمام الأجيال الجديدة بالتراث والحضارات القديمة، والمناظر الخلابة، وإنما يعني اختلاف وتباين ترتيب الأولويات والأهداف والمقاصد السياحية من جيل إلى جيل على المستوى العالمي. بيد أن ترتيب الأولويات والأهداف قد يتباين ويختلف اختلافاً طفيفاً أيضاً من دولة إلى أخرى. ولا شك أن لتغير كافة أنماط الاستهلاك لدى الأجيال الجديدة تأثيره البالغ على الأولويات التي يعطيها هذا الجيل لأهدافه وحاجاته السياحية أيضاً.

ومن هذا المنطلق لجأت الدول إلى إعادة دراسة قطاع السياحة من فترة إلى أخرى وتقويمه والوقوف على ما يطرأ على حاجات السائحين من مستجدات ومتغيرات، وما يطرأ على أنماط تلك الحاجات وأولويات ترتيبها، وإعادة ترتيبها من مستجدات أيضاً. وبما أن حاجات الإنسان متنامية ومتجددة وغير محدودة، وأن أنماط استهلاكه متغيرة بسرعة كبيرة، وأن ترتيب أولويات أهدافه ومقاصده أصبحت متغيرة بسرعة عاليةٍ هي الأخرى، فإن قطاع السياحة يصبح من القطاعات التي هي بحاجة ماسة إلى مرونة عالية في الإنتاج، وجودة عالية في الأداء. فلم يعد في عالم اليوم ينفع تصنيف الدول تصنيفاً تقليدياً إلى دول سياحية وأخرى ليست سياحية. بل إن هناك دولاً لم تكن، قبل عشر سنوات، تصنف كدول سياحية أصبحت اليوم تصنف كدول سياحية. فإذا ما وصلت نسبة مساهمة قطاع السياحة في الناتج المحلي الإجمالي لدولة ما إلى 5% فأكثر، فإن ذلك البلد بلا شك يصبح بلداً سياحياً.

والحقيقة أن قطاع السياحة يمتاز بعدة سمات إيجابية تميزه عن غيره من القطاعات الاقتصادية وتمنحه أهمية بالغة، ومن أهم تلك السمات الآتي:

1- يعتبر قطاع السياحة من القطاعات الجالبة للعملة الصعبة بصورة مميزة. فهو يعتبر مصدراً مهماً من مصادر جلب العملة الصعبة للبلد المضيف للسائحين، حيث إن الأموال التي يجلبها السائحون معهم وينفقونها هي مصدر مهم من مصادر الدخل القومي الذي لم يتم إنتاجه نتيجة للدوران المحلي لرأس المال، وإنما أتى إلى الدولة نظير سلع وخدمات أنتجتها الدولة المضيفة للسائحين وسوقتها لهم. فهي تشبه إلى حدٍ كبير السلع والخدمات المصدرة إلى العالم الخارجي.
2- يعتبر قطاع السياحة من القطاعات (ذات الدفع الأمامي) و(ذات الدفع الخلفي). فهو يرتبط بكافة القطاعات الاقتصادية ويساعد على نموها وتطورها جميعاً دون استثناء. فمن حيث كونه قطاعاً ذا دفع أمامي، يقصد به أنه قطاع يدفع كافة القطاعات الاقتصادية التي تلبي حاجات السائحين ورغباتهم وطلباتهم أثناء وبعد مجيئهم إلى الدولة المضيفة بشكل مباشر، مثل شركات السفر والسياحة وشركات الطيران والشحن والنقل والاتصالات والمواصلات والصناعة بشكل عام، وقطاع الفندقة والمطاعم والمخابز وما يرتبط بها من إنتاج زراعي وحيواني وسمكي وصناعي، وكذلك القطاع العقاري، والقطاع المصرفي، وقطاع التأمين، وكافة القطاعات الاقتصادية التي ترتبط مباشرةَ بخدمة السائحين بدون استثناء. كما أنه يدعم ويشجع على بناء البنية الأساسية التحتية للدولة ومرافقها العامة وخدماتها المرتبطة بالسياحة بشكل مباشر والاهتمام بتطويرها. أما من حيث كون قطاع السياحة ذا دفع إلى الخلف أيضاً فإن ذلك من الممكن النظر إليه من زاويتين. ترتبط الأولى بالتغذية العكسية التي نحصل عليها من استطلاع آراء السائحين ومعرفة مدى رضاهم عن مستوى الخدمات السياحية التي تقدمها الدولة بقطاعيها العام والخاص، ومعرفة آرائهم في جودة المنتجات السياحية، ومن ثم العمل على تطوير وتنمية القطاع مستفيدين من تلك الآراء والتغذية العكسية. حيث إن ذلك، بلا شك، سوف يدفع الدولة إلى تطوير وتنمية قطاع السياحة إذا ما رغبت في الحفاظ على مكانتها التنافسية في الأسواق العالمية. أما الزاوية الثانية التي من الممكن النظر من خلالها إلى الدفع إلى الخلف بالنسبة لقطاع السياحة فلننظر إلى ما يحدثه قطاع السياحة على القطاعات الأخرى المرتبطة به بشكل غير مباشر. ومن الأمثلة على ذلك تشغيل الأيدي العاملة، تشجيع قطاع التجارة والتصدير والاستيراد وإقامة المراكز التجارية وتطويرها، وتشجيع صناعة الفلكلور والخزف والفن والرسم والصناعات الحرفية والتراثية بشكل عام، وتشجيع بناء المتنزهات ومحلات الألعاب والترفيه، والحدائق وغيرها، وما تجره هذه من تشجيع لقطاع الإنشاءات والبناء، ومشاتل الزهور والورود وأشجار الزينة. إنها، بلا شك، سلسلة لا متناهية من التشابكات القطاعية التنموية المعقدة، التي قد يصعب على المرء التمييز من خلالها أيها يدعمه قطاع السياحة دعماً أمامياً مباشراً، وأيها يدعمه دعماً خلفياً غير مباشر. بيد أنه في النهاية يجب الاعتراف بدور قطاع السياحة في تدعيم كافة القطاعات الاقتصادية.

3- يساعد قطاع السياحة ويشجع على انفتاح المجتمعات وتبادل الحضارات ما بين شعوب العالم. فهو بذلك يعمل على التقريب ما بين حضارات الأمم والشعوب ويسهل عملية انتقال الأيدي العاملة والسلع والخدمات والخبرات والتكنولوجيا ما بين شعوب العالم. ويجعل الدول الغنية تشعر بالدول الفقيرة من على قرب.

أما إذا نظرنا إلى سلبيات قطاع السياحة فسوف نجدها أيضاً كثيرة وقد يصعب حصرها في عجالة كهذه، وأهمها الآتي: 1-

إن من أهم سلبيات قطاع السياحة هي الآثار السلبية التي تطرأ على القيم الاجتماعية والمبادئ والأخلاق والموروثات، وخاصةً بالنسبة للمجتمعات الإسلامية المحافظة، فتخرجها من النمط المحافظ إلى النمط المتحرر، والذي قد تسود فيه الإباحية بمختلف صورها. حيث إن القيم والمبادئ تذوب بالتدريج ولا يشعر بها المرء إلا بعد فقدانها تماما. ويشبه العلماء ذلك بطريقة تناول الدواء، حيث إن علبة الدواء يستحيل تناولها مرةً واحدةً، ولكن إذا تناولها المريض بالتدريج فإنها بلا شك سوف تحقق أهدافها. وبناءً عليه فإن المجتمع قد يفقد هويته تماماً بسبب سياسة الانفتاح التي يغذيها بلا شك قطاع السياحة. ولابد من الإشارة هنا إلى أن من الأمثلة الواقعية في مجتمعنا اليوم محلات التدليك (أي المساج)، وهي منتشرة في مختلف مدن الدولة ومرخصة من الجهات الحكومية الرسمية على أنها محلات للتدليك وتمارس أعمالاً مشروعة (شرعاً وقانوناً). بيد أننا لو نظرنا في حقيقة عمل هذه المحلات لوجدنا أن الكثير منها محلات تمارس أعمالاً تتنافى مع تعاليم ديننا الحنيف. فكيف بفتيات إناث يدلكن فتياناً ذكوراً، وما أدراك ما قد يجره ذلك التدليك. فلو سألنا أنفسنا سؤالاً: ما هي الدوافع التي تدفعنا إلى مثل هذه الأعمال؟ أليس حرياً بنا أن نعود إلى كتاب الله وشريعته، ونأخذ بمبدأ (درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة)؟. ألم يقل الحق سبحانه وتعالى في تحريم الخمر والميسر "فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما". والحقيقة أن كافة الأعمال والأنشطة الاقتصادية بها منافع، ولكن قيمنا يجب أن تكون أسمى وأجل من تلك المنافع الدنيوية. والحقيقة أن الأمثلة على العادات السيئة وانحراف الأخلاق وذوبان القيم لا يمكن حصرها في هذه العجالة، بيد أن المقصود هو المبدأ ذاته. فيجب ألا تعمينا المنافع والأرباح الاقتصادية وتجعلنا نبيع ديننا بدنيانا. فلابد لنا من وقفة محاسبة مع النفس. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم".

3- إن قطاع السياحة قد يدخل إلينا من خلاله المستثمرون المضاربون بالعملات وبالأسهم وبالعقارات وحتى بالسلع وغيرها بهدف الربح السريع، والذين لا يضيفون، في الحقيقة، إلى الاقتصاد قيمةً مضافةً حقيقيةً ولا ناتج فعلياً، فيجب أن نحترس منهم ونتعامل معهم بتحفظ، ونقنن ونؤطر المجالات الاستثمارية المسموح لهم بالدخول فيها.

المصدر وجهات

آخر تحرير بواسطة صقر الخالدية : 29/06/2004 الساعة 08:20 PM
  #125  
قديم 04/07/2004, 12:27 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

سؤال الضريبة في الإمارات*


بقلم: د.عبدالخالق عبدالله




























































أصبحت الضريبة في الإمارات ضرورية وملحة ومفيدة. وهناك عشرات من الأسباب المقنعة والتي تؤكد أنه لم يعد من الممكن تأجيل تطبيق الضريبة عاجلاً بدلاً من آجلاً. إن الحكومة على حق في توجهها نحو إقرار ضريبة القيمة المضافة, ولا ينبغي لها أن تتراجع عن اتخاذ مثل هذا القرار المطلوب محلياً واتحادياً. كما كان المجلس الوطني شجاعاً كل الشجاعة حينما صوت الأعضاء بأغلبية كبيرة على توصية لتفعيل المادة 126 من الدستور, والتي تنص على "فرض ضرائب على البضائع والسلع والخدمات والأرباح يتم توريدها للدولة الاتحادية". والمجلس أيضاً محق في دعوة الحكومة لوضع خطة وطنية تشمل الضريبة المضافة على المبيعات لتنويع الموارد المالية للدولة, لتغطية نفقات الميزانية العامة, وسد العجز السنوي المزمن في الميزانية الاتحادية, التي أصبحت عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها في ظل النمو المطرد في الإنفاق العام.

رغم ذلك فإن الجدل الذي يدور حالياً حول الضريبة هو جدل صحي, والاختلاف حول إن كان الوقت قد حان لفرض الضرائب هو اختلاف متوقع، ومن المهم أن يستمر وتشارك فيه كافة الفعاليات المعنية بقضايا الوطن، خصوصاً بعد أن بلغت الإمارات طوراً من النضج الاقتصادي والسياسي يسمح بطرح القضايا المجتمعية بقدر أكبر من الشفافية والمكاشفة والحرية والصراحة وعلى المستويات القيادية والشعبية كافة.

إن قضية مجتمعية مثيرة وضخمة بضخامة تطبيق ضريبة المبيعات تحتمل أكثر من رأي, وباب الاجتهاد فيه واسع كل الاتساع بين المتحمس له كل الحماس والمؤيد له بحرارة, وبين المعارض له كل المعارضة شكلاً ومضموناً. لا بأس من الحوار وحتى الاختلاف، فقضية الضريبة بطبيعتها خلافية لكن الحكومة محقة في التفكير في تطبيق نظام ضريبي من نوع ما في الإمارات. هذا القرار حكيم ولا بد منه, وكل مبررات المعارضين والمتحفظين على وجاهتها غير مقنعة، ولا ينبغي لها أن تعطل اتخاذ مثل هذا القرار التصحيحي الذي طال انتظاره.

مهما كانت المواقف المؤيدة أو المعارضة أو المتحفظة, فإن الضريبة مفيدة, وهي ضرورة من ضرورات الحياة المعاصرة, وشر لا بد منه. لا أحد بكامل قواه العقلية ينادي بالضريبة إلا عندما تكون ملحة وضرورية ومفيدة. إن جميع الوقائع والمعطيات تشير إلى أن الضريبة قد أصبحت ضرورية بالنسبة لدولة الإمارات التي هي ثالث أكبر اقتصاد في المنطقة العربية، وبالنسبة للحكومة الاتحادية بشكل خاص والتي تعاني من عجز مزمن في الميزانية.

فتطبيق الضريبة سيؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الإمارات جادة في سعيها نحو فك الارتباط غير الصحي بالنفط, وبناء الاقتصاد المتنوع, وتحقيق هدف التمويل الذاتي والمستقل للحكومة الاتحادية بعيداً عن النفط وتقلبات أسعاره.

لا توجد وسيلة أخرى لتطوير الإيرادات الذاتية للحكومة الاتحادية. ولا يمكن للحكومات المحلية أن تتحرر من تقلبات أسعار النفط إلا من خلال تطبيق نظام ضريبي متكامل, بدءاً باليسير منه والمتمثل في ضريبة القيمة المضافة إلى ضريبة الملكية, ومن ثم ضريبة الدخل الذي هو العمود الفقري لأي نظام ضريبي حديث. قرار تطبيق الضريبة هو الولادة الثانية للدولة الاتحادية, وسيشكل نقلةً نوعيةً في السياسة الاقتصادية, وستحقق الإمارات المزيد من الاستقرار الاقتصادي الذي يشجع بدوره المزيد من الاستثمار الخارجي.

لذلك مهما كان شر الضريبة فإن خيرها أكثر. إن محاسن الضريبة أكثر من مساوئها, كما أن نفعها أكثر وضوحاً من ضررها، ومهما تعددت سلبياتها فإن إيجابياتها لا تحصى. دولة الإمارات لم تطبق الضريبة بعد، ولكن ضرورات الموازنة الاتحادية والنمو المطرد في الإنفاق العام والنضج السياسي والنمو الاقتصادي، كل ذلك يدفع دفعاً نحو تطبيق الضريبة التي إن لم تطبق اليوم فسوف تطبق غداً, وإن لم يؤخذ بها غداً فسوف يؤخذ بها بعد غد. فالضريبة حتمية وهي آتية لا ريب فيها.

لقد تأخر تطبيق الضريبة كثيراً, وربما ستؤجل سنة أخرى أو أكثر, لكن الكل يدرك أنه لا مفر من تطبيقها, وستفرض نفسها ليس من خلال الحديث والنقاش والحوار كما هو الحال الآن, وإنما كضرورة من ضرورات بناء الاقتصاد الحديث وقيام الدولة الاتحادية المستقلة بمواردها.

جميع الدول الصغيرة والكبيرة تطبق الضرائب ما عدا دول الخليج التي ما زالت تغرد خارج السرب العالمي في أمور كثيرة من بينها الضريبة. دول العالم الغنية والفقيرة تطبق مجموعة متكاملة من الضرائب في مقدمتها ضريبة الدخل. بل إن أغنى الدول هي أكثر الدول تطبيقاً للضرائب، فالدول الاسكندنافية الغنية كل الغنى تفرض أعلى معدل للضرائب في العالم والذي يصل إلى نحو 80% من دخل الفرد في السويد. لكن في مقابل هذه الضريبة العالية يحصل الفرد في الدول الاسكندنافية في مقابلها على أفضل نظام للرعاية والرفاهية الاجتماعية في العالم, والذي يشتمل على مجموعة الخدمات المتقدمة والمجانية, والتي تغطي كافة احتياجات الإنسان من المهد إلى اللحد. فالضريبة تعني خدمات حكومية أفضل وحياة أفضل للجميع.

القرار بفرض ضرائب هو بكل تأكيد قرار تاريخي وشجاع وصائب ويشكل قطيعة مهمة مع السياسة الاقتصادية الراهنة التي تعتمد كل الاعتماد على منطق أن الإمارات دولة غنية ونفطية ولا تحتاج لفرض الضرائب. لذلك كان الحديث عن الضريبة خافتاً بل ومحرماً. لكن المستجدات الحياتية طرحت موضوع الضريبة مجدداً وتم فتح باب النقاش فيه، بل أصبحت الحكومة الاتحادية من أكثر المتحمسين. أما المجلس الوطني فقد أشبعه نقاشاً في جلستين, حيث رفض فكرة الضريبة في جلسته الأولى, ثم عاد وأقرها بعد أن اكتشف أن الحكومة تساند مثل هذا القرار. هناك إجماع مجتمعي على أن الضريبة مفيدة ومهمة، لكن الاختلاف هو حول التوقيت من ناحية وضوابط الضريبة من ناحية أخرى والتخفيف من سلبياتها وخصوصاً بالنسبة للمواطن الذي يعاني أصلاً من غلاء المعيشة والسكن وتدني الرواتب.

مبررات كثيرة تساق لتأجل تطبيق الضريبة، وهي في مجملها مبررات منطقية ومعقولة وتحمل قدراً من الصحة, لكن ليس كل الصحة. فليس صحيحاً أنه في حالة تطبيق الضريبة ستصبح الإمارات بيئة طاردة للاستثمارات الأجنبية، هذا الخوف في غير محله، فالاستثمارات الأجنبية جاءت إلى الإمارات لتستفيد من استقرارها السياسي وانفتاحها الاجتماعي، وبنيتها التحتية التي هي الأفضل في المنطقة العربية، علاوة على أن الإمارات هي الدولة العربية الوحيدة التي أجادت فن الترويج والتسويق الذي أسهم في ترسيخ سمعة ومكانة الإمارات مركزاً مالياً وتجارياً وسياحياً جاذباً. تطبيق الضريبة لن يؤثر في كل ذلك, بل إنه سيخلق بيئة مستقرة على المدى البعيد للقطاع الخاص المحلي والعالمي. الإمارات جاذبة، والضريبة إن طبقت لن تجعلها أقل أو أكثر جاذبية.

كذلك فإن القول أن الضريبة سترهق كاهل المواطن المرهق أصلاً ليس صحيحاً في المطلق، فالحقيقة هي أن المواطن وخصوصاً المواطن المنهك هو أكثر من سيستفيد من الضريبة, وذلك في شكل تطوير الخدمات الحكومية الاجتماعية, وخصوصاً التعليم, والسكن, والصحة, وصيانة البنية التحتية, وإعادة توزيع الدخل بين الأفراد والمناطق في الدولة.

إن السبب الرئيسي لتطبيق أي نظام ضريبي هو تقديم خدمات حكومية أفضل. فالموارد المتحصلة من ضريبة القيمة المضافة ستتحول إلى خدمات تعود بالفائدة على المواطن وخصوصاً أصحاب الدخل المحدود في شكل تعليم أفضل, وخدمات طبية أفضل, ومسكن أفضل, وخدمات اتحادية أفضل, وراتب حكومي أفضل, ومواكب لغلاء المعيشة. إذا صرفت عائدات ضريبة القيمة المضافة في هذه المجالات فأهلاً بها. نعم وألف نعم للضريبة المضافة في الإمارات إذا ما كانت النتيجة حياة أفضل للمواطن.

لا ينبغي تأجيل تطبيق ضريبة القيمة المضافة أو إغلاق باب النقاش الذي من المهم أن يستمر ويسهم فيه الجميع من أجل الخروج بأكبر قدر من الإجماع الوطني على هذه القضية الخلافية، لكن الضرورية والمفيدة من أجل تصحيح مسار المالية العامة وتنويع الموارد الاتحادية، والتحرر من النفط، وبناء الاقتصاد الحديث، وضمان حياة أفضل للجيل المقبل، والسير بعد ذلك في اتجاه التحديث السياسي الذي طال انتظاره.

-----------

صحيفة الخليج الإماراتية*
  #126  
قديم 08/07/2004, 10:35 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool الأديب والسياسة في أزمنة القمع .......

الأديب والسياسة في أزمنة القمع
مسيرة وول سوينكا ......

جميل مطر


عاد من المنفى وبعد أيام من وصوله إلى لاجوس اشترك في مظاهرة احتجاجاً على الأوضاع المتدهورة في نيجيريا. أثارت عودته ثم اعتقاله لبعض الوقت في أحد أقسام شرطة لاجوس من جديد بين المثقفين الأفارقة عموماً والنيجيريين خاصة قضية علاقة الأديب بالسياسة. السياسة جعلت سوينكا أحد أبرز الأدلة الحية على تعقد العلاقة بين الأديب والسياسة. وأعتقد أن السياسة، هي التي حصلت لسوينكا على جائزة نوبل، وليس فقط وفرة وعظمة إنتاجه الأدبي. يعتقد سوينكا أنه في أجزاء كثيرة من العالم لا يختار المثقف أو الأديب بإرادته الحرة الكتابة في السياسة أو يسمح بأن تتسرب السياسة إلى ضميره ومنه إلى ما يكتبه. يقول إن الاختيار الحر هو خاصية من خصائص المثقفين المرفهين الذين يعيشون في مجتمعات مستقرة ومسالمة. أما الأدباء في هذا الجانب من العالم فالسياسة مفروضة عليهم فرضاً منذ اللحظة التي يقرر عندها الأديب التفكير في طباعة ما كتب ثم نشره.

أرى في سيرة سوينكا ومسرحياته ومقالاته ما يستحق منا التأمل. فكثير من أدبائنا العرب يتعاملون مع السياسة بشكل يوحي بأنهم يطلبون وظيفة في الحكومة ولا يوحي بأنهم يعملون للتغيير أو الإصلاح أو زرع أفكار مختلفة عن الأفكار السائدة في المجتمعات التي يعيشون فيها. كتب هنري لويس جيتس يصف سلوكيات المثقفين في دول كثيرة بأنها أشبه ما تكون بألعاب يؤديها فنانون على مسرح عرائس السياسة. في هذا المسرح يتحول الأديب إلى دمية تحركها وتتلاعب بها أياد لا تظهر للناس. يوجد بيننا من يردد أن الدولة استطاعت أن تؤمم كل شيء. بمعنى أن كل شيء في المجتمع صار جزءاً من عالم السياسة. “سيسوا” العلاقات الاجتماعية ووضع المرأة والعلاقة الزوجية وعلاقات العمل، ولكنهم قبل أي شيء آخر “سيسوا” الكلمة في مشوارها بين كاتبها وقارئها. ويعتقد سوينكا أن هذا صحيح ولكن فقط بمعناه التافه السطحي، وينقل عن جورج أورويل عبارته الذكية “إذا كان كل شيء سياسياً فهناك بعض الأشياء أكثر سياسية عن غيرها”.

ويختلف سوينكا عن كثيرين من معاصريه الذين أعلنوا انشقاقهم وانتقدوا سياسات حكوماتهم وأفكارها ومبادئها. يختلف مثلا عن سولجنتسين. فقد كان هذا الأخير مشاكساً ومهاجماً وشديد الانتقاد. سوينكا ليس بهذه الأوصاف، ولكنه أيضاً لم يكن مثل بوريس باسترناك الذي ناضل ضد الطغيان بأسلوبه الخاص. تجاهل الطغيان وأشاح بوجهه عن الفساد وقام بتحصين نفسه، أي بتحصين فضائه الشخصي، ضد ما كان يسميه “مذوبات السياسة” على شاكلة تلك الأحماض التي يستخدمونها في تذويب المواد الصلبة.

دخل سوينكا السياسة، أو تعامل معها، حين شعر بأنه مطالب بالرد والتفاعل مع واقع انهيار بلاده. عندها تغيرت حياته، مثله في هذا مثل بعض الأدباء في عالمنا العربي والإسلامي الذين تعرضوا لنفس الموقف حين شعروا بأن الموقف في بلادهم بلغ حداً خطيراً من التردي والانكسار فأصبحت المواجهة واردة إن لم تكن واجبة. تجدهم يتحولون بالتدريج من الطباع الهادئة أو الشاردة أو الرقيقة إلى نوع من التوتر والانفعال السريع وأحياناً الغضب الشديد. كثيرون تغيرت طباعهم عند لحظة الانتقال من الأدب النقي إلى الأدب “المسيس”، قليلون هم الذين أفلحوا في العودة إلى نقاء عالمهم الخاص وأقل من هؤلاء استمروا في المواجهة مع عالم ينهار أمام عيونهم، وكثيرون جرهم التيار فصاروا كالأحجار التي يعريها الفساد ويحدث فيها أفعاله فتتساقط نحو عمق سحيق أقرب شبهاً إلى الصورة التي تخيلها دانتي لجهنم.

ينتمي وول سوينكا إلى شعب اليوروبا. ولهذا الشعب حضارة فريدة. هم كالمصريين القدماء جداً برعوا في فن النحت إلى حد أنه يقال إن قدماء اليوروبا نحتوا منظومات راقية من الأساطير المتكاملة في شكل تماثيل كما في أشكال من الأساطير والقصص المتناسقة. هذه الحضارة المتصلة لم يؤثر فيها بشكل حاسم اختطاف عشرات الآلاف من أبناء اليوروبا إلى الأمريكتين لاستخدامهم عبيداً للمستعمرين البرتغاليين والإسبان والفرنسيين. فقد استطاع هؤلاء العبيد، بالنظر إلى عمق التقاليد وشموليتها وتناسقها، التأقلم بسرعة مع الديانة الكاثوليكية حتى صنعوا منها مسيحية خاصة بهم.

وأخذوا من الكاثوليكية أسماء القديسين فأطلقوها على آلهتهم التي تركوها خلفهم في إفريقيا. أعادوا بعث الآلهة القديمة في شكل قديسين. وفعل شعب يوروبا في إفريقيا الشيء نفسه عندما وصلت إليه الكاثوليكية. كذلك استخدموا تراث الطب الإفريقي في هاييتي واستمروا يمارسون بعض مظاهره. صنعوا عالماً سرياً وأطلقوا عليه الفودو. وما دمية الطين التي يستخدمونها لحرق الروح الشريرة التي تسكن المريض سوى إحدى الممارسات الطبية الموروثة، وهى ممارسة ليست بعيدة كثيراً عما يمارسه المصريون حتى يومنا هذا. وقد نجح سوينكا في نقل هذه الصورة إلى مسرحيته “السلالة القوية” عام 1959.

وقد اهتم سوينكا في كثير من كتاباته بالأصول الأسطورية للأديان ونقاط التقائها، والعلاقة بين الدين والحضارة. ويشهد على ذلك كتابه بعنوان “سكان المستنقع” الصادر عام 1958 وكذلك كتابه حول “السلالة القوية” وكتابه “الأسطورة والأدب والعالم الإفريقي” الصادر عام 1965 يقول إن الأساطير تنشأ من محاولة الإنسان “إخراج مشاعره من أعماقه وتوصيلها إلى الآخر”. ويعتقد اعتقاداً جازماً، واستمر عليه حتى الآن، أن إرادة الإنسان بعيدة كل البعد عن مفهوم الاستسلام. وإن إنسان اليوروبا الذي تربى في أحضان ديانته القديمة بعد مزجها بالكاثوليكية يعتبر أن المصير “توجه ذاتي” وليس مسألة موضوعية أو من صنع قوى خارجية. عندما يتحدث سوينكا عن الدين وتأثيره في الدراما الإفريقية يقول إنه لا يمكن فصل الدين عن غيره من الأشكال الحضارية والثقافية في أي مجتمع إنساني ويضرب المثل بكل إفريقيا وليس فقط بيوروبا. لا بد أن يكون لأي جانب من جوانب الثقافة أصول مغروسة في الدين من أوله إلى آخره. أما الاختلافات التي استعارها الإنسان من خارج هذا المجتمع فليست أكثر من اختلافات في الشكل. هناك اختلافات في الصلوات بين هذا الشعب الإفريقي وأي شعب آخر، أو في الاحتفالات والمهرجانات أو في طرق وأساليب العلاج، إلا أنه لا خلاف في النهاية على أن الدين هو المكون الثقافي والحضاري الأعظم لكل المجتمعات.

الدين في إفريقيا ليس ظاهرة منفصلة عن بقية الظواهر الإفريقية ولم يكن في أي يوم، ولن يكون، مؤسسة قائمة بذاتها، الدين ممارسة بأذرع متعددة تمتد إلى العلاج، والتعليم، والعائلة، والسياسة، والتجارة. تمتد في طريقين. طريق ينقل من الدين قواعد وقيم وأساليب تعامل إلى تلك الجوانب المتعددة في المجتمع ويعود حاملاً قوة جديدة وفكراً جديداً من المجتمع إلى الدين. وفقاً لهذا التصور يصبح منطقياً القول إنه إن صح المجتمع صح الدين، وإن تدهور المجتمع تكلس الدين وتوقف عن العطاء وعن التجدد. ويعتبر البعض أن الأديان الإفريقية كاليهودية الأولى حيث لم يكن الدين ينفصل عن الثقافة والحياة والتاريخ وحيث لا يمكن فصل الفرد “الإسرائيلي” القديم عن العلاقة الأزلية التي تربطه ب “يهوه”. عند اليوروبا كما أنه في “الإسرائيلية” المبكرة وربما عند بعض المذاهب الإسلامية ينظر إلى الحضارة باعتبارها حضارة شاملة Total Culture، كالمظلة تنشر ظلها على كل أطراف المجتمع وتفاصيله.

ولا يخفي سوينكا اشمئزازه من مفهوم الصدام الحضاري حتى قبل أن يصبح هذا المفهوم عنواناً لحرب ضروس بين الغرب من ناحية والعرب والمسلمين من ناحية أخرى. ففي عام 1973 كتب سوينكا في مقدمة أروع مسرحياته “الموت وفارس الملك” يقول “إن خطورة عبارة صدام الحضارات أنها بمجرد استخدامها ولو أكاديمياً أو نظرياً تصبح هي نفسها رخصة لممارسة الصدام الحقيقي والفعلي. تفترض عبارة صدام الحضارات وجود مساواة في أي موقف تقف فيه الثقافة الغربية وثقافة الآخر على أرضية هذه الأخيرة”. هذا الرأي جدير بأن نعرف معناه ونقدره خصوصاً بعد أن تحولت احتكاكات قديمة بقدرة قادر لتصبح صداماً حضارياً بين الغرب من ناحية والعرب والمسلمين من ناحية أخرى. حدث هذا مجدداً عندما اجتمع الغرب على خطة إدخال إصلاحات في الشرق الأوسط، أي في العالم العربي والإسلامي، وهو الإصلاح الذي يعني، طبقاً لشكل المواجهة المطروح بها، ووفقاً لأساليب العمل المقترحة في البرامج التي اتخذت في قمة الثماني في ولاية جورجيا الأمريكية ثم في قمة اسطنبول، أن ساحة هذه المواجهة الجديدة هي الشرق الأوسط، وأن أدوات هذه المواجهة واردة من الغرب. صدام حضاري يجري على أرض العرب والمسلمين وليس على أراضي الغرب أو أراضي طرف ثالث. ينطبق الشيء نفسه على ما فعله الاستعمار الغربي في إفريقيا، فقد خاض صداماً أسلحته القوة والعنف والدين الغربي ضد تقاليد وممارسات وديانات إفريقية على الأرض الإفريقية، وانتهى “بالمأساة الإفريقية الراهنة”.

نعود إلى الأديب والسياسة والعلاقة بينهما. هذه العلاقة ليست علاقة مجردة وليست نمطية. إنما تختلف العلاقة من أديب إلى آخر حسب طبيعة الدولة التي يعيش فيها هذا الأديب. ففي حالة وول سوينكا عاش وتربى في نيجيريا وانتمى إلى شعب يختلف عن بقية شعوبها، وكأي شخص آخر من أبناء نيجيريا تعرض للقمع وإلى تدخل العسكر من حين إلى حين في حياته الأدبية والشخصية. وتشهد هذه التجربة على أنه يوجد ما يشبه القانون العام في السياسة وبخاصة في الدول النامية أو حديثة الاستقلال، ينص القانون على أن العسكر يتدخلون في الحكم في حالتين: إذا أحسوا بقرب وقوع فوضى شاملة في الدولة، وإذا أحسوا بقرب قيام نظام سيمارس الديمقراطية الحقة. اللافت للنظر أن الحالتين لا تختلفان كثيراً عن بعضهما عند معظم المؤسسات العسكرية في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بل وهناك ما يقال في هذا الصدد حتى بالنسبة للمجتمعات الغربية المتقدمة. ولدينا المثال في ثورة اليمين الأمريكي الجديد “والمتعسكر” فكراً وممارسة.

أكاد أردد مع آخرين الرأي الذائع بأن الأديب أمريكياً كان أم إفريقياً أم عربياً مشدود، أراد أم لم يرد، إلى السياسة. يشتد جذبه إليها كلما تأزمت أمور الدولة وتدهورت أحوال الحكم. لمن يستجيب الأديب في عالمنا، يستجيب لنداء الشعوب أم لأوامر السياسيين. وكيف أجاب سوينكا؟


جميل مطر


المصدر وجهات
  #127  
قديم 10/07/2004, 06:54 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

الاختراق الثقافي

حسن حنفي:

الجمعة 09 يوليو 2004 22:43
... وكما يحاول الجناحان الشرقي والغربي لمصر الكسيرة وراثتها، يحاول البعض من أهلها اختراق قلبها لإنهائها والقضاء عليها. ويقوم بذلك بعض من يبحثون لهم عن دور جديد في مصر الجديدة الممسوخة، وفي نظام العالم الجديد ذي القطب الواحد. ينتسبون إلى النخبة أو الطبقة المتوسطة. فالنخبة طوال تاريخها تعيش على مساندة الأجنبي، والتعالي على أهل البلاد من العمال والفلاحين والطبقات الدنيا بل والمتوسطة. تتكلم اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية. وهى ليست مثل باشاوات مصر الوطنيين الذين قاموا بعمليات بناء الدولة ثم تحديثها والذين عرضوا على إسماعيل سداد ديون مصر حفاظا على استقلالها. وهم الذين قادوا ثورة 1919، وكونوا العصر الليبرالي قبل 1952. بل هي نخبة من رجال الأعمال، وطبقة من الأغنياء الجدد لا همَّ لها إلا الربح السريع عن طريق المضاربة في العقارات، والاتجار بالعملة الأجنبية في السوق السوداء، وتهريب الأموال وقروض البنوك بلا ضمانات، والرشوة والفساد كوسيلة للتحايل على القانون، وقيم الاستهلاك ومظاهر البذخ والترف في القصور الجديدة وعلى شواطئ البحار.
كما يتم الاختراق عن طريق الطبقة المتوسطة التي تريد أن تلعب دورا بعد أن حوصرت بين الطبقة العليا التي لم تعد قادرة على الوصول إليها، والطبقة الدنيا التي تتعالى عليها. وهي التي لم تعد قادرة على الانخراط في طوابير الانتظار لنيل السلطة والثروة والجاه عن طريق الحزب الحاكم. وهي التي لم تواتِها الشجاعة الكافية لتنضم إلى أحزاب المعارضة العلنية المسالمة المستأنسَة أو السرية العنيفة. والطبقة المتوسطة طوال عمرها انتهازية، توهم الطبقة الفقيرة بأنها تدافع عن حقوقها. وتوحي إلى الطبقة العليا بأنها تدافع عن مصالحها. فتكسب ثقة الفقراء، وتتكسب من ثروة الأغنياء. تشعر بالنقص أمام الآخر الأجنبي خاصة إذا انسد طريق الصعود الاجتماعي الوطني. فتقلده في أفكاره ومُثله وقيمه وأساليب حياته لعلها تنعم بالهجرة إلى أراضيه في الخارج أو تكون ممثلة لشركاته ومصالحه في الداخل باسم "محمد موتورز" أو "منصور شيفروليه". وهى بورجوازية جديدة وليست أصيلة. اغتنت منذ الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات. تلبس قشرة الحضارة والروح جاهلية. ومنهم من أثرى في بلاد النفط، وعاد بسلوك أهلها في ثنائية حادة بين التمتع بالدنيا والتعويض عنها بالآخرة والإسراف والبذج في الدنيا، ورعاية الفقراء والمعوزين رغبة في النجاة والجزاء في الآخرة.
ويتمثل الاختراق الثقافي في ثلاثة تيارات متداخلة. الأول أنصار العولمة. فالعصر عصرها، والتاريخ تاريخها، والقانون قانونها. العالم قرية واحدة. والدولة الوطنية لا لزوم لها لأنها عائق بإرادتها المستقلة، وحواجزها الجمركية، وبسياساتها في التخطيط، ودعم المواد الغذائية عن الدخول في قوانين السوق، والاستثمار، والمنافسة، والربح، ورأس المال العالمي، والمصارف الدولية، وبورصات الأوراق المالية. لقد انتهى عصر الاستقطاب، وأصبحت أميركا هي القوة الوحيدة في العالم، والرأسمالية نهاية التاريخ. وصراع الحضارات يخيف الشعوب المتخلفة التي مازالت ترزح تحت نظم الطغيان والتسلط والقهر من العدوان عليها، وتكرار النموذج العراقي على سوريا وإيران وليبيا بالرغم من تحولاتها الأخيرة، من النقيض إلى النقيض، والسودان بسبب دارفور، والسعودية بسبب القتلى الأميركيين.
وقد ينضم بعض الماركسيين القدماء إلى الجوقة الجديدة باسم الحتمية التاريخية، وضرورة التأقلم مع الواقع الجديد، بعيدا عن الأيديولوجيات القطعية التي أدت إلى انهيار المعسكر الاشتراكي في المركز والأطراف. والقطاع الخاص جاهز، والبنوك الخاصة مستعدة، وثورة الاتصالات تقرّب البعيد.
والتيار الثاني هم الليبراليون الجدد الذين بدأت كتاباتهم في الظهور، ويعبرون عن أنفسهم في القنوات الفضائية الشهيرة ذائعة الصيت. لقد نعمت البلاد بالليبرالية سابقا، وأقيمت أول محاولات للتصنيع في عهدها. ونعمت بالحريات العامة، وحظيت بالتعددية الحزبية. وكانت لها حكومات مسؤولة أمام البرلمان، ودستور مثل معظم دساتير العالم، وضعها فقهاؤها الدوليون الذين وضعوا معظم الدساتير في الوطن العربي في عصره الليبرالي. وهذا يتطلب الاعتماد على القطاع الخاص، والتخلص من بقايا القطاع العام، والتخلي عن التخطيط، واتباع قوانين السوق، المنافسة والربح، وإنشاء الجامعات الخاصة القادرة على تخريج جامعيين على دراية باللغات الأجنبية، وبالحواسب الآلية وبعلوم إدارة الأعمال. ويبدأ ذلك من الصغر بالتعليم الأجنبي الخاص، من المهد إلى اللحد، لمواجهة التعليم الديني الخاص. ولا ضير في عودة الملكيات القديمة. فالملكية الدستورية خير من الجمهورية الرئاسية. والحنين إلى الليبرالية أعمق في التاريخ وأبعد في الزمان من الحنين إلى القومية الأحدث عهداً أو الحنين إلى الخلافة الراشدة التي طال عليها العهد، وأصبحت حلما ومجرد خيال. ومصر جزء من البحر الأبيض المتوسط. وطالما نادى مفكروها بأن ثقافتها ثقافته، وبأن ثقافة اليونان جزء من تكوينها. والغرب الحديث هم ورثة اليونان القديم. ومن ثم يعود شعار إسماعيل من جديد "مصر قطعة من أوروبا" وكما عبر عن ذلك طه حسين في "مستقبل الثقافة في مصر".
والتيار الثالث شرعي قانوني، واقعي سياسي. لا يرى في العداوة بين الشعوب مبرراً حتى ولو اعتدى بعضها على بعض، واحتل بعضها أراضي بعض آخر. وهو التيار الذي يدعو إلى التطبيع مع إسرائيل. فالسلام خيار استراتيجي، وإسرائيل وجدت لتبقى. عقدت معها مصر معاهدة سلام في 1979. وبينهما اعتراف متبادل. فلم يعد هناك داعٍ لمعاداة إسرائيل طبقا للقانون الدولي أو لتهريب السلاح من أنفاق غزة أو دعم "الإرهاب" الفلسطيني أو الانشغال بالقضية الفلسطينية برمتها. تكفي أربعة حروب دخلتها مصر بسببها. والعنف ليس وسيلة لتحقيق أغراض سياسية. وكل عنف هو إرهاب بالضرورة، لا فرق بين مقاومة مشروعة وعنف غير مشروع. ولا تمييز بين إرهاب الأفراد وإرهاب الدول، ولا ضير في الاتجار معها، وتوريد الأسمنت والرمل والحديد لبناء الجدار العنصري أو المستوطنات أو بيع الغاز الطبيعي أو النفط الذي تسير به العربات المصفحة والطائرات. فالتجارة شطارة.
والكسب لا يفرق بين عدو وصديق، ولا ضير من الاستفادة منها في زراعة الصحراء بما لديها من خبرات في التعمير والاستيطان والري واستصلاح الأراضي بصرف النظر عن شائعات الأوبئة. فإسرائيل نموذج يحتذى به في العلم والتحديث والتقدم وخاصة أن مجموع العرب أقل منها. والتطبيع قادمٌ قادمٌ فلم التأخير والإبطاء. فقد يتجاوز الزمن العرب. فيعيش العرب في زمان غير زمان العالم. ويظلون في زمانهم قابعين، وعقارب ساعتهم واقفة على زمن قديم مثل أهل الكهف.
وهو تيار مناهض للواقع والتاريخ. يجعل الجلاد ضحية والضحية جلاداً، والمعتدَى عليه هو المعتدِي، والمظلوم ظالما، والظالم مظلوماً. يظن أن توقف العرب عن الحركة في الزمان دائم. وإذا تحرك فإن العرب يتحركون في مسار غيرهم. يريد أن يكون له السبق في موجة يظنها قادمة مثل من يصيد في أعالي البحار. يتذكر حقوق الإنسان، وينسى حقوق الشعوب. وحقوق الإنسان عند الغير، عند الأبرياء من جراء العمليات الاستشهادية، وينسى حقوق الإنسان الفلسطيني، ضحية الصواريخ، والقصف، وهدم المنازل، وتجريف الأراضي. يعمل للعاجل دون الآجل، ويحرص على الكسب السريع دون اعتبار الخسارة القادمة. يعمل على الأمد القصير وليس على الأمد الطويل. ولا يستوعب دروس التاريخ. فقد مكث الصليبيون في الشام في بعض إماراتهم مائتين وخمسين عاماً. ومكث الاستعمار الفرنسي في الجزائر أكثر من قرن وثلث. وبقيت بريطانيا في الهند منذ القضاء على إمبراطورية المغول. وظل استعمار جنوب أفريقيا أكثر من ثلاثة قرون.
إن هذه التيارات الثلاثة التي يتمثلها بعض أفراد الطبقة العليا والطبقة الوسطى لهي اختراق فعلي للثقافة الوطنية المصرية. ومع ذلك مازالت تجد سداً منيعاً لانتشارها في الوطنية المصرية التقليدية وفي الوعي الوطني المصري عبر التاريخ. تلفظها التيارات الأساسية في الثقافة الوطنية، التيار الإسلامي، والتيار القومي، والتيار الليبرالي الوطني، والتيار الماركسي. وكلها ترفض التطبيع مع الكيان الصهيوني. ويتصدر التيار الإسلامي المقاومة والعمليات الاستشهادية مع التيار القومي، والماركسيون والليبراليون مازالوا يعتبرون الكيان الصهيوني عنصريا عدوانيا قاهرا للشعب الفلسطيني.
إن بعض فئات الطبقات الاجتماعية التي حدث من خلالها الاختراق الثقافي لمصر، العليا والمتوسطة، طول عمرها منفصلة عن المصالح الوطنية العليا قبل العولمة وبعدها. يجدون في الخارج أعظم حليف ضد الداخل. لقد خرج المتعاونون من المصريين مع الحملة الفرنسية بخروج الحملة، واستقروا في فرنسا. كما خرج المصريون الذين كانوا يعملون مع الشركات الأجنبية بعد تأميم قناة السويس وتمصير الشركات الأجنبية، واستقروا في الخارج. كما هاجر إلى الخارج الإقطاعيون الكبار من الطبقة العليا بعد الثورة وتطبيق قوانين الإصلاح الزراعي عليهم فيما سمي "جرحى الثورة".
وكما لفظهم الداخل يلفظهم الخارج أيضاً. فالأجنبي في النهاية هو الأجنبي مهما بلغت درجة الاندماج للطبيعة العنصرية للمجتمعات الجديدة التي هاجر إليها وفي مقدمتها لون البشرة وحتى في المجتمعات التي تدعي أنها تعددية أو التي تدعي أنها "إناء الانصهار" لكل الأجناس والأعراق والملل والطوائف. ويكونون مثل القوات اللبنانية في الجنوب في الشريط الحدودي المتحالفة مع إسرائيل. فلم تصمد أمام المد الوطني والمقاومة الوطنية. فلا هي احتفظت بشرف المواطنة ولا هي تم قبولها وتمثلها في الكيان الصهيوني. والمقاومة الوطنية لا تأتي على أكتاف أعداء الوطن.
وسيظل بين هذه الفئات من الطبقات العليا والمتوسطة من ناحية والجماهير من ناحية أخرى خـُلف بل عداءٌ مُستحكِم. فلا الجماهير قادرة على الاعتراف باختياراتها. ولا هي قادرة على العودة إليها. وماذا يكسب المواطن لو كسب العالم وخسر نفسه؟ وماذا يفيده لو كسب كل شيء وخسر وطنه؟
عدد 2004/07/10
الاتحاد الإماراتية
  #128  
قديم 12/07/2004, 04:28 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs down

الحرة».. خطيئة واشنطن!
طارق الحميد


بعد ستة اشهر من بدء بث قناة «الحرة» الاميركية الناطقة باللغة العربية بهذا الشكل الذي نراه اليوم، أستطيع القول بأن قرار تسليمها للفريق العربي الإعلامي المشرف عليها خطأ يشابه خطأ بول بريمر بتسريح الجيش العراقي بعد سقوط نظام صدام. تسريح الجيش جلب الفوضى، والقائمون على «الحرة» أعطوا انطباعا بأن الإعلام الاميركي فوضوي وهزيل!
كنا نتوقع أن قناة واشنطن، الناطقة بالعربية، ستأتي بالقيم الإعلامية الاميركية، لا أن تأتي بقناة تزايد على قناة «الجزيرة» فتصبح القضية ان متطرفين يردون على متطرفين! فقد توقعنا رؤية نشرات أخبار بلا رأي، أو انتقائية مكشوفة، وبرامج سياسية تشكل وعيا متسع الأفق، تشرح للعالم العربي النظام السياسي الاميركي، وتشرح لعبة الموازين في واشنطن. وهذا يناقض ما سبق أن صرح به نورمان باتيز رئيس إدارة لجنة الشرق الأوسط في مجلس الأمناء للبث بأن الحرة «ستخلق درجة أكبر من الفهم الحضاري والاحترام».
فقد توقعنا من القناة أفلاما وثائقية راقية، مثل التي تزخر بها المكتبات الإعلامية الاميركية. وان تكون «الحرة» نافذة على العلوم والتكنولوجيا. توقعنا، مخطئين، رؤية من هم على مستوى دان راذر، وحرفية تيم روزرت، أو برنامج بوقار البرنامج الذي بلغ عمره خمسين عاما «فيس ذا نيشن» مع المذيع بوب شيفر. فما الذي يمنع من بث تلك البرامج ولو مترجمة، طالما ليس بوسع القناة إيجاد برامج على ذلك المستوى؟ لم نجد عمق الصحافة الاميركية، ولا بحر معلوماتها.
عوضا عن ذلك رأينا قناة نهجها أشبه ما يكون بإعلام الحرب الأهلية اللبنانية، وربما بنفس الوجوه. فمن عرف الإعلام الاميركي، وعمل في واشنطن، يشعر بالصدمة وهو يشاهد فضائية تخرج من هناك بهذا المستوى. مشكلة «الحرة»، وأخشى أن تكون تلك أيضا علة الـ«بي بي سي» بالعربية المزمع إطلاقها، التي تأتي تحت مظلة دول لها باع في الإعلام مثل أميركا، أو مؤسسات إعلامية رصينة مثل «بي بي سي» البريطانية، أن إدارتها توكل لمن يريدون تصفية حسابات في العالم العربي، أو تسييرها في اتجاه واحد.
وجود تلك المؤسسات الإعلامية الضخمة في أيد عرب على هذه الشاكلة يشبه وجود طائرة عصرية بيد محمد عطا، فكل ما سوف يفعله بها هو الاصطدام بأقرب ناطحة سحاب. تأملنا أن تأتي «الحرة» صوتا للعقل، والمعلومة والتحقيقات الصحافية التي تتمتع بها وسائل الإعلام الاميركية لتصب في بحر المعلومات المتضاربة في عالمنا العربي، علها تسهم في صنع توازن في بحر المعلومات المتلاطم على أطباقنا اللاقطة.
فوضع القناة جاء عكس قول المكتب الأمريكي للبثّ الإذاعي والتلفزيوني بأن المؤسسة التي تدير القناة، وهي غير تجارية ويمولها الشعب الأمريكي من خلال الكونغرس تحت مراقبة مجلس أمناء البثّ، تتمتع بإدارة ذاتية وتعنى بحماية الاستقلال المهني ونزاهة الإعلام والإعلاميين ضمن مؤسستها. فآخر ما توقعناه هو أن تبيع لنا واشنطن بضاعتنا الرديئة!


حريدة الشرق الاوسط
  #129  
قديم 13/07/2004, 04:42 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
إطلالة على عمل إبداعي (أنا بحب السيما)

قبل أن نجلس للقاء آية الله ناطق نوري قبل سنوات، وكان وقتها رئيس البرلمان الإيراني وكنا وفدا ثقافيا كويتيا يزور العاصمة الإيرانية طهران، بادرنا بالقول ،هل انتم وفد ثقافي، ثم أردف دون أن نجيب يقول : إن فيلما واحدا جيدا، أفضل من ألف خطيب مفوه.
وقتها فاجأتني الظاهرة، رجل دين إيراني يمتدح الأعمال السينمائية إلي هذه الدرجة من الاحترام و الإجلال.، وقد تبين أهمية هذا النوع من الأعمال الفنية للمجتمع.
بعد ذلك بسنوات بدأت السينما الإيرانية تحصد الجوائز، وتقدم المجتمع الإيراني الجديد بأفضل مما تقدمه الخطب و البيانات الرسمية.
ليس ذلك فقط، بل أصبحت السينما و الفن السينمائي ومبدعوه محط اعتزاز المجتمع،وقد أكد ذلك أخيرا فيلم (فيرنهايت 9/11) لمخرجه ذائع الصيت اليوم مايكل مور، الذي قدم العرب بأفضل مما كان يطمح به أي عربي في هذه الفترة الساخنة من الخلط بين ثلاث متناقضات وهم العرب و الإرهاب والإسلام.
السينما إذا أجيد تقديمها وكان وراءها فكر نير تستطيع أن تقدم للمشاهد شيئا مختلفا، شيئا معاشا ولكنه خيالي يطلق العنان للكثير من الأفكار والمبادرات الحية التي تقود المجتمع إلي الأمام.
من ذلك هذا الفيلم الذي شاهدته في الأسبوع الماضي على هامش زيارة سريعة للقاهرة، صديق صحفي مصري أوصي به، فذهبنا الصديق المصري الشاب، والصحفي اللبناني المعتق ذو التعليقات الجميلة وأنا، لمشاهدة فيلم.. (أنا أحب السيما).
القصة هي قصة عائلة مسيحية مصرية ،وتدور فكرة الفيلم في حي معروف بأنه حي يقطنه الكثير من المسيحيين المصريين، وخلفية الفيلم هي ستينيات القرن الماضي لأن صوت الرئيس جمال عبد الناصر يأتي من خلف سرد الأحداث، ولكنه ليس واضحا كل الوضوح في السرد السينمائي أن كان متقاطع في مفاصل من تاريخ مصر الحديثة،تأميم القناة، حرب عام 1956 وغيرها من الأحداث، ولكنه الظلال فقط.
أما صلب الفيلم فهو يحكي قصة طفل يروي حياته الأسرية، مع الأب (محمود حميدة) المتشدد دينيا، ويعمل أخصائيا اجتماعيا في مدرسة، و الأم ( ليلي علوي) ناظرة مدرسة مختلطة للأطفال، وأسرتاهما ( الأب و الأم) أما الطفل (يوسف عثمان) فهو البطل غير المتوج للقصة، وهو في الحقيقة طفل عبقري استطاع المخرج ( أسامة فوزي) أن يظهر أفضل وأسوأ ما في الأطفال في سنه الصغيرة.
مع تشدد الأب الديني الذي يحرم كل بهجة بدءا من التليفزيون و الأغاني حتى السينما،ويعتقد أن الموت قد يأتيه فجأه، لذا لا بد أن يكون مستعدا له، بان يكون طاهرا من كل الأدران،في المقابل يحب الطفل الصغير أن يذهب إلي السينما لأنه يعشقها ويسمع عنها كثيرا من أقرانه ،بل ويحتفظ بلعبة صغيرة بها صور ينظر إليها في تلصص كلما سنحت له الفرصة.
ولان والده يعتبر مشاهدة السينما حراما، فيتوافق الطفل مع الفكرة باعتباره عاصيا وخاطئا وسوف يذهب إلي النار بعد الموت،فلماذا المخاتلة ما دام حبه للسينما التي لا ينفك منه وهو خاطئ إن فكر في أو شاهد السينما،فليكن ذلك،ما دام خاطئا فليخطئ أكثر !
وبهاتين الفكرتين تدور أحداث الفيلم المشوقة.
وبين تشدد الأب غير الصحي و الشاذ إلي حد كبير، وبين الحياة اليومية التي ظلت تطحن المواطن المصري في ذلك الزمن، وربما كل زمن، تدور أحداث الفيلم المركبة.، تشدد الأب الديني يأخذه إلي تشدد أخلاقي، فيهاجم ناظر مدرسته بالفساد وسرقة أموال المدرسة، ويتهم الرجل بأنه (سب القيادة الكبيرة)، (تحويل الخاص إلي عام) الأمر الذي يدخله في حفلة مع الأجهزة، التي تنال منه دون رحمة أو شفقة، هنا يفقد الرجل رشده، ويناجي ربه هل هو على صواب ومؤمن بالفعل إن كان كذلك، فلماذا حدث له ما حدث، وما إذا كان هذا العذاب الذي يلقاه يستحقه لأنه فقط مؤمن!
وهي معضلة تواجه الكثيرون في الحياة ولكن الفيلم أسقطها في سرده الممتع في ذهن المشاهد بدقة متناهية تكاد لا تُلمس في وعي المشاهد، بقدر استمتاعه بتسلسل الفيلم، وهو أمر لا يستطيع أي فن آخر أن يقوم به غير هذه التي تسمى أم الفنون..
قامت ضجة في المجتمع الثقافي و الديني المصري بسبب هذا الفيلم، أولا لأنه يحكي قصة عائلة مسيحية مصرية، ونادرا ما تناقش قضايا هذا القطاع من الناس علنا، كما حدث في مسلسل (أوان الورد) الذي لقي مثل فيلم أنا بحب السيما الكثير من النقد.
أنا بأحب السيما في قراءتي الخاصة، هو فيلم يتعدى الحكاية البسيطة لعائلة مسيحية، انه أعمق من ذلك بكثير والذي أثار الضجة ربما وجد أن يتشبث بالظاهر من رواية الفيلم، إلا أن الفيلم يتحدث عن (الحرية) حدود تلك الحرية بين الخالق وبين عباده، وحدودها في المجتمع، وهو يقدم حالة مصرية بسيطة بصرف النظر عن كونها مشخصة في العائلة المسيحية تلك، إنها للمشاهد الفطن حالة عامة.
مهاجمو الفيلم كثيرون منهم هيئات دينية مسيحية، وأصبح الهجوم كثيفا إلي حد رفع دعوى مستعجلة بأن يمنع الفيلم منعا باتا وقطعيا، بحجة أن الفيلم أظهر مشاجرة في كنيسة أو حالات غزل بين مراهقين من الجنسين.
ظهر من مقدمة الفيلم التوثيقية أن السلطات قد ترددت أصلا بالسماح بعرض الفيلم حيث لاحظت في مقدمته أن الفيلم مجاز عام 2000 ولم يعرض إلا الآن، يعني أن هناك أخذا وردا بين البيروقراطيين سبق عرضه، ثم انتصر الرأي الذي يقول أن يراه الجميع عدى الأطفال في سن معين، الأمر الذي حرم الأطفال من رؤية عمل رفيقهم العبقري يوسف عثمان.
المعترضون على الفيلم يعتبرونه أساء إلي العائلة المسيحية العادية، وهو افتراض يصح إن خرج المشاهد برأي أن كل الأسر المسيحية في مصر على هذه الشاكلة، إلا أن افتراضهم في الأغلب غير صحيح أو علمي، فان البعض يعرف على وجه الدقة أن السرد السينمائي هو سرد ليس إلي واقع ولكن إلي متخيل، قد يتشابه مع بعض الواقع في بعض هوامشه، ولكنه بالتأكيد لا يعبر عن الواقع الشامل، وهي قضية لها علاقة بالثقافة العربية بعامة، إذ أن التخصيص في كثير من الحالات لا يعني التعميم، وهو دليل على عدم نضج في التفكير الثقافي منه إلي نضج حقيقي.
فكثيرا ما صورت السينما الدولية الشخصية الايطالية أو الأميركية بصورة أو بأخرى، وكذلك الصينية أو اليابانية أو حتى الألمانية، التي كثيرا ما تظهر في السينما الدولية على إنها متشددة ونازية، ولكن هذا لا يؤخذ مأخذ الوقوف بحزم أمام مشاهدات تتم أساسا وفق خيال المخرج و الكاتب.
أعتقد أن الفيلم من منظره الأوسع هو خدمة لهذه الشريحة من المصريين، فقد أظهر المخرج وهو مسيحي، أن المسيحيين المصريين هم مصريون أولا وبعد ذالك، فالعائلة تتصرف بعفوية الناس المصريين العاديين، فعاداتهم وملابسهم وحتى استجابتهم لمثيرات الخارج وعلاقتهم بعضهم هي علاقات لا تفرقها عن المصري العادي، بل إن هناك من يتأفف من الوضع القائم وقتها إلى درجة الهجرة، كما فعل أحد أفراد العائلة التي ظهرت في الفيلم، أما مشاركتهم العامة فتدل على انخراط بعض شبابهم في الجيش للدفاع عن الوطن.
إن شجاعة المنتجة ( سعاد يونس) وكاتب القصة (هاني فوزي) وإصرار العاملين فيه على اتمامه وعرضه رغم ما قيل عن مشكلات حقيقة واجهت الفيلم، يدل على أن وعيا سينمائيا جديدا يظهر في السينما المصرية، وهي في عزها قبل الثورة قيل إنها كانت تأتي في الدرجة الثانية من الدخل القومي بعد القطن المصري، ولا زالت السينما المصرية من الفنون القليلة التي بقيت لمصر فيها الريادة، فيلم تعد لا الأغنية العربية ولا الكتاب العربي حكرا على المنتج المصري كما كان .. وحدها السينما لا زالت المسيطرة على سوق عربي كبير.
الحرية وليدة المسؤولية، و النقاش الدائر حول فيلم ( بحب السيما) في الصحافة المصرية هو نقاش لصالحه ولصالح الصناعة السينمائية، والمطالبة بعدم زج المؤسسة الدينية في معركة فيلم هو عين العقل كما يطالب كثير ممن التقيتهم من مثقفي مصر وكتابها في الأسبوع الماضي، وهو فيلم في تقديري يستحق أن يشاهد.


د.محمد الرميحي
باحث كويتي


جريدة الوطن
  #130  
قديم 13/07/2004, 09:50 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

: التوتر بين القطري والقومي .. محاولة فهم

محمد جابر الأنصاري

الاثنين 12 يوليو 2004 22:29

تمثل الحدود في “الظاهرة العربية” مادياً ومعنوياً اشكالية ومفارقة بالغة التعقيد والتناقض. فمن جهة يتحدث العرب، وأحياناً يتصرفون، وكأنهم أمة فوق الحدود التي خلقها الأجنبي كما هو شائع في الخطاب العربي السائد، وعليه فهي حدود مصطنعة لا حقيقة لها فينبغي ان تزول، وفي حركة رمزية يؤتى أحياناً ب “البلدوزر” لإزالتها كما فعلت ليبيا بحدودها مع مصر في حالات الاندفاع “الوحدوي” المؤقت. إلا ان الحدود تصبح في الوجه الآخر من السلوك العربي العربي مسألة شائكة ومعقدة، ومدعاة للاختلاف، وقد يذهب بعض العرب الى المحاكم الدولية للتقاضي بشأنها.
وفي حالات أخرى فإن مفاوضات مطولة ومضنية تجري وراء الكواليس لحل هذه الاشكالات الحدودية التي وإن رسمتها الطبيعة في بعض الأحيان بحكم الفراغات الصحراوية الواسعة بين هذه البلدان، فإن الكثير منها رسمه التوزيع العشائري ل “حمى” القبائل نتيجة لنمط معيشي تجاوزه العصر، وهو نمط الانتاج الرعوي القائم على التجوال الموسمي لانتجاع مساقط الغيث (وذلك ما يشكل نقضاً أساسياً لمفهوم المجتمع الحديث المستقر والدولة القائمة على أسسه).
وتمتلئ المكتبات الدولية والعربية بموسوعات ومجلدات بشأن القضايا الوضعية للحدود بين البلاد العربية، أغلبها مستمد من الوثائق البريطانية والفرنسية، فالعرب يعيشون المشكلة لكنهم نادراً ما يدونونها ويوثقونها، والبحث في مثل هذه المادة الحدودية مما يتعدى هذا الحيز.
وبنظرة تاريخية مقارنة نلاحظ بأنه بينما يقتضي منطق النمو الزراعي والعمراني في البلاد النهرية او الوفيرة الأمطار، والتي طورت لهذا العامل حضارة مستقرة متصلة الحلقات ومتماسكة النسيج، حيث اندمجت القرى الزراعية في الاقطاعيات، ثم تكاملت الاقطاعيات لتؤلف الدولة الوطنية الأوسع، كما في آسيا الموسمية وأوروبا، فإن منطق التشرذم العشائري من القبيلة الواحدة أدى الى تعدد الفروع و”والأفخاذ” وتصارعها وتباعدها. وإذا كانت “الأحلاف” القبلية الموسعة تنشأ لاعتبارات سياسية مرحلية، فإن الصراع بين العشائر يبقى ظاهراً او مبطناً وقابلاً للظهور في حالة تصدع الحلف القائم، لأن مثل هذه التحالفات تنشأ بالمنطق القبائلي، ولا تتجاوز الى ما وراءها في تطور التاريخ، موضوعياً ومعنوياً. وبرغم النقلة الهائلة التي أحدثها الاسلام في حياة العرب، فإن الاعتبارات القبلية ظلت أساسية في تقسيم الجيوش، وتخطيط المدن، وتوزيع الغنائم والخراج بل ان تاريخ الاسلام السياسي في جانب مهم منه هو تاريخ الصراع بين الفروع والأفخاذ القرشية على السلطة. ويكفي ان نلاحظ ان أكبر سجال مذهبي شهده تاريخ الاسلام الفقهي والسياسي بين السنة والشيعة لم يكن في بدايته سوى تباين بين فخذين من “أفخاذ” قريش!
إلا انه ينبغي التنبه والتنبيه بوضوح ان هذا “التشرذم” العشائري الموروث تاريخياً وجغرافياً لعوامل موضوعية كانت قائمة ليس قدراً مقدراً على العرب، وينبغي عدم القفز من تقرير هذه الظاهرة علمياً الى انها من الموروثات والجينات الداخلة في صميم تكوينهم. فعندما يبدأ نمو الدولة الوطنية بمنطق الدولة الحديثة وقوانينها ومفاهيمها فإن هذه التعدديات تتمازج وتنصهر في النسيج الوطني عبر عملية التحول التاريخي من المجتمع التقليدي الى المجتمع الحديث، ثم عبر عملية التنمية الشاملة والمستدامة، وصولاً الى نسيج المجتمع المدني الذي هو الشرط الأساسي للنمو الديمقراطي في ظل الدولة الدستورية. ومن الأدلة التاريخية، لكن الملموسة الى عصرنا في العالم العربي ان مصر التي وصفها ابن خلدون منذ أيامه بأنها “سلطان ورعية”، أي دولة ومواطنون بلغة عصرنا، قد استوعبت العناصر القبلية المهاجرة إليها من مشرق ومغرب ودمجتها في نطاق مجتمعها الحضري في ظل الدولة المركزية. وهي ظاهرة نراها أيضاً في المملكة المغربية، حيث أدى تماسك النسيج الحضري بين القصبات المغربية الى نشوء دولة مركزية تمثلت تاريخياً وإلى مطلع القرن العشرين في دولة “المخزن” ثم تطورت الى المملكة الدستورية التي نشهدها اليوم (راجع: عبدالكريم غلاب، التطور الدستوري في المغرب، حيث نجد عرضاً موضوعياً مركزاً ومكثفاً لهذا التطور).
وبالإضافة الى قطيعة المكان (الفراغات الصحراوية الهائلة)، نشأت قطيعة أخرى في الزمان أضعفت الاستمرارية التاريخية للدولة ومراكزها الحضرية. حيث كانت الغزوات الرعوية المتتابعة تاريخياً، سواء من جزيرة العرب او من آسيا الوسطى الخزان الأكبر للموجات الآسيوية، تتوالى فارضة بعد كل اجتياح العودة الى نقطة الصفر تقريباً في إعادة بناء الحاضرة والدولة (كتاب المؤلف، تكوين العرب السياسي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط ،3 ص 38).
ورغم ذلك فقد بقي العرب كما ألمحنا أمة (موحدة الوجدان مفرقة الكيان). حيث أثبتت تجارب العقود الأخيرة، انه رغم تصدع النظام الاقليمي العربي، وتراجع الفكرة القومية، واضمحلال المؤسسات العربية المشتركة وضمور “التضامن” و”العمل العربي المشترك”، فإن مختلف هذه التراجعات والاحباطات لم تستطع التأثير في الوجدان الشعوري الموحد بين العرب رغم استواء النزعات القطرية ومؤثراتها التربوية والثقافية والإعلامية، وانعكاساتها على الواقع اليومي المعيش للعرب في أقطارهم المختلفة. فعندما كانت القطيعتان المكانية (= التصحر) والزمانية (= الاجتياحات التاريخية الرعوية) تتضافران على مركز حضري وحضاري لتخريب معالمه، كانت الأسس المادية العمرانية (البنية التحتية) تتدمر تحت وطأتهما بطبيعة الحال، غير ان القيم المعنوية تتمكن من الفرار عبر الكتب المنقولة بالقوافل وعبر الذاكرة الفردية والجمعية الى الحواضر الأخرى البعيدة عن الخطر، فتبقى في الوجدان والشعور وتزدهر من جديد.
هكذا عبر العصور والاجتياجات وسقوط الحواضر كان الكيان المادي على الأرض يتمزق ويتلاشى، بينما الوجدان يترحل ليبقى حياً في ذاكرة الأمة وشعورها، بل يقوم بالتعويض عن فقدان بناه بتضخم أشد. ومن هنا الاحترام الشديد للأجداد وكبار السن عند العرب منذ الجاهلية، لأن ذاكرتهم الشفوية هي “السجل المعرفي” الوحيد للقبيلة ومجمع القبائل (=الأمة).
وما زال “الوجدان” العربي على الصعيد الشعوري ينبعث حياً وحاداً في كل مواجهة قومية، وقد عاد في معظمه الى رصيده الاسلامي يستقي منه ويستوحيه صموداً وقوة، إلا ان هذه “الهبّات والفزعات” الوجدانية الشعورية ما تلبث ان تخفت امام العوامل الموضوعية المضادة (كنجاح الغزو الأمريكي للعراق، واستمرار التفوق العسكري “الاسرائيلي” ليس على الفلسطينيين وحدهم وإنما على الدول العربية مجتمعة)، فلا يتمكن “الكيان” القومي المتفرق في سياساته وحدوده ومؤسساته ونسيجه الواقعي المادي من التصدي للتحدي الماثل. وذلك عبر عقود متعددة ومنذ نشأة التيار القومي في الحياة العربية، بدرجة او بأخرى، بل على الرغم من قوته أثناء المد الناصري.
ويذهب الفكر السائد المعالج لظاهرة التعدديات العربية والحدود، المعنوية او المادية، الفاصلة بينها الى التركيز على ظاهرة الأقليات العرقية والدينية والطوائف والمذاهب المنسوبة الى هذه الظاهرة. إلا انه من المفيد موضوعياً التنبه أيضاً وبتركيز الى جانب آخر في هذه الاشكالية، وهو اننا أمام تعددية “الأكثرية العربية” المفترض انسجامها قومياً و”مذهبياً” حيث ان أكثر من 80% من سكان الوطن العربي مصنفون “عرباً سنة”.. ولكن هذا الاعتبار لم يؤد الى “وحدة” هذه الأكثرية في كتلة موحدة، فظلت “تعدديات الأكثرية” هي الاشكال الرئيسي الذي ينبغي الالتفات إليه في مقاربة المشكلة الحدودية في أبعادها الذهنية والنفسية و”الكيانية” وليس فقط بمفهومها السياسي او القانوني الدولي، وذلك ما ذهبنا إليه في بحثنا الموسوم (اشكالية التكوين المجتمعي العربي: أقليات أم أكثرية متعددة؟) في كتاب النزاعات الأهلية العربية الذي تشاركنا فيه مع فريق بحث من المؤلفين العرب. (النزاعات الأهلية العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ،1997 ص 15 46). وقد أخذ شيعة العراق اليوم يعكسون في سلوكهم السياسي والفكري تعددية مماثلة رغم الرابطة المذهبية، الأمر الذي يستدعي البحث عن أسباب أخرى لمثل هذه التعددية.
وبرغم الوحدة العضوية العميقة للحضارة العربية الاسلامية ولدار الاسلام، فإن هذه الدار تجزأت سياسياً منذ وقت مبكر، وفي إبان قوة الدولة الاسلامية ومع عدم وجود قوى مسيطرة عليها في ذلك الوقت “تتآمر من أجل تجزئتها”، كما تذهب الأدبيات العربية عن القوى الدولية في تبرير ظاهرة “التجزئة” العربية كلياً.
من هنا نشأ توتر دائم في تاريخ العرب والاسلام بين انتماء عقيدي وثقافي وحضاري شامل وانتماء سياسي واقعي متجزئ، وهو توتر ما زال قائماً الى اليوم بين الانتماء الديني او القومي الواسع والانتماء القطري المتحدد.
وكما سبق ألمحنا الى ذلك فلم تتطابق الدائرة الحضارية الواحدة مع الدوائر السياسية المتعددة والمتصارعة داخلها كما تطابقت على سبيل المثال الدائرة الحضارية الصينية مع الدائرة الموحدة للدولة الصينية التي حافظت على وحدتها السياسية معظم عصور التاريخ، واستعادتها مبكراً في العصر الحديث مع تطابق مقارب بين الدائرة السياسية والدائرة الحضارية.

***
إذا شئنا التدقيق في واقع تعددية الانتماءات الداخلة في تشكيل الهوية العربية وتكوين النسيج العربي العام، نجد ان هناك ازدواجية ثلاثية تتعدى الثنائية التي أشرنا إليها، وذلك: بين انتماء عام للعقيدة والحضارة، وانتماء مجتمعي متحدد القبيلة او الطائفة او المحلة، وانتماء بحكم واقع الحال للكيانات السياسية القائمة (برهان غليون، نظام الطائفية: من الدولة الى القبيلة، بيروت: المركز الثقافي العربي ،1990 ص 136 137). هذا الولاء الثلاثي المزدوج نشأ في واقع التاريخ وما زال قائماً. وقد تزايد مؤخراً بروز ولاء التعدديات المجتمعية الصغيرة من قبلية وطائفية على حساب البعدين الآخرين: الحضاري الشامل، والسياسي الوطني او القطري. هذه الازدواجية الثلاثية يوازيها ويصاحبها مظهر ثلاثي ناتج عنها في الشخصية العربية الاسلامية العامة يتمثل في كون العربي “اسلامياً” في عقيدته وعبادته وقيمه الروحية... “عروبياً” في ثقافته وقيمه الأدبية والفنية، قبلياً او طائفياً او محلياً في نزعته وفزعته الاجتماعية وفي عصبيته السياسية. وهذه التعددية في الانتماء وفي التعبير عن الشخصية ليست من حيث المبدأ حكراً على العرب، فهي ظاهرة انسانية عامة غير انها في المجتمع العربي ظلت تعددية متفلّتة وغير متسقة ضمن سلم للأولويات يصهرها في بوتقة عامة واحدة، وقد يتقدم أصغرها على أكبر في أدق المواقف من دون ضابط او هرمية تحدد الأولويات. وبتعبير آخر: فإنها تتضارب سلباً بدل ان تتكامل ايجاباً، كما في التجربة الاتحادية الأوروبية الجارية، والتي من المفيد ان نلاحظ انها تضاربت سلباً في مراحل سابقة من التطور الأوروبي نحو الكيان الأكبر، ثم استطاعت الأمم الأوروبية وضعها في تراتبية ايجابية ومفيدة لحركة التقارب ثم التوحيد.
على صعيد آخر ورغم انه ليس بالامكان منهجياً التحدث عن “الديمقراطية” قبل تبلور مفاهيمها في العصر الحديث (وبما يتجاوز مفاهيم أثينا القديمة) فإن الحديث عن “ديمقراطية” حياة البادية عند العرب لا بد ان تفهم في مدلولها الاجتماعي الواقعي حيث قاربت طبيعة البيئة الصحراوية وضروراتها بين كبير وصغير، وبالتالي فإنه لا يمكن تعميم المفاهيم الديمقراطية بالنسبة لآليات السلطة عند العرب. فأي ديمقراطية سياسية تحققت في الواقع داخل قريش، او بين الأمويين أنفسهم، او بين الهاشميين من عباسيين وعلويين، او داخل أي قبيلة او عشيرة عربية أخرى رغم بساطة العيش بين الجميع في البيئة العربية؟ ورغم ان الاسلام علم المسلمين كيف يتعايشون ويتسامحون مع أصحاب الديانات الأخرى من أهل الكتاب، فإن المسلمين أنفسهم والعرب بخاصة لم يأخذوا بهذه التعددية في تعاملهم السياسي في ما بينهم في حالات عدة.
والجدير بالملاحظة انه منذ بداية نشوء السلطة السياسية في الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، كان السؤال المتقدم الملح: “من يحكم”، بمعنى أي قبيل او عشير؟ وتأخر السؤال السياسي الأكثر أهمية وموضوعية: “كيف يكون الحكم بعد النبي في الدولة الجديدة، بأي منهاج وبرنامج استنباطاً من مبادئ الاسلام السياسية التي جاءت عامة مرنة تتطلب التحديد والتقنين؟”.
هكذا حولت “ذاتية” القبيلة مسألة الحكم في تاريخ الاسلام من “موضوع”: الحكم كيف يؤسس ويدار.. الى “ذاتية” الحاكمين: من يكونون، من أي عشير اوقبيل، وأي “ذات” منهم تفضل “الذات” الأخرى، بما زاد من صراع التعدديات السياسية داخل الوحدة الحضارية ولم يقنن مبدأ الشورى ليصبح مؤسسة سياسية فاعلة منذ بداية تاريخ الاسلام.
وينجرف الفكر السياسي والديني الاسلامي في هذه “المفاضلة” العقيمة (أفضلية أبي بكر أم علي بين أمثلة أخرى) التي شغلت العقول والاجتهادات وأثارت النفوس والتحزبات وسالت حولها الدماء. وتضاءلت بالمقابل قضايا الفكر السياسي والعلم السياسي الأكثر الحاحاً في مطلب السياسة البناءة، كقضايا بناء الدولة وتقنين السلطة، وتنظيم الحكومة وتحديد المشاركة وإرساء أصول الحكم وآلياته بصفة عامة

(تكوين العرب السياسي، مصدر سابق، ص 26).
عدد 2004/07/13

الخليج الاماراتية
  #131  
قديم 15/07/2004, 11:03 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

هل يمكن نشوء معارضة في الخليج؟


د. أحمد عبد الملك


قام النظام السياسي - في العديد من دول منطقة الخليج- على الأسلوب التصالحي بين الشعوب والحكام، وكانت مجالس الحكام المفتوحة للمشتكين والمظلومين، عبارة عن مجالس شورى أو برلمانات تتحقق فيها المصالحات، وتُمنحُ فيها العطايا والمكرمات إلى جانب معاقبة المسيئين والمخالفين للأعراف والتقاليد. ومع تطوّر الحياة، وانشغال الحكام بأمور الحكم الإدارية والسياسية، وتطوّر إدارات الأمن والحماية، وبروتوكولات الحكم، صار الحال إلى تنظيم جديد، وأسست إدارات خاصة للمظلومين وأصحاب الشكاوى، ولم يكن أمراً سهلا مقابلة الحكام كما هو في السابق، وصار الصوت يصل متذبذباً إلى الحاكم أو قد لا يصل! وقامت النظم الديمقراطية - في أوروبا الجديدة- على أساس التنوع الثقافي والفكري، وصيغ الاختلاف. وساندت الدساتير حرية الفكر والمُعتقد والاتجاه السياسي، كونه من المميزات الأساسية للشخصية الحرة التي تتمتع بحقوق الإنسان ونعماء الديمقراطية مع الالتزام بواجباتها.

ولم تكن الدول الأوروبية لتنجح في مشاريعها الإصلاحية لو أنها كرّست وجهة نظر النظام الأوحد، وعاشت ترى صورة واحدة في الإطار! بل نجدها احترمت التاريخ لكنها لم تُغفل دور المستقبل. فلقد أجلست الملوك وسلالات الأباطرة في شُرفاتهم العالية ومنحتهم الألقاب التي يستحقونها مع الامتيازات والاحترامات، دون أن يتدخلوا في شؤون الناس أو طرائق حياتهم ومناهج تفكيرهم، ودون أن يجنحوا نحو تقسيم الشعب إلى نحلٍ وسلالات، منهم من يمكن تقريبه من العروش، وإن كان غير مستحق، ومنهم من يجب نفيه - حتى داخل بلده- بحجة الاختلاف، أو عدم رضا النظام عن مفاهيمه أو رؤيته للأمور العامة داخل بلاده، ومنهم من "يتطيّر" النظامُ من قراءاته أو كتاباته أو ثقافته التي تفيد المجتمع وتكشفُ زيف الإدارة، أو الفساد الذي يعشش في الوزارات، وهنا يمكن وصف هذا النوع من المصلحين بأنه "مشاكس"! وبالتالي لابد من تهدئته، بالترهيب حيناً والترغيب حيناً آخر، حتى يتوارى، وينساه المجتمع ويُشطب اسمه من التاريخ.

إن الديمقراطية - بمفهومها الناضج- تتيح الفرصة لجميع فئات الشعب لإبداء رأيها في أمور حياتها، وهو نفس الحق الذي يبيح تأليف المعارضة أو الأحزاب ذات التوجه السلمي الذي ينحو نحو خدمة المجتمع أو الفئات المُغيّبة عن القرار نتيجة "صُدف بيولوجية"، أو أقدار تاريخية أو أخطاء قبلية وضعت أحدهم شمال الخليج ووضعت جَدُّهُ جنوب الخليج. ولقد دارت معارك طاحنة غير مرئية - في العديد من دول المنطقة- حول قضية المواطن الأصلي والمواطن غير الأصلي (أي مثل الصناعات اليابانية الأصلية، وتلك التي تأتي من تايلاند أو ماليزيا!) وتوجد في بعض النظم تصنيفات إدارية خفية تحدد السكان الأصليين، والسكان غير الأصليين، وإن كان الجميع يحمل الجنسية ويتمتع بالعديد من الحقوق المدنية باستثناء الاستوزار أو حق الترشيح في الانتخابات "الديمقراطية"! أو الحظوة!

إن قانون الولايات المتحدة - وهي أعرق الدول تطبيقاً للديمقراطية- والذي وُضع قبل أكثر من قرنين من الزمان- لا يفرّق بين المواطنين في كل الحقوق باستثناء الترشيح للرئاسة- إذ لا يجوز أن يتقدم للرئاسة إلا من كان من والدين أميركيين، وما عدا ذلك من مناصب وأحزاب وجمعيات، فإن كل من يحمل الجنسية الأميركية يستطيع التقدم لها. كما لا يعوّل النظام على القبيلة أو الأصل العرقي في التعيينات والاستوزار، حيث تظل المؤهلات والخبرة أهم شروط التأهل لدى القائمين على الشأن الإداري سواء داخل مؤسسات الدولة أم في المؤسسات الخاصة. ومن يلحقه ظلمٌ يلجأ إلى القضاء أو الإعلام!

في دول الخليج تتعرض بعض الجماعات المستنيرة إلى ضغوط عديدة، كونها لا تحظى بعمق عائلي، أو أن "الصدف البيولوجية" لم تكن بجانبها على مدى التاريخ. فأين تذهب هذه الجماعات في ظل واقع بُني على أساس الاهتمام و"تقريب" السكان الأصليين، الذين يتوسم النظامُ ولاءهم، وبالتالي يأمن جانبهم وقت الأزمات، على الرغم من أن حوادث التاريخ وثّقت لنا عكس ذلك. إذ أن العديد من الاضطرابات السياسية والأمنية عادة ما تأتي من داخل النظام.

لذلك، فإن قيام شكل ديمقراطي مدعوم بسلطة توتاليتارية، مدعومة هي الأخرى بنمط قبلي يرضى بتصنيف المجتمع إلى فئات هو اختراق للديمقراطية وتحايل واضح عليها. ذلك أن ممثلي الشعب في البرلمانات أو المجالس لن يكونوا ممثلين إلا عن السكان الأصليين. من هنا، ظهرت في بعض دول الخليج العربية قضية "البدون"، ويجوز أن البعض افتعل هذه القضية، أثناء اضطرابات سياسية وعسكرية، كما حدث في دولة الكويت، وهذا لا ينفي وجود المشكلة في الدول الأخرى بشكل واضح وغير مُتعمد. الإشكالية في نظرنا أن "البدون" أو غير محددي الجنسية أو المُصنفين ضمن الطبقة الثانية أو العاشرة في سجلات الدولة، ليس لهم ملجأ عند حدوث الأزمات أو الملاحقات.

وحيث إن الدساتير والقوانين الموجودة في هذه الدول - دول الخليج العربية- تحظر تأسيس الأحزاب أو الجمعيات السياسية، فإن بعض الأطراف تظل مغيبةً لدى الدولة، خصوصاً إذا ما علمنا أن فئات عديدة من هؤلاء قد نالوا تعليماً عالياً، وصارت لديهم خبرات واضحة في مجال تخصصهم، وأن أي حرمان لهم - تحت أي قانون أو توجه جائر- يؤدي إلى تراكمات ليست في صالح المجتمع، ناهيك عن تجاوزه لحقوق الإنسان.

وفي ظل هذا الواقع، الذي لا يبدو بائناً، ويصعبُ على وسائل الإعلام تناوله نتيجة ضغوط رقابية، رغم الإعلان عن حرية التعبير، تدفع هذه الدول إلى وجود معارضة، وإن كانت صامتة اليوم، لكنها قد تظهر إلى السطح مع الأيام، والشواهد كثيرة حولنا. إن أي مثقف يمكن أن يفتح عين المجتمع على حقائق لا تدركها الفئاتُ النائمة المستفيدة من "نعمات" الدولة، لذلك لا نستغرب اليوم أن نشهد حالات إقصاء واضحة لمؤهلين في المنطقة، صرفت عليهم الدول الملايين ثم أقصتهم وجاءت ببعض الشباب يديرون المؤسسات وهم لا زالوا بحاجة إلى خبرة ودراسة ومفاهيم للمهنية. وهذا أيضاً يؤدي إلى تراجع الأداء، وتدهور المؤسسات، مع كل التقدير أن هؤلاء الشباب من نوعية المديرين المُطيعين الذين لا "يُصدعون" رأس المسؤول أو صاحب القرار، ويطيعون الأوامر.
إن العودة إلى الأسلوب التصالحي، مهما كان صعباً، من أفضل الطرق لحماية مستقبل الأوطان، وتدعيم الاستقرار في المنطقة.

المصدر وجهات
  #132  
قديم 18/07/2004, 03:35 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up

الحرب ضد الفساد: استراتيجية الهجوم

د. محمد السيد سعيد


ثلاثة أبعاد أساسية للحرب ضد الفساد تعرضت لبحوث علمية متعمقة إضافة إلى ما تتمتع به من دليل تاريخي من روايات بالغة الثراء والدلالة. ومن الضروري لأية حرب ضد الفساد أن تبدأ بتجميع هذه الأبعاد لضمان النصر. وثمة بعد رابع لم تستطع البحوث العلمية أن تؤكده أو حتى تتناوله بصورة مقبولة أو تنتهي إلى نتائج حاسمة بشأنه لأسباب شتى. وهو ليس أقل أهمية بل ربما يكون العنصر الحاسم والذي إن غاب لن يكون هناك أمل حقيقي في الانقضاض الناجح على الفساد. لنبدأ بالأبعاد الثلاثة الأولى. أول هذه الأبعاد هو وضع سياسة اقتصادية ومالية سليمة تسترد التناسب المرغوب بين الأسعار والأجور وخاصة في القطاع الحكومي. فالفجوة الكبيرة بين الأسعار الحقيقية والأجور والمرتبات الإسمية مثلت العلة المباشرة وراء انحطاط معنويات موظفي الدولة وخاصة في جهازها الأمني. وما أن يحدث ذلك حتى ينطلق الفساد فيها ومن ثم في المجتمع كله. لقد حدث ذلك في المجتمعات قبل الرأسمالية نتيجة إغراق الاقتصاد بمعادن نفيسة رخيصة الثمن سواء نتيجة اكتشافات جديدة أو النهب من بلاد أخرى. والحالة النموذجية هي الإمبراطورية العثمانية التي أغرقت بالذهب والفضة المتدفقين إليها من أميركا اللاتينية عبر التهريب بدءاً من القرن الثامن عشر وهو ما أدى إلى أن الأجور المدفوعة بعملات من هذين المعدنين صارت ضئيلة في قيمتها الحقيقية. واضطر موظفو الدولة إلى قبول الرشاوى لتعويض الفجوة. وأدى استسلام الدولة لهذه الظاهرة إلى أن صار الأجر الحقيقي مقابل الوظيفة الحكومية يدفع إجباراً من قوى المجتمع ومن ثم تمكنت مختلف القوى الاجتماعية وخاصة الأغنياء من تعطيل القانون وشراء ذمم الموظفين العموميين من كافة قطاعات الدولة ومستوياتها الأمر الذي أدى إلى انهيار حقيقي للمجتمع والإمبراطورية. وتعد تجربة العثمانيين تكراراً يكاد يكون نمطياً لما حدث للخلافات الإسلامية الأخرى بل وللإمبراطورية الرومانية وهو ما شرحه المؤرخ جيبون ببراعة في تأريخه الفذ لسقوط روما.

أما في العصر الحديث فإن التضخم وتعاظم الفجوة بين الأسعار والأجور الحقيقية ينشأ عن أزمة الدولة المالية وعجزها عن تحصيل ضرائب كافية للإنفاق المجدي على جهازها المتضخم. ويعني ذلك بالنسبة لبلادنا العربية الكبيرة غير المصدرة للنفط حتمية السيطرة على نمو الجهاز الحكومي وتحسين أجوره الحقيقية من أجل ضمان انضباطه حتى تمكن السيطرة على الفساد.

أما البعد الثاني فهو استقلالية الدولة ونزاهة تطبيقها لتشريعات كافية لضبط التطور العام للمجتمع وللمنافسة داخل السوق الرأسمالي سواء في الداخل أو في القطاع الخارجي. الاقتصاد الرأسمالي هو أسلوب إنتاج وتوزيع يقوم نظرياً على قواعد مجردة لا يمكن أن تعمل إلا إذا تم ضمان نزاهة المنافسة وخاصة في مشتروات ومشروعات الحكومة والقروض والعمليات المصرفية. ولكن هذا النظام مثله مثل أي نظام اقتصادي أو اجتماعي آخر يقوم على بشر لهم مصالح محددة قد تصطدم مع القوانين العامة المجردة للاقتصاد الرأسمالي وخاصة فيما يتعلق بالعمليات التي يتفاعل فيها الرأسماليون مع الحكومة والمصارف. ومعظم أحداث الفساد في العالم العربي وفي العالم تنشأ داخل هذين الفضاءين. ويحدث ذلك في حالات معينة نتيجة غياب أو نقص التشريعات الضرورية لمناهضة الفساد وضمان نزاهة المنافسة وحيادية جهاز الدولة مع المتنافسين. وفي حالات أخرى قد تكون التشريعات مرضية من ناحية النصوص ولكنها لا تطبق نتيجة فقدان موظفي الدولة للنزاهة للأسباب السابق ذكرها. ولا يمكن للدولة أن تقوم بتشريع القوانين اللازمة مثل مناهضة الاحتكار والإغراق وحماية المستهلك وتجريم ومعاقبة الرشوة والتسيب في أداء الوظيفة العامة إلا إذا كانت مستقلة. ويعني ذلك بالنسبة للعالم العربي الفصل التام بين المال العام والخاص والتحرر من الطابع العائلي للحكم ومنع الموظفين العامين من العمل بالأعمال التجارية والمالية فضلا عن قيام السلطات العامة على الرضا العام للمجتمع وخاصة من خلال انتخابات حرة نزيهة تقوم على المنافسة بين برامج سياسية وليس رشوة المواطنين للحصول على أصواتهم مقابل التضحية بمصالح عامة وبنزاهة الحكم.

أما البعد الثالث فيتعلق باستراتيجية الإصلاح الاقتصادي وتحديداً هذا النوع من الإصلاحات الذي يقوم على الانتقال من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة ومن الاقتصاد الموجه إلى اقتصاد السوق. فالمرحلة الأولى من الانتقال تؤدي إلى نشأة طبقة من المستفيدين الأوائل الذين لهم مصلحة في الحيلولة دون دخول عناصر جديدة إلى السوق وهو ما يؤدى إلى وقف الانتقال والإصلاحات عند مرحلة تتسم بالغموض وتعدد النظم وتضاربها وسيادة أنساق سعرية متباينة وخاصة في مجال الصرف الأجنبي والمعاملات مع السوق العالمي وترتيبات الخصخصة والتشريعات الضرورية لأعمال قواعد السوق بنزاهة. وتثبت البحوث العلمية حول استراتيجيات الانتقال، أن الانتقال الحاسم والمتكامل من النواحي التشريعية والعملياتية يؤدي إلى فساد أقل بكثير من الإصلاحات التدريجية والناقصة والتي تترك منطقة رمادية كبيرة بين النظام القديم والنظام الجديد. ولهذا الاستدلال نتائج بالغة الأهمية بالنسبة للمناظرة التي تدور في عدة بلاد عربية حول مدى وسرعة الإصلاح. فعندما يتم الانتقال وفقاً لتشريعات متكاملة تقوم الدولة بتطبيقها بصرامة ونزاهة يقترب النظام الجديد من الصورة المثالية أو المجردة للنظام الرأسمالي بحيث لا يترك مجالا كبيراً لتفادي المنافسة أو الحصول على أرباح احتكارية أو ضرب القانون. كما يتحقق توازن أفضل فيما بين الفروع المختلفة للرأسمالية الجديدة. أما عندما يكون الانتقال تدريجياً وناقصاً من الناحية التشريعية فهو يسمح للمستفيدين الأوائل بإنشاء روابط خاصة مع جهاز الدولة والحصول على الممتلكات العامة بأسعار رخيصة أو بدون سعر وازدهار أنشطة المضاربة والسوق السوداء وعمليات النصب والتلاعب بأنظمة المحاسبة الضريبية والمالية للشركات. ويصبح الفساد هو القانون العام الرئيسي المحدد لطبيعة عمليات الانتقال.

البعد الأخلاقي

ثمة بعد رابع يمكن تسميته البعد الغائب في نظرية الحرب ضد الفساد وهو يتعلق بالجانب الأخلاقي لأي مجتمع عموماً وبمناهضة استشراء الجشع خصوصاً. فمهما كانت قوة التدابير المادية المتخذة للحرب ضد الفساد لن يكون لها مردود حقيقي إلا إذا استرد المجتمع الإيمان بوجود نظام أخلاقي يقوم على وضع حدود ما على شدة الطمع في المال والسلطة والمتع المادية الأخرى. ومن الطريف أن منظراً للرأسمالية بحجم السيد جرينسبان مدير المجلس الاحتياطي الفيدرالي وهو البنك المركزي في الولايات المتحدة لم يجد شرحاً كافياً لما أصاب الرأسمالية الأميركية من أزمات عاصفة في السنوات الأخيرة سوى بالتركيز على أهمية عنصر الجشع الذي أصاب الرأسماليين بل والمجتمع الأميركي كله. إن تماسك قيم مثل العمل الشاق والتقشف والإيمان بالربح المعقول وليس الغرف بلا حدود من جيب المستهلك والدولة والارتباط بين العمل والابتكار والعائد كانت هي القيم التي مكنت من نجاح الرأسمالية في أميركا وأوروبا الغربية. وعكس هذه القيم كلها: أي الجشع سيكون وراء انهيارها.

ولكن المشكلة هي كيف يمكن استرداد هذه القيم. في أحوال كثيرة يتطلب الأمر ثورات كبرى تعيد صهر المجتمع عقلا وجسداً وروحاً وتعيد بث الإيمان بهذه القيم. وفي حالات أخرى يتطلب الأمر الانتقال السلمي إلى الديمقراطية الصحيحة وقيم الشفافية والمحاسبية. وفي حالات ثالثة قد تتطلب زعماء على درجة عالية من القوة والصرامة والتقشف هم أنفسهم. أما في حالتنا العربية فيتطلب الأمر إلى جانب ذلك كله تصحيح حركة الإحياء الديني والتأكيد على القيم الأخلاقية الرفيعة للإسلام في إعادة تربية الأجيال الراهنة من المسلمين.



المصدر وجهات ......
  #133  
قديم 22/07/2004, 12:53 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

سؤال التكتل والاتحاد

د. برهان غليون



كلما تقدمت مسيرة التحولات العالمية في إطار ما يسمى اليوم العولمة ظهر التفكك والتجزئة العربية كعامل الضعف الرئيسي في أي محاولة للخروج من أزمة التراجع والتقهقر والجمود العربية، وثارت من جديد مسألة لا يزال الفكر العربي يتصدى لها منذ عقود. أعني مسألة الوحدة أو الاتحاد أو التكتل بين الدول العربية. وجوهر هذه المشكلة هو أن أمما وقوميات كبرى لا يشك أحد في تكونها سارت سيرا مطردا في العقود الخمسة الأخيرة نحو التعاون والتفاهم والاتحاد، بالرغم من الحروب العنيفة والدامية التي كانت قد عرفتها فيما بينها سابقا، في حين أن الدول العربية التي بدأت قبل أي جماعة أخرى في تكوين رابطة إقليمية بهدف تسريع خطى الاندماج والوحدة، وهي التي لم تكن قد عرفت حروبا فيما بينها، وتشترك أكثر من أي بلدان أخرى في تاريخ، وثقافة، ولغة، ودين غالبي واحد، قد سارت أكثر من أي منطقة أخرى نحو التباعد والتشاحن والتنابذ والتفكك بل نحو الحروب الداخلية. هكذا لم تساعد القرابة القومية الفعلية في تحسين شروط الاتحاد، والتفاهم بينما لم تمنع التمايزات القومية الواضحة والقوية الدول الأوروبية من التقدم بسرعة نحو الاتحاد.

على هذا السؤال المحير ليست هناك بعد إجابات شافية، بالرغم من الأدبيات الكثيرة والمتنامية حول موضوع إخفاق الجامعة العربية أو العمل العربي المشترك أو تجديد مشاريع الاندماج والتكتل الاقتصادي في المنطقة العربية، وآخرها مشروع منطقة التجارة العربية الحرة الكبرى.

ويبدو لي اليوم من التأمل في التاريخ العربي الاقليمي الحديث، وفي الأدبيات الكثيرة التي أنتجها أيضا في هذا الميدان أن السبب الرئيسي والحاسم الذي يفسر هذا التردد العربي في تحقيق مشاريع التكامل والتعاون، لا يكمن في الضغط الخارجي- كما كنا نتصورعادة- ولا في حرص النخب القائمة على الحكم على الدفاع عن مصالح قطرية أو وطنية قطرية فعلية، ولا من باب أولى في نقص الثقافة التعاونية أو التمسك بالقطرية كقضية مبدئية. إنه قائم بالعكس من كل ذلك على غياب الوعي عند هذه النخب نفسها في المصالح العليا والوطنية وارتمائها على الدول الكبرى لضمان الحماية الخارجية. فالذي دفع النخب الأوروبية إلى السير نحو التعاون الاقليمي ثم الاتحاد السياسي، كما هو الحال اليوم ليس شيئا آخر سوى التمسك بمنطق البحث عن تعظيم المنافع والمكاسب الاجتماعية لأفراد شعوبها. فهي لا تتحرك بدافع البحث عن المصالح الخاصة، ولكن بدافع تحقيق المصالح الأهلية والوطنية باعتبار ذلك هو مصدر الشرعية الحقيقية لها، وهو الضمانة الرئيسية في أن تعاد الثقة بها والتجديد لها في القيادة والحكم في نظم سياسية تحكمها قاعدة الديمقراطية والانتخابات العمومية.

وبالعكس، إن ما يفسر تجنب العديد من النخب العربية، ونخب العالم الثالث عموما مشاريع التقارب والتعاون والتكامل الاقليمي هو كون معظمها طغما حاكمة لا تفكر إلا بمصالحها الخاصة، ولا تحتاج كي تجدد لنفسها في الحكم إلى أي مشورة أو موافقة شعبية، وإنما تحقق ذلك من خلال تحالفاتها الدولية وقوتها العسكرية والأمنية التي تضمن لها البقاء تماما، كما ضمنت لها الوصول إلى السلطة. وهذا يعني أن معظم دولنا تعمل بمنطق حماية النظم والمصالح القائمة بصرف النظر عن المصالح الوطنية والأهلية. ومن الطبيعي في هذه الحالة ألا نتوقع من هذه النخب التي نجحت في تحويل البلاد ومواردها إلى ملكية خاصة تتقاسمها هي وأبناؤها وأحفادهم وأنصارهم ومحازبوهم، من دون رقابة ولا مساءلة، أن تكون وحدوية، أي أن تتخلى بمحض إرادتها عما أصبحت تنظر إليه كإرث عائلي ومزرعة خصوصية.إن الوحدة لا يمكن أن تعني شيئا آخر بالنسبة إليها في هذه الظروف، سوى التضحية بمصالحها وانتحارها الذاتي على مذبح أهداف تراها مثالية ولم تتعامل معها لحظة إلا على أنها شعارات للاستهلاك والحصول على الشرعية.

ويعكس النقاش القائم على المفاضلة بين القطرية والقومية أو الاختلاف حول الأولويات فيما يتعلق ببناء الدولة القطرية أو دولة الوحدة القومية في البلاد العربية، غياب التفكير العقلاني، والموضوعي في مسألتين معا : مسألة بناء الدولة القطرية ذاتها، ومسألة تحقيق الوحدة العربية معا. وهذا ينبع من استخدام قضية الوحدة لأهداف الاستراتيجيات السياسية اليومية، ويهدف إلى الهرب نحو قضايا ومسائل نظرية مصطنعة لتجنب القضايا الراهنة والتاريخية المطروحة، وفي مقدمها طبيعة الدولة ذاتها قبل أن تكون قطرية أو قومية، ومن وراء ذلك مسألة بناء الدولة القطرية كدولة مواطنية بالفعل.

ومن البديهي ألا تكون هناك وحدة ولا تعاون ولا تفاهم بين الدول العربية قبل أن تتحول هذه الكيانات الهشة والمفتقرة هي ذاتها إلى الثقة بنفسها ومعرفة واجباتها وقدراتها، إلى دول حقيقية.أي قبل أن تتحرر من القيود التي تفرضها على تطورها ولقائها مع أفرادها وأبنائها السلطة المطلقة البيروقراطية والمصالح الشخصية والفئوية التي تكبلها وتفسد جوهرها فتحولها من أداة تنظيم، وتسيير، وتواصل بين الناس إلى أجهزة أمنية، أي قمعية فحسب. وعندما تتخلص الدولة القطرية من هذا المس الذي أصابها وتتحول إلى دولة مواطنيها وشعبها بالفعل، سوف نكتشف بسرعة لا جدوى الحديث الطويل في عصرنا الراهن عن التناقض بين القطرية والقومية، وعن أهمية تحقيق الوحدة العربية. والتجارب التاريخية التي تجري أمام أعيننا تدل بما لا يقبل الشك أن الدول والأمم الأوروبية المتكونة تاريخيا وبقوة لم تكن بحاجة إلى البرهان على هويتها المشتركة ولا إلى اختراع أسطورة قومية حتى تسعى إلى التعاون وتنجح في تحقيق الاتحاد فيما بينها. فلم يعد من الضروري من منظور تطور اشكاليات العصر، وفي مقدمها العولمة والانفتاحات الاقتصادية، إضفاء المشروعية التاريخية أو الثقافية أو الأقوامية على مشروع تعاون اقليمي حتى نبرر قيامه تجاه الدول والمجموعات البشرية الأخرى، ولا من أجل ضمان استمراره وقبوله من قبل الجماعات المتعددة والمتباينة المشاركة فيه. وقد برهن تكوين الاتحاد الأوروبي في العقد الماضي على أن السعي المشترك لتعظيم المنافع والمصالح المتبادلة يشكل اليوم، بصرف النظر عن القرابة الروحية أو الأقوامية أو الجغرافية، مصدرا كافيا بل المصدر الأهم لمشروعية العمل الوحدوي أو الإقليمي. بل لقد أظهر أنه أقوى أثرا وفاعلية في تحقيق الاتحادات اليوم من أي مصدر مشروعية آخر، قائم على تأكيد الروابط التاريخية أو اللغوية أو الثقافية. وبالعكس، فقد دلت التجربة العربية على أن انتماء شعوب عديدة إلى تاريخ واحد، وامتلاكها لغة مشتركة، وعيشها في إطار ثقافة واحدة، ووجود مشاعر، وآمال، وآلام واحدة عند شعوبها بل ونزوع هذه الشعوب بشكل قوي وجامع إلى الاتحاد لم يقربها من الوحدة ولم يؤسس فيها عوامل الاتحاد، بل لم يحل بينها وبين التمزق والانفصال وتكريس الوطنيات المحلية، وتقديس الحدود القطرية التي أثارت العديد من الحروب. والنتيجة لن تنجح الشعوب العربية في تجاوز التمزق والدخول الفعلي في عهد التكتلات الإقليمة إلا من خلال إقامة أنظمة تقدم المصالح الوطنية على المصالح الفئوية، أي من خلال أنظمة ديمقراطية. ومن دون ذلك سوف تبقى الوحدة والتكتل والاتحاد أحلاما ليس لها أي أمل للتحقق في الواقع.


المصدر وجهات
  #134  
قديم 26/07/2004, 04:40 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Talking

معاداة العرب في مشروع عنصري جديد


د. بثينة شعبان


في جلسة فكرية ضمت نخبة من الحريصين على هوية الأمة ومستقبلها، من أقطار عربية مختلفة، في إحدى العواصم الأوروبية، تطرقنا إلى المخاطر التي تهدد اللغة العربية، وهي الوعاء الذي يجمع بيننا جميعاً ويتيح لنا إمكانية التواصل المعرفي والقومي، الذي يشكل العصب الأساسي للانتماء. وفي اليوم التالي، أرسل لي أحدهم ما وصله من دراسة تهدف فيما تهدف إليه تغيير الأبجدية العربية واستبدالها بالحروف اللاتينية، تحت مسمى
«تحديث الثقافة العربية»، واعتبار هذا المشروع جزءاً من خطة الإصلاح في المنطقة، التي تدخل ضمن إطار مشروع «الشرق الأوسط الكبير»، حيث يدعي معدو هذا المشروع «أنه وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول تم إجراء أكثر من 600 دراسة بين عامي 2002 و2004، خلصت كلها إلى أن الغرب يواجه صعوبة كبرى في استيعاب الحضارات العربية». ويقول معدو المشروع: «بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، لم يتمكن الغرب من التعرف على شعور (الإرهابيين) الحقيقي أو الدوافع الكامنة وراء ارتكابهم لهذه الأحداث، بينما يتقن العرب اللغات الإنكليزية والفرنسية ويتحدثونها كما يتحدثها الناطقون الأصليون بها». ولذلك يستهدف المشروع اللغة العربية، ويخطط لإلغاء المناهج القائمة حالياً، التي تعتمد على دراسة قواعد اللغة والصور الجمالية وإبداعاتها «في إطار حركات الإصلاح والسعي نحو تطبيق الحرية والديمقراطية».
وتضيف الدراسة: «إن الهدف من هذا المشروع ليس تحرير اللغة العربية فقط من أشكالها التقليدية، التي ظلت قائمة كما هي منذ آلاف السنين، ولكن تحرير العقول العربية والإسلامية، ويستهدف القضاء أساساً على الموروثات السلبية، مثل الانتقام والعنف والإرهاب». ويحدد المشروع خطواتٍ ملموسة للتخلص من قواعد اللغة العربية، ومن ثم فصل اللغة عن ماضيها وتراثها، وبالأخص عن القرآن الكريم، لنزع صفة القدسية عنها، ومن ثم تغيير المعاني، وذلك «لإقناع الأجيال الشابة أنّ العصر الحديث يتطلب التخلص من التعقيدات اللغوية التي تفرضها لغتهم العربية». ويؤكد المشروع أنّ «الخطوة الأساسية في هذا التعديل، تكمن في أن يوافق العرب على تغيير شكل الكتابة، ثمّ تبدأ الأشكال الحالية للغة العربية في الاندثار شيئاً فشيئاً». ويشمل المشروع خطواتٍ مدروسة، شارك في وضعها علماء نفس، ولغويون وسياسيون، وقد حسبوا حساباً لأدق التفاصيل وردود الأفعال عليها. ويمكن تلخيص هذه الخطوات على الشكل التالي:
الخطوة الأولى: التعبير عن النص العربي أو القرآني بفكرةٍ جديدة تؤدي ذات المعنى.
الخطوة الثانية: التعبير عن النص أو الآية بفكرةٍ قريبةٍ منها.
الخطوة الثالثة: تغيير فكرة النص أو الآية من دون اصطدام مع الفكرة الأصلية.
الخطوة الرابعة: تغيير الفكرة بما يؤدي إلى التشكيك في الفكرة الأصلية.
الخطوة الخامسة: زيادة الألفاظ والعبارات في ذات الفكرة وزيادة مساحة التشكيك في الفكرة الأصلية.
الخطوة السادسة: القبول والإقناع بتفسيراتٍ جديدة لهذه الفكرة الأصلية، بما يؤدي إلى محو معناها الذي كان قائماً لفتراتٍ طويلة في أذهان الناس.
الخطوة السابعة: دراسة ردود الفعل حيال كل الخطوات السابقة ومجابهة المعترضين على التغيير البطيء.
الخطوة الثامنة: تغيير الفكرة الأصلية وإحلال الجديدة محلها بشكلٍ نهائي. وسيتم تحديد طبيعة «التوجهات العدوانية أو المسالمة للعرب»، من خلال دراسة مواقفهم من أشكال الكتابة الجديدة و«الشخص العدواني هو الذي يرفض أشكال الكتابة الجديدة، أما الشخص السوي، فهو الذي يعتمد على استخدام الأشكال الجديدة للكتابة». ويخطط واضعو المشروع لمحاصرة الرافضين له باتهامات مثل «متشددين» أو«متطرفين» أو«تقليديين» أو «متحجرين» الخ.
ورأى عدد من علماء النفس، الذين اشتركوا بوضع هذا المشروع العنصري، أنّ تغيير أشكال الحروف العربية «سيقلل من حدة العداء
والكراهية المتأصلة لدى المواطنين العرب ضد أميركا والغرب بصفةٍ عامة».
وهناك مقترح يتضمنه المشروع ويقضي بإلغاء لفظة «اليهود» على سبيل المثال من اللغة العربية، لتحل محلها في الأشكال الجديدة لفظة «الساميون»، لأن لفظة «اليهود»، ارتبطت دائماً لدى العرب بأشياء بغيضة، بينما لفظ
«الساميون» مقبول جداً لديهم، ويدل على السمو والارتفاع بالأخلاق. ويتهم واضعو المشروع الحضارة العربية بأنها «تتناقض مع مبادئ الماديات الحديثة واللغة الدولية، في بناء التواصل الفكري وأن هذه الحضارة بطبيعتها متعصبةً، وأن هذا التعصب يقود إلى الاصطدام المباشر مع الحضارات الأخرى، وأنه قد حان الوقت للقضاء على ذلك التعصب».
إن الحديث عن «صعوبة» اللغة العربية، ناجم عن جهل بها أو حقدٍ عليها وعلى عروبة العرب. فكيف تنسجم اللغة الصينية التي تم أحياؤها مع الغرب وحداثته؟ وكيف تتناغم اللغة الأوردية أو العبرية، التي كانت لغةً ميتة مع الغرب، بينما تتناقض اللغة العربية التي قدمت للغرب أفكار الفارابي وطب ابن سينا وفلسفة ابن رشد وتصوف ابن عربي، مع عصرنة الغرب وفكره؟ لقد كانت اللغة العربية، وما زالت، أداةً طيعةً لنشر العلوم والمعارف والاختراعات والمفاهيم الفكرية والفلسفية والدينية، في مختلف أصقاع الأرض. فمن أين أتت فجأةً كل هذه المخاوف من «صعوبة اللغة» على الجيل الجديد؟ ما زال الكثيرون في الوطن العربي يتكلمون الشعر حتى من دون تعلم الكتابة والقراءة. وما زال الملايين يتكلمون العربية الفصحى بالسليقة السليمة، لأنها تنسجم مع المعنى والبلاغة والإحساس بالفكر والرسالة المبتغاة منها. إن لغتنا كحضارتنا ومنطقتنا وأرضنا، جميلة ومستهدفة من قبل أعداء فشلوا أن يفهموا عمق الشرق وحضارة الشرق، فعمدوا إلى تشويهه من خلال نظريات الاستشراق والمتبنين لها والعاملين على ترويجها. اتخذوا من أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، ذريعة لشن حملة عداء وكراهية عنصرية شعواء على هذه الأمة، تمثلت باتهام جميع أبنائها بالإرهاب من أجل تصفية الصراع العربي ـ الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، ونهب ثروات العراق وحضارته التاريخية المجيدة. واليوم يتسع أفق هذه الحملة ليشمل اللغة والتراث والفكر والدين والإرث الروحي والاجتماعي لهذه الأمة برمته. ولذلك من المتوقع أن يتم تمويل الأبواق المحلية التي ستردد هذه الطروحات عن صعوبة «اللغة وقواعدها»، وعن «ضرورة تغيير هذه القواعد أو إلغائها»، وعن «ضرورة تعديل الأبجدية العربية». ومن المتوقع أن يعقد مؤتمر هنا ويصدر كتاب هناك لترويج هذا المشروع من الداخل وهذا الجزء من المشروع أكثر خطراً علينا جميعاً. إن هذا المشروع العنصري، وضع مخططاً يمتد على عشرين سنةً للقضاء على اللغة العربية، وفصل العرب تماماً عن تاريخهم وحضارتهم. فهل هناك من يضع خطةً تعليميةً مقابل هذا المشروع العنصري لتعيد للغة العربية ألقها وأهميتها ومكانتها في العشرين سنةً المقبلة؟ وهل يندفع وزراء التربية العرب واتحادات الكتاب لتعزيز مناهج تدرس اللغة العربية لأجيالنا الصاعدة، كما علمنا آباؤنا ومدرسونا لغتنا الجميلة، حيث يصبح الإعراب تعبيراً عن فهمٍ عميقٍ للمعنى. ويصبح التنقل بين الفصحى والعامية انسياباً لا كلفة فيه ولا جهل. وتصبح نون النسوة والمثنى جزءاً جميلاً وطبيعياً من لغة كتب علماء اللغة قواعدها بعد أن سمعوا كيف يتحدث الناس بها، وتحكم قواعدها عناصر منطقية سهلة ومنسجمة مع الفكر وسهولة الوصول إلى المعنى مع البلاغة والفصاحة والجزالة في الأداء. وإذا كان الطفل الفلسطيني ما زال يقاوم الدبابة الإسرائيلية بحجر أليس حرياً بالعرب أن يدافعوا عن لغتهم فهي وعاء حضارتهم ورمز هويتهم؟ ولا شك في أن لغتنا العربية تمثل وجدان وأداة استمرارنا كأمةً لها قيمة وحضور بين الأمم.

المصدر الشرق الاوسط
  #135  
قديم 26/07/2004, 09:38 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

أهمية الصحافة الورقية والالكترونية في العالم

حيدر بن عبدالرضا اللواتي:



بالرغم من اتجاه الكثير من القراء في العالم لتصفح الجرائد الالكترونية اليومية، وغيرها من المجلات الإلكترونية الدورية الأسبوعية والشهرية بواسطة شبكة المعلومات الدولية (الانترنت)، وما يحمله بريدهم اليومي من رسائل وأخبار لأهم الأحداث التي يشهدها العالم، إلا أن معظم الشعوب في العالم ما زالت تعطي أهمية كبيرة للجريدة والمجلة الورقية في حياتهما وفي معاملاتهما اليومية، حيث تصل إليهما في عقر دارهما من خلال الشبكات الحديثة من الموزعين سواء تلك التي تصدر في داخل دولها أو خارجها.
وما زال معظم القراء في العالم يفضلون قراءة الجرائد الورقية لأنها لا تحتاج إلى معاناة الجلوس أمام شاشة الحاسوب، وإجراء التوصيلات اليومية كتوفير خطوط وخدمات الهاتف الثابت وغيرها من الخدمات الأخرى الضرورية كوجود الكهرباء وبريد الكتروني وكتابة رموز المواقع الالكترونية لتلك الصحف وغيرها من الأمور الأخرى، وإنما باستطاعة القارئ شراء الجريدة أو المجلة الورقية من أقرب محطة تعبئة الوقود، أو شرائها ضمن الاحتياجات المنزلية من أقرب محل تجاري، والاستفادة منها في أي موقع يجلس فيه، ومن ثم التخلص منها متى شاء.وبالرغم من تطور وسائل التقنية الحديثة في نقل الأخبار اليومية ساعة بساعة عبر الجرائد الالكترونية خاصة في دول العالم المتقدم، إلا انه يبدو من واقع الحال ان شعوب هذه الدول المتقدمة هي التي تحتل الصدارة في شراء من الجرائد والمجلات الورقية المكتوبة والاستفاده منها بالرغم من استخدامها الكبير لوسائل تقنية المعلومات الحديثة ودخولها وتصفحها للجرائد الإلكترونية.
وحول هذه الحقيقية فإن التقرير الصادر عن "الجمعية الدولية للصحافة" مؤخرا يرصد بتفصيل أحوال الصحافة المكتوبة عبر العالم خلال سنة 2003 حيث تصدمنا أرقام مذهلة حول ترتيب الصحف الورقية المكتوبة وحجم انتشارها في العالم، ومداخيلها من الإعلانات، خاصة لدى المجلات والصحف الثماني الأوائل من مجلات الأخبار العامة أو الاقتصادية، أو الثماني الأوائل من مجلات ذات الجمهور الواسع، والثماني الأوائل من المجلات النسائية.
كما أن الملفت للنظر بالنسبة لأي قارئ عربي -كما يورده التقرير- هو غيبة الصحافة العربية عن حلبة التنافس بالرغم من أن سوق الأقطار العربية تعج بحوالي أكثر من 300 مليون شخص، مما يثير أسئلة كبرى عملية تتعلق بتفشي الأمية وتدني القدرة الشرائية في أغلب الأقطار العربية وجودة الصحافة ومساحات الحرية المتوفرة لها.أكثر الصحف توزيعا في العالم
وحول أكثر الصحف اليومية انتشارا وتداولا في العالم، تشير بيانات التقرير الى أن هناك العديد من الصحف اليومية التي تزيد مبيعاتها أكثر من مليون نسخة في اليوم، وتأتي في مقدمة هذه الصحف الجرائد اليابانية التي تحتل الصدارة في العالم، حيث هناك 5 صحف يومية يابانية تأتي في المرتبة الأولى من حيث التوزيع ضمن الـ25 صحيفة في العالم، حيث تصل المبيعات اليومية لصحيفة (يوميوري شيمبون) - وهي أكثر الصحف انتشارا بين الشعب الياباني حوالي 14.2 مليون نسخة في اليوم، تليها صحيفة (أساهي شيمبون) في المرتبة الثانية حيث توزع يوميا 12.3 مليون نسخة، في حين تحتل صحيفة (مينشي شيمبون) اليابانية المرتبة الثالثة ويصل توزيعها اليومي 5.6 مليون نسخة، تليها صحيفة (نيهون كيزاي شيمبون) في المرتبة الرابعة والتي يصل توزيعها اليومي 4.7 مليون نسخة، ثم صحيفة (شونيشي شيمبون) التي يصل توزيعها اليومي 4.5 مليون نسخة.
أما بالنسبة لتوزيع الصحف الأخرى في العالم ضمن الـ25 صحيفة، فإننا نجد ان المبيعات اليومية لصحيفة (بيلد) الألمانية تحتل المرتبة السادسة وبواقع بيعها 4.2 مليون نسخة، فيما تأتي صحيفة (ذي صن) البريطانية في المرتبة السابعة حيث يبلغ توزيعها اليومي 3.4 مليون نسخة. ويلاحظ أن صحيفة (يو أس أي توداي) الأمريكية تأتي في المرتبة العاشرة حيث تصل مبيعاتها اليومية 2.6 مليون نسخة، في حين نجد أن صحيفة (دايلي ميل) البريطانية تحتل المرتبة الـ13 في العالم بواقع توزيع 2.4 مليون نسخة يومية بينما تأتي صحيفة (ذي ميرور) البريطانية في المرتبة الـ16 حيث توزع يوميا2.1 مليون نسخة، في حين نجد أن صحيفة (نيويورك تايمز) الأمريكية تأتي في المرتبة الـ23 حيث توزع 1.6 مليون نسخة يومية.
أما أكثر الشعوب قراءة للصحف الورقية اليومية ضمن عدد الأفراد بالنسبة لكل ألف فرد من السكان، فتأتي النرويج في المرتبة الأولى بواقع 704 أشخاص في الـ1000، تليها اليابان بـ653 شخصا، ثم فنلندا بواقع 531 شخصا، ثم السويد 508 اشخاص، تليها سويسرا بواقع 432 شخصا، ثم إنجلترا بعدد 402 من الاشخاص، تليها النمسا بعدد 365 شخصا، ثم كندا بواقع 342 شخصا، تليها البيرو بـ341 شخصا. أما في المرتبة العاشرة فتأتي سنغافورة حيث يقرأ الصحف بين كل 1000 من أفرادها 339 شخصا، تليها الدنمارك بواقع 334 شخصا، ثم ألمانيا بـ332 شخصا، ثم هولندا بـ328 شخصا، تليها أوكرانيا بـ271 شخصا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية بـ962 شخصا، تأتي بعدها هونج هونج 162 شخصا، تليها استونيا 272 شخصا، ثم سلوفينيا 211 شخصا، ثم أستراليا 207 أشخاص، تليها كل من بلجيكا بـ203 أشخاص، ثم التشيك 195 شخصا، ثم هنغاريا بـ191 شخصا، ثم فرنسا 164 شخصا، تليها تركيا بـ131 شخصا، ثم أسبانيا 127 شخصا، ثم في المرتبة الـ 25 تأتي إيطاليا حيث يقرأ الصحف اليومية من كل 1000 فرد 118 شخصا.
وبالنسبة للمجلات الثماني الأسبوعية الأكثر مبيعا في العالم باستثناء مجلة "موني" وهي شهرية وفقا لأرقام "الجمعية الدولية للصحافة"، فإن مجلة (التايم) الأمريكية تأتي في المرتبة الأولى من حيث مبيعاتها الأسبوعية حيث يصل توزيعها 4.129 مليون نسخة في الأسبوع، تليها مجلة (نيوزويك) الأمريكية بواقع 3.225 مليون نسخة، ثم (يو اس نيوز أند وورلد ريبوت) الأمريكية بعدد 2.076 مليون نسخة، فيما تأتي مجلة (موني) وهي مجلة أمريكية شهرية في المرتبة الرابعة وبواقع 2.062 مليون نسخة، تليها مجلة (سيكورتيس مارك ويكلي) الصينية بواقع 1.2 مليون نسخة، ثم (باري ماتش) الفرنسية بواقع 738 ألف نسخة في الأسبوع، ثم مجلة (ليكسبريس) الفرنسية بـ552 ألف نسخة، تليها في المرتبة الثامنة مجلة (لونوفيل أوسيرفاتور) الفرنسية بـ536 ألف نسخة.
أما المجلات الثماني الأكثر مبيعا وشعبية في العالم من حيث ترتبيها والتي تبيع ملايين النسخ منها فتأتي مجلة (ريدرس دايجيست) الأمريكية الشهرية في المرتبة الأولى حيث تصل مبيعاتها الشهرية 12.558 مليون نسخة، تأتي بعدها في المرتبة الثانية مجلة (نات جيوغرافيك) وهي نصف شهرية أمريكية حيث تصل مبيعاتها 7.739 مليون نسخة، تليها مجلة (يويبل ويكلي) وهي أسبوعية أمريكية بـ3.714 مليون نسخة، ثم المجلات الأخرى
.

وبالنسبة للمجلات النسائية الثماني الأولى الأكثر مبيعا في العالم، تشير بيانات التقرير ان جميعها تصدر من الولايات المتحدة الأمريكية، وكلها شهرية وتصل توزيعاتها بملايين النسخ منها، وتأتي في مقدمتها مجلة (بيتير هومس أندجاردن) حيث توزع 7.603 مليون نسخة، تليها مجلة (فاميلي سيركل) وبواقع 4.758 مليون نسخة، ثم مجلة (جودهاوس كينج) بواقع 4.531 مليون نسخة، ثم المجلات الأخرى.

[وبالنسبة للجرائد الإلكترونية في العالم فقد بدأت تنال اليوم اهتمام قرائها بجانب الجرائد الورقية خاصة تلك التي تتسم بالموضوعية. ولا يمكن ان تكون هنا مقارنة أعداد الصحف الإلكترونية الصادرة في الغرب وباللغات الأجنبية بأعداد الصحف الإلكترونية الصادرة باللغة العربية، حيث ان هناك المئات بل الآلاف من الصحف الإلكترونية التي تصدر بمئات اللغات الأجنبية في العالم. وكلما تطورت خدمات تقنية المعلومات في العالم ازدادت أعداد المجلات الإلكترونية انتشارا في المعمورة.
وعموما فقد شهد مثل هذا النوع من الصحف اتساعا كبيرا خلال السنوات الماضية. ووفقا لبيانات التقرير الصادر عن "الجمعية الدولية للصحافة" عن سنة 2002 تبقى الولايات المتحدة الأمريكية رائدة في الصحف الإلكترونية حيث يزيد عددها عن 1296 جريدة إلكترونية، بينما يصل العدد في فرنسا إلى 40 صحيفة الإلكترونية، تليها السويد بـ77 صحيفة، ثم إيطاليا بنحو 91 صحيفة، تليها إسبانيا بـ100 صحيفة، ثم البرازيل بـ308 صحف إلكترونية.[/COLOR]وأخيرا نقول ان الصحافة بشكل عام شهدت تطورات عديدة في العالم خلال السنوات الماضية، فبعد أن كانت الصحافة الورقية هي المسيطرة على الساحة، أصبحنا في هذا العصر ومنذ بداية استخدامنا للانترنت نشهد صحافة من نوع آخر، الأمر الذي يدفع بالبعض إلى طرح التساؤل إن كانت الصحافة الجديدة أصبحت اليوم منافسة للصحافة الورقية، أم هي داعمة لها، ونتيجة لذلك أصبحت الآراء متباينة حول هذا السؤال. وعموما فإن معظم أصحاب مهنة الصحافة الورقية يعتقدون ان الصحافة الإلكترونية لم تؤثر كثيرا على عملهم، ولا على مهنتهم ولا على وسيلتهم المحببة إلى القارئ، أما أصحاب الوسيلة الجديدة في الصحافة الإلكترونية فيعتقدون أن عهد الصحافة الورقية قد ولى إلى غير رجعة، وأن صحافة الإنترنت هي التي تفرض نفسها الآن. وفي هذا الصدد يقول علي عبيد مدير التدريب الإعلامي بجريدة البيان: "ان هناك الكثير من المؤسسات الصحفية العريقة حاولت أن توائم بين النظريتين فأنشأت لها مواقع إلكترونية إلى جانب المطبوعة الورقية التي توزعها بحيث تقوم هذه المؤسسات بتطوير مواقعها بمعدل 3 إلى 4 مرات يوميا، وكلما كانت هناك أحداث جديدة يتم التحديث بها في كل ساعة، موضحا أن التطورات التي تحدث على الساحة في الصحافة الالكترونية دفعت بمراكز التدريب في بعض المؤسسات الصحفية إلى الاهتمام بهذا الجانب والعناية به ومنها جريدة البيان".
وعموما نؤكد ان الصحافة الورقية في الدول العربية سيبقى لها بريقها خلال السنوات المقبلة نظرا إلى أن الكثير من المواطنين العرب لا يستخدمون الأجهزة الحديثة وخدمات شبكة المعلومات الدولية (الأنترنت) مقارنة بما يحصل في العالم، وأن جهود الجهات المعنية متواصلة في توصيل هذه الخدمات إلى كل أنحاء المعمورة العربية. كما أن نسبة الأمية مرتفعة في العالم العربي مقارنة بالدول الأخرى في العالم، ولكن هذا لا يمنع من انتشار الصحافة الإلكترونية في الوطن العربي خاصة وإنها لا تحتاج إلى إذن من الوزارات والهيئات الإعلامية الرسمية التي تشرف على الصحف والمجلات الورقية، وإنما تحتاج إلى جهود علمية في مجال التقنية المعلوماتية أولا بجانب الخبرات العلمية التي يتمتع بها الأفراد في علم الصحافة ثانيا.[/COLOR]

المصدر جريدة عمان

آخر تحرير بواسطة صقر الخالدية : 26/07/2004 الساعة 09:42 PM
  #136  
قديم 28/07/2004, 03:56 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

مفهوم لـ"الإصلاح" مكبل بالشبهات...!

د. محمد عابد الجابري

كيف تناولت مرجعيتنا الثقافية التراثية فكرة الإصلاح؟ وأعني هنا بالمرجعية التراثية مجموع ما يندرج تحت مفهوم "الفكر العربي الإسلامي" منذ ظهور الإسلام إلى ما نطلق عليه اصطلاحا "الفكر العربي والإسلامي الحديث"، الذي ترجع تباشيره الأولى إلى القرن الثامن عشر. ومع أن هذا الأخير قد ضمَّ –ويضمُّ- من أول أمره صنوفاً من الإنتاج تتناول موضوعات تنتمي إما بمضمونها وحده، وإما بمضمونها ومنهاجها وروحها، إلى المرجعية التراثية بالمعنى الذي حددناه، فإن تلك الموضوعات تنفصل عن هذه المرجعية من حيث إنها إعادة إنتاج لبعض موادها من أجل أغراض تجد مرجعيتها في حاجات الحاضر، وليس في مقتضيات أحوال الماضي.

سنترك "الفكر العربي والإسلامي الحديث"، بما فيه من إنتاج جديد وإعادة إنتاج للقديم إلى حين، لنركز اهتمامنا هنا على فكرة "الإصلاح" كما تتحدد في مرجعيتنا التراثية، منذ ظهور الإسلام إلى القرن الثامن عشر.
لا تسعفنا المعاجم العربية القديمة بأي تعريف لـ"الإصلاح" غير قولها:"الإصلاح ضد الإفساد". وإذا بحثنا فيها عن معنى "الإفساد" ردتنا إلى "الإصلاح" بقولها:"الإفساد ضد الإصلاح". والغريب أن المفسرين يكتفون بشرح مادة "صلح" ومشتقاتها، الواردة في القرآن بكثرة، بهذا النوع من التعريف بالسلب (صلاح: ضد فساد)، وإذا خرجوا عن هذا جاءوا بالمعنى الذي يقتضيه السياق. و في هذا الإطار يرتبط معنى "الإصلاح" في القرآن بإزالة ما شاب العلاقات بين الناس من شوائب، مثل قوله تعالى: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ..." (الأنفال 1). وقوله: "وإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" (الحجرات 9) الخ. أما عندما يقترن لفظ "أصلحوا" بالتوبة فالمعنى هو التخلي نهائيا عن المنهيِّ عنه: "إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (آل عمران89). أما عبارة "وعملوا الصالحات" التي ترد في الغالب معطوفة على "الذين آمنوا"، فتفيد كل عمل من أعمال الخير ينفع صاحبه، أو غيره، في الدنيا والآخرة.

ومع أن المعتزلة قد جعلوا من فكرة "الصلاح" أساساً من أسس مذهبهم، وبعضهم قال بـ"الأصلح" أيضاً، فإنهم يقصرون معناها في "أن الله لا يفعل إلا الصلاح"، بمعنى أنه لا يفعل "القبيح". فالصلاح عندهم هو "الحُسْن" والفساد هو "القبح". وبعبارة أخرى: الحسْن والصلاح هو ما به يُستحَق المدح، والقبح والفساد هو ما به يُستحَق الذم. وهذا لا يخرج بنا عن المعنى اللغوي للكلمة (الصلاح ضد الفساد).

لماذا هذا الإلحاح على غياب تعريف إيجابي محدد لمعنى "الإصلاح" في مرجعيتنا التراثية؟

نحن لا نقصد بذلك التقليل من انشغال الخطاب العربي الإسلامي، وفي مقدمته الخطاب القرآني والحديث النبوي، بمسألة الصلاح والإصلاح، كلا! فلفظ "صلح" ومشتقاته يتردد باستمرار في نصوصنا التراثية بمختلف منازعها، كما أن فكرة "المصلحة العامة" هي المرجع الأول والأخير للتشريع في الإسلام. هذا فضلا عن أن الدعوة المحمدية كانت دعوة إصلاحية عميقة جعلت على رأس مهامها إخراج الناس من الظلمات إلى النور: "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ" (إبراهيم-1). ومع ذلك فما دمنا بصدد المقارنة بين مفهوم الإصلاح في مرجعيتنا التراثية ونفس المفهوم في المرجعية الأوروبية، فإنه لامناص من التنبيه إلى ما أبرزناه أعلاه من "فقر" و"إفقار" لمعنى لفظ "صلاح" و"إصلاح"، على صعيد التعريف والتحديد، في نصوصنا التراثية. وذلك على عكس ما هو عليه الأمر في المرجعية الأوروبية، التراثية منها والمعاصرة. ويكفي لبيان ذلك الرجوع إلى المعاجم اللغوية الأوروبية: فالكلمة التي تقابل في المرجعية الأوروبية لفظ "إصلاح" في مرجعيتنا التراثية هي كلمة: reform وهي كلمة تتكون من لاصقة re التي تفيد معنى "الإعادة"، ولفظة form ومعناها الشكل أو الصيغة. وهكذا فمعنى réforme التي تقابل "إصلاح" في لغتنا العربية، هو "إعادة تشكيل"، أو "إعطاء صورة أخرى للشيء". والمرجع الفلسفي لدى الفكر الأوروبي في هذا المعنى هو ذلك الفصل الحاسم الذي تقيمه الفلسفة اليونانية (أرسطو بصفة خاصة) بين "المادة" و"الصورة" في الموجودات الأرضية.

وقد سبق أن أشرنا في المقال السابق إلى فكرة "واهب الصور"، أي العقل العاشر (أو الفعال) المدبر لما تحت فلك القمر، الذي يعطي صورة معينة لما يتهيأ من الأجسام الأرضية لقبولها. وهذا الفصل الحاسم بين المادة والصورة يجعل فكرة "الإصلاح" لشيء من الأشياء تنطوي على إدخال تغيير كبير أو صغير على صورته. فالقطعة من الشمع يمكن أن تتخذ صورة شمعة، ولكن يمكن أن ندخل "إصلاحاً" ما على شكلها فنجعل منها تمثالا صغيرا لفأر أو حصان… الخ.

فكرة الإصلاح في المرجعية الأوروبية لها علاقة مباشرة بفكرة تغيير الصورة في الفلسفة اليونانية. والصورة في هذه الفلسفة أهم من المادة. فالمادة ترجع عند نهاية التحليل إلى "مادة أولى"، غير متعينة مثل الهباء، فهي خليط أعمى أو" كاووس". أما الصورة فهي، في أعلى درجات ابتعادها عن المادة، "عقل" أي صورة بسيطة خالية من المادة أصلا، ومن هنا أطلق لفظ "عقول"، في الفلسفة الأفلاطونية المحدثة، على الكائنات العلوية أي "الملائكة"، وأطلقت عبارة "العقل الأول" على الله.

وهكذا يبدو واضحاً أن مفهوم "الإصلاح" في المرجعية الأوروبية يرتبط بتغيير الصورة، أما في المرجعية العربية الإسلامية فـ"الإصلاح" لا يطرح إلا إذا حصل "فساد" أو "إفساد" في الشيء. ومن ثم تؤول قضية الإصلاح فيه إلى الرجوع به إلى الحال التي كان عليها قبل طروء الفساد عليه. من ذلك مثلا أنه إذا تعطلت بك سيارتك ذهبت بها إلى الميكانيكي لـ"إصلاحها"، أي للرجوع بها إلى ما كانت عليه قبل عطلها. أما باللغات الأوروبية فاللفظ المستعمل في هذا المعنى ليس reform بل repair وهو بالضبط معنى "الإصلاح" في لغتنا، أي إعادتها إلى وضعها السابق. أما إذا استعملت معنى réforme وأنت تتحدث عن السيارة فإن المعنى سيصبح حينئذ إعطاءها "صورة" جديدة، وشكلا آخر غير الشكل الذي هي عليه، ويكون ذلك في اتجاه الأحسن، في الغالب.

ومما يتصل بهذا الموضوع قضية "التصوير" في "الإسلام". فالذين يحرمون التصوير من الفقهاء يستندون في ذلك إلى أن صور الأشياء هي من خلق الله وصنعه: "هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى..." (الحشر 24). وما هو من صنع الله لا يجوز تغييره. وكل تغيير فيه هو إفساد، لأن الصورة التي صورها الله معطاة منذ أول الأمر على أحسن ما يكون. يقول تعالى: "خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" (التغابن 3). وبما أن القرآن لا يتعرض للتصوير، تصوير الإنسان لشيء من الأشياء، على الورق أو غيره، فإن الفتاوى الفقهية بـ"تحريم التصوير" تستند في الغالب إلى هذا الاعتبار. وقد ذكر القرطبي في سياق تفسيره لقوله تعالى مخاطبا كفار قريش: "مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا، أءِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ" (النمل 60)، أنه: "قد يستدلّ من هذا على منع تصوير شيء، سواء كان له روح أم لم يكن؛ وهو قول مجاهد". ويضيف قائلا: "ويعضده قوله صلى الله عليه وسلم:"قال الله عز وجل ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقاً كخلقي فليخلقوا ذَرَّة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة". ويخلص القرطبي إلى القول:"فعم بالذم والتهديد والتقبيح كل من تعاطى تصوير شيء مما خلقه الله وضاهاه في التشبيه في خلقه فيما انفرد به سبحانه من الخلق والاختراع وهذا واضح".

والواقع أن الآية السابقة والحديث الذي ذكر بعدها لا يفيدان بالضرورة منع التصوير مطلقاً، لأن معناهما ينصرف إلى الأصنام التي كانت تصور لتعبد، كما كانت قريش تفعل، وبالتالي فتعميم المنع كما فعل القرطبي وغيره فيه تجاوز كبير. ذلك لأن المصور الذي لا يقصد من عمله "خلق" شيء كـ"خلق الله" ولا مضاهاة الله في خلقه، ولا عبادة ما يصور، وهو الأمر الغالب الشائع، يقع عمله خارج ما وقع الاستدلال به على المنع. والقول الفصل في هذا الشأن هو المبدأ الإسلامي المعروف "الأعمال بالنيات" (حديث شريف).

ونحن إنما وقفنا هنا عند مسألة التصوير لأن منع التصوير، هذا النوع من المنع الذي لا يستند إلى نص صريح ولا إلى مصلحة عامة تفرض نفسها، نموذج على ما يكبل فكرة "الإصلاح" في المرجعية التراثية من القيود، فالتصوير هو إتيان بشيء جديد، هو إعادة تشكيل للشيء المصور. ومع أن المبدأ الشرعي هو "درء الحدود بالشبهات"، فإن ما تعاني منه فكرة "الإصلاح" في المرجعية التراثية العربية الإسلامية هو تكبيلها بالشبهات... ذلك أن كل جديد يأتي به الإصلاح يعتبر عند بعضهم شيئاً مستحدثاً، وعندهم أن "كل مستحدثة بدعة"، ومن هنا حصروا معنى "التجديد" في: "كسر للبدع". والخطأ هنا ليس في النصوص، بل في التعميم الذي لا موجب له. فالحديث الذي يستند إليه هذا النوع من التعميم، (حديث "كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار")، ينصرف معناه إلى "المحدثات" في الدين، أي إلى الزيادة فيه أو النقصان منه. أما المحدثات خارج الدين فشيء آخر.

ومع أن هذا واضح بالنص والعقل فقد بالغ بعض الفقهاء في توسيع معنى البدعة/الضلالة فاعتبروا كل ما لم يكن موجوداً في عهد الصحابة بدعة. وقد رد الشاطبي، على هذا النوع من الفهم لـ"البدعة" فدعا القائلين به إلى النظر إلى "الجديد"، ليس من زاوية أنه لم يكن في عصر الصحابة وأنهم لم يكونوا يأتونه، بل من زاوية ما قد يكون فيه من المصلحة. يقول عن هؤلاء الفقهاء:"إن عَدُّوا كل محدث العادات بدعة فليعدوا جميع ما لم يكن فيهم (= الصحابة) من المأكول والمشارب والملابس والكلام والمسائل النازلة التي لا عهد بها في الزمان الأول- زمان الصحابة- بدعة. وهذا تشنيع، فإن من العوائد ما تختلف بحسب الأزمان والأمكنة والأمر، فيكون كل من خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غير متبعين لهم، وهذا من المستنكرات جدا". من هنا يلح الشاطبي على التمييز بين البدع في العبادات والأمور المتعبد بها، والبدع التي تتعلق بالأمور التي تجري مجرى العاديات أي التي تقتضيها الحياة الاجتماعية وتطورها. فكل ما لا يؤدي إلى ترك عبادة من العبادات التي نص عليها القرآن والسنة ولا إلى إحداث عبادة لم ينص الشرع عليها فليس "بدعة"، بالمعنى المذموم للكلمة"، بل قد يكون بدعة حسنة إذا كانت فيه مصلحة.

المصدر وجهات
  #137  
قديم 29/07/2004, 07:45 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

مصر المغيبة عمدا عن الفضائيات العربية: التغيير في مصر بحاجة إلي مساندة فضائية
2004/07/29


هويدا طه

لم تعد الفضائيات مجرد قنوات تليفزيونية تعرض برامج التسلية أو المسلسلات أو الإعلانات، كما كانت المحطات التليفزيونية في العقود السابقة، بل صارت لاعبا رئيسيا فاعلا ـ ليس فقط في صناعة الرأي العام ـ بل حتي في صناعة الأحداث وتوجيه قوي المجتمع للقبول بفكرة ما أو النفور من فكرة أخري، وصارت أداة هامة في يد القوي السياسية تسوق بها المجتمعات نحو القبول بمشروع ما أو التمرد علي مشروع آخر، سياسيا كان أو ثقافيا، مستقبليا كان أو ماضويا أو غير ذلك، وهذا الدور الخطير للفضائيات سواء عالميا أو علي المستوي العربي، تجلي بأوضح صوره منذ أحداث الثلاثاء الأميركي الشهير صباح الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد، ذلك اليوم الذي انقسم العالم فيه ـ علي إثر انفجار الطائرات والأبراج والبشر ـ إلي (فسطاطين) يضمان الإيمان في أحدهما والكفر في الآخر، بتعبير أسامة بن لادن، أو (محورين) يضمان الشر في أحدهما والخير في الآخر، بتعبير جورج بوش، تمكنت كل فضائيات العالم حينها وحتي اللحظة وبكل اللغات من حشد الناس أمامها، وعكست نفس المشروع الثنائي البغيض علي كل سكان الكوكب، وتبدت قدرتها الفائقة علي توجيه الناس نحو ما تريد ـ أو يريد ممولوها ـ سواء علي مستوي التفاصيل، أو علي مستوي العناوين الكبري للأحداث والأسماء المدوية للشخصيات التي تحركها، وفي عالمنا العربي تأثر العرب جميعا بهذا التوجيه الخفي أحيانا والواضح الجلي أحيانا أخري، ظهر ذلك أثناء انتفاضة الفلسطينيين في أيامها الأولي، كما ظهر في استجابة المواطن العربي لحالة العراق تبعا لما يعرض في مختلف البرامج ـ وخاصة الإخبارية منها ـ، لكن الملاحظ أن الفضائيات العربية التي تباينت مواقفها تجاه مختلف القضايا في رسالتها إلي مشاهديها (حسب أهداف مموليها) ، اجتمعت كلها ـ تقريبا ـ علي (التحفظ) في مقاربة (المسألة المصرية) أو الحالة المصرية، فالمواطن الفلسطيني والعراقي والليبي والسوداني واللبناني وحتي السعودي في الفترة الأخيرة، شاهد قضيته تنال حظها علي تلك الفضائيات، بما تتيحه من هامش يساعد علي (كشف) جوانب كثيرة في قضاياهم، لا يتاح في محطاتهم التليفزيونية المحلية التي تهيمن عليها النخبة المتحكمة، إلا المواطن المصري، هو فقط من ضمن المواطنين العرب (في الدول الرئيسية علي الأقل) من ظلت قضاياه (مخنوقة) علي شاشات التليفزيون، محليا أو فضائيا، بالطبع توجد استثناءات هنا وهناك تمر علي استحياء في مقاربة الحالة المصرية، تأتي علي لسان بعض المحللين وبتحفظ شديد، والمقصود بالحالة المصرية هنا هو حالة النظام السياسي وعلاقات مصر الخارجية، وقضايا المواطن المصري من تهديد يتعرض له نصيب مصر في مياه النيل إلي امتهان حقوق الإنسان إلي تدهور في كل نواحي الحياة وانتشار الفساد وحالة الأقباط المصريين وغير ذلك، وإذا كانت الدلائل تشير ـ خلال العقدين الأخيرين ـ تحديدا إلي أن (مصر ـ الدولة والنظام) ـ وليس مصر الكيان الحضاري الموغل في القدم ـ قد أصبحت هشة، وأن ضعفها أثر علي محيطها الإقليمي، إلي الدرجة التي يستشعر فيها الجميع أن (تغييرا حقيقيا) في مصر لن ينعكس عليها وحدها أو علي مواطنيها وحدهم بل علي كامل إقليمها، وأن (صناعة الرأي العام) التي تحترفها الفضائيات يجب أن تدخل إلي الساحة من أجل (كشف المستور) المصري أمام المواطن المصري أولا، وأمام المواطن في إقليمها المحيط ثانيا، فإن الفضائيات رغم ذلك تبدو وكأنها (تتحاشي) الخوض في الشأن المصري، بينما مزقت مثلا الشأن الليبي فحصا ورصدا وكشفا للمستور، لكن بعض المراقبين يرجعون تحفظ الفضائيات في تناول الشأن المصري إلي أن مصر دولة كبيرة، وأن مخابراتها وأصحاب القرار فيها متنفذون، إلي الحد الذي تحسب له الجهات المسئولة عن وضع سياسات الفضائيات ألف حساب، لكن ما وصلت إليه مصر في سنواتها الأخيرة من تدهور وترد حضاري سياسيا واقتصاديا وثقافيا ونفوذا، وتغير مراكز الثقل في المنطقة، ووصول الفضائيات العربية إلي تلك الدرجة من القدرة علي التأثير، كل ذلك يشير إلي أن الدولة الهشة في مصر لم تعد تخيف ذبابة خارجها، وأن أصحاب القرار فيها ترهلوا ولم تعد لهم أسنان وأنياب (إلا علي مواطنيهم) ، وأن قضايا المواطن المصري والشأن المصري برمته يجب أن يأخذ مساحته التي يستحقها علي الفضائيات، من تحليل جريء ونقاش موضوعي وعرض صريح لنقاط الضعف التي تعاني منها مصر علي أيدي هؤلاء الكهول المترهلين الذين يكتمون علي أنفاسها، فتكوين رأي عام ضاغط من أجل التغيير وليس الترقيع في مصر، هو شيء سيعود بالفائدة علي محيط مصر الإقليمي بكامله، وشواهد التاريخ تقول بأن منحنيات الصعود كما منحنيات الهبوط لتلك المنطقة كانت تبدأ من القاهرة في غالب الأحيان، لكن قياما جديدا لتلك القاهرة، يحتاج إلي حشد ودفع الناس في اتجاه الضغط من أجل التغيير وبدء مشروع إقليمي جديد، وذلك في (عصر الأقمار الصناعية) يحتاج إلي... مساندة فضائية!

المصدر القدس العربى
  #138  
قديم 29/07/2004, 08:07 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

هل يستحق النُقّاد سهامَ المُروق؟

د. أحمد عبد الملك

ابتُليت بعض النظم الخليجية - في سني تشكُّلها- بعد إنهاء التعاقدات الانتدابية مع الحكومة البريطانية بثقافة المديح والتستر على أخطاء وسلوكيات مُنفذي السياسات على كافة المستويات.
وتزامن زرع هذه الثقافة في العقول مع بروز الصحافة والإذاعة والتلفزيون كأجندة "تبشيرية" لنعماء الدولة، وحرصها على كيان الإنسان واكتماله بكونه "أهم" و"أغلى" الثروات كما يتم التصريح بذلك في العديد من المناسبات.
وخلال عقدي السبعينيات والثمانينيات تعلم جيل من مواطني دول المجلس في جامعات عربية وأجنبية، وتعلم ثقافة الرأي الآخر، وتدرب على حاسة التمييز والمقارنة. وعندما جاء هذا الجيل ليتسلم مهامه في مرافق الدولة المختلفة، فوجئ بوجود ثقافة التستر والمديح والإطراءات غير الملائمة في العديد من المرافق، وكان الإعلام أحد أهم دعائم هذا التوجه. حيث استجلب هذا الإعلام خبرات وُظّفت من أجل تسريخ تلك الثقافة، والتكتم على الهنات والأخطاء التي لابد وأن تُكشف حتى يتم علاجها.

اصطدم أفراد هذا الجيل مع الطابور الخامس في الصحافة والإعلام عموماً، ودارت معارك طاحنة بين الوطنيين الذين يحبون أوطانهم، ويريدون لها كل الخير والتقدم، ولكنهم ضد التستر والمديح والإطراءات التي تأتي في مناسبة أو من دون مناسبة، وبين الأقلام والألسن التي كانت تمارس الإعلام الدعائي الإعلاني والذي كانت فوائده وقتية، ناهيك عن مخاطره المستقبلية.

وكان من نتيجة هذا الصدام أن أحدث فجوة في التفكير بين بعض الحكومات والمواطنين من المؤهلين الذين يؤمنون بأن دور الإعلام يجب أن يكون مرهوناً بكشف الحقائق وتزويد الناس بها، والدفاع عن قضاياهم، ونقد الأداء العام للدولة نقداً عاقلاً بحيث يبرز صوت المصلحين والناجحين من منفذي السياسات العامة، إلى جانب نقد الفاشلين وتوضيح أسباب تدني خدمات إداراتهم ووزرائهم.

لم يرق لبعض الحكومات هذا التوجه، حيث رأت أنه يفتح عيون المواطنين على حقائق لابد وأن تكون مُغطاة!، وأن هذا التوجه يأتي حقداً وغيرة من الإعلاميين السابقين -الذين لا يرون في الأداء الحكومي إلا الجانب المضيء المُنير- وهم ينقلونه إلى صاحب القرار وكلهم ثقة بأنه سيعجب بذلك، وبالتالي يستحقون "نعماءه".

ولم يكن هنالك من بُدٌ سوى إقصاء المستنيرين الذين يحاولون رسم الطريق الصحيحة لاتجاهات الإعلام، وتحويلهم إلى كتبة أو متقاعدين يلوذون بصمتهم وهزّ رؤوسهم جراء ما يحدث في الوسط الإعلامي، وبعضهم تم إيقافه رسمياً عن الكتابة وحظر نشاطاته والتكتم على إبداعاته.

لذلك استمر النهج الكاذب في العديد من المؤسسات، وصار أنصاف المتعلمين متحدثين رسميين باسم التطوير والنهضة، وزادت جرعات "الإعلان" في الإعلام، وساد التكتم على الممارسات الشخصية في الإدارات العامة.

ومما زاد الطين بلة، أن الأداء العام - حتى في مرافق الإعلام- أصابه الذبول، وانحاز عن الطريق المعروفة، فكان أن ظهرت ممارسات "غبية" وغير عاقلة في الصحافة أو الإذاعة والتلفزيون، وكان يُحظر نشرُ المخالفات حتى لا "يزعل" أو يغضب صاحب القرار. ونشأ بالتالي جيلٌ جديد من المخالفين لأبسط قواعد العمل الإعلامي.

بعد تحديث الدولة -أي دولة- وبعد الانفتاح الإعلامي المتمثل في الفضائيات وشبكة الإنترنت، تنبه أصحاب القرار إلى حقيقة المسيرة الإعلامية، وأن السياسات السابقة لم تكن في المسار الصحيح، وأن التصفيق والتهليل والمبالغة في كتم الأخطاء ليست من ملامح العصر الحضارية! فكان أن لجأت بعض الحكومات إلى دعم الإعلام الخارجي كمؤشر للدلالة على تحضرها وتخلصها من الإعلام الإعلاني المحلي، وحورت بعض مفاهيم ومسارات الإعلام المحلي نحو مزيد من الحرية وإبداء الرأي، ووسعت مساحات النقد ولكن بصورة مقننة. وكان من نبيل ما صنعت بعض الحكومات أنها فتحت الإذاعة المحلية كمتنفس للمواطنين للتعبير عن همومهم والمشاكل التي تختص بحياتهم اليومية، فصارت بعض المنابر الإعلامية جهات رقابية على الأداء العام وهذا يسجل ضمن التوجهات الإيجابية للإعلام. ولقد ساهم هذا الانفتاح - مع نسبيته- في كشف العديد من الممارسات الخاطئة، بل وحفز العاملين في الإدارات المتصلة بالشأن العام على توخي الحذر وعدم السقوط في الأخطاء.

ومع أن هذا التوجه له فوائده المتعددة، إلا أن الإعلام نفسه بدأ يعاني الترهل نتيجة سيادة فكرة المسؤول الأوحد، والرؤية الضيقة لبعض منفذي السياسات الذين خدمتهم الظروف للبقاء طويلاً في مناصبهم تماماً كما خدمهم التاريخ وساندتهم الجغرافيا، ولربما "الصدف" البيولوجية.

فنحن نسمع عن منع الصحافة - في بعض الدول- من نقد برامج الإذاعة والتلفزيون، وحظر تناول أخطاء الصحافيين والمذيعين، وإن كانت هذه الأخطاء فادحة!. بل ونسمع عن توظيف صحافيين في الإذاعة والتلفزيون للترويج والتهليل لمسؤولي الجهازين ونشر صورهم وإن كانت للدعاية وليست للخبر. بل ووصل الأمر إلى الترويج لبرامج ساقطة بكل المعايير الفنية والموضوعية، وإلى خيانة أمانة الكلمة بالترويج لبعض المؤلفات التي لا تصل في حقيقتها إلى درجة التأليف، كونها جمعاً لصور وأفكار قديمة مكررة، ومنع نقد مثل هذه المؤلفات التي تخدش حياء العلم وتشوه رصانته.

وهكذا، واجهت الدول حقيقة مسايرة الإعلام الاستعراضي الـ"Show"، والإعلان عن إبداعات ضحلة لا ترقى إلى مستوى الإبداع، وسكتت عن ممارسات خاطئة وتجارب في المتلقين سواء في الإعلام الرسمي المتمثل في الإذاعة والتلفزيون، أم في الصحافة، والتي أصبحت شغل من لا شغل له.

وظهرت بين الحين والآخر ممارسات صحافية شاذة لا يسندها علمٌ أو أصول، ما لبثت أن تلاشت، ذلك أنها لم تستند على قاعدة صلبة من البشر أو الإمكانيات.

يحدث كل ذلك في ظل غياب النقد، وعدم قدرة منفذي السياسات على التوجيه السليم، ذلك أنهم قد يئسوا أو ملّوا التوجيه، وأن العمل سوف يستمر وأن سُنة الحياة هكذا، أو قد يكونون استمرأوا التدجين، واستلذوا الممارسات الخاطئة، فصارت صحيحة في أعرافهم. وطالما أن "المسؤول راضٍ" فلماذا الموظف يشقى ويتألم!

وفي ظل هذه الممارسات وُجهت "سهام المروق" إلى النخب المستنيرة، وتم اتهامهم بالحقد أو الغيرة أو "المشاكسة"، وبالتالي كان لابد من إقصائهم، وإراحة المسؤول من "تخرّصاتهم".

فهل يمكن أن يحدث هذا التوجه في ظل دول تسعى إلى الديمقراطية ونشر حرية الرأي، وحق المواطن في التعبير عن آرائه؟ وهل يمكن أن تتطور المسيرة الثقافية والإعلامية والفنية دون حركة نقدية عاقلة، تضع الأمور في نصابها، وتوجه صغار الإعلاميين وصغار الكتّاب إلى الطرق الآمنة الناجحة، بدلاً من تجاربهم الطفلة والمشوهة في المتلقين؟

إن منطقة الخليج المقبلة على انفتاحات جديدة، وحياة برلمانية، ورؤى تحديثية، بحاجة اليوم إلى حركة نقدية صادقة ليس فقط في مجال الإبداع، بل في جميع المجالات. ولا يدعم مسيرة التنمية ويُصحح مساراتها إلا النقد العاقل الصادق الصادر من أبناء البلاد المخلصين.

نحن نعتقد أن الاستماع إلى آراء المُنتقدين للسياسات العامة ظاهرة حضارية وليست "مثلبة" إدارية، وأن تعدد الآراء هو الطريق الأقرب إلى الديمقراطية الحقيقية، كما أن "خداع" الشعوب بسراب حرية التعبير، في الوقت الذي نسمح فيه لـ"الكتبة" بممارسة الدجل والتخريف ونقل صورة غير حقيقية عن واقعنا - في جميع المجالات- لهو اجتراء على الأمانة التي تحتمها وتنص عليها الدساتير والقوانين التي تنظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.

لابد أن تتغير النظرة السطحية السابقة للناقد، أو المنتقد للسياسات الخاطئة، ولابد من وجود نقاط التقاء ومحبة واحترام بينه وبين منفذي السياسات العامة. ولابد أن تزول "الجفوة" التي زُرعت في أرض الخليج بين المستنيرين والسلطة. وأن الناقد المُحب لاكتمال ونضج بناء بلاده الحضاري لا يكون مشاكساً، وإن أغضب قلة المنافقين المتحلقين حول الكعكة اللذيذة
المصدر وجهات
  #139  
قديم 31/07/2004, 07:35 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up

ا



لنصافح ونلتصق بـ (عالم إنساني) أوسع من (العالم الإسلامي)

زين العابدين الركابي

(عالمنا الإنساني العظيم): ما أوسعه، وما أكثر الضمائر الحية النزيهة والعقول الحصيفة فيه.. وعالم هذه صفاته وخصائصه: يستوجب: اعادة تصوره ـ كما هو لا كما يشتهي المتصور ـ، واعادة تقديره وتثمينه، وتوثيق الصلة به، بصرف النظر عما يعتقده من أديان ومذاهب مختلفة، وما يموج به من ثقافات وأعراف شتى، وما يتوطنه من اماكن وبيئات.. عالم انساني حي ورحب وواعد: ليس ينبغي ان يشغلنا عن الالتصاق الدائم به، والتعرف المتجدد عليه، والتآلف الحميم معه: اولئك (المتحجرون) الذين يريدون ان يضغطونا في (جحورهم) المتناهية العتمة والضيق من امثال: غلاة المسلمين واليهود والمحافظين الجدد الذين لا يرون البشرية: الهائلة العدد، والمتنوعة المناهج والثقافات، والمتعددة البيئات إلا من خلال أيديولوجياتهم التي لا تمتد رؤيتها إلا الى مساحة شبر او اقل من ذلك.. ومثل هؤلاء كمثل أميّ في أشد القرى تخلفا: يقيس العالم كله بما في قريته من ظلام وركود واهتمامات التعصب بسبب الماعز!!.. ولئن كان العالم الانساني العظيم: حقيقة يلزم الجهر بها في كل حين من اجل ايجاد (وعي انساني كوكبي): ينقض وينفي الوعي المحدود المكدود والضيق المتحجر، فإن من ارجى واجمل مناخات الجهر بهذه الحقيقة: اتخاذ المناسبات النفسية والزمنية والموضوعية (مدخلا) لذلك. فما المناسبة النفسية والزمنية والموضوعية لترسيخ حقيقة: اننا نعيش في عالم انساني عظيم: فيه من الضمائر النزيهة، والعقول الحصيفة ما فيه؟
هما مناسبتان:
الاولى: الحكم الذي اصدرته محكمة العدل الدولية ببطلان (الجدار) الذي اقامته اسرائيل في الارض الفلسطينية المحتلة.
أما المناسبة الاخرى فهي: تأييد الجمعية العامة للامم المتحدة لقرار المحكمة الدولية.
إن في هذين الموقفين (مضامين انسانية): ليس من نزاهة الضمير، ولا رشد العقل، ولا ميزان العدل: ان توصف بأقل من (رائعة)، بل بأقل من (سامية): جد سامية.
اولا: مضمون النسبة العددية.. ففي محكمة العدل الدولية، كان هؤلاء خمسة عشر قاضيا، وقف اربعة عشر قاضيا منهم مع قرار بطلان الجدار الصهيوني (القاضي الوحيد الذي صوت ضد القرار هو القاضي الامريكي الصهيوني: بورجنتال) والمعنى الحسابي هو: ان 94 % من اصوات القضاة كانوا مع ازالة الجدار، وان الصوت النشاز لا يمثل إلا 6 % تقريبا.. والحقيقة المستخلصة من هذه النسبة العددية: ان (الصوت الانساني) النزيه كان اعلى واقوى واوسع من الصوت الايديولوجي الخفيض الضعيف المحدود.. وهذا مضمون انساني ينبغي ان يكون مصدر فخر لكل انسان بصفته: يتعزز هذا المضمون الانساني العددي: بمضمون آخر: معنوي وهو: ان هؤلاء الذين حكموا بالحق والعدل في محكمة العدل الدولية: اغلبيتهم الساحقة غير مسلمين، بل هي اغلبية تنتمي الى حضارات وأديان اخرى عديدة.. وهذا المضمون الانساني المعنوي مركوز في النظام الاساس لمحكمة العدل الدولية، اذ تنص المادة 9 من هذا النظام على انه «ينبغي للهيئة في جملتها ان يكفل تأليفها تمثيل المدنيات الكبرى والنظم القانونية الرئيسية في العالم».
ثانيا: مضمون النسبة العددية في الجمعية العامة للامم المتحدة. فقد صوت لصالح قرار هدم الجدار الصهيوني ـ المقام على الارض الفلسطينية المحتلة ـ 150 دولة.. وهذا العدد الضخم من الدول يمثل اكثر من 75 % من اعضاء الجمعية العامة للامم المتحدة.. ولقد صوتت هذه الكثرة الكبرى لصالح القرار العادل بحرية واستقلال ونزاهة. فلم يضغط عليها أحد في العالم العربي الاسلامي، اذ هو عالم اضعف من ان يضغط.. ولم يغر احد: هذه الكثرة العظمى، بالمال.. فالمال العربي الاسلامي سخر ـ في مجمله ـ لغير هذه القضايا!!، ثم إن الدول التي صوتت لصالح القرار تمثل العالم كله تقريبا: بقاراته وشعوبه وأديانه وحضاراته كافة: آسيا، وافريقيا، وامريكا اللاتينية، واوروبا: الكاثوليك، والارثوذكس، والبروتستانت، والبوذيون، والهندوس، والكنفوشيوس الخ.. البيض والسود والصفر.. وهذا مضمون انساني: أوضح وأقوى من أن يماري فيه احد، وهو مضمون يقوض ـ عمليا ـ: (نظرية صراع الحضارات): المشبعة بالتعصب الايديولوجي الذي يجعل الكوكب الارضي: أضيق من أن يتسع للناس أجمعين: مسلمهم ومسيحهم.. مؤمنهم وكافرهم.. أبيضهم وأسودهم.. غنيهم وفقيرهم.. متعلمهم وجاهلهم.. وكأن الله لم يقل «والارض وضعها للانام»: اي لجميع بني آدم؟!
نعم.. من الطوباوية أو الخيال المفرط: تصور العالم في صورة ملائكية خالصة، فهو في الحقيقة لم يزل عالما بشريا، لا ملائكيا. لكن المقابل لنفي الملائكية ليس اثبات الصورة القبيحة الشريرة للعالم الانساني كله. فحين تصورت الملائكة هذه الصورة عند خلق آدم، قال الله لهم: «إني اعلم ما لا تعلمون».. ومن معاني هذا النص: ان في البشر سوءا، ولكن سيكون منهم الانبياء والمرسلون والصالحون والمصلحون والعلماء المبدعون الذين يسخرون ما خلقه الله للتسخير والنفع، وفيهم باذلو الخير والمعروف وذوو الضمائر: الذين يحبون الحق وبه يعدلون.
اننا من هذا المنبر نرفع أصواتنا بالدعوة الصريحة الى (إحياء كل ما هو انساني) في عالمنا هذا، والى اقامة العلاقات على اساسه وفي ضوئه.
وهذه الدعوة تقتضي منا نحن المسلمين:
اولا: الوصف الموضوعي الصدوق لواقع العالم الانساني. فصفة الاسلام ليست تفويضا للمسلم بأن يقول في العالم بغير علم، او ان يغمس هواه في وصفه وتصويره. بل يتعين وصف العالم كما هو ـ بالضبط ـ.. وعلى سبيل المثال وصف القرآن قوما غير مسلمين بأنهم اولو بأس شديد: «ستدعون الى قوم اولي بأس شديد». ولم يوهن من حقيقة قوتهم بحسبانهم غير مسلمين!! ووصف قوما غير مسلمين بالامانة: «ومن أهل الكتاب من ان تأمنه بقنطار يؤده اليك».. ولقد تعلم المسلم هذا المنهج الموضوعي من القرآن: مثال ذلك ان عمرو بن العاص وصف اخلاق الروم في عصره فقال: «ان فيهم لخصالا اربعا: انهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين وضعيف. وخامسة جميلة: وأمنعهم من ظلم الحكام».
ثانيا: تمثُّل قواعد اساسية في المنهج واعمالها دون ابطاء، وهي قواعد توجب العلاقة الممتازة الجميلة الدافئة مع الناس اجمعين من حيث هم (ناس).. ومن هذه القواعد:
1 ـ قاعدة (وحدة الاسرة الانسانية)..: «وهو الذي انشأكم من نفس واحدة».
2 ـ وقاعدة (الكرامة الانسانية العامة المكفولة لكل انسان) بصفته: «ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا».
3 ـ وقاعدة (التعارف الانساني) المطلق المفتوح الدائم: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
4 ـ وقاعدة (تعددية المناهج والنظم)..: «لكلٍ جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة».
اي (انسانية) دافئة ماتعة مستنيرة أكثر من هذه؟.. اسرة انسانية واحدة + أسرة كريمة + أسرة متعارفة + أسرة متنوعة الخيارات في الشرائع والنظم؟
ونسأل: ترليون سؤال: لماذا حشر المسلمون أنفسهم في مثل جحر الضب مع أن من أجمل مقاصد دينهم، ومن اوضح عزائمه: فتح الآفاق الانسانية أمامهم: بشرا وبيئات وثقافات. ذلك أن من المرجعيات الثقافية للمسلمين ـ مثلا ـ اعراف البيئات المختلفة، وثقافات الأمم الأخرى، والمعلومات العلمية عن الانسان والكونيات، والاجتهادات المتنوعة في المشكلات والقضايا العالمية المتعلقة بالبيئة والتجارة والامن والسلام.. ألم يحتضن نبي الاسلام ثقافة اجتماعية من فارس والروم، ويعتمد عرفا دوليا في ختم الرسائل الرسمية بخاتم؟

***********************************************






لله (رب الناس) جميعا.. وآدم أبوهم.. والكوكب (صالونهم المشترك)



زين العابدين الركابي



هذا المقال: مدٌّ وتمام لمقال الأسبوع الماضي:

بسط بعد اختزال، واشباع بعد الماع، واستئناف لسياق من عند نقطة التوقف:
1 ـ من الاسس اليقينية الراسخة في المنهج:
ان الله (رب الناس اجمعين):
«الله ربكم ورب آبائكم الأولين».. «الله ربنا وربكم».. «وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا».. ويخطئ، بل يضل من يظن أو يعتقد: ان الله هو (رب المسلمين) وحدهم!! لأنه سبحانه «رب الناس. ملك الناس. إله الناس».. وكلمة (الناس) تنتظم ـ بلا ريب ـ: مؤمن الناس وكافرهم، خالص التوحيد وعابد الوثن، تقي الناس وفاجرهم.. هذه حقيقة ينبني عليها: فهم وسلوك.. أما الفهم فهو: ان الله قد اعتبر الوجود الانساني ـ من حيث هو، اي بلا اضافة كسبية ـ : اعتبره خلقا مبدئيا، واستمرارا متتابعا. وليس من حق احد ـ كائنا من كان ـ: ان يلغي هذا الاعتبار الالهي بأية حجة: دينية كانت أم سياسية أم عنصرية.. وأما السلوك فهو: التعامل السوي مع الوجود الانساني ـ المعتبر إلهيا ـ : تعاملا قائما على العدل والقسط والخلق، مهما اختلفت العقائد، وتضادت الملل.
2 ـ وهؤلاء (الناس) ـ الذين خلقهم الله وتعهدهم بأسباب الحياة كافة ـ: هم (عائلة واحدة): يتحدرون من أب واحد هو آدم عليه السلام، فهم ـ من ثم ـ عائلة واحدة في الآدمية الكريمة: «ولقد كرمنا بني آدم».. وعائلة واحدة في الجبلة البشرية: «ومن آياته ان خلقكم من تراب ثم اذا انتم بشر تنتشرون».. وعائلة واحدة في وصف الانسان المستعد للتعليم: «اقرأ وربك الاكرم، الذي علم بالقلم. علم الانسان ما لم يعلم».. وعائلة واحدة في صفة (الناس) المعصومي الحياة والدماء: «من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن احياها فكأنما أحيا الناس جميعا».
3 ـ وهؤلاء الناس: المخلوقون لرب واحد، والمنتمون الى أب او جد واحد: يحيون في (صالون) واحد وسيع مشترك: مفروش وطيّع ومعمور، وهو كوكب الارض.
أ ـ هو صالون مفروش: «والارض فرشناها فنعم الماهدون».
ب ـ وهو صالون طيّع ومهيأ: «هو الذي جعل لكم الارض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور».
ج ـ وهو صالون معمور: «هو أنشأكم من الارض واستعمركم فيها».
4 ـ رب واحد. وبشرية واحدة. وصالون واحد. نعم. ولكن على الرغم من ذلك، فإن الناس على هذا الكوكب (وهم الآن اكثر من ستة مليارات انسان): ليسوا متحدين في كل شيء. بل هم مختلفون جدا.. وهذا الاختلاف نفضل ان نسميه (التعددية الكونية) التي هي من اظهر وارسخ الوجود الانساني، والتي لا يستطيع احد ان ينفيها، ولا ان يلغيها:
اولا: تعددية (الشعوب والقوميات): «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».
ثانيا: تعددية (الألسنة والالوان) البشرية: «ومن آياته خلق السموات والارض واختلاف السنتكم والوانكم ان في ذلك لآيات للعالمين».
ثالثا: تعددية العقائد والملل:
1 ـ «ولو شاء ربك لآمن من في الارض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين».. ومن مفاهيم الآية: ان الله لم يشأ هذا. وما كان لبشر ان يعارض مشيئة الله، مهما كانت نيته ومقصده.
2 ـ «وان كان كبر عليك اعراضهم فإن استطعت ان تبتغي نفقا في الارض او سلما في السماء فتأتيهم بآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين».. ومن منطوق الآية ومفهومها: ان جمع الناس على الهدى أمر مستحيل، وانه لمن الجهالة: التعلق بمستحيل.
3 ـ «ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم».. يقول القرطبي في تفسير هذه الآية لجعلهم: «على ملة الاسلام وحدها» ولا يزالون مختلفين، اي على اديان شتى. ولذلك خلقهم، اي وللاختلاف خلقهم.. ويقول ابن كثير: «اي ولا يزال الخلف بين الناس في اديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم».
رابعا: تعددية المناهج والشرائع: «لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا».
نحن امام مشهد او (لوحة بشرية) ضخمة جدا: متعددة القسمات والالوان.. هذه حقيقة لا ينكرها إلا مريض بعمى الالوان، او مجنون لا يفهم ولا يعقل.. والحقيقة الاخرى الملازمة لتلك، هي: ان هذا الاختلاف البشري الدائم والواسع النطاق، انما هو (جَعْل كوني)، اي سنة كونية إلهية: من الحمق محاولة الغائها. كما انه من الحمق: محاولة الغاء سنة الجعل الكوني في الليل والنهار ـ مثلا ـ: «وجعلنا الليل لباسا. وجعلنا النهار معاشا».. ان الازمة ليست في وجود الاعراق والقوميات، بل في عدم الاعتراف بوجودها، وفي تفضيل قومية على اخرى: تعصبا وحمية وجاهلية. ولما كان هذا السلوك شاذا عن السنن الكونية فقد ترتبت عليه صراعات عاتية: احلت الاحتراب بين القوميات محل (التعارف) الذي اراده الله وهدى اليه.. مثلا: حين زادت جرعة العروبة في العهد الاموي: استثيرت القوميات الاخرى ـ بحسب ذلك ـ كرد فعل. واذا كان لا بد من مثل معاصر، فإنه باسم العروبة استثير الاكراد.. والخيار العاقل الراشد المتحضر: ليس في افعال قومية نزقة، تقابل بردود فعل قومية نزقة ايضا. وانما الخيار العاقل الراقي في العودة المستنيرة الى استصحاب السنن الكونية في (الانسانيات المشتركة) التي اصلها منهج الاسلام، وحفز على التحقق بها.
فبناء على حقيقة التعددية القومية، والتعددية الدينية، منع الاسلام الغاء القوميات والاديان الاخرى بمانعين قويين مطردين:
المانع الاول: ألا تعلو قومية على اخرى: تفاخرا وصلفا.. وعلام التفاخر، وأصل النشأة واحد ؟! ثم ان معيار التفاضل بين الناس: كسبي لا جدلي. وهذا الكسب متاح لكل قوم وهو: الايمان، والعلم، والعمل الصالح، والخلق الرفيع.
المانع الثاني هو: ان الاسلام قد منع: تذويب الوجود الديني المخالف: بالاكراه: «لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».. «فذكر انما انت مذكر لست عليهم بمسيطر».. فالمسلمون منهيون عن تذويب اهل العقائد الاخرى بالقهر والجبر: «وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد».. وادعاء نسخ (الجبرية) يوقع في اشكال عسر وهو: ان النبي جبار!! وهذا مناقض لمنهج القرآن العلمي، ولسيرة النبي العملية.. ومن (الانسانيات) المتألقة ـ ها هنا ـ : ان الاكراه مصادرة كريهة لكرامة الانسان، وحقه الثابت ابدا في الاختيار. لذا فإن منهج الاسلام حين يرفض الاكراه ـ بإطلاق ـ انما يهتف ـ في الوقت نفسه ـ بحرية الانسان وحقه في الاختيار الحر: للدين او الزوج او العمل.. الخ.
ان الاسلام (دين انساني): المضمون والموضوع والمقاصد.. بيد ان من المسلمين من يقول بلسانه: ان الاسلام دين عالمي (وهو كذلك بمقتضى انسانيته الرحبة). ولكن هذا النفر يفكر في العالم بطريقة اضيق من قروية: طريقة تشبه طريقة ذلك الاعرابي الذي دعا فقال: اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم احدا غيرنا!!. فقال له النبي «لقد حجرت واسعا»، اي ضيقت رحمة الله التي وسعت كل انسان، ووسعت كل شيء، ولا ندري: ماذا يضير ذلك الاعرابي، لو رحم الله الخلق كلهم؟!
والخلاصة: انه ينبغي: احداث (نفضة كبرى) في احساس المسلمين ومفاهيمهم حتى يحسوا ويفهموا ـ مثلا ـ:
1 ـ ان قول النبي «وخالق الناس بخلق حسن» المقصود به جميع الناس، لا اهل القبلة فحسب.
2 ـ ان في الكون سننا لا علاقة لها بايمان وكفران، اذ ان التعامل معها (انساني محض) اي مشروط بفهم الناس ـ اي ناس ـ لقوانينها. فمن اجاد التعامل معها: تفوق وان كان غير مسلم، ومن جهلها ظل متخلفا في الكونيات، وان صلى وصام وقال انه مسلم.
3 ـ ان هناك اعمالا تقدر لبواعثها الانسانية المجردة.. ومن ذلك: ان العذاب خفف على ابي طالب عم النبي بسبب موقفه الانساني في حماية ابن اخيه.. وان النبي تمنى تكريم المطعم بن عدي ـ وقد مات على الشرك ـ بسبب موقفه الانساني النبيل في نقض وثيقة المقاطعة، ودخول النبي في جواره : مقدمه من الطائف
.


الشرق الاوسط

آخر تحرير بواسطة صقر الخالدية : 31/07/2004 الساعة 07:46 PM
  #140  
قديم 03/08/2004, 07:13 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

فكرة عن الإصلاح... في حاجة إلى إصلاح!

د. محمد عابد الجابري


ثمة مفارقة خطيرة في المرجعية التراثية، بين الصورة التي يقدمها عنها الرواة والدعاة منذ أن بدأ تدوين "العلم" (والمقصود الحديث) في العصر العباسي الأول من جهة، وبين الصورة التي وظفها ويعمل على توظيفها، منذ بدء اليقظة العربية الحديثة إلى اليوم، ما يطلق عليه اصطلاحاً اسم "التيار السلفي في الفكر العربي"، من جهة أخرى! وفضلا عن أن هذه المفارقة تضع موضع السؤال مجمل الموروث الديني الذي يتناول القضايا السياسية في الإسلام، فإنها تطرح تناقضاً حاداً يهز الفكر والوجدان عندما يتعلق الأمر بموضوع "الإصلاح".
ذلك أن فكرة "الإصلاح" في الفكر السلفي الحديث، سواء تعلق الأمر بسلفية محمد بن عبدالوهاب أو بسلفية جمال الدين الأفغاني أو سلفية محمد عبده أو بأي تيار سلفي آخر قديم أو حديث أو معاصر، تنبني وتتأسس على مضمون تلك المقولة التي تنسب إلى الإمام مالك، والتي جاء فيها: "لا يُصلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها". لا يهمنا هنا أن نتساءل: كم كان مدى النجاح الذي حققته الدعوات السلفية التي اعتمدت هذه المقولة مبدءاً ومنطلقاً، فقد نجد في ترهُّـل العالم الإسلامي وتمزقه وتكالب الدول الاستعمارية عليه ما يبرر عدم بلوغها أهدافها كاملة، وإنما يهمنا أن نتعرف على أفق تفكير أولئك الذين ندبوا أنفسهم لـ"تدوين العلم" في العصر العباسي الأول، أي بعد نحو قرن من وفاة النبي عليه الصلاة والسلام، فنتساءل: هل كانوا مشدودين إلى الأفق الرحب، أفق التفاؤل والثقة بالمستقبل، الذي فتحه الإسلام أمام معتنقيه لكونه جاء "ليخرج الناس من الظلمات إلى النور" وليجعل من أمة الإسلام "خير أمة أخرجت للناس"، أم أنهم كانوا بالعكس من ذلك قد فقدوا الأمل في أي إصلاح بسبب ما عاناه المسلمون من الفتن التي لم تهدأ منذ أن انطلقت شراراتها في أواخر عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان، أي بعد ما لا يزيد عن عشرين سنة فقط بعد وفاة الرسول.

وبعبارة أخرى هل المحدثون والفقهاء في العصرين الأموي والعباسي كانوا يفكرون، كما يفكر السلفيون في العصر الحديث، في أن الإصلاح لابد أن يتحقق إذا تم الرجوع إلى "ما كان عليه السلف الصالح"، أم أنهم قد وقعوا في إحباط خطير جعلهم يرون رأي العين أن المستقبل محكوم عليه بالفساد والإفساد والتدهور والانحطاط؟!

الواقع أننا إذا تفحصنا المرجعية التراثية فإننا لا نجد في ذلك الزمان ما يشير –ولو إشارة بسيطة- إلى رضا الناس بالحاضر ولا إلى تفاؤلهم بالمستقبل. لقد كانت النظرة التشاؤمية سائدة ومهيمنة على والفكر والوجدان، وذلك إلى درجة توحي بأن فكرة "الإصلاح" لم تكن من المفكر فيه قط. أما تلك القولة التي فاه بها الإمام مالك والتي ذكرناها قبل ("لا يُصلِح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها") فلم تتردد لها أصداء في مرجعيتنا التراثية، وما كان يمكن أن تتردد لها أصداء وهي قد قيلت في مجال محدود جداً كما سنرى بعد. هذا في حين أن الأصداء، كل الأصداء، كانت تأتي من أقوال أخرى تروى في صورة أحاديث نبوية، مدعومة بالإسناد، وبعضها –إن لم يكن كلها- مذكور في الصحيحين، صحيح البخاري وصحيح مسلم. ومن هذه الأحاديث التي تعكس الإحباط وتكرسه تكريسا ما يلي:

1- حديث الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً:

نقرأ في البخاري ومسلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً. فَطُوبىٰ لِلْغُرَبَاءِ". وفي مسند ابن حنبل جاء نص الحديث مطولا هكذا:"بدأ الإسلام غريباً ثم يعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء. قيل: يا رسول الله ومَنْ الغرباءُ؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس، والذي نفسي بيده ليَنْحازَنَّ الإيمانُ إلى المدينة كما يجوز السيل، والذي نفسي بيده ليأْرَزَنَّ (يتقلص) الإسلام إلى ما بين المسجدين كما تأرَزُ الحية إلى جحرها".

2- حديث "خير أمتي قرني" :

في البخاري أن الرسول عليه السلام قال:"خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ" والمقصود بـ"قرني" هنا: زمني، عهدي. قَالَ الراوي:"فَلا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ قَرْنَيْنِ أَوْ ثَلاثًة"، ثم أورد بقية الحديث وهي قوله عليه السلام:"ثمَّ يأتي بَعْدَكُمْ قَوْم يَشْهَدُونَ وَلا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلا يَفُُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ". وقريباً من هذا المعنى الحديث الذي ذكره البيهقي في سننه، ونصه:"إن الله بَدَأَ هَذَا الأَمْرَ نبوةً ورحمةً، وكائِناً خلافَةً ورَحْمَةً، وكائِنَا مُلْكاً عَضُوضاً، وكَائِنَا عُتُوَّةً وجَبَرِيَّةً وفساداً فـي الأُمَّةِ، يَسْتَـحِلُّونَ الفُرُوجَ والـخمورَ والـحريرَ، ويَنْصُرُونَ علـى ذلِك، ويُرْزَقُونَ أبداً حَتَّـى يَلْقَوُا الله عَزَّ وَجَلَّ".

3- الخلافة ثلاثون سنة:

وفي سنن الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الْخِلافَةُ فِي أُمَّتِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ مُلْكٌ بَعْدَ ذَلِكَ". قَالَ الراوي: أَمْسِكْ مدة خِلافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَخِلافَةَ عُمَرَ وَخِلافَةَ عُثْمَانَ وخِلافَةَ عَلِيٍّ، فالمجموع ثَلاثِينَ سَنَةً". وعندما سئل:"إِنَّ بَنِي أُمَيَّةَ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخِلافَةَ فِيهِمْ، قَالَ: كَذَبُ بَنُو الزَّرْقَاءِ بَلْ هُمْ مُلُوكٌ مِنْ شَرِّ الْمُلُوكِ".

4- نقص الإسلام:

وفي سنن الدارمي ومسند ابن حنبل أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:"والذي نفسي بيده ليَخْرُجُنَّ من دين الله أفواجاً، كما دخلوا فيه أفواجاً". وعن الصحابي الكبير عبدالله بن مسعود "قال: أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا: نعم، كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سمن الدابة". وفي هذا المعنى ينقل عنه أنه قال:"ليس عامٌ إلاَّ الذي بعده شرٌّ منه، لا أقول عامٌ أمطَرُ من عام، ولا أميرٌ خيرٌ من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيُهدمُ الإسلام ويُثلَمُ".

5- كل عام ترذلون:

روى البخاري أن أنس بن مالك أتاه ناس وشكوا إليه ما يلاقونه من الحجاج بن يوسف وبطشه فقال:"اصبروا، فإنه لا يأتي عليكم زمان إلا الذي بعده شرٌّ منه، حتى تلقوا ربكم"، وأضاف:"سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم". ومن هذا الحديث صيغت العبارة الشائعة "كل عام ترذلون"... الخ.

من السهل أن يشكك الإنسان في صحة مثل هذه الأحاديث التي تشم فيها بوضوح رائحة السياسة. وبالنسبة لي شخصياً، فإن مثل هذه الأحاديث يجب وضعها بين قوسين، أعني تجنب أخذها بعين الاعتبار، لأن القرآن لا يشهد لها بالصحة، فاتجاه القرآن غيرٌ، واتجاهها هي غيرٌ! ومع ذلك فثمة حقيقة لا ينبغي إغفالها وهي أن هذه الأحاديث تعبر عن حالة الإحباط التي أصابت المسلمين بعد ما عانوه من "الفتنة الكبرى" وما شاهدوه منها وما سمعوه عنها. وقد بلغت حالة الإحباط هذه مبلغاً جعلهم لا يرون في الحاضر والمستقبل إلا المأساة، ولا يتبينون أي طريق لاستئناف المسيرة على طريق الإصلاح.

قد يعترض معترض بالحديث الذي صار مشهوراً في القرنين الأخيرين، حديث:"إن الله يبعث على رأس كل مئة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها". ومعلوم أن التجديد ينطوي على فكرة الإصلاح. غير أن منزلة هذا الحديث اليوم غير منزلته بالأمس. نحن نحتفي به اليوم، فنكثر من ذكره، وكلنا أمل في التجديد في الدين. أما في صدر الإسلام فالأمر على ما يبدو لم يكن كذلك. ومما يزكي هذا الانطباع أنه حديث مرفوع، رواه فرد واحد وانفرد بذكره مؤلف واحد من جامعي الحديث هو أبو داوود في سننه. لقد تجاهله جامعو الحديث وفي مقدمتهم البخاري ومسلم بينما أورد معظمهم وبألفاظ متنوعة عدداً كبيراً من أحاديث الإحباط كالتي ذكرنا.

يبقى بعد هذا قول الإمام مالك:"لا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها" وهو القول الذي قلنا عنه قبل إنه "المبدأ والمنطلق" في الفكر السلفي الإصلاحي الحديث والمعاصر. والواقع أن توظيف هذه المقولة لتأسيس فكرة "الإصلاح" كما فعل ويفعل التيار السلفي في الفكر الإسلامي الحديث، ينطوي على تجاوز كبير. ذلك أن الإمام مالك لم يقصد، بقولته تلك، "الإصلاح" بهذا المعنى، بل قصد شيئاً أكثر تواضعاً. فقد ذُكر أن ناساً من أهل المدينة كانوا يقفون عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم عند قدومهم من أسفارهم أو أيام الجمعة، "فيسلمون ويدْعون ساعة"، فسئل الإمام مالك في شأن ذلك فقال:"لم يبلغني هذا عن أهل الفقه ببلدنا، وتركه واسع، ولا يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك".

المسألة كانت تتعلق بزيارة القبور، بما فيها قبر النبي. وهو شيء لم يكن يفعله أهل المدينة من قبل. وإذا كان في قولة الإمام مالك شيء من معنى "الإصلاح" فهو إصلاح السلوك الديني بالرجوع به إلى الأصل، والأصل في الدين الإسلامي هو تجنب التوجه بالدعاء لغير الله. وزيارة قبر النبي والدعاء فيه، هي من هذا المنظور، زيادة في الدين لا تجوز.

يتعلق الأمر إذن بنوع خاص من الإصلاح، هو ذلك الذي نهض له ابن تيمية وتابعه فيه محمد بن عبدالوهاب، وقوامه الرجوع إلى ما كان عليه "أول الأمة" من عدم زيارة القبور وما أشبه، مما يخدش في مفهوم التوحيد في الإسلام، ويذكّر بسلوك المشركين من العرب وغيرهم إزاء أصنامهم.

ذلك أيضاً هو المنطلق في إصلاحية جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وهو شيء يستوجب قولا مفصلا


المصدر وجهات
  #141  
قديم 04/08/2004, 10:51 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

أزمة تداول السلطة في العالم العربي

د. برهان غليون


قد يبدو استمرار النخب الحاكمة لعقود طويلة دليلا على الاستقرار الذي تسعى إليه جميع الدول والحكومات من أجل خلق مناخ ملائم للتنمية وجذب الاستثمار. هذا صحيح عندما يتم التجديد للنخبة الحاكمة من خلال مسار طبيعي واستشارة شعبية واضحة. لكن الأمر يختلف عندما يكون الاستمرار في الحكم نتيجة الاستخدام القاسي للقوة أو التلاعب بالرأي العام، ومنع التعبير عن المصالح الاجتماعية الحقيقية. ففي هذه الحال لا ينبغي الحديث عن الاستقرار ولكن عن أزمة تداول السلطة أو أزمة التداول على السلطة. وتعبر الأزمة عن إخفاق النظام في القيام بوظائفه، والمقصود هنا وظائف التعبير عن التوازن الفعلي للمصالح الاجتماعية المتعددة، وتتجسد في الاختناق والانسداد وما ينجم عنهما من تفاقم للتوترات والتناقضات، واحتدام للصراعات العلنية أو الدفينة تحت سطح الاستقرار الشكلي. وبقدر ما يصبح العنف المقنع أو المعلن الوسيلة الوحيدة للخروج من أزمة لا تسمح الطرق القانونية بالخروج منها، يجنح جميع أطراف النظام إلى تطوير التقنيات والساحات الموازية وغير الشفافة للسياسة، والتي تعبر عن استمرار السياسة المحرمة سياسيا بوسائل أخرى غير طبيعية وغير سياسية وبالتالي غير عقلانية. ومن هذه التقنيات والساحات الموازية والأسواق السوداء لسياسة النزعات الطائفية والعشائرية والدينية. فهذه هي الطريق الوحيدة التي تستطيع القوى الاجتماعية من خلالها أن تفرض دورها، وتضمن حضورها السياسي، واستمرارها في عالم الصراع الدموي، من أجل الحفاظ على النفوذ والبقاء.

هكذا يحول الاستمرار في الحكم بالقوة أو استمرار حكم القوة الصراع الاجتماعي من صراع على تداول السلطة والمسؤولية إلى حرب مواقع ونفوذ داخل الفضاء الاجتماعي، يسعى من خلالها الطرف الحاكم إلى تأكيد حضوره في الميدان ليس عن طريق ما يحققه من إنجازات للمجتمع، فهذا ممتنع عليه بسبب انشغاله بالحرب، ولكن من خلال انتصاره على الخصم. وبالمثل لا تستطيع المعارضة أو القوى المحرومة أن تعبر عن نفسها وتتجاوز تهميشها إلا من خلال ما يمكن أن تسببه من مشاكل، وتحمله من تهديدات للنظام. وهو ما يمكن أن نلحظه أيضا في مستوى العلاقات الدولية التي تسيطر عليها اليوم القوة الأميركية تجاه الأطراف الأخرى المهمشة أو التي تريد تهميشها.

فبإثارته المشاكل أمام النظام يطمح الطرف المهمش والمنبوذ إلى تأمين مشاركته في الحياة العمومية حتى لو كان ذلك بوسائل غير صحية. وما يفعله "الأصوليون" تفعله الكثير من القوى الاجتماعية المنبوذة داخل المجتمع وعلى الصعيد الدولي بوسائل أخرى وللسبب ذاته. وهذا ما يقود إلى ما أسميه بحرب المواقع المستمرة في حياتنا السياسية. فلا وجود عموميا ممكنا ولا تأكيد للحضور والنفوذ وبالتالي مشاركة في الحياة العمومية إلا بالمقاومة السلبية، والحرب غير العلنية. ولا يستطيع أحد أن يفرض اعترافه في ساحة سياسية مغلقة ومحرمة إلا بقدر ما يظهر قدرته على خرق المحرمات، وكسر جدران العزلة والمنع. ولذلك تتحول السياسة أيضا إلى تراشق بالقذائف والشتائم والاتهامات والتخوين المتبادل. ويحل التناحر الدائم بين جميع القوى الواقفة بعضها للبعض الآخر بالمرصاد محل التعاون والتفاهم والحوار والتداول. وهذا ما يفسر ما نشهده في جميع الدول العربية من تنابذ وانعدام ثقة وصراع لا يرحم بين العلماء والأحزاب الحاكمة منها وغير الحاكمة والجيش وقوى الأمن والإدارة وغيرها من مراكز القوى السياسية والاقتصادية والثقافية التي تتكون في هذا النظام في وجه بعضها البعض، وتدخل في تنازع وتنافس عدائي يدفع بها إلى التفتت الدائم والانقسام.

وحرب المواقع هذه هي حرب التحييد المتبادل أيضا. فكل من لا يستطيع التعبير عن نفسه وتأكيد وجوده بوسائل إيجابية أي بالمشاركة في الإنجاز يسعى إلى تحقيق هدفه بمنع الآخر من الإنجاز، وسد السبل أمامه وإضعاف فرص نجاحه. هذا هو قانون أو منطق العمل في نظام احتكار السلطة العمومية وانعدام التداول الحر والسليم بها من قبل أطراف المجتمع المختلفة.

لكن حرب التحييد المتبادل لا تمثل رد الفعل الحتمي على انعدام تداول السلطة أو التعويض عنه فحسب، وإنما تؤسس أيضا لمنطق اقتسام الغنائم في الدولة، وتوزيع الموارد الوطنية على قاعدة ميزان القوة. فالذي يفرض نفسه بأي وسيلة كانت: قرابة عائلية أو قوة عسكرية أو مركز نفوذ داخلي أو خارجي، يؤهل نفسه بالضرورة للمشاركة في الغنيمة وتقاسم الثروة ويطمح عن جدارة في أن يحصل على نصيب من العقود و"الكمسيونات" والمنافع والكرامات يعادل قدرته على تهديد التوازنات الداخلية. ومن هنا يختفي مفهوم الفساد نفسه. فالحصول على المزايا الخاصة لا يبدو في وعي المرتشين ولا مستغلي النفوذ خرقا للقاعدة والعرف والأخلاق ولكنه كتكريس للقانون السائد وللعرف المقبول وللأخلاق "الخصوصية" "الوطنية".

وكل من يحصل على مزايا تبدو في الأحوال الطبيعية لا قانونية يعتبر أنه لم يحصل في الواقع إلا على حقه وأنه لو لم يأخذ هو الرشوة لأخذها خصمه ومنافسه. فهو لا يسيئ لأحد ولكنه نفع نفسه. والواقع أن سيطرة منطق توزيع الغنائم على حساب منطق التداول على السلطة كأساس للاعتراف بالأهلية بين قوى النخبة المتعددة، يعني في الوقت نفسه زوال الشعور بالمصالح العمومية، وفناء التفكير من وجهة نظر الارتقاء بشروط حياة المجتمعات كموضوع للسياسة والممارسة العمومية. وبالمقابل يبدو المعارضون الذين يذكرون بالمصلحة العمومية ويطالبون بنشر رؤية أشمل للمسائل السياسية والاقتصادية الوطنية وكأنهم هم الغشاشون والمخادعون الذين يخفون سعيهم لدخول ميدان تقاسم المنافع وراء شعارات أخلاقية ووطنية لا أساس لها من الواقع والحقيقة.

فمشكلة هؤلاء معروفة وبسيطة هي الانتفاع الشخصي أما صاحب المبادئ فهو يتطلع إلى السلطة، ويسعى إلى قسمة جديدة يخرج فيها القائمين ويحل محلهم. هكذا لا يعود الفساد ظاهرة خطيرة ولا شاذة ولا يظهر في عين صانعيه خروجا على المبادئ ولكن ممارسة طبيعية وتعبيرا عن الولاء والتوافق مع النظام ورفض المعارضة والمزاودة المبدئية.

فالنخبة الحاكمة لا تشجع على الفساد من خلال الرشوة التي تقدمها للموالين لها فحسب، ولكنها تدفع إلى استفحاله أيضا بضربها المستمر لأصحاب المبادئ وتحييدهم ومعاقبتهم. فهم بالنسبة إليها الخطر الفعلي لأنهم يظهرون بالضبط معارضة فعلية، حتى لو لم ينطقوا بكلمة واحدة، للأساس الذي يقوم عليه النظام ويبني عليه قاعدته الاجتماعية، أعني قاعدة تقاسم الغنائم والرشوة المنظمة المعممة.

والواقع أن مجتمعات التحييد المتبادل وتقاسم الغنائم هي الوجه المقابل للمجتمعات الفعلية التي لا تقوم ولا تستمر إلا بسبب خلقها شروطا أفضل لتبادل المنافع، وزيادة المكاسب القانونية والفكرية والسياسية والحضارية والاقتصادية للجميع. فهي إذن مجتمعات مضادة للاجتماع تماما كما نتحدث عن المادة وضد المادة. ولا يكسب فيها الأفراد شيئا، ولكنهم يخسرون جميعا لصالح فئة تقل عددا باستمرار من المسيطرين سيطرة متزايدة أيضا وعائلية أكثر فأكثر على مقدرات البلاد. ففي هذه المجتمعات يحل قانون التخويف المتبادل أي تبادل الأضرار والأذى محل قانون تبادل المنافع كأساس لبقاء الاجتماع والحفاظ على وحدة النظام. ففي الأصل يبعث اللقاء في إطار مجتمع واحد، وثقافة ودولة وتاريخ مشترك مشاعر تقارب وتراحم بين الناس، ويعمق التعاون والتضامن والتفاهم والثقة بين الأفراد. ويعمل هذا التعاون على تعظيم فرص كل واحد منهم في التقدم وتحسين الأحوال. ومن هنا يعتبر تبادل المنافع هو مبرر وجود المجتمعات وبقائها.

ومن الصعب تصور مخرج من هذا النظام أو أي تغيير له من دون تصور نشوء ديناميكية تنافس سياسي جديدة تزعزع استقرار منطق التوزيع القائم للغنائم والمكارم والمكاسب، وتفرض آلية جديدة لتداول السلطة السياسية وتوزيعها، من منطق المسؤولية الجماعية وتراكم الثروة والخبرة الوطنية. وهذا هو ما ترمي إليه النضالات الديمقراطية والعمل لتوسيع دائرة الحريات ونقل الصراع من الميدان الاقتصادي إلى الميدان السياسي والفكري. ففي البقاء في المستوى الاقتصادي وحده، سواء أتعلق الأمر باقتصاد السوق أو اقتصاد التخطيط، ليس هناك أي أمل في المس بمنطق نظام تقاسم المغانم وزعزعته
.

المصدر وجهات
  #142  
قديم 06/08/2004, 03:02 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
منع بث المنار في فرنسا: عدوي الخوف من الغزو الثقافي تنتقل من العرب إلي الفرنسيين!
2004/08/06


هويدا طه

فرنسا.. بلاد النور والملائكة، بلاد الثورة والحضارة والنهضة والثقافة، بلاد الحرية وحقوق الإنسان، هكذا تعاملنا نحن العرب مع فرنسا تاريخيا (الليبراليون منا علي وجه التحديد بالطبع)، حتي أن جدلا مستمرا يدور حول الموقف من حملة نابليون علي مصر في القرن التاسع عشر مازال مستمرا، هل نعتبر الحملة (استعمارا )أم (تنويرا)؟. فرنسا هذه، أم دعوات الحرية في العصر الحديث، انتقل إليها ـ وا أسفاه ـ فيروس ثقافي عربي الأصل والنشأة والمصطلح! فيروس (الخوف من الغزو الثقافي)!، فالمجلس الأعلي للإعلام المسموع والمرئي في فرنسا، طلب من الدولة وقف بث قناة المنار التابعة لحزب الله اللبناني عبر الأقمار الاصطناعية في فرنسا، وكعادة الأوروبيين، السبب العلني هو قانوني، فقد قال رئيس الوزراء الفرنسي إن بلاده ستجيز قانونا يفرض قيودا علي محطات التليفزيون التي لم توقع عقودا مع أي ٍ من دول الاتحاد الأوروبي، أما السبب الدافع فقد ظهر في تعبير رئيس الوزراء نفسه عندما قال: سنفرض قيودا علي محطات التليفزيون التي تبث برامج معادية للسامية من الشرق الأوسط ، كما قال دومينيك بودي رئيس المجلس الأعلي للإعلام الفرنسي إن: صورا وتصريحات تبثها محطات أجنبية في فرنسا عبر يوتيلسات لا تحتمل إطلاقا ، وقد قال ذلك تعليقا علي بث قناة المنار مسلسلا تاريخيا عن تاريخ إسرائيل، هو مسلسل الشتات الذي بثته القناة العام الماضي، وواجهت بسببه هجوما أوروبيا عنيفا، وأوقفت استراليا بث القناة فيها بسببه، هكذا إذن يتوجب علي وزراء ومسؤولي الإعلام العرب أن ينتشوا فرحا بتقليد فرنسا لهم! ويحق لهم أن يقولوا أنهم ليس هم وحدهم من يفرضون الوصاية علي عقول مواطنيهم الطيبين، خوفا عليهم من (الغزو الثقافي)، أما نحن وكالعادة، فإننا استقبلنا الحدث في عالمنا العربي بالتأسف التقليدي الانفعالي الذي تمكن منا الإدمان عليه! فتش عن الأصابع اليهودية، فتش عن الصهاينة (أبناء القردة والخنازير) فتش عن سيطرة اللوبي اليهودي أو الإسرائيلي في أوروبا، .. إلخ، وسوف يستمر هذا السب فترة ثم نهدأ، وكأن شيئا لم يكن، وفي الواقع فإن سؤالا يطرح نفسه هنا، حتي لو كان يوجد لوبي يهودي أو إسرائيلي أو صهيوني (أو حتي خنازيري) في أوروبا! لماذا لا يوجد لوبي آخر عربي أو إسلامي أو سمه ما شئت، يضغط لصالحنا باعتبارنا (الساميين العرب) أمام هؤلاء (الساميين الإسرائيليين)؟! هم بالتأكيد يمتلكون شكلا من أشكال (الشطارة) مكنتهم من شق تلك القنوات للضغط علي أوروبا، شطارة جعلت الفرنسيين يخافون من الغزو الثقافي من الساميين العرب! ويفضلون عليهم الساميين الإسرائيليين، هل خطر ببال أحدنا أن يتساءل ـ بصراحة ـ لماذا الساميون الإسرائيليون أشطر من الساميين العرب؟!

البرامج الوثائقية علي الفضائيات العربية: ثقافة المعلومة أمام ثقافة الحدوتة عند الجمهور العربي

بين الفيلم السينمائي والآخر علي شاشات معظم القنوات العربية ـ الفضائية والأرضية ـ أو بين مسلسل وآخر أو بين برامج المسابقات، يعرض إما فيضا من الإعلانات التجارية أو ما يطلق عليه عادة اسم (فيلم وثائقي)، والحال ملحوظ أكثر في القنوات الإخبارية التي لا تعرض أفلاما أو مسلسلات، فتري علي شاشاتها (برنامجا وثائقيا) بين نشرة وأخري أو بين برنامج حواري وآخر، بالطبع نفس تلك السياسة التليفزيونية مطبقة أيضا في القنوات الأجنبية مثل قنوات (بي بي سي) أو القناة الفرنسية أو غيرها. البرامج أو الأفلام الوثائقية هي من الفنون التليفزيونية الرائعة حقا، وهي تغطي مساحة هائلة من اهتمامات البشر ـ وليس فقط كما تعتقد للوهلة الأولي أنها تتبع بالكاميرا تفتح الزهور وهروب الحشرات والحيوانات إلي جحورها! ـ فهي نوع من فنون التليفزيون يلتقط مشهدا واحدا من حياة البشر ليسبر غوره بعدسة الكاميرا، وهي نوع يقدم (معلومات) محددة، عن الأماكن والأشياء والعلوم وحتي مشاعر البشر، كتلك الحلقات من البرامج الوثائقية العديدة التي تعرض مثلا تجارب الأطباء النفسيين حول ردود أفعال البشر تجاه أحداث معينة، أو تتبع نمو الطفل النفسي والمعرفي وغير ذلك، بالطبع قناة (ديسكفري) هي قناة متخصصة في هذا المجال، فقد اكتشفوا أهمية تنمية (ثقافة المعلومة) فأطلـــــــــــقوا تلك القناة الممتـــازة، لكن ما يلفت النظر في الفضائيات العربيــــــة أنها قليلا بل قل نــــــــادرا ما تنتج مثل تلك البرامج، والسؤال المطروح هو لماذا؟ لماذا لا يهتم العربي بإنتاج برامج أو أفلام وثائقية تسخر عدسات الكاميرا لمعرفة ما وراء الأشياء؟ أو حتي للمعرفة المباشرة بالأشياء؟ أو لالتقاط لحظات عابرة في الحياة العربية وتحويلها إلي مادة معلوماتية، أو لعرض حقائق علمية عن البشر وحياتهم والطبيعة التي يتعاملون معها والكون الذي يعيشون فيه؟
ربما يكون السبب أننا أبناء ثقافة (الحواديت)، تعلمنا من الدول المتقدمة أن ننتج سينما وننتج مسلسلات تليفزيونية، لكن إنتاج المعلومات لم يشد انتباهنا لنتعلمه منهم، تعلمنا منهم إنتاجا برامج المسابقات وبرامج (التوك شو)، لكننا لم نتعلم منهم إنتاجا يعتمد علي (البحث العلمي)، لا ينقصنا التمويل، فما ينفق علي إنتاج برامج المسابقات والحكي مع الفنانين ولاعبي كرة القدم، يفوق ربما ما نحتاجه لإنتاج ثقافة معلوماتية، لكنها هي (ثقافتنا الاجتماعية) التي تحب الحواديت ولا تحب العلم، وتتشفي في العلماء عندما تفشل لهم تجربة هنا أو هناك، وتفضل (أبو زيد الهلالي) علي أي عالم ٍ أو باحث، هي تلك الثقافة التي يتربي عليها القائمون علي الإنتاج التليفزيوني، وهي التي تنتج مموليه، نعم نشتري من الآخرين تلك البرامج، كما نشتري منهم كل شيء، ربما لأنهم ينجحون في تسويقها بأكثر ما نرغب نحن فيها أو نبحث عنها، لكننا لا نهضمها، لا نتعلم منها، الغالبية الساحقة من المشاهدين العرب تسخر من البرامج التي تتتبع أنواع الحشرات أو الزهور أو الغابات أو تجارب الأطباء أو علوم الفضاء أو غير ذلك، بينما تنظر بفخر إلي الأنباء والبرامج التي تبين القدرة علي قتل الآخر، خاصة عندما يكون القاتل عربيا! قناة العربية عرضت برنامجا عن أيمن الظواهري، وغيرها من القنوات عرض برنامجا عن الزرقاوي أو أسامة بن لادن أو غيرهم، والجميع يختار أوقات الذروة لعرضها، حد السيف بالنسبة لنا أهم من المعلومة، والقدرة علي القتل في ثقافتنا الكامنة الراسخة هي الجد، بينما المعلومة والكتب هي اللعب، وبغض النظر عن الظروف التي قال فيها المتنبي بيت شعره الشهير، فقد حوله التواتر إلي ثقافة منهجية في أعماقنا، ثقافة ترفع شأن (فعل القتل) وتحقر (فعل المعلوماتية)، ثقافة ظلمت الشاعر المتمرد عندما حولت بيت شعره ـ بفعل عادة التأويل والإسقاط، القائمة عليها تلك الثقافة ـ حولته إلي موقف ومنهج حياة، منهج يصبح فيه: السيفُ أصدقُ أنباء ٍ من الكتب ِ .... في حده الحدُ بين الجد ِ واللعب !

علي الفضائيات العربية.. الرياضة كحياة العرب:
جعجعة بلا طحين!

في العالم كله هناك قنوات متخصصة في الرياضة وأخبارها، ونحن أيضا، لدينا قنوات متخصصة في الرياضة وأخبارها، لكن العالم كله ـ العالم المتقدم طبعا ـ يهتم بفنون الرياضة وممارستها، والأهم من ذلك دلالتها الحضارية في ثقافة الشعوب، هنا يختلف الأمر لدينا، لدينا مئات الفرق الرياضية في كرة القدم وأنواع الرياضة الأخري، لدينا ملاعب ووزراء للرياضة والشباب، لدينا لاعبون ومدربون وحكام، لكن بالمفهوم الحضاري.. ليس لدينا رياضة! هذا بالطبع ليس كلامي، فالرياضة، هذا (الشيء) لم يجد له مكانا في حياتي وحياة أمثالي.. لأسباب حضارية! وإنما هو كلام ضيف ـ لا أذكر اسمه للأسف ـ في أحد تلك البرامج التي تبث علي الفضائيات العربية عن الرياضة والكرة والملاعب، أحد الضيوف قال: نحن نعرف اللاعب (الفلتة) الذي يتفوق بالصدفة، لكننا لا نعرف ولا نملك مؤسسات مهمتها (صناعة اللاعبين)، نحن (نحب الفرجة) علي فنون الرياضة، لكننا (لا نفهم الرياضة)! التعليق الأظرف كان لضيف ٍ قال: حرام نحمل اللاعبين عبء ثقافة اجتماعية لا تفهم الدور الحضاري للرياضة، اللعيبة بتوعنا غلابة.... نفسهم مقطوع من سوء التغذية .
كاتبة من مصر

جريدة القدس العربى
  #143  
قديم 21/08/2004, 01:57 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
بعد 34 عاما: التركة البريطانية ما تزال تؤرق الخليج
2004/08/18

د. سعيد الشهابي

في مثل هذه الايام قبل 34 عاما كانت القوات البريطانية تنسحب من مشيخات الخليج التي بقيت تحت حمايتها قرنا ونصفا. جاء الانسحاب في اثر قرار حكومة العمال البريطانية في مطلع 1968 بسحب جميع القوات البريطانية من المناطق الواقعة شرق السويس لاسباب اقتصادية بالدرجة الاولي. وكان قرار الانسحاب قد واجه اعتراضا من اغلب حكام تلك المشيخات بسبب الاعتماد الكلي علي تلك القوات لتوفير الحماية لفترة طويلة، وعدم وجود كيانات سياسية تمتلك الثقة بالقدرة علي ادارة شؤونها بعد رحيل البريطانيين. فعلي مدي قرن ونصف كان البريطانيون الحكام الفعليين للساحل الجنوبي من الخليج، عبر نظام ادارة خاص مرتبط بحكومة الهند البريطانية. فكان هناك معتمدون سياسيون يمارسون دور الحاكم في المشيخات، وعلي رأسهم جميعا كان هناك المقيم السياسي المقيم في البحرين والمرتبط بمكتب الهند بالخارجية البريطانية. قرار الانسحاب كان له وقع الصاعقة علي الحكام الذيم بذلوا جهودا حثيثة لثني الحكومة البريطانية عن القرار. بل ان بعضهم عرض دفع تكاليف التواجد البريطاني كاملة في مقابل البقاء. لكن بريطانيا التي كانت تعيش الايام الاخيرة لامبراطوريتها كانت تعيش نفسية خاصة دفعتها لتقليص وجودها العسكري في العالم، خصوصا بعد ان خسرت الهند في 1947 التي كانت جوهرة التاج البريطاني . ثمة قضايا عديدة كانت تشغل بال الخليجيين والبريطانيين علي حد السواء آنذاك، منها مستقبل مشيخات الساحل المتصالح والمطالبة الايرانية بالبحرين، وأمن الخليج بعد الانسحاب. وخلال السنوات الثلاث ما بين قرار الا نسحاب وتنفيذه بذلت جهود متواصلة لاحتواء تلك القضايا، وانتهي الامر بقيام الامارات العربية المتحدة مكونة من سبع مشيخات، واستقلال قطر والبحرين كدول ذات سيادة، بعد فشل الجهود لاقناعهما بالانضمام الي الاتحاد الذي اصبح سباعيا بعد ان كان مخططا له ان يتكون من تسع مشيخات. كما ان قرار شاه ايران باحترام ارادة شعب البحرين ادي الي تدخل الامم المتحدة لاستمزاج رأي شعب البحرين ازاء مستقبله. وجاءت نتيجة ذلك الاستفتاء ان شعب البحرين يريد دولة مستقلة محكومة بنظام يمارس الديمقراطية وفق دستور تعاقدي علي غرار الكويت التي سبقت دول الخليج في الاستقلال الرسمي عن بريطانيا بعشرة اعوام.
ما هي التركة البريطانية في الخليج؟ وما آثار تلك الحقبة التاريخية علي مستوي الثقافة والسياسة وامن الخليج والاوضاع القائمة حاليا؟ بعد مرور اكثر من ثلاثة عقود علي ذلك الانسحاب ما يزال الحكم بشأن الوجود البريطاني غير واضح. فمما لا شك فيه ان ذلك الوجود ادي الي استقرار نسبي في المنطقة، وقضي علي القرصنة وساهم بشكل محدود في انظمة الادارة. ولكنه في الوقت نفسه لم يهتم بتنمية المنطقة سياسيا او ثقافيا او اقتصاديا. فعلي الصعيد الاقتصادي مثلا كان لاكتشاف النفط في العقود الثلاثة قبل الانسحاب اثر في تحسين اوضاع المنطقة، ولكن لم يصاحب ذلك خطة لتطوير اقتصادي حقيقي يستثمر الايرادات النفطية الهائلة لبناء بنية تحتية قادرة علي توفير مشاريع اقتصادية موازية للنفط. كما لم يهتم بانشاء مؤسسات وانظمة تعليمية حديثة. ففي عمان والامارات وقطر مثلا لم ينشيء ذلك الوجود نظاما مدرسيا حديثا، ولم تنشأ المدارس الا بعد الانسحاب. وبسبب علاقة الوجود البريطاني مع العائلات الحاكمة، فقد كرس البريطانيون نمط الحكم القديم بدون ان يجشموا انفسهم عناء تأسيس نظام حكم حديث يطور الثقافة الديمقراطية لدي الشعوب والحكومات. بل علي العكس من ذلك واجه البريطانيون الحركات الديمقراطية في البحرين مثلا بالقوة، وانزلوا جنودهم الي الشوارع لقمع التظاهرات الشعبية المطالبة بالاصلاح السياسي، كما حدث في 1956 عندما قمعوا الحركة السياسية التي تزعمتها هيئة الاتحاد الوطني ونفوا ثلاثة من قادتها الي جزيرة سانت هيلانة بالمحيط الاطلسي، وكما حدث في 1965 عندما انزلوا قواتهم الي الشوارع لقمع الحركة الشعبية التي كانت تطالب بدستور ونظام ديمقراطي. الوجود البريطاني لم تكن له اهداف سوي الهيمنة علي المنطقة واستغلال ثرواتها. وتجدر الاشارة الي ان ذلك الوجود كان قد بدأ بهدف القضاء علي القرصنة التي كانت تهدد خطوط الملاحة بين الهند وبريطانيا، ولم يتطور ذلك الهدف برغم امتداد الفترة الطويلة التي استغرقها ذلك الوجود.
يضاف الي ذلك ان التركة البريطانية اثقلت كاهل المنطقة بقضايا مزعجة من بينها ازمات الحدود التي خلقت توترات بين العائلات الحاكمة طوال العقود اللاحقة، ولم تحل الا في السنوات الاخيرة، وما تزال تلقي بثقلها علي العلاقات بين الانظمة، ولم تحسم بشكل نهائي بعد. مشكلة الحدود هذه بقيت مصدر توتر واضطراب، واستحوذت علي شطر كبير من الجهود السياسية والمالية، حيث تحولت بمرور الوقت الي قنابل موقوتة ادت الي توتر العلاقات بين الدول، وهو توتر يختفي احيانا ويظهر اخري حتي الآن، وبقيت قضية الحدود تؤرق المسؤولين وتفرض نفسها علي اجتماعاتهم وقممهم لتؤثر سلبا علي سير المباحثات، وحالت دون قيام وحدة حقيقية بين الدول الفتية. وعندما احيل بعض هذه القضايا الي القضاء الدولي كانت الوثائق البريطانية هي المرجع الاساس لطرح المشكلة امام القضاة بتفسيرات متباينة، وأصبحت قرارات المعتمدين السياسيين البريطانيين او المقيمين السياسيين هي المرجع لتحديد الحدود. وبقيت تلك المشاكل الحدودية تعصف بالمنطقة وادت الي مناوشات حدودية في حالات عديدة (حادثة الصامتة بين العراق والكويت في 1973، والتوتر العسكري بين البحرين وقطر بمنطقة فشت الديبل في 1986، والمناوشات بين القوات السعودية والقطرية عند مركز الخفوس الحدودي بين البلدين). البريطانيون لم يكونوا متحمسين للتعاطي مع الشؤون المحلية الا بقدر ما ترتبط تلك الشؤون بمصالحهم، فكانت هناك انانية واضحة في تعاطي المسؤولين البريطانيين مع الوضع عموما. وبالرجوع الي الوثائق البريطانية خلال نصف القرن الاخير قبل انسحابهم يمكن اكتشاف مدي تدخلهم في الشؤون المحلية وارتباطهم بما يجري يوما بيوم، ودور المعتمدين والمستشارين في اتخاذ القرارات حتي في اصغر القضايا واقلها اهمية. ومع ان تلك الممارسة تركت شيئا من النظام الاداري الحديث في بعض البلدان الخليجية، لكنها لم تؤد الي تحديث الحياة عموما، خصوصا في جوانبها التعليمية والسياسية. وكادت قضايا الحدود تعصف حتي بالتبادل الثقافي بين مشيخات الخليج، لولا اصرار مواطنيها علي اختراق الحدود والتواصل مع اخوتهم في الدول الخليجية الاخري.
وقد وجدت دول الخليج نفسها امام تحديات امن الخليج ومقتضياته بعد فترة وجيزة من الانسحاب البريطاني. ففي غضون عشرة اعوام وجد حكام الخليج انفسهم امام تحديات سياسية داخلية وخارجية خصوصا بعد قيام الثورة الاسلامية في ايران واندلاع الحرب العراقية ـ الايرانية، فبدأوا يفكرون، للمرة الاولي، في تشكيل كيان يلم شملهم لمواجهة التحديات الامنية الجديدة. الامريكيون رعوا تلك المبادرة لانهم احتلوا مكان البريطانيين في المنطقة ودخلوا في اتفاقات عسكرية مع اغلب حكامها، وبنوا قواعد عملاقة مكان القواعد البريطانية. وشجعوا علي قيام مجلس التعاون الخليجي في 1981 بعد ان اصبحت المنطقة في حالة توتر شديد بسبب ما جري في ايران بشكل اساسي، وادراكهم ان اوضاعهم لن تكون مستقرة في غياب الرغبة في طرح مشاريع سياسية اصلاحية تتناغم مع تطلعات الاجيال الجديدة. فالتعليم الذي انتشر في السبعينات في دول الخليج كان طفرة نوعية ساهمت في صياغة ذهنية المواطن الخليجي بعد عقود من التجهيل خلال الحقبة الاستعمارية. وهنا لاح التناقض بين منظومة الحكم التقليدية التي لم يطرأ عليها تغيير منذ عقود (وفي بعض الحالات منذ قرون) والتطور التعليمي الذي ادي الي نمو شرائح مجتمعية اكثر انفتاحا ورغبة في التطور. وقد ساهمت الطفرة النفطية في ذلك، حيث استطاعت دول الخليج انشاء الجامعات الحديثة وارسال البعثات الي الجامعات الغربية، واقامت مؤسساتها الاعلامية الحديثة، واستطاع مواطنوها السفر الي الخارج والاحتكاك بالشعوب الاخري وثقافاتها واطلعوا علي انماط الممارسة السياسية في تلك البلدان. وبدت التركة البريطانية الثقيلة ليست عاجزة عن مسايرة هذه التطورات فحسب، بل معوقة للتطور في كثير من الاحيان. وتجدر الاشارة الي ان الانسحاب البريطاني العسكري من الخليج خلف وراءه جيشا من الخبراء في اغلب المجالات، وهو جيش يسعي للحفاظ علي النفوذ البريطاني في المنطقة، ومن هؤلاء الخبراء ضباط كبار وضعوا خبراتهم وتجاربهم لخدمة الحكومات في مواجهة المجموعات المعارضة، وبقيت اجهزة الامن، حتي الآن، تدار بشكل او آخر من قبل خبراء الامن البريطانيين، الذين مارسوا، في بعض الحالات كما هو الحال في البحرين، التعذيب بحق المعتقلين السياسيين. وبقيت الحكومة البريطانية تشعر بمسؤولية اخلاقية لحفظ نظام تلك الحكومات ومنع تعرضها للخطر من قبل المعارضين المطالبين بالاصلاحات السياسية.
وبالرغم من مرور اكثر من ثلاثة عقود علي الانسحاب البريطاني من الخليج، ما تزال بريطانيا لاعبا كبيرا في سياسات المنطقة، ولم يكن مستغربا ان تخوض الحرب مع امريكا في العراق، لانها لا تريد الاكتفاء بدور المتفرج علي ما يجري في منطقة كانت تحظي فيها بحصة الاسد من حيث الحضور السياسي والامني والعسكري والاقتصادي. وقد دخلت بريطانيا الحرب برغم عدم اقتناع حكومتها بشرعية تلك الحرب، ويؤكد عدم وجود الاقتناع بشرعيتها مواقف وزراء مثل روبين كوك وكلير شورت، وهم في اعلي مناصب الدولة. وما يزال النقاش محتدما في اوساط السياسيين والمثقفين البريطانيين حول مدي واقعية الموقف البريطاني الداعم لامريكا، اذ ما تزال هناك قناعات لدي بعض القطاعات بامكان استعادة جزء من الدور التاريخي الذي تضاءل في العقود الاخيرة لصالح الولايات المتحدة، بينما يعتقد الاكثر عقلانية بان هذا التوجه له مخاطره لانه يصطدم بحالة التطور التي تجتاح العالم والحركة الثقافية والسياسية لشعوب العالم الثالث، وان من الضروري التخلي عن العمل السياسي والعسكري المنفصل عن الاجماع الدولي. بريطانيا بقيت اكثر من قرنين حاضرة في الميدان الدولي كقوة استعمارية استطاعت اقامة واحدة من اكبر الامبراطوريات في تاريخ العالم، ولكن هذا العالم لم يعد قادرا علي استيعاب ممارسات من هذا النوع، وبالتالي فمن الاجدر ببريطانيا ان تبحث عن دور فاعل علي الصعيد الدولي من خلال الامم المتحدة. فاذا كان هناك من يقظة جديدة لدي الساسة البريطانيين بضرورة تفادي تكرار تجربة الاستعمار والهيمنة علي الشعوب، فسوف يكون ذلك تطورا ايجابيا يخدم بريطانيا ومصالحها اولا ويجنب الدول الاخري شرور التدخلات العسكرية غير الشرعية، وما ينجم عنها من كوارث انسانــية واقتصادية.
وبرغم انتهاء الامبراطورية، ما تزال بريطانيا تواجه تبعاتها بدون انقطاع تقريبا. فهي في مواجهة سياسية مع زيمبابوي بسبب توتر العلاقات بين الاقلية البيضاء والاغلبية السوداء حول الاراضي والممتلكات التي تعود للعهد الاستعماري، وعلاقاتها مع باكستان ليست علي ما يرام. الخليج من جانبه، ما يزال يعيش آثار التركة البريطانية في جوانبها السلبية خصوصا علي صعيد الامن وانماط الحكم والعلاقات العربية ـ الغربية عموما. لقد كانت تجربة مرة برغم ايجابياتها، والامل ان تستطيع شعوب الخليج النهوض مجددا في المجال السياسي لاقامة انظمة سياسية فيها شيء من الممارسة الديمقراطية والمشاركة الشعبية. وتؤكد الازمات السياسية والعسكرية التي مرت بها المنطقة منذ الانسحاب البريطاني ضرورة اعتماد دول الخليج علي نفسها في مجالات الامن والاقتصاد والعلاقات الدولية، وذلك بتقوية منظومة مجلس التعاون من خلال اشراك المواطنين في عمله، وتمتين الروابط بين الشعوب سيرا نحو اقامة وحدة عملية في ما بينها، وعدم الاقتصار علي اداء المجلس الذي لم يستطع تحقيق الكثير برغم مرور اكثر من عشرين عاما علي قيامه. لقد انتهي عهد الاستعمار (نظريا)، وبقي علي المسؤولين العمل لتحقيق الاستقلال عمليا، وهذا الاستقلال لا يتحقق الا بالتضامن الفعلي بين الحكومات والشعوب، وهو التضامن الذي لم يكن قائما خلال فترة الحماية البريطانية. ان الاعتماد علي القدرات الذاتية هو الطريق الاقصر لتحقيق الامن والاستقرار والرخاء

القدس العربى
  #144  
قديم 22/08/2004, 04:12 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up

المرأة ثلاثة أرباع المجتمع

ابراهيم بن حمود الصبحي


اما البدوي فقد قال ان المرأة كالبعير ان احسنت اليه خدمك وان اسأت اليه خذلك. رفيقك ان تأدب وعدوك ان تنكب. وفي تركيا يشبهون المرأة بالوردة لونها جميل ورائحتها زكيه، لكنها لا تطول وان اردت قطفها فحاذر شوكها. وفي حياة الشعوب كثير من الامثلة مشتقة من البيئة التي يعيشون فيها - لأن الانسان ابن بيئته. في منغوليا يقولون مثلاً: اذا كانت زوجتك كبشاً فاياك ان تقارعه. كل هذه عادات وتقاليد ما انصفت المرأة أو انها اوغلت أو بالغت كثيراً بنعت المرأة بعدة نعوت نتيجة الجهل وعدم انتظام العلاقة بين المرأة والرجل أو لصعوبة الحياة وقسوتها وشظف العيش ومرارته مما أوجد تباعداً أو حاجزاً بين المرأة والرجل. ومع انحسار مد الجهل وانتشار التعليم بين الشعوب وتعمق الفهم بين المرأة والرجل وازدياد الحاجة لوجود علاقة بين المرأة والرجل مبنية على حسن التفاهم والتفاعل بينهما وتغليب لغة الحوار الهادىء على لغة الصراخ والصخب التي تتحول إلى البطش والعنف احياناً فتخرج الانسان من طبيعته كانسان إلى حيوان كاسر مفترس. لا لشيء الا رغبة في فرض السيطرة واثبات الوجود بطريقة خاطئة. (ومن آياته ان خلق لكم من انفسكم ازواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة) والمودة والرحمة لا تتولد من الصخب والغرور وانما تأتي من السكينه والهدوء، لذلك اسموا البيت سكنا - لانه يوفر كل اسباب الراحة والطمأنينة للعائلة. والذي جاء إلى رسول الله صلى اللـه عليه وسلم يسأله: من احق الناس بحسن صحابتي يا رسول الله؟ قال أمك وكررها عليه ثلاثاً ثم قال أبوك فهذا لا يعني نسبة وتناسب 3: 1 ولم أقصد بقولي 3/4 المجتمع هذه النسبة خالية من اي معنى. ولأن الرجل الشرقي عاش قروناً سيد عصره وسيف دهره والمرأة تتوارى خلف استاره ولا تتدثر الا بدثاره ووجد الرجل كل الاسباب مهيأة له، لأن يستبد وينشر منشاره فقد أوقع الظلم عامداً متعمداً على المرأة ضارباً عرض الحائط بالمعاني السامية التي اتى بها الدين الاسلامي. الرجل الشرقي مستبد بطبعه وعلى مدى قرون ازداد هذا الاستبداد فزادت محنة المرأة. وبفضل الدعوات المتكررة والمطالبات العادلة لحقوق المرأة والطفل بل وحقوق الاسرة كاملة ولانتشار الجمعيات النسوية المطالبة بوضع التشريعات والقوانين التي تقرر حقوق المرأة فقد تغيرت الصورة وانقشع ذلك الظلام الذي خيم على المرأة، ولكن ذلك اول الغيث ومازالت المرأة في القرى والأرياف والمناطق النائيه وفي الصحراء تعاني من الظلم والجهل والاستبداد باعتبار المرأة العنصر الضعيف غير القادر على رد الرجل أو ردعه عن استبداده وغروره وظلمه. والمتتبع لمسيرة النهضة النسائية في العالم كله سيجد ان المرأة بصورة عامة شقت طريقها جنباً إلى جنب مع الرجل. بل ان المرأة تنبهت إلى أمر هام وهو ان مطالبتها المساواة بالرجل لم يكن مطلباً عادلاً لعدة أسباب. فلكل منهما حقوق وواجبات مختلفة لا يجب اغفالها. وبدأ اصحاب الشأن والقرار اتخاذ الخطوات الضرورية لكي تنال المرأة حقوقها كاملة غير منقوصة. ولم نجد أو نقرأ او نسمع عن حديث نبوي شريف ولافي تصرفات رسول الله صلى اللـه عليه وسلم ما ينتقص حقوق المرأة. بل حتى في خطبة الوداع أوصى عليه الصلاة والسلام خيراً بالنساء. ولا يجب ان تؤخذ بعض الاحاديث الشريفة على مطلق معانيها وعلينا التحقق جيداً من ظروف اطلاق الحديث ومسبباته وعموم معناه وخصوصه حتى لا يأخذ علينا المتربصون بالاسلام ذريعة أو مدخلاً بان الاسلام والعياذ بالله قد انتقص من حقوق المرأة. والسؤال الذي يطرح نفسه. ما حدود اطلاق الحقوق للمرأة؟ الرجل عليه قيود كثيرة في معاملة المرأة وفي علاقته مع المجتمع ومع الدولة كلها وكذلك هو شأن المرأة. لا توجد هناك مطلقية ثابتة في ان يستخدم الرجل والمرأة هذه الحقوق إلى درجة التسلط والاستبداد. لذلك فان دعوتنا كمسلمين هو ان نحدد تلك العلاقات تحديداً دقيقاً في المحافظة من جهة والمطالبة من جهة وعدم التخلي أو التفريط في اي حق من هذه الحقوق التي اكرمنا بها الله عز وجل وحددها لنا في شريعة رسوله الامين عليه الصلاة والسلام، وفي آراء العلماء المتخصصين الذين يعون ظروف العصر ومقتضيات الحياة، فلا التضييق يفيد ولا اطلاق الاحكام على عمومها يفيد ولا ترك الأمور حتى يحدث الانفلات أو الاحتكاك يفيد. أعود إلى موضوع مهم الا وهو مدى محافظة المرأة على حقوقها من جهة وواجباتها من جهة اخرى. لا أقصد هنا اقتصار الواجبات على المنزليه والاسريه منها. ولا ان اذهب إلى درجة الانفلات الذي نشهده في علاقة المرأة بالرجل وبالمجتمع متخذين من بعض المجتمعات نموذجاً لحياتنا العصرية (الخالية من العقد البعيدة عن روح العصر غير المنسجمة مع حياة الشعوب المتقدمة). حياة كما يقولون تعيدنا لعصور الغاب. كل غلو وتطرف يؤدي إلى الارهاب. نعم نحن نعيش عصر ارهاب في كل شيء. الاصل في الاقبال على اي شيء هو الترغيب لا الترهيب والترهيب قد يصل إلى حد التقزيز والتنفير والخروج عن الحشمة وعن الذوق العام. انا اريد حياة ترتفع بالنفس البشرية لا أن تهبط بها لحياة الحيوان الذي يمارس كل فنون حياته خارج بيته وبين افراد مجموعته، لان هذا اسلوب حياته في الاستمتاع الرخيص. للاسف الشديد فهمنا خاطىء للفن والاستمتاع، الاستمتاع بالفن هو نجاح أهل الفن في إدخال المتعة الراقية على نفسك. ان الفن الراقي هو بضاعة احسن الصانع انتاجها. فالراقي منها يعمر زمناً والهابط منها ترميه بعد مرة واحدة من الاستعمال. انظر إلى كبار أهل الفن انهم يعرضون اليوم مقتنياتهم الشخصية من ملابس ومجوهرات واكسسوارات وعطورات فيجنون منها الملايين. لان لها قيمة فنيه ومادية ونفسيه أما اصحاب الفن الهابط فلا وجود ولا أثر لهم. ليوناردو دافنشي مازال حياً بأعماله بعد خمسة قرون من لمساته الفنية في الموناليزا مثلاً. بيتهوفن وباخ ومحمد عبدالوهاب وجيل الرحابنه وأم كلثوم وغيرهم احياء في قلوب الناس واذهانهم اما العتبة جزاز فقد تكسرت. اليست هذه دعوة لما يسمى بالانفتاح كما يحلو لهم ان يسموها أوليس أبطالها النساء، انها حرية شخصية لا اعتراض عليها لكن علينا ان نختار بين حريتين: حرية لتحصيل المال وحرية لكسب الشهرة عن جداره. والمرأة هنا هي الحكم في ان تحدد دورها لأن الرجل مجرد مستهلك. يجب الا يكون هناك تناقض للمطالبة بحقوق المرأة وانتزاعها من الرجل كما يقولون. بل العكس صحيح ان الرجل هنا لا يتنازل للمرأة عن هذه الحقوق ولا هو يمن عليها وليس اسقاطاً لحقه ابداً. انها حقوق ثابتة في احكام القرآن والسنة فاذا لم تكن قد طبقت أو تم التغاضي عنها أو التخلي عنها أو اسقاطها عمداً تلذذاً للاستبداد فان هذه الحقوق تبدو اليوم وكأنها نزوع للاعتراف وعودة عن الخطأ أو انه تفضل من الرجل وكله غير صحيح. أن مجرد اعطاء المرأة مناصب قيادية واشراكها في الحياة البرلمانية وفي الحياة العامة وفي مشاركتها الدولية لا يعني اضطلاع المرأة بدورها الكامل تجاه اسرتها وامتها ووطنها، انه زيادة في الأعباء الملقاة على عاتقها. ومع ذلك كله فالمرأة هي ثلاثة أرباع المجتمع نصفه للمجتمع وربعه للبيت والأسرة. لأن المرأة العاملة وخصوصاً في القطاع الخاص يكون نصيب بيتها أي أسرتها ضعيفاً - لذلك فان اسناد الرجل وتعاونه واجب لا مطلبا. وهو حق من حقوق الزوجية (واخذن منكم ميثاقاً غليظا) والميثاق هو الاعتراف بتلك الحقوق. لكن على المرأة أمران: أولهما الا تتخلى أو تفرط في واجباتها في الرعاية والتوعية والتوجيه. ثانيهما: الا تتاجر في نفسها فتكون المادة فتنه تنسيها طبيعتها كامرأه.
المرأة ليست قارورة عطر ولا مشجباً تعلق عليه أجمل الموديلات ولاهي تحفة أو عمل فني يعرض في الفترينات للتفرج عليه، المرأة ليست الجوهرة المصونة والدرة المكنونة وليست بدراً ولا وردة ولا صنعة خالية من اي معنى الا معنى التغزل والتشبب والاغراق في الرومانسيات والوجدانيات. لم يعد للمرأة وقت لحب عذري ولا لمجنون ليلى وقصائده وعمر بن ابي ربيعة وغزلياته. المرأة ليست تمثالاً من الشمع نضعه في متحف مدام توسو ليتفرج عليه الزوار. على المرأة ان تضع نفسها في المكان الذي خلقها الله عزوجل له. انها الأم حاضنة الاجيال والبنت والاخت أنها الزوجة شريكة الحياة رفيقة الدرب. انها المعلم والموجه والمربي صانعة الرجل. المرأة شجرة طيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي اكلها كل حين. لا نريد ان نقيم للمرأة تمثالاً لاننا نمثل بها وكلاهما محرم في ديننا. المرأة ريادة وقيادة للفكر الصالح المستبين كم من امرأة صالحة عظيمة حكيمة وقفت إلى جانب الرجل في احلك ظروفه، وكم امرأة أودت به للهاوية، كم من امرأة قادت الرجل ولم تعطه قيادها لأنه متى ما سلمت المرأة قيادها فقد اختلت العلاقه بين الجنسين. الجنسان اصلهما واحد وتفرعهما من أجل النسل والتكاثر لا من أجل التعالي والتدابر. أنظر إلى الاغصان والفروع مهما تعالت فقد تسقط جميعها اذا سقط الجذع، لان التربة لم تعد صالحة. علينا ان نجد منهاجاً مستمداً من اصولنا لكي تستمر العلاقة بين الرجل والمرأة. (يا ايها الناس انا خلقناكم من ذكر وانثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم) صدق الله العظيم.
ربط دقيق بين الخلق والنسب والاصل والفرع والغاية من ذلك وثمرة هذا كله اكرام وتكريم من ذات الخالق عزوجل. نحن لانريد امرأة (سوبر ستار) ولا نريد رجلاً كما تصوره الافلام الاجنبية. لا نريد امرأة تقطع زوجها ارباً ارباً وتلقي به في القمامة. ولا نريد رجلاً لخلاف شخصي يقتل زوجتة ويثني بالمسدس على رأسه. نريد زوجين يجلسان بهدوء وحكمة لمعالجة أمورهما بعيداً عن الصراخ وعن متناول الأولاد. اولادنا فاكهة اذا تركت فسدت. نريد علاقة متزنة بين الرجل والمرأة والاولاد والمجتمع والدولة والعالم كله ليست مثالية. شبابنا متعلم متثقف متفتح على ثقافات العالم فهو اذن الأسهل والأرقى ان يحدد معالم هذه العلاقة والا فلا فائدة من علمه ولا مرتجى من ثقافته انها امية العلم وجهالة الثقافة فلا خير في جيل يعيش خارج عصره.


المصدر جريدة عمان
  #145  
قديم 23/08/2004, 03:08 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up

لماذا تتوجه السياحة الخليجية إلى الخارج؟

حيدر بن عبدالرضا اللواتي


إذا تحدثنا عن السلطنة فإننا نستطيع القول ان الجهات المعنية تقوم بواجبها في الترويج والتسويق للسياحة وفق الموارد المالية المتاحة لها، ولا شك أن وجود وزارة مختصة للسياحة في السلطنة ستعمل على دعم وتحفيز الخطط السياحية في المستقبل القريب، خاصة وأن كل من يأتي إلى السلطنة سواء من أبناء دول مجلس التعاون الخليجي أو من جنسيات عربية وأجنبية أخرى يؤكدون بأن البلاد عبارة عن تحفة سياحية ثقافية حضارية، ويصل مستوى النظافة فيها إلى مستوى أكثر الدول رقيا في العالم، وتجمع العديد من المقومات التي تفتقدها الكثير من الدول في مجال السياحة في العالم، إلا أن هؤلاء يبدون ملاحظة واحدة وهي ضرورة رفع مستوى الخدمات اللازمة التي لا بد أن تتوافر سواء في حالة وجود سائح عربي أو أجنبي أو غيره.
ولا شك أن تحفيز السياحة الداخلية والخليجية والعمل على تطوير وإنشاء المشاريع السياحية المطلوبة وزيادة الخدمات التي يأمل السائح في الحصول عليها من شأنها استقطاب المزيد من السياحة الخليجية والأجنبية إلى السلطنة، باعتبار أن السائح الخليجي حريص دائما على مرافقة عائلته أو أسرته في الأماكن التي يقوم بزيارتها خاصة في فترة الصيف، الأمر الذي يتطلب وجود خدمات وبرامج وأماكن تتناسب وهذه الفئة من السياح. فمن خلال متابعتنا بما يكتب عن مهرجان الخريف الحالي 2004 بصلالة على سبيل المثال، نجد أن بعض السياح الخليجيين يكررون مطلبهم بضرورة توفير الخدمات اللازمة في الأماكن التي برتادها الزوار حتى وإن كانت هذه الخدمات تقدّم مقابل مبلغ زهيد. وهذا المطلب يتكرر دائما من الزائرين إلى تلك المنطقة الفريدة بين دول المجلس، بحيث أصبح الأمر ملحا خاصة في الأماكن التي ترتادها هذه الفئات من السياح الخليجيين، بالإضافة إلى تعزيز هذه الخدمات وزيادة عددها على الطرق السريعة أيضا وفي أماكن الدخول والمشاهدة.
فأعداد السياح إلى السلطنة في تنام مستمر، وقد كشفت الإحصائية الأخيرة التي تعدها وزارة الاقتصاد الوطني بالتعاون مع وزارة السياحة حول عدد الزائرين والقادمين إلى محافظة ظفار في فترة الصيف الحالية بأنهم في زيادة مستمرة، بحيث بلغ عددهم في الأسبوع الأول من الشهر الحالي 105659 زائرا شكل المواطنون والمقيمون في السلطنة 62263 زائراً وبنسبة 59% من إجمالي الزوار، منهم 57215 زائرا مواطنا والباقي من الوافدين، وأن الغالبية الكبرى من هؤلاء الزوار وصلوا المحافظة عبر الطريق البري، فيما كان عدد القادمين عبر الرحلات الجوية5843 سائحاً فقط.
كما بينت الإحصاءات أن الإماراتيين يشكلون نسبة 66% من الزوار القادمين من خارج السلطنة حيث وصل عددهم 28852 سائحاً خلال الأسبوع الأول من الشهر الحالي وفق بيانات الإحصائية، وقد قدم 96% منهم عن طريق البر، فيما بلغ عدد السعوديين 7792 سائحاً أي ما نسبته 18% من إجمالي القادمين من الخارج، ووصلت نسبة 69% منهم عن طريق البر وبذلك احتلوا المرتبة الثانية ضمن الزائرين للمحافظة من خارج السلطنة، في حين جاء الكويتيون في المرتبة الثالثة، وقد وصل عددهم 1298 سائحاً قدمت نسبة 60% منهم عن طريق رحلات جوية، ثم يأتي كل من القطريين والبحرينيين في المرتبة الرابعة والخامسة على التوالي من حيث عدد السياح الخليجيين إلى محافظة ظفار.
وحيث ان الجزء الأكبر من الزوار هم من المواطنيين فهذا يؤكد نجاح مسعى الجهات المعنية في السلطنة في استقطاب السياحة المحلية والداخلية، كما أن وجود هذا العدد الكبير من أبناء دول المجلس في المحافظة يؤكد أيضا نجاح الخطة التسويقية بزيارة السلطنة في هذه الفترة من السنة، ولكن المطلوب هو الاستمرار في هذه السياسة بحيث تبقى السلطنة بمختلف مناطقها ومحافظاتها مركز جذب للسياحة الخليجية والأجنبية إليها طوال العام، واستغلال كل مقوّم سياحي في البلاد والترويج له من خلال مختلف وسائل الأعلام الرسمية والخاصة.
كما نشير هنا إلى أن مؤسسات سياحية غربية تؤكد أن إنفاق السائح الخليجي في الدول الغربية يبلغ ضعف ما ينفقه السائح الأوروبي وفقا لبيانات المنظمة العالمية للسياحة، فقد بلغ متوسط إنفاق السائح الخليجي في عا2001 نحو 1814 دولارا للرحلة الواحدة بمعدل إنفاق مقداره 135 دولارا في اليوم، متجاوزا بذلك إنفاق الفرد الأوروبي الذي يبلغ 836 دولاراً للرحلة بمعدل إنفاق يبلغ 88 دولاراً في الليلة الواحدة، وهو ما يشجع المؤسسات السياحية الغربية على بذل ما في وسعها لكي تكون أوروبا هي الوجهة السياحية للخليجيين سنويا.
ونحن أولى في المنطقة الخليجية باستقطاب جزء بسيط من اولئك المتجهين من أبناء دول المجلس سنويا إلى الدول الأوروبية والآسيوية، وهذا لا يتم تحقيقه إلا إذا تضافرت جهود الجهات المعنية بالسياحة الخليجية من جانب، وتعزيز مساعي مسؤولي شركات الطيران والسفر والسياحة الخليجية بإقناع الزوار بالتوجه إلى دول المجلس من جانب آخر.
ولو أخذنا دولة خليجية واحدة (السعودية) على سبيل المثال لوجدنا أن 47% من الأسر السعودية توجهت خلال فترة الصيف الحالي إلى الدول الأجنبية، فيما توجهت 29% من الأسر السعودية إلى الدول العربية، بينما نالت السياحة الداخلية نصيبا مقبولا بحيث وصلت نسبتها24%. أما العدد الإجمالي للسياح السعوديين خلال فترة الصيف الحالي فقد بلغ 3 ملايين سائح وسيصل إنفاقهم الإجمالي وفقا للبيانات الرسمية إلى 30 مليار ريال سعودي. وما هو حاصل في السعودية يتكرر في دول خليجية أخرى، فهناك مجموعات كبيرة من العائلات الكويتية والإماراتية والبحرينية والقطرية بجانب العائلات العمانية تتوجه إلى الخارج كل عام لمختلف الأغراض. وإذا استطاعت الدول الخليجية جذب 50% من أبنائها إلى السياحة الداخلية والخليجية فإنها سوف تشكل مصدر دخل جيد للكثير من الأسر والمؤسسات الخليجية.
أظن أن مسألة جذب السياحة الخليجية إلى داخل دول المجلس تتطلب بذل مزيد من الجهود خلال الفترة المقبلة، فهذه المبالغ الكبيرة التي يتم صرفها على السياحة الخارجية يمكن أن تشكل قاعدة للمشاريع السياحية والخدمية التي تنوي دولنا إنشاءها في المستقبل، وبالتالي تشكل مساهمة جيدة لقطاع السياحة في تعزيز الموارد المالية لدول المجلس من ناحية، وزيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي، وتوفير مزيد من فرص العمل لأبناء دول المجلس من ناحية أخرى.


المصدر جريدة عمان
  #146  
قديم 24/08/2004, 04:42 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

ما الذي يمنع من حرية التفكير؟


د. حسن حنفي




يئن الجميع من غياب الحريات الفكرية وهي الشرط الأساسي للحريات السياسية. ولا يمكن سن القوانين دفاعاً عن الحرية الفكرية لأن حرية التفكير نشاط ذهني خالص قبل التحقق في موضوعات تخضع للتشريعات الاجتماعية. فموانع حرية التفكير داخلية قبل أن تكون خارجية، في النفس قبل أن تكون في الواقع، في الضمير قبل أن تكون في المجتمع. ويمكن إجمالها في ستة موانع:
1- مانع النص. ولا يعني النص النص الديني وحده بل يعني سلطة المدوَّن. فقد عرفنا بأننا حضارة نص، وليست حضارة عقل. حضارة كتاب وليست حضارة طبيعة. فمصدرنا الأول في المعرفة هو القرآن أو الكتاب أو المصحف. تتلوه السنة المدونة بعد روايتها شفاهياً، تتلوها نصوص المذاهب العقائدية والفقهية وكتابات الأولين في الطبقات والحوليات. وهي ليست خاصة بالقرآن وحده بل هي أيضاً صحف إبراهيم وموسى، ومزامير داود وحكمة سليمان والتوراة والإنجيل، والألواح والأسفار. وتقوم كلها بدور السلطة، سلطة النص الذي يُطاع. فهو الذي يحدد تصورات العالم. وهو الذي يضع معايير السلوك. ويضم إليه الأمثال العامية. فهي نصوص شفاهية تقوم بنفس الدور على نحو بعدي من أجل فهم الوقائع وتبريرها وإيجاد قوانين لحدوثها. وتقوم مقام النص في الفهم وإن لم تقم مقامه في التشريع.

والحقيقة أن النص ليس مانعاً من حرية الفكر لأن النص كتاب مسطور لا ينطق إنما ينطق به الرجال. ويخضع للتأويل والفهم. به حقيقة ومجاز، وظاهر وتفسير. يحتاج إلى جهد إنساني لتخصيص العموم وتطبيقه في الزمان والمكان. يقوم النص فقط بدور الافتراض الذي يمكن التحقق من صدقه في التجارب الإنسانية الفردية والجماعية. يقلل الجهد النظري في البحث عن المبادئ العامة من أجل التركيز على التفصيلات والتطبيقات العملية. ويعطي أكبر قدر من اليقين والموضوعية بدلا من الوقوع في النسبية والشك واختلاف وجهات النظر. كما أنه يقلل الجهد المبذول في النص وتقصير الطريق حتى يخصص الجهد الأكبر للعمل. فكما أن حضارتنا حضارة نص فإنها أيضاً حضارة تأويل. النص يقيد "فلا اجتهاد مع النص". والتأويل يحرر، فهناك اجتهاد في فهم النص.

2- وقد يكون التاريخ قيداً على حرية الفكر. فما زال الوعي لدينا متجهاً نحو الماضي ومفتوحاً عليه أكثر مما هو متجه نحو الحاضر أو نحو المستقبل. فالماضي ما زال حياً في الحاضر. ونتكلم عن الأنبياء آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وكأنهم أحياء بيننا. وبالإضافة إلى تاريخ الأنبياء هناك تاريخ الصحابة والتابعين الذين ما زالوا نماذج للاقتداء. وينقل الخطباء الحاضر إلى الماضي فيعيش السامعون في روعة الماضي تعويضاً لهم عن مآسي الحاضر وهموم المستقبل. وهناك تاريخ المذاهب الفقهية وتاريخ مؤسسيها. فقد أغلق باب الاجتهاد. وأين لنا الآن من مالك وأبي حنيفة والشافعي وابن حنبل. ويضاف إليهم تاريخ الصوفية وسيرهم العطرة، الحسن البصري ورابعة العدوية. الحسن البصري الذي يترك وراءه بركة من الدموع وهو ساجد، ورابعة التي أحبت الله وأخلصت له دون طمع في ثواب أو خوف من عقاب. وأين نحن من حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ومن إمام الحرمين الجويني، ومن الشيخ الرئيس ابن سينا، ومن المعلم الثاني الفارابي، ومن فيلسوف الإسلام الكندي، ومن فخر الإسلام الرازي، ومن شمس الأئمة، وناصر الملة والدين إلى آخر هذه الألقاب التي أعطيت للقدماء حتى أحاطت بهم هالات التقديس ولم يصبح أمام المحدثين إلا التقليد؟. وسارت بيننا بعض الشائعات أن السلف لم يتركوا للخلف شيئاً. بل إن الخلف أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. والحقيقة أن كل هذه الأدبيات التي استقرت في التاريخ لها ما يعارضها في القرآن والحديث وأصول الفقه. فاختلاف الأئمة رحمة. والصواب متعدد. والكل رادٌّ والكل مردود عليه. وقد خلق البشر متعددي المشارب والمناهج والمآرب والألسنة للتعارف وللإثراء المتبادل. ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولكنه جعلهم مختلفين. فالاختلاف غاية الخلق. وإيمان المقلد لا يجوز. والتقليد ليس مصدراً من مصادر العلم حتى ولو كان تقليد الصحابة والأئمة والاجتهاد مصدراً من مصادر التشريع. ويبعث الله على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها. والمسؤولية في النهاية فردية (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً)، (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه).

3- وما يمنع من حرية التفكير هو المجتمع والتقاليد والأعراف وما تربى عليه الناس من المهد إلى اللحد من اتباع التقاليد ومراعاة الأعراف وما يعتبره المجتمع "عيباً". وكل من خرج عليه فإنه ناقص التربية، قليل الأدب، *** السلوك، منحرف الأخلاق والناس وما تعوَّدوا وألغوا. مع أن الأنبياء من قبل قد ثاروا ضد تقاليد وأعراف أقوامهم. والتقاليد والأعراف من وضع الإنسان والمجتمع. وهي متجددة متغيرة لا تبقى على حال. لا يوجد فيها معيار للصواب والخطأ بل هي ممارسات أقرب إلى الفولكلور والعادات الشعبية. هي جزء من الثقافة الشعبية كالاحتفالات والأزياء والأطعمة والموالد والطقوس. منها ما قد يعارض الشرع ومنها ما يتفق الشرع معه. فقد أتى الشرع وقضى على عادة وأد البنات عند العرب (وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت)، وسوء معاملة العبيد فالناس إخوة، والمؤمنون أمة، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل، وحرم الزنا لأنه كان فاحشة وساء سبيلا، واعتداءً على الحرمات وخلَطاً للأنساب. وأقر عادات أخرى مثل مناسك الحج وكل ما يتعلق بدين إبراهيم مثل السعي بين الصفا والمروة، والطواف حول الكعبة وصوم عاشوراء عند اليهود. بل إن للفظ بالإضافة إلى معناه الاشتقاقي ومعناه الاصطلاحي هناك المعنى العرفي. فاللغة للاستعمال.

4- والتعامل مع السلطة السياسية أو الدينية، مانع لحرية التفكير. فالسلطة قاهرة تفرض رأيها على الناس، وتجبرهم على تبنيه. تفرض الرقابة على أجهزة الإعلام وعلى دور النشر وعلى التدريس في الجامعات. فالسلطة مذهبية عقائدية. تتبنى مذهباً وعلى الناس اعتناقه. والدول مذهبية منذ الدولة الأموية وتبنيها عقائد الأموية كما يسميها ابن رشد وعلى رأسها الاعتقاد بالقضاء والقدر. وتبنت الدولة الفاطمية عقائد الشيعة. واضطهدت الدولة المخالفين لها في الرأي. وقد فرض الخلفاء الدعوة لهم على المنابر ولعنة مخالفيهم. واستمرت الدولة الأيديولوجية حتى الآن. وكان آخرها الدولة القومية الاشتراكية وفي كل الحالات هي الدولة البوليسية التي تقبض على المخالفين في الرأي. هي الدولة التي لا تقبل المعارضة الفكرية والرأي الآخر أو المعارضة السياسية والاختيارات السياسية البديلة. وقد أدى ذلك إلى اللامبالاة السياسية وعدم اشتغال الناس بالسياسة "لعن الله ساس ويسوس"، "والباب اللي يجيلك منه الريح سدّه واستريح". ومع ذلك يستطيع المواطن أن يعارض سياسياً عن طريق المجاهرة بالرأي في القنوات الشرعية، ومقارعة الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، والبرهان بالبرهان. فالساكت عن الحق شيطان أخرس. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل من أصول الإسلام. والدين النصيحة لأولي الأمر ولعامة الناس. وتلك وظيفة المحتسب، وهي الوظيفة الرئيسية للحكومة الإسلامية، أي الرقابة على ما يحدث في المجتمع من فساد وغش وتدليس وليس في ضمائر الناس.

والخوف من السلطة الدينية أيضاً يمنع التفكير الحر. فالسلطة الدينية تعتبر نفسها وريثة الدين، والمفسرة الوحيدة لنصوصه، والحارس عليه، والأمين على تطبيقه. ورجال الدين بشر في النهاية. وهم موظفون في الدولة، ويأتمرون بأمرها. يبررون للسلطان قراراته، ويشرعون له أفعاله سلماً أم حرباً، اشتراكية أم رأسمالية. وتستعملها السلطة السياسية للسيطرة من خلالها على الرأي العام وإضفاء الشرعية عليها إذا ما نقصتها الشرعية، وأتت بانتخابات مزيفة، واتخذت قرارات، واتبعت سياسات ضد مصالح الشعوب، وقامت ضدها الهبَّات الشعبية. هنا تتصدى السلطة الدينية لمطالب الناس بطاعة أولي الأمر (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم). فالسلطان يفهم ما لا يفهمه الشعب، ويعرف مصالحه أكثر مما يعرف الشعب مصالح نفسه. ومع ذلك قامت المعارضة باستمرار باسم حرية التفكير والاعتقاد ضد السلطة الدينية كما فعل كونفشيوس في الدين الصيني القديم، وبوذا في الدين الهندوسي، والسيد المسيح في الدين اليهودي، وآريوس في الدين المسيحي، ومارتن لوثر مؤسس حركة الإصلاح. وكما فعل الحلاج والعز بن عبدالسلام وابن تيمية والأفغاني ومحمد عبده وسيد قطب.

5- وقد يمنع الخوف من المحافظة الشعبية التقليدية من حرية التفكير. ويظهر فكر ممالئ للناس، يدغدغ عواطفهم الدينية، وتشددهم في الممارسة الحرفية. وسلطة الناس لا تقل رهبة عن السلطة السياسية والسلطة الدينية. هي سلطة التقليدية والمحافظة الموروثة منذ ألف عام والتي تحولت إلى ثقافة شعبية ترتكن على جانب واحد هو المحافظة. ثم أصبحت المحافظة هي الدين. وكل خروج عليها هو ردة وكفر وإلحاد حتى فيما كان يعتبره القدماء من صلب الدين مثل العقل والحرية والمصالح العامة وجمع القرآن ونقد الرواية والتأويل وحق الاختلاف وشرعيته. ولا غضاضة أن تمالئ السلطتان السياسية والدينية هذه المحافظة الدينية. فهي خير سند لهما في السيطرة على الناس. مع أن الناس قادرة أيضاً على التمييز بين الغث والسمين، بين النافع والضار، بين من يبغي الصالح العام ومن يسعى إلى مصلحة شخصية. فالخوف من العامة ليس له ما يبرره (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل). وقد سجد سحرة فرعون لموسى لما رأوا برهانه على نبوته قبل أن يأذن لهم فرعون. والوعي الفردي له استقلاله عن الوعي الجماعي. (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم). وطالما استطاع الخطباء والزعماء السيطرة على العامة.

6- وأخيرا الخوف من النفس مانع من حرية التفكير. إذ يتوهم المفكر أن حرية التفكير خطر عليه ستلحق به الأذى والضرر له ولأسرته لمكانته ووظيفته وتمنعه مما يتطلع إليه من مناصب وحظوة. يخشى من الرقابة والاضطهاد فيضع رقابة على رقابة، واضطهاداً فوق اضطهاد حتى يفقد الصدق في القول والتعبير. ويصبح الكلام خطاباً أجوف بلا معنى أو قصد وتخشون الناس (فالله أحق أن تخشوه)، ومن ثم كانت البداية في حرية التفكير نزع الخوف من النفس، والثقة بها، والصدق في القول والتعبير (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم)، (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا). فمتى تزيل الأمة عن نفسها موانع حرية التفكير؟

المصدر وجهات
  #147  
قديم 25/08/2004, 04:57 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

البريد الإليكتروني .. سعة تخزينية أكبر .. ورسائل غير مرغوبة .. وانتهاك للخصوصية وما خفي كان أقبح !!!


طالعتنا الأنباء في الشهور الماضية بمفاجآت عديدة حملتها لنا مواقع البريد الإليكتروني الشهيرة أمثال Yahoo و Hotmail وانضم إليهم محرك البحث الشهير Google ، حيث أعلنوا مؤخرا عن زيادة السعة التخزينية للبريد الإليكتروني الخاص بكل منهم علي حدة .. والمثير للتساؤل في هذا الصدد أن هذه الزيادة غير مبررة تبريرا مقنعا للمستخدمين ... خاصة أن هذه الخدمة مجانية .. وحتى يتضح لمستخدمي شبكة الإنترنت ما وراء هذا الموضوع .. تأتي السطور القادمة لتوضح الإجابة عن هذه التساؤلات . .


جي ميل .. ضربة جوجل الموجعة

سهير عثمان:

البداية .. جي ميل في البداية الأولي لهذه السلسلة من المفاجآت ، أعلن موقع جوجل الذي يعد أشهر محركات البحث في العالم عن تقديم خدمة بريد إلكتروني تحمل اسم "جي ميل" في محاولة لمنافسة خدمة البريد الإلكتروني الذي يقدمه موقعا "ياهوو" و"إم إس إن". وتعهد جوجل بتقديم خدمة بريد إلكتروني قادرة على حماية صندوق بريد المشترك من الرسائل غير المرغوب فيها ، بل ومسح أي رسائل غير مرغوب فيها دون إزعاج المشترك ، كما يمكن للمشترك في بريد "جي ميل" ترتيب الرسائل الإلكترونية حسب موضوعها. ومازالت الخدمة الجديدة قيد التجربة ولم تتح بعد للجمهور، لكنها ستطرح مجانا على موقع www.gmail.com. ويقدم البريد الإلكتروني الجديد سعة تخزينية قدرها جيجابايت، وهو سعة تخزينية تفوق بعشرات المرات تلك التي تقدمها خدمات البريد الإلكتروني المجانية الأخرى. وأكد القائمون على موقع جوجل أن السعة التخزينية للبريد الإلكتروني "جي ميل" تعادل مساحة 500 ألف صفحة على شبكة الإنترنت. لماذا في هذا التوقيت بالذات ؟ وطرح لاري بايج، أحد مؤسسي موقع جوجل، فكرة تقديم خدمة بريد إلكتروني جديد بعد أن تلقى عدة شكاوى من إحدى مستخدمات الموقع ، التي قالت إنها تقضي الكثير من الوقت في ترتيب الرسائل أو العثور على الرسائل الهامة أو مسح الرسائل حتى لا تتعدى السعة التخزينية لصناديق البريد الإلكترونية. وتساءلت المستخدمة: "أما من سبيل لحل هذه المشكلة؟" ويعد "جي ميل" شكلا جديدا من البريد الإلكتروني يستخدم تقنية البحث ويعمل على ترتيب الرسائل الإلكترونية وعرضها حسب الموضوع. جي ميل .. تواجه الانهيار قبل إنطلاقها ولكن يبدو أن خدمة جي ميل قد تواجه معارضة قانونية قوية تهدد إطلاقها ، حيث يجري الآن إعداد مشروع قانون في كاليفورنيا من قبل عضوة مجلس الشيوخ والحزب الديمقراطي ليز فيجروا عن ولاية فريمونت تقول فيه إن في خدمة جوجل الجديدة "انتهاكا للخصوصية". وتصف السيناتور فيجروا الخدمة بأنها لوحة إعلانات ضخمة في وسط المنزل ، حيثتستخدم الخدمة الجديدة نظاما يعرض الإعلانات في صفحة بريد المستخدم بما يتماشى مع الكلمات الرئيسية الموجودة في البريد الوارد والصادر منه. ولكي تقوم بذلك فهي تجري مسحا إلكترونيا للبريد الخاص بالمستخدم. فإذا احتوت رسالة على حالة مرضية على سبيل المثال يقوم النظام بعرض إعلانات لأدوية أو منتجات دوائية. وتتعرض الخدمة الجديدة من جوجل بالفعل لهجوم من قبل المدافعين عن الخصوصية الذين يعترضون على ربط الإعلانات بمحتوى رسائل البريد الإلكتروني وعلى تخزين الرسائل بشكل دائم. وشكت جماعة "حماية الخصوصية الدولية" لدى هيئة تنظيم تداول المعلومات في المملكة المتحدة. وتعترض الجماعة على خطط جوجل بإرسال روابط لمواقع دعائية إلى المستخدمين وفقا لمسح آلي لمراسلاتهم واهتماماتهم المحتملة .
ياهوو الوحيدة التي نفذت مزاعمها ويتلقى مستخدمو مولد بحث جوجل حاليا أعلانات لمواقع دعائية ترتبط بالموضوع الذي يبحثون عنه. وستستخدم خدمة "جي ميل" تقنية مشابهة في مسح البريد الإلكتروني وعرض الإعلانات. وقالت جوجل في بيان إنها تعتزم العمل مع سلطات حماية البيانات في أرجاء أوروبا لضمان حل كافة المخاوف. وتقول جوجل إن محتويات البريد الإلكتروني للمستخدمين سيظل سريا وخاصا لأن عملية المسح ستتم بشكل آلي تماما .
ياهوو .. تفي بعهدها !!! ثم طالعتنا Yahoo بعد ذلك بخبرها السعيد عندما قررت زيادة سعة الطاقة التخزينية لبريدها الالكتروني المجاني من 4 ميجابايت إلى 160 ميجابايت ، بالإضافة إلي زيادة السعة التخزينية للمشتركين بالخدمة الممتازة"بريميوم" زيادة غير محدودة ، والذين يدفعون رسوماً تتراوح من 20 إلى 50 دولاراً سنوياً للحصول على مساحة تخزين تتراوح من 25 إلى 100 ميجابايت . وهذا ما فعلته ياهوو بالفعل لمستخدميها ، فإن كنت من مشتركي بريد ياهوو المجاني ، يمكنك أن تفتح بريدك الآن ، وتري أن ياهوو قد أوفت بوعدها ، وأصبح سعة البريد المجاني الآن 100 ميجابايت !!!كما قررت ياهو ايضاً إعادة إحياء عشرات الملايين من الصناديق الإلكترونية التي تمّ تجميدها على مدى سنوات لأسباب عديدة من ضمنها عدم الاستخدام الدوري .كما تعتزم ايضاً إيقاف تضمين الرسائل البريدية الإلكترونية التابعة للمشتركين لديها بإعلانات ، كما يمكن وفقاً للتعديلات الجديدة السماح للمستخدمين بأن يضمّنوا رسائلهم ملفات تصل سعتها إلى ثلاثة أضعاف المعمول به سابقا.هوت ميل .. وحلم الـ 250 ميجا !!!وكانت المفاجأة الثالثة عندما استيقظنا علي خبر مؤداه أن شركة مايكروسوفت قررت زيادة السعة التخزينية لبريدها الـ Hotmail لتصل إلي 250 ميجابايت فى محاولة للرد على منافسها ياهو.وتعتزم الشركة اعتبارا من أواخر الصيف الحالى زيادة مساحة التخزين المتاحة لحسابات صناديق البريد الاليكترونية المجانية على الهوتميل لتصبح 250 ميجا بايت بدلا من 2 ميجا بايت حاليا ، حيث سيكون بمقدور المستخدمين أيضا ارسال مرفقات أكبر حجما حتى 10 ميجا بايت. وأعلنت الشركة هذه التغييرات المزمعة فى أعقاب اعلان شركة جوجل عزمها تقديم خدمة بريد اليكترونى خاصة بها واعطاء مساحة تخزين مجانية قدرها الف ميجابايت .وتعتزم الشركة اعتبارا من الشهر القادم تعزيز خدمة الحماية ضد الفيروسات لحسابات البريد المجانية ، حيث أن الهوتميل كان يتيح للمستخدمين عمل مسح للبريد القادم بالنسبة للفيروسات وكان يعطى المستخدمين خيار مسح الملفات المصابة . ما هو هدفهم الحقيقي .. الإعلانات أم المستخدم ؟؟؟ ولعل التساؤل الذي يبرز علي السطح الآن .. ما الهدف الحقيقي الذي تسعي إلي تحقيقه هذه الشركات الكبري ، خصوصا أنها لا تحتاج إلي شهرة حتى تقدم هذا العرض المغري علي حد قول الكثير من الخبراء في هذا المجال ... كما أنها أيضا قد لا تريد استقطاب مستخدمين جدد ، فأخر الإحصائيات أكدت أن عدد مستخدمي بريد Hotmail وصل إلي 34.1 مليون مستخدم حول العالم ، في الوقت الذي وصل فيه عدد مستخدمي Yahoo إلي أكثر من 40.4 مليون مستخدم .
إذن .. الأمر ليس له علاقة بزيادة عدد المستخدمين ، ولكني أري من بين السطور ما يدركه العقل بشكل بديهي .. فالأرقام التي توضحها الإحصائيات تؤكد أن هذا الأمر وراءه سبب واحد متمثل في زيادة عائد الإعلانات الذي تدره هذه المواقع ، خاصة أن أحدث الإحصائيات تؤكد أن أرباح شركة Yahoo الفصلية زادت مقارنة مع مستواها قبل عام، مدفوعة صعودا بانتعاش قطاع الإعلانات عبر الانترنت . وأضافت الشركة، ومقرها صانيفيل بولاية كاليفورنيا، أن أرباحها الصافية عن الربع الأول من العام، بلغت 101 مليون دولار، بما يعادل 14 سنتا للسهم، مقارنة مع 47 مليون دولار قبل عام. واعتبر المراقبون أن تزايد مبيعات وأرباح ياهوو عن الربع الأول يعد مؤشرا على أن أسواق الإنترنت اصبحت الأكثر نموا في قطاع التكنولوجيا. وإلى ذلك، زادت ياهوو من توقعاتها عن ارتفاع المبيعات خلال الربع الثاني من العام الحالي. كما ارتفعت أرباح Yahoo خلال الربع الأخير من العام الماضي لتصل إلى 75 مليون دولار مدفوعة بارتفاع معدلات الإعلانات المنشورة على شبكات الإنترنت.وقد تضاعف إجمالي العائدات خلال الفترة ذاتها إلى 664 مليون دولار بعد أن كانت 286 مليون دولار خلال الفترة ذاتها من العام 2002، وفقاً لتقديرات المحللين الاقتصاديين. كما ساهمت الإعلانات بحوالي 82 في المائة من إجمالي عائدات تلك الفترة، أي ما يقدر بـ545 مليون دولار.وبالرغم من الأرباح التي جاءت مطابقة لتوقعات المحللين الاقتصاديين، غير أن توقعات المساهمين كانت في اتجاه تجاوز التكهنات، وهو ما دأبت عليه Yahoo خلال الأعوام السابقة . إبراز الصورة وتحسين السمعة .. وماذا أيضا ؟ ولكن هل يمكن أن يكون ما يحدث الآن مجرد تغطية لضعف الخدمة في هذه الشركات ، خاصة أن شركة مايكروسوفت واجهت في الستة شهور الماضية أعنف هجوم من صانعي الفيروسات والديدان الإليكترونية ، جعلها تقف عاجزة أحيانا عن صد هذه الهجمات ، حيث أصابت معظم هذه الفيروسات ابنها المدلل " ويندوز " بكافة إصداراته وعلي مدار النصف الأول من هذا العام .بالإضافة إلي المشاكل القانونية التي واجهتها مع الاتحاد الأوروبي والعقوبات المزمع تطبيقها علي الشركة في الأيام المقبلة .فهل لا تكفي هذه الأسباب لتجعل مايكروسوفت تسرع بتغيير سياستها الدعائية تجاه مستخدميها ، وتبشرهم بسعة تخزينية غير متوقعة في صندوق بريدهم الإليكتروني ؟؟خاصة أن MSN شهدت انخفاضا ملحوظا في عدد مستخدميها بالمقارنة بياهوو التي يزداد عدد مستخدميها كل دقيقة ، كما أن الثقة في مايكروسوفت بدأت تتأرجح بين المستخدمين ، مع تزايد الهجمات التي أشرنا إليها من قبل . الرسائل غير المرغوبة .. مسمار جديد في نعش البريد الإليكتروني ولعل الحديث عن هذه الزيادة الملحوظة في سعة البريد الإليكتروني لهذه الشركات ، يمكن ان يأخذنا للحديث عن أخطر عيب يهدد الصناديق البريدية في حالة زيادة سعتها ، وهي الرسائل الإعلانية غير المرغوبة التي تكاد تكون " ***** البريد الإليكتروني " والتي تمثل المارد النائم لكافة المستخدمين الذي كلما استيقظ ، أفسد متعة تصفح البريد.فقد كشفت دراسة حديثة أن موجات الإعلانات غير المرغوب فيها التي تغرق صناديق البريد الإليكتروني قد بدأت تنفر الناس من البريد الإليكتروني .

هوت ميل لم يتحقق حلمها بعد !!
ووفقا للمؤسسة الفكرية "بيو إنترنت" الأمريكية فإن قرابة 25% من الناس قالوا إنهم قلصوا من استخدامهم للبريد الإليكتروني بسبب تلقيهم للكثير من الإعلانات غير المرغوب فيها. ولكن كانت هناك مؤشرات على أن هذه الإعلانات تنجح أحيانا، حيث يقبل عدد كاف من الأمريكيين على العروض التي تقدمها هذه الإعلانات، وهو ما يدفع أصحابها لإرسال المزيد منها. وتقدر نسبة الرسائل الإليكترونية الإعلانية غير المرغوب فيها بحوالي النصف .

وأوضحت ديبورا فالوز، كبير الباحثين في برنامج الحياة الأمريكية للمؤسسة الفكرية "بيو إنترنت" الأمريكية: "الناس يحبون البريد الإليكتروني، ويضايقهم بالفعل أن تخرب الإعلانات غير المرغوب فيها هذه المتعة، الناس يمتعضون من تطفل الإعلانات غير المرغوب فيها، ويغضبهم الخداع الكامن فيها، كما يثير حنقهم محتواها المقزز جدا". وقد قام الباحثون من أجل إجراء هذا المسح باستطلاع رأي 1380 مستخدم للبريد الإليكتروني في يونيو الماضي .وتقول النتائج إن الزيادة الفائقة التي حدثت مؤخرا في الرسائل الإعلانية غير المرغوب فيها تهدد شعبية وانتشار استخدام البريد الإليكتروني. وقال بعض الناس إنهم صاروا يقللون من استخدامهم للبريد الإليكتروني، بينما قال ما يقرب من نصف عينة البحث إنهم قد فقدوا جزءا من ثقتهم في الإنترنت. كما ان عدد الرسائل غير المرغوب فيها يؤثر في شعور الناس نحو الإنترنت. فنحو ثلثي العينة قالوا إن الدخول إلى شبكة الإنترنت صار مزعجا أو غير ممتع بسبب الإعلانات غير المرغوب فيها ، ولكن الاستياء الأكبر سببته الرسائل التي تحمل موادا جنسية. و أغلب الآباء والسيدات تضايقهم حقيقة عدم تمكنهم من وقف الصور الفاضحة التي تقفز على شاشات أجهزتهم. وأوضحت الدكتورة فالوز: " النتائج العامة للدراسة صادمة، ولكن البيانات التفصيلية الأخرى أسوأ حول رد فعل السيدات والآباء تجاه الإعلانات ذات المحتوى الجنسي، إن العاملين في مجال الصور الفاضحة يستحقون دركا أدنى في الجحيم في وجهة نظر الآباء والنساء". وقد ضاعفت الشركات الكبرى مثل مايكروسوفت وياهو وأميريكان أونلاين من جهودها لوقف الإعلانات غير المرغوب فيها، والمزيد من الحكومات بدأت تسن القوانين التي تواجه الإعلانات الفاضحة. وعلى المستوى الشخصي، فإن أفضل الطرق للتعامل مع الإعلانات غير المرغوب فيها هي إزالتها، حيث يستخدم عدد قليل من الناس موانع الإعلانات التي تعيق غير المرغوب فيه منها. وربما يكون من المثير للدهشة أن الباحثين اكتشفوا أن الإعلانات الفاضحة تنجح بالفعل. فقد قالت ثلث عينة البحث إنهم ضغطوا على الرابطة الموجودة في الإعلان لمعرفة المزيد من المعلومات، بينما قال سبعة في المائة منهم إنهم قد طلبوا بالفعل منتجات أو خدمات من التي تقدمها هذه الإعلانات. وكانت الإعلانات غير المرغوب فيها قد ازدادت بشكل كبير جدا خلال العام الماضي، ففي العام الماضي كانت الإعلانات غير المرغوب فيها تمثل 2.3% من الرسائل الإليكترونية التي تصل المستخدم، ولكن في مايو من هذا العام بلغت هذه النسبة 55%. غرامة على البريد الالكتروني غير المرغوب! في سابقة هي الاولى من نوعها، قضت محكمة في ولاية كاليفورنيا الامريكية بفرض غرامة تبلغ نحو مليوني دولار على احدى الشركات لقيامها بارسال خطابات بالبريد الالكتروني لملايين المواطنين توضح لهم كيفية ارسال الخطابات غير المرغوبة Junk Email. كما قضت المحكمة بمنع الشركة، واسمها "بي دبليو للتسويق"، من امتلاك او ادارة اي نشاط يتضمن اعلانات عبر شبكة الانترنت.
توخي الحذر .. فأنت مراقب ؟؟؟؟ وكانت دعوى قضائية قد رفعت ضد الشركة لقيامها بارسال ملايين الخطابات لمستخدمي البريد الالكتروني للاعلان عن كتاب يبلغ سعره 39 دولارا يشرك كيفية ارسال الخطابات غير المرغوبة، ومرفق بالاعلان قائمة طويلة بالعناوين الالكترونية لمواطنين في كاليفورنيا. ويعد هذا الحكم الاول من نوعه بعد تطبيق قانون جديد لتنظيم انشطة البريد الالكتروني في ولاية كاليفورنيا . وينص هذا القانون على انه من حق اي متلق لخطابات غير مرغوبة عبر
البريد الالكتروني مقاضاة الجهة المرسلة والحصول على تعويض لا يزيد عن الف دولا عن كل رسالة.ويقول بيل لوكير النائب العام لولاية كاليفورنيا ان الشركة خالفت القانون لان رسائلها لم تتضمن وجود رقم تليفون يمكن الاتصال به مجانا لمنع ارسال المزيد من هذه الرسائل، او عنوان للمراسلة، كما ينص على ذلك القانون. ويضيف لوكير ان الشركة عمدت الى تضليل المستقبلين للرسائل لكي لا يعرفوا مصدرها. وكان مسح احصائي قد اجري مؤخرا في الولايات المتحدة اوضح ان الرسائل غير المرغوبة التي يتلقاها مستخدمو البريد الالكتروني تؤدي الى الحد من استخدامهم لهذه الخدمة، الامر الذي يكلف الشركات التي تعلن عبر الانترنت ملايين الدولارات، ويضر بالانشطة التجارية عبر الانترنت بشكل عام. وتمتليء صناديق البريد الالكتروني في جميع انحاء العالم برسائل غير مرغوب فيها تعلن عن ملحقات غذائية لانقاص الوزن ومنتجات لنمو الشعر وعناوين مواقع اباحية. ويقول بعض الخبراء ان القانون الجديد لن يكون له اثر كبير في الحد من الرسائل غير المرغوب فيها كما ان به ثغرات تتيح للجهات التي ترسل هذه الرسائل الاستمرار في العمل من دول اخرى. لكن نانسي اندرسون المحامية في شركة مايكروسوفت قالت انها تعتقد ان القانون الجديد سيساعد "لان معظم الأشخاص المتورطون في ارسال هذه الرسائل يقيمون في الولايات المتحدة." إحذر .. بريدك الإليكتروني مكشوف للأخرين !! ولكن هل من الممكن بعد هذه المزايا والعيوب التي تحيط بالبريد الإليكتروني ، أن يكون هناك من يراقبنا ونحن نتحدث مع أصدقائنا .. فقد وجدت وكالة رقابة الخصوصية والسرية الأمريكية أن هناك خللا في برامج البريد الإلكتروني الشائعة يمكن الآخرين وبسهولة أن ينفذوا إلى هذه الرسائل ويطلعوا عليها فمن خلال إخفاء بعض الشفرات الكمبيوترية في الرسالة الألكترونية فإن الوكالة وجدت أن من الممكن أن الحصول على تعليقات أولئك الذين يجيبون أو يعلقون على الرسائل ممن أرسلوا أو استلموا هذه الرسائل .ويخشى الكثيرون من أن تستغل هذه الخاصية وهذا الضعف برامج البريد الألكتروني من قبل الشركات التي تسعى إلى التجسس على منافسيها أو من قبل شركات التسويق التي لا تتقيد بأي ضوابط أخلاقية والتي تبحث عن عناوين ألكترونية يمكنها أن تستخدمها لإرسال الإعلانات .وتحذر الوكالة الأمريكية مستخدمي البريد الألكتروني في برنامجي آوتلوك ونتسكيب6 من أن الرسائل المرسلة عبر هذين البرنامجين يمكن أن تكون عرضة للاستنساخ من قبل جهات أخرى . وقد وجدت الوكالة أنه من خلال إدخال شفرة كمبيوترية في البريد الألكتروني فإن بإمكان المرسل أن يرى نسخا من التعليقات الواردة عليها في كل مرة ترسل بها الرسالة ، أما الرسائل المرسلة أو المستلمة باستخدام برامج البريد الألكتروني التي تستطيع قراءة لغة أتش تي أم أل أو جافاسيكريبت (وليس جافا) فهي ليست معرضة لأن تطلع عليها جهات أخرى لكشف محتواها ، غير أن مؤسسة الخصوصية الأمريكية وجدت أن إحدى الوظائف الموثقة للغة جافاسيكريبت يمكن تحويلها إلى برنامج كامل للاستنساخ .ويقول المدير التنفيذي لمؤسسة الخصوصية الأمريكية، ستيفن كيتينج، إنه لا يمكن تصديق بأن هذا يحدث حتى يرى المرء الشفرة الأصلية وكيف تعمل وماذا تعني .
وكان المهندس ريتشارد فوث المتخصص بالكمبيوتر قد اكتشف هذا الضعف في برامج البريد الألكتروني في عام1999 وقام بإخبار شركة مايكروسوفت لكن الشركة أخفقت في إصلاح الخلل .وبإمكان المستخدمين أن يتخذوا بعض الخطوات لحماية سرية رسائلهم من خلال إزالة لغة جافاسيكريبت من برامج البريد الإلكتروني المعرضة للكشف، لكن المشكلة هي أنهم لن يتمتعوا بالسرية إلا إذا قام كل من يتسلم تلك الرسالة بإزالة لغة جافاسيكريبت من براج البريد الألكتروني لديهم.
وتعمل كل من شركتي مايكروسوفت ونتسكيب على إصلاح الخلل في برامجها البريدية وتخشى مؤسسة الخصوصية من أن يستغل هذا الضعف في برامج الكمبيوتر من قبل الشركات التي تتفاوض مع شريك لها وتريد أن تعرف ماذا يدور في تفكير هذا الشريك حول الصفقة المحتملة التي ينوي إبرامها ، أو أن يستغل من قبل شركات التسويق التي تجمع العناوين بهدف إرسال الإعلانات لها .وأوضح مثل على تسرب المعلومات هو ما حصل لنوريج يونيون التي اضطرت أن تدفع 450 إسترليني عام 1997 لجمعية ويسترن بروفيدينت بعد أن اتضح أنها تطلع على الرسائل الإلكترونية الداخلية .كما اتجهت معظم الشركات والدوائر الحكومية البريطانية إلى فرض رقابة على رسائل البريد الإلكتروني المتداولة داخلها في محاولة للإيقاع بالموظفين الذين يستخدمون كلمات جنسية أو عنصرية .وقالت صحيفة الإندبندانت البريطانية إن الهيئات الحكومية والمجالس المحلية والشركات تستخدم تجهيزات متطورة للكشف عن الرسائل المتداولة في أنظمتها والكشف عن ما هو جنسي أو عنصري منها .وتقول إن السبب وراء هذه الخطوة هو خوف المؤسسات من الدخول في نزاعات قضائية مع موظفيها في حال تلقيهم رسائل إلكترونية يمكن أن تعتبر مهينة جنسيا أو عنصريا .وطبقا لتعديلات أُدخلت مؤخرا على القانون البريطاني يحق للموظفين في حالة كهذه المطالبة بتعويضات قد تصل إلى خمسين ألف جنيه إسترليني .ولكن ثمة صعوبة تكمن في تحديد الكلمات التي تحمل إيحاءات جنسية أو عنصرية في الرسائل الإلكترونية، وقد دفعت هذه الصعوبة على ما يبدو شركة استشارات تعمل في هذا المجال لإعداد قائمة بالكلمات ذات الإيحاء الجنسي أو تلك النابية أو العنصرية وتُخزن هذه القائمة في الكمبيوتر المركزي للشركة أو الجهة المعنية بحيث تطلق إنذارا آليا في حال وجود أي كلمة محظورة في أي رسائل .وتعتبر شركة " بيبود" البريطانية إحدى الشركات الرائدة في مجال المراقبة على البريد الإلكتروني ، إذ يبلغ عدد زبائنها حوالي المائتين موزعين بين الإدارات الحكومية والمحلية والشركات الخاصة التي يعمل بعضها في مجال القانون. وفي إحدى الحالات التي كشف عنها هذا النظام، توصلت إحدى الجامعات التي توظفه إلى قيام أحد المحاضرين فيها بإرسال واستقبال صور إباحية للأطفال عبر كمبيوتره وفي حالة أخرى أشار النظام الآلي إلى قيام أحد المدراء الذي كان يخضع لرقابة سرية بإرسال عبارات مهينة إلى زملائه، ثم اتضحت براءة المدير المعني بعد أن تبين أن أحد خصومه هو الذي تولى أمر هذه الرسائل تحت اسم زميله .وتنقل الإندبندانت عن فيل رايان مدير المعلومات الأمنية في شركة بيبود، قوله إن العديد من الشركات التي تتعامل مع شركته تخشى من تعرضها للملاحقة القضائية من جانب موظفيها الذين يمكنهم الزعم بأنهم يعملون في بيئة عدائية إذا وصلتهم رسائل إلكترونية تحوي مواد أو صورا جنسية أو عنصرية . الأمريكيون يؤيدون فرض ضوابط على الإنترنت أكثر من ثلثي الأمريكيين لا يساورهم القلق في شأن قيام الحكومة الأمريكية بفرض إجراءات رقابة على المواقع على الإنترنت كجزء من الحرب على ما تسميه الإرهاب .ووجد مسح إحصائي أجراه معهد "بيو إنترنت"، الذي يتخذ من أمريكا مقرا له، أن 69 % من المواطنين الأمريكيين يعتقدون بأنه يتعين على الحكومة عمل كل ما في وسعها للحفاظ على المعلومات بعيدا عن متناول الإرهابيين، حتى لو تطلب ذلك حرمان الجمهور من تلك المعلومات. وفي أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ، قامت الحكومة الأمريكية وبعض المواقع الخاصة على الإنترنت بإزالة معلومات عن المصانع الكيماوية والمواد الكيماوية المُنتَجَة فيها، والقواعد العسكرية وغيرها من المعلومات الحساسة من شبكة الإنترنت. وأدى ذلك إلى جدل في الولايات المتحدة حول مستوى المعلومات التي يمكن أن تكون متاحة للجمهور إثر الهجمات الإرهابية. ولكن يبدو أن هناك انعدام للتناغم بين تسامح الأمريكيين مع الرقابة الرسمية وموقفهم من التطفل على رسائل البريد الإلكتروني. فأقل من نصف الأمريكيين يعتقدون بأن الحكومة ليس لديها الحق في مراقبة رسائل البريد الإلكتروني للناس واتصالاتهم عبر الإنترنت. وقال مدير مشروع بيو إنترنت، لي رايني: "إنهم راغبون في التخلي عن توصلهم لمعلومات هامة على الإنترنت إذا ما جادل المسؤولون بأن حق الجمهور في المعرفة يتناقض مع هدف محاربة الإرهابيين". واستطرد قائلا : "وفي نفس الوقت، فإن العديد من الأمريكيين حذرون إزاء سياسات مكافحة الإرهاب التي تؤدي إلى مراقبة حكومية على نشاطات المواطنين على الإنترنت". وأظهر المسح الإحصائي أن الصدمة التي خلفتها هجمات الحادي عشر من سبتمبر 11 قد تركت أثرا عميقا على ما يفعله الناس على الإنترنت ونوع المعلومات المتوفرة. وفي الفترة التي أعقبت الهجمات ، قام الأمريكيون باستخدام البريد الإلكتروني بوتيرة أكبر، وزيارة المواقع الإخبارية والحكومية على الإنترنت والسعي للحصول على معلومات صحية أكثر.



المصدر محيط
  #148  
قديم 28/08/2004, 03:29 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

مثقفونا ومثقفوهم بين الثقافة المؤممة والفكر الحر
2004/08/11

د. سعيد الشهابي


ثمة فرق شاسع بين الدور السياسي الذي يمارسه المثقفون في العالم الغربي ونظراؤهم في عالمنا العربي. فمثقفو الغرب عموما، يتمتعون بقدر كبير من الشجاعة في اعلان مواقفهم بوضوح وصراحة، ولا يقصرون ادوارهم المجتمعية علي الادلاء بالافكار المجردة او الكتابة النظرية البعيدة عن حياة الناس، بل يتعاطون مع هموم الناس عموما، ويعكسون ذلك في انتاجاتهم الفكرية والادبية والفنية. ولذلك هناك اسهامات واسعة من هذا القطاع لها تأثيرها علي الحياة السياسية في الغرب، وهي بالتالي قطاع يحسب له حسابه، ويعمل الزعماء السياسيون علي استمالة افراده لتحقيق الفوز السياسي. فمثلا، لم يتردد فرانسيس فوكوياما في اعلان موقف سياسي معارض للرئيس جورج بوش بعد ان اصبحت السياسة الامريكية في الشرق الاوسط عموما وفي العراق بشكل خاص عبئا علي ضمير المثقف الامريكي. فوكوياما، صاحب كتاب نهاية التاريخ والرجل الاخير كان خامس الموقعين في 1997 علي مانفيستو المحافظين الجدد الذي يدعو لدور امريكي اوسع في العالم باكس امريكانا انطلاقا من الشعور بان النظام الديمقراطي الليبرالي قد اصبح عنوانا للنمو السياسي البشري بعد غلبته الساحقة علي الاطروحة الشيوعية، واعتبر ان سقوط جدار برلين تجسيد لتلك الغلبة الحاسمة.
هذا المفكر الذي كان لنظرياته دور في توجيه استراتيجية البيت الابيض باتجاه الهيمنة المطلقة علي العالم، أدرك اخيرا ان هذه الهيمنة أصبحت مصدر تهديد للامن والسلام الدوليين، وتلويث للصورة الامريكية في اذهان العالم. وبالرغم من اعجاب الكثيرين بتجربة الممارسة السياسية الداخلية، خصوصا في مجال الحريات العامة، فقد كانت لسياسات جورج بوش آثارها التدميرية علي صورة امريكا امام الآخرين. فقد بدأ بوش عهده بالتخلي عن الالتزام الامريكي باتفاقية كويوتو حول البيئة التي تهدف للحد من التلوث المسؤول عن تآكل طبقة الاوزون. وتلي ذلك اصرار الادارة الامريكية عن عدم التصديق علي المحكمة الجنائية الدولية، واعقب ذلك سعي البيت الابيض لتمييع موقفها ازاء التزاماتها الاقتصادية وفق بنود منظمة التجارة الحرة، وانتهاج سياسات حماية تناقض جوهرها. ثم اتضحت النزعة الامريكية للانفراد بالموقف السياسي ازاء العراق وتجاهل الاجماع الدولي الذي كان يصر علي ان تعطي للامم المتحدة مهمة ادارة الازمة. وتلا ذلك تحول الولايات المتحدة الي دولة احتلال، الامر الذي لا يحظي بقبول النخب المثقفة في الولايات المتحدة، وتعمقت الازمة لدي هذه النخب بعد الاعلان عن الانتهاكات الفظيعة لحقوق الانسان اولا في سجن غوانتنامو، ثم في السجون العراقية. واصبحت القوة الكبري في العالم، التي كانت تجسد، في نظر فوكوياما وامثاله، عنوان التطور السياسي البشري، تمارس الانتهاكات الفظيعة وهي في موقع القوة والاقتدار.
المثقف الامريكي، عموما، لم يتردد عن ابداء موقفه ازاء هذه المستجدات، تماما كما فعل الجيل السابق عندما اعترض علي التورط في حرب فيتنام، وشارك في المظاهرات العملاقة في كافة انحاء الولايات المتحدة في نهاية الستينات. وقد وقف المثقفون الغربيون عموما مواقف تنسجم مع ما يحملونه من قيم وفق مفاهيمهم الانسانية والسياسية. والمسيرات التي خرجت في العواصم الغربية، بما فيها واشنطن ونيويورك، في الشهور التي سبقت الحرب ضد العراق، يؤكد الدور الحيوي للنخب المثقفة التي أصرت علي الحضور في الساحة ليس من خلال التنظير فحسب، بل من خلال ما اصطلح علي تسميته الاحتجاج الوجداني ، الذي يدفع صاحبه لرفض الاوامر الصادرة من القيادات عندما يري انها تتعارض مع قناعاته الفكرية. هذا لا يعني ان هذه الاحتجاجات والمواقف أدت الي تغيير جوهري في السياسات والمواقف التي ينتهجها البيت الابيض، ولكنها خلقت تيارا عاما يناهض تلك السياسات، ويعاقب المسؤولين عنها من خلال صناديق الاقتراع.
فالمثقف هنا ليس صاحب القرار، ولكنه صاحب قلم وفكر وموقف، وبالتالي فهو صاحب دور كبير في صياغة الرأي العام، ولا يمكن التقليل من دوره في توجيه الناخبين والتأثير علي خياراتهم. هؤلاء المثقفون، اصبحوا اليوم يواجهون، ليس سياسات البيت الابيض فحسب، بل العديد من المفكرين واصحاب الايديولوجيا من الصهاينة الذين يسعون للهيمنة علي القرار السياسي الامريكي بحصر الدور الامريكي في الفترة المقبلة وفق الخطوط التي سار عليها جورج بوش وادارته حتي الآن. مع ذلك يمكن القول انهم حققوا نصف نجاح، وذلك باعادة طرح اشكالية الديمقراطية في العالم علي اجندة البيت الابيض. اما النصف الآخر من المعادلة فما يزال خاضعا للتيار الصهيوني الذي يسعي لابعاد الاحتلال الاسرائيلي وما يمتلكه من اسلحة دمار شامل عن الاجندة السياسية للبيت الابيض. وهنا فمن الضروري التواصل مع النخب المثقفة في الغرب، بهدف تقوية المنطلقات الانسانية لديها، ودعمها في مقابل نشطاء المشروع الصهيوني. الحوار المطلوب يهدف، في ما يهدف اليه، لتعميق الارادة لدي اولئك المثقفين، والتحاور معهم بشأن القضايا التي يسعي التيار المناهض للاسلام لتكريسها في اذهانهم.
والسؤال هنا: هل النخب المثقفة العربية مستعدة، او قادرة، علي القيام بدور ذي معني في هذا المجال؟ هذه الاشكالية تنطلق من وعي الواقع الذي تبدو فيه تلك النخب غائبة عن القضايا الجوهرية التي تواجه الامة، او انها تفتقر الي النظرة الشاملة للامور بعيدا عن ايقاعاتها اللحظية، وبانفصال عن ابعادها الانسانية والقيمية. ويمكن القول ان عقود الاستبداد التي مرت بعالمنا العربي منذ حرب 1967 لم تشهد المنطقة لها مثيلا من حيث التطرف في الاستبداد والقمع، وقد ادت تراكماتها الي نشوء تيارات التكفير والتطرف وصولا الي العنف الاعمي الذي تشهده الساحة العربية في الوقت الحاضر. وكان من اهداف الاستبداد تأميم النخب المثقفة، اذ استطاع قطع مشوار كبير في هذا الجانب. ادي ذلك الي تداخل المواقف العامة بالمصالح الخاصة للافراد المحسوبين علي النخبة، وشيئا فشيئا تم تأميم النخبة، خصوصا العلمانيين منهم. كانت لبنان ما قبل الحرب الاهلية تمثل الرئة التي يتنفس المثقفون من خلالها بعيدا عن الضغوط السياسية المحلية، ولكنها فقدت موقعها منذ منتصف السبعينات، وعندما فر بعض المثقفين الي الغرب استقبلتهم الصحافة العربية المهاجرة التي كانت هي الاخري تدار باموال النفط. اما العناصر التي لم تهاجر، فقد واجهت خيارين: اما الصمت او الاحتواء من قبل انظمة الاستبداد. فصمتت الثقافة، ونضبت الاقلام الفاعلة، ومن أصر علي تحدي سياسة تكميم الافواه كان مصيره السجن او القتل. من المسؤول عن تأميم قطاع النخبة؟ جهات عديدة ساهمت في تسطيح الثقافة والفكر وتأميم الادمغة والعقول والاقلام. لكن النتيجة هي بلوغ الاوضاع حالة الاحتقان الرهيب الذي تحول في العقد الاخير الي حالة انفجار مدمر يأتي علي الاخضر واليابس.
تأميم النخب المثقفة لم يقتلها تماما، اذ من الصعب وأد الفكر، وقتل الضمير المتحرك في نفوس الآدميين، فبقي شيء من الحراك الضميري يبحث عن وسيلة للخروج من الشرنقة، فانطلقت في شكل أدب رومانسي تهيمن عليه حالة من النوستالجيا التي تبكي اطلال الماضي لتهرب من الواقع. وساهم التغير الايديولوجي في المذاق العربي العام خلال عقود الاستبداد في احداث حالة استقطاب خطيرة بين المثقفين الجدد وبقايا جنود الثقافة الذين اصبحوا يبحثون عن مواقع في عالم يهيمن عليه الاستبداد من جهة ونمو الظاهرة الدينية من جهة اخري. في الثمانينات، اي في ذروة المد الثوري الاسلامي نمت ثقافة قومية محافظة في مواجهة اسلام ثوري، وأحدثت ارباكا عميقا في المفاهيم والرؤي والمواقف، بعد ان كانت العروبة الثورية في الستينات تتحدي الاسلام المحافظ. وساهم ذلك في دعم الاستبداد الذي استطاع استقطاب اغلب المثقفين الذين وجدوا في النظام السياسي العربي العلماني حاميا لهم من الاسلام السياسي. وتوافقت تلك المواقف مع السياسة الامريكية عموما، فكان ذلك مصيدة للمثقفين لم يستطيعوا ان يخرجوا منها حتي اليوم.
وسبب ذلك يرجع الي التطورات اللاحقة ومنها ازمة اجتياح الكويت ومؤتمر مدريد، التي جعلت هؤلاء امام خيارين: الاستمرار في دعم الاستبداد المتحالف مع الولايات المتحدة او التمرد عليه. ومن الطبيعي ان يختار التمرد، ولكنه تمرد بدون ادوات او مصداقية. ونظرا لغياب المعايير المبدئية في تحديد المواقف والسياسات، أصبح شخص مثل صدام حسين بطلا في نظر الكثيرين لانه اصبح يواجه الولايات المتحدة التي تدخلت لاخراجه من الكويت. قبل عامين من ذلك كان صدام حسين المدعوم امريكيا والمتحالف مع العروبة المحافظة يحظي بدعم النخب المثقفة العربية لانه يقف بوجه الاسلام الثوري في ايران، ولم ترتفع الاصوات للاعتراض علي الوجود الامريكي في اغلب دول الخليج، بينما تغير الوضع في ازمة الكويت وأصبح المثقفون امام خيارين كلاهما يفتقد المحتوي الاخلاقي المطلوب من المثقف المسؤول.
ما هي الثقافة المناسبة للنخب العربية اليوم؟ أهي التي تنطلق علي اسس ليبرالية مطلقة في مجال السلوك الشخصي، وفق مقتضيات مرحلة ما بعد الحداثة؟ ام هي ثقافة دعم من يرفع شعار محاربة امريكا ايا كانت اساليبه وسلوكه؟ أم هي ثقافة التكفير التي ساهمت النخب العربية (حتي الليبرالية منها في دعمها في حقبة الثمانينات)؟ أهي ثقافة الحرية المنظمة التي تدفع الي اصلاح البيت قبل التوجه للخارج؟ ام هي ثقافة علي وعلي اعدائي التي تسترخص النفوس والاعراض والاموال والاوطان؟ أهي ثقافة الوفاء للمباديء والالتزام بالقيم ام ثقافة أنا أولا التي تبرر بيع الاوطان والمواقف والشعوب لتحقيق مصلحة الفرد ـ الزعيم؟ أهي ثقافة الانتماء الفكري اولا قبل تحديد الموقف المتسرع الذي يعيد المواقف والرؤي الي الحلقة المفرغة التي لا مخرج منها؟ أم هي ثقافة الولوج الي المعركة بدون الاتكاء علي دين او تراث او انتماء؟ العراق اصبح اليوم ساحة مفتوحة لفحص ثقافة النخب العربية، ومدي قدرتها علي اعادة التوازن الي المواقف والقيم. ويبدو الوضع، كما كان دائما، مختلطا علي النخب المثقفة، وبالتالي علي العامة، كما يقال. فاذا كان الاحتلال مرفوضا، وهو أمر لا يختلف عليه المثقفون أينما كانوا، فهل يعني ذلك اعطاء صك مفتوح لكل من يرفض شعار مقاومة الاحتلال، والسماح له بتوسيع دائرة الاحتلال لتشمل الاجهزة المدنية والعسكرية العراقية التي تتعامل مع الاحتلال؟ هذا الدعم المفتوح لشعار المقاومة هو الذي يشجع علي ارتكاب أعمال التفجير والقتل وذبح البشر بدون تمييز بين المذنب والبريء. فبعد تأميم الثقافة، أصبح شعار مقاومة الاحتلال هو الآخر مؤمما بشكل مطلق بيد من يرفعه، وشاملا ليستوعب اعمال القتل والتفجير بدون تمييز. المثقفون، سواء كانوا اسلاميين ام علمانيين، مطالبون بشيء من الالتزام الاخلاقي الذي يحترم الانسان ويمنع ايذاءه باي شكل. فالاسلام يعتبر من يقتل دفاعا عن وطنه شهيدا، ولكنه يعتبر من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا. عملية الفرز والدقة في تحديد الاهداف مطلوبة للحفاظ علي قدسية العمل والجهاد، وبدونها تصبح المقاومة عبثا يضر الامة ولا يهزم المحتلين.
المثقفون العرب مدعوون لاعادة النظر في مسألة الانتماء الفكري والايديولوجي اولا، والعمل ضمن ما تفرضه الاخلاق الانسانية والاسلامية ثانيا، واعلان التمسك بحرمة قتل الابرياء وقداسة ارواح البشر ثالثا، والاستفادة من تجارب المثقفين الآخرين في مواقفهم السياسية رابعا، واعلان الاستقلال عن الانظمة خامسا، والعمل من اجل جيل عربي مسلم فاعل، ينطلق من الواقع بوعي عميق لصنع مستقبل تتقلص فيه التناقضات، ويصبح العمل والفكر والعطاء هي المعايير الاساسية للمثقف الذي يصنع الاوطان ويبني الامجاد ويعيد تأسيس الحضارة.

القدس العربى
  #149  
قديم 29/08/2004, 04:38 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
أزمة صعدة : " الحوثي "من نائب في البرلمان .. إلى مُطارد في جبل مران
على الرغم من المساعي الحثيثة والجهود المبذولة الرامية لوقف دوامة العنف والمواجهات الدامية ، التي تشهدها محافظة صعدة اليمنية ، بين رجل الدين الشيعي حسين بدر الدين الحوثي ، والمئات من أنصاره المتحصنين في جبل مران بمديرية حيدان من جانب ، وقوات الأمن اليمنية المدعومة بعناصر الجيش من جانب آخر ، إلا أنها لم تفلح حتى الآن في وقف نزيف الدم من الجانبين ، والذي أسفر عن سقوط العشرات ما بين قتلى وجرحى ، في ضوء تكهنات بارتفاع حصيلة الضحايا من الجانبين في حال استمرار القتال الدائر بينهما .


الحوثي .. رفع شعار الموت لأمريكا وإسرائيل

فتحي مجدي:

وتحولت منطقة جبال مران في مديرية حيدان بمحافظة صعدة (250 كم شمال صنعاء) ، منذ الثامن عشر من يونيو الماضي ، إلى ساحة للقتال والمواجهات الضارية ، بين أنصار الحوثي وقوات الأمن والجيش اليمنية ، بلغت حصيلتها وفق آخر الأرقام التي قدمتها مصادر عسكرية 300 قتيل ، معظمهم من أنصار الحوثي ، إثر توجيه السلطات اليمنية اتهامات للحوثي بادعاء الإمامة وتنصيب نفسه أميراً للمؤمنين ، وإنزال علم الجمهورية اليمنية ورفع علم آخر بدلاً منه ، وتشكيل مليشيات مسلحة ، مخالفة للنظام والقانون ، قامت بالاعتداء على أفراد القوات المسلحة والأمن أثناء تأديتهم واجبهم في . تلك الاتهامات التي يرفضها الحوثي جملة وتفصيلاً ، ويراها مجرد "مبررات تسوقها السلطات للتغطية على الجريمة الفظيعة التي ارتكبتها ضد أنصاره . ويؤكد الحوثي ، أن ما يعرف " بالشباب المؤمن " الذي يتولى قيادته ليس تنظيما سياسيا ، وإنما هو منتدى ثقافي أنشئ منذ عام 1991 وهدفه توعية الشعوب بالمخاطر المحدقة بالأمة . ويشير الحوثي في لقاء خاص مع موقع شبكة " الجزيرة " على الانترنت ، إلى أن الحملة العسكرية التي تشنها عليه السلطات اليمنية تأتي تتويجا لحملة الاعتقالات التي تشنها منذ عام ونصف على أنصاره الذين يهتفون في المساجد بالموت لأمريكا ، والموت لإسرائيل ، واللعنة على اليهود ، والنصر للإسلام .ويتحدث الحوثي عن بداية الأزمة مع السلطات اليمنية فيقول : إنها بدأت قبل شهرين ، عندما أُوفد شقيقه النائب يحيي بدر الدين يحيى عضو مجلس النواب وعضو الحزب الحاكم من قِبل الرئيس عبد الله صالح ، ليطلب منه التوقف عن ترديد الشعارات المعادية لأمريكا وإسرائيل ، وإلا أرسل لهم من لا يرحم ، فأجاب الحوثي بأن ليس بإمكانه أن يقول للناس توقفوا عن رفع هذه الشعارات ، وإنما بإمكانه هو بوصفه رئيسا للجمهورية القيام بذلك . ويتهم الحوثي الولايات المتحدة ممثلة بسفارتها في اليمن بالوقوف وراء هذه الحملة ، مشيراً في هذا الصدد إلى أن السفير الأمريكي في صنعاء إدموند هول "يتحرك بحرية نادرة في كل أنحاء اليمن من صعدة وحتى مأرب مرورا بالجوف ، وذلك لجمع وشراء الأسلحة من المواطنين ، بهدف تجريد اليمنيين من سلاحهم تمهيدا للاحتلال" . من هو الحوثي ؟ حسين بدر الدين الحوثي البالغ من العمر 45 عاماً ، هو نجل احد كبار مراجع الطائفة الشيعية الزيدية التي تشكل أغلبية في شمال غرب اليمن ، لكنها أقلية في اليمن ذات الغالبية السنية . وكان قد أسهم بفعالية مع رموز وشخصيات مثقفة منتمية إلى المذهب الزيدي بتأسيس "حزب الحق" عام 1990 ، ونجح في أول انتخابات نيابية عام 1993م عن محافظة صعدة باسم هذا الحزب مع صديقه عبد الله عيظة الرزامي ، الذي قتلته القوات الحكومية في حملتها الأخيرة ، باعتباره الرجل الثاني في جماعة "الشباب المؤمن" .
أحد أنصار الحوثي يتأهب للهجوم على القوات اليمنية ولكن سرعان ما دبّ الخلاف داخل " حزب الحق " في العام الذي أعقب انتهاء حرب صيف 1994 ، وبخاصة مع اتهام الحوثي بمناصرة قوات الحزب الاشتراكي اليمني ، وهي تهمة لم تتأكد في واقع الأمر . ومع تردد حديث عن خلافات مكتومة داخل " حزب الحق " بشأن مركزية المرجع "مجد الدين المؤيدي" الذي تجاوز العقد الثامن ، ويمكث في محافظة صعدة متفرغاً للبحث وكتابة الدراسات العلمية لخدمة أتباع مذهبه ، ترك الحوثي وصديقه حزبهما مع آخرين في العام 1997، وسرعان ما بدأ بحركة استقطاب الشباب المتأثر بالمذهب الزيدي ،.

منطلقا من حركة بسيطة تدعى جماعة " الشباب المؤمن " تقوم على تجنيد الشباب برفع هتاف (الموت لأمريكا ، الموت لإسرائيل ، اللعنة على اليهود) في مساجد محددة عقب صلاة الجمعة . ويؤكد تقرير أمني عن نشاط الحوثي في تلك الفترة ، وبعد انشقاقه عن " حزب الحق " ، قدمه اللواء رشاد العليمي وزير الداخلية اليمني إلى أعضاء مجلس النواب اليمني : "إن نشاط الحوثي بدأ منذ عام 1997، بإنشاء مراكز دينية في مديرية حيدان في محافظة صعدة دون ترخيص قانوني أطلق عليها اسم الحوزة ، ثم امتد نشاطه بإنشاء مراكز مماثلة في بعض المحافظات والمديريات، وقام بتوسيع نشاطه من خلال تلك المراكز ، وتزعّم بطريقة مخالفة للدستور والقانون تنظيماً سرياً انسلخ به عن " حزب الحق " أطلق عليه اسم " الشباب المؤمن " ، ومنح أعضاء التنظيم مرتبات فصلية وبعضهم شهرية تراوحت ما بين خمسين دولاراً إلى مائة دولار شهرياً مقابل قيامهم بالترويج لأفكاره وآرائه المتطرفة ، واقتحام المساجد ، والاعتداء على خطبائها، الذين لا يتفقون مع أفكاره المتطرفة، وإثارة الشغب بين المصلين، وترديد شعارات مضللة، وبخاصة أثناء صلاة الجمعة تضر بالمصلحة الوطنية، وهذه الأفعال كلها ثابتة من خلال المحاضر والتسجيلات التي سيتم تسليمها للأجهزة القضائية " . وتذكر وكالة " قدس برس " إن التقرير الأمني يتهم الحوثي بتوزيع كتاب بعنوان " عصر الظهور " ، وهو كتاب شيعي لمؤلفه علي الكوراني العاملي ، الذي أشار في مقدمة طبعته السابعة مطلع العام الهجري الماضي 1424، إلى أنه : "بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران ؛ ارتفع مؤشر الاهتمام بعقيدة المهدي المنتظر في شعوب العالم الإسلامي ، بالسؤال عنه، والحديث حوله، والقراءة ، والتأليف، بل وفي غير المسلمين أيضاً".ويخصص الكتاب محوراً خاصاً عن اليمن تحت عنوان " اليمن ودورها في عصر الظهور "، يؤكد فيه ورود أحاديث متعددة عن أهل البيت ، تؤكد حتمية حدوث ما يصفه الكتاب بـ" ثورة اليمن الإسلامية الممهدة للمهدي عليه السلام، وأنها أهدى الرايات في عصر الظهور على الإطلاق". أما قائدها المعروف في الروايات التي أوردها الكتاب باسم "اليماني" ، فتذكر رواية أن اسمه حسن أو حسين، من ذرية زيد بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. ويستشهد الكتاب ببعض الروايات التي تؤكد أن " اليماني " يخرج من قرية يقال لها " كرعة "، وهي قرية في منطقة بني خَوْلان، قرب صعدة. ثم يثير الكاتب تساؤلا عن السبب في أن ثورة اليماني ورايته أهدى من ثورة الإيرانيين ورايتهم فيقول : "المرجح أن يكون السبب الأساسي في أن ثورة اليماني أهدى أنها تحظى بشرف التوجيه المباشر من الإمام المهدي عليه السلام، وتكون جزءاً مباشراً من خطة حركته ، وأنّ اليماني يتشرف بلقائه ويأخذ توجيهه منه". ويؤيد ذلك، بحسب الكتاب ، أن أحاديث ثورة اليمانيين تركز على مدح شخص اليماني قائد الثورة، وإنه "يهدي إلى الحق، ويدعو إلى صاحبكم، ولا يحل لمسلم أن يلتوي عليه، فمن فعل ذلك فهو إلى النار".ويؤكد التقرير الأمني أن الأجهزة قد ضبطت مع أحد أنصار الحوثي ، ويُدعى فارس مسفر سالم من أهالي ساقين بصعدة ، وثيقة مبايعة للحوثي، باعتباره الإمام والمهدي المنتظر، جاء فيها : "أُشهد الله على أن سيدي حسين بدر الدين هو حجة الله في أرضه في هذا الزمان، وأُشهد الله على أن أبايعه على السمع والطاعة والتسليم، وأنا مقر بولايته، وإني سلم لمن سالمه، وحرب لمن حاربه، وهو المهدي المنتظر القائم، الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً، كما مُلئت ظلماً وجوراً، أبان لنا طريق النجاة، وأوضح كتاب الله على أوضح بيان، فنسأل الله أن يحشرنا في زمرته" . فشل جهود الوساطة مع تزايد أعداد القتلى في صفوف أنصار الحوثي والقوات الحكومية في النزاع الدائر بينهما ، تدخلت بعض القوى السياسية والوطنية في اليمن لفض هذا النزاع ووقف سفك الدماء إدراكاً منها للعواقب الخطيرة التي قد تنجم عنه ، ووجه الرئيس علي عبد الله صالح بتشكيل لجنة خاصة بهدف وضع حد لاحتواء الأزمة ، تضم العشرات من علماء الدين والقبائل ، بالإضافة إلى قادة أحزاب سياسية وممثلين عن الحكومة وبعض نواب البرلمان بينهم شقيق الحوثي النائب يحي بدر الدين الحوثي ، الذي اعتبر النزاع الدائر في " صعدة " بمثابة حرب ، يتوجب على وسائل الأعلام إطلاع العالم عليها ، مؤكداً أن أخيه لا يريد شيئاً ، أنه فقط يرفع شعارات مضادة لأمريكا وإسرائيل بسبب ما يلاحظه الناس من احتلال العراق ، وظلم الإسرائيليين للفلسطينيين".
القوات اليمنية في إحدى حملاتها للقبض على الحوثي ومع رفض الحوثي الاستجابة لدعوات الرئيس اليمني ، الذي تعهد بتسليم الحوثي إذا سلم نفسه طواعية إلى القضاء العادل لبحث التهم المنسوبة إليه ، وإنه سيعهد إلى العلماء بأن يأتوا بالمحامي الذي يريدونه للدفاع عن الحوثي ، ورفضه كذلك استقبال اللجنة المعنية ببحث هذه الأزمة ، تلاشت فرص تسوية هذا النزاع بالجهود السلمية والحلول التفاوضية ، حيث أن الحوثي يشترط وقف الحملة العسكرية المفروضة عليه وأنصاره في جبال مران ، مقابل تسليم نفسه ومن معه إلى سلطات مدنية ومن مختلف مشايخ وعلماء الدين في اليمن وليست عسكريةً.

وذكرت مصادر مطلعة لصحيفة " الوطن " السعودية أن الحوثي يطالب كذلك بعدم ملاحقته وأنصاره قضائياً في حال التجاوب مع دعوة لجنة الوساطة. وفي هذا السياق ، تؤكد المصادر ترحيب الحوثي بجهود لجنة الوساطة ، لكنه رفض مبدأ المحاكمة بتهمة قيادة تمرد ضد الدولة، مشيراً إلى أنه في حال وافق على مبادرة اللجنة ، فإن ذلك لا يعني تقديمه للمحاكمة ، بل بدء حوار بينه وممثلين عن الحكومة لإنهاء العنف. ومن بين الشروط التي يضعها الحوثي كذلك لوقف القتال المحتدم ، إطلاق سراح نحو 800 من أتباعه يقبعون في سجون الأمن منذ بضعة شهور في محافظات صعدة وحجة وعمران وصنعاء وذمار ، والسماح لأنصاره بترديد شعاراتهم "كحق ديموقراطي كفله الدستور" . اتهام جهات أجنبية تثير الأزمة المتفجرة بين الحوثي والحكومة اليمنية أكثر من علامة استفهام ، لعل أبرزها توقيت تفجر هذه الأحداث ، وبالتحديد بعد عودة الرئيس اليمني علي عبد الله صالح من الولايات المتحدة الأمريكية مباشرة ، وفي ضوء اعترافه في مقابلة مع فضائية " الجزيرة " في مارس من العام الماضي بأن بلاده تتعاون على مستوى المخابرات مع الولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب ، وإن وكالة المخابرات المركزية " سي.آي.إيه " ومكتب التحقيقات الاتحادي الفيدرالي " أف . بي آي " أقاما مكاتب بالسفارة الأمريكية في اليمن ، وإن الأمريكيين يعملون على مستوى المخابرات ، ويجمعون معلومات ويجتمعون مع أطراف يمنية ، وإنه على علم بهذا الأمر. ومما يثير الكثير التساؤلات حول إثارة الحكومة اليمنية الأزمة مع الحوثي وجماعته في هذا التوقيت ، اعتراف الرئيس اليمني بدعمه ومساندته تنظيم " الشباب المؤمن " في الماضي ، ما يعتبره مراقبون أنه جاء في ظل توتر حاد داخل البلاد بين السلطات والتجمع اليمني للإصلاح الذي يعبر عن الحركة الإسلامية اليمنية ، والحزب الاشتراكي اليمني وبقية التنظيمات القومية . فهؤلاء يرون أن تقديم السلطات الدعم لهذه القوة الجديدة كان ظناً من السلطات أنه سيحدث توازناً قوياً لصالح السلطة ، وبخاصة أن مسألة توريث منصب الرئيس بدأت تبرز في الأفق ، وكان الرئيس صالح بحاجة إلى دعم المراجع العلمية الزيدية والسنية ، وبخاصة أنّ المذهب الزيدي يرفض بشدة مبدأ التوريث . وفي هذا الصدد ، تشير الأوساط الإعلامية الزيدية إلى دور وتأثير التقارير المحرضة ضد المذهب الزيدي ، وإلى الكتابات الخاصة بالتوريث ، وما أدت إليه من إيغار صدره على الحوثي وجميع أتباع المذهب الزيدي ، مؤكدة أن البعض حاول عبر تقاريره أن يوهم الرئيس بأن إصرار الحوثي على ترديد هذا الشعار هو مؤامرة ضد البلد ، وأنّ المراد منه هو استعداء أمريكا ضد اليمن .وقد رصدت الحكومة اليمنية عشرة ملايين ريال لكل من يساعدها في إلقاء القبض على الحوثي ، بعد أن وزعت منشوراً على السكان طالبتهم فيه بالوقوف معها والمساعدة في القبض عليه. لكن سكان المنطقة التي يتحصن فيها الحوثي وأنصاره يرفضون التعاون مع القوات الحكومية من أجل القبض عليه ، بعد أن أخفق اجتماع مشايخ صعدة في التوصل إلى موقف من تلك الأزمة المشتعلة ، وفي ظل تأكيد الشيخ حسن محمد بن مقيت شيخ مشايخ صعدة رفضه التدخل في الوضع ، قائلاً بأن "الدولة لم تحترم إرادتنا من البداية ولم تطلب منا التعاون كوننا قادرين على حل المشكلة من البداية". وبينما يتهم الرئيس اليمني جهات استخباراتية أجنبية بالوقوف وراء حملة التمرد التي يقودها الحوثى وأنصاره بهدف زعزعة الأمن والاستقرار في البلاد ، متسائلاً عن مصدر التمويل للحوثي " الذي يصرف مائة دولار لكل من يذهب إلى صنعاء يقول الموت لأمريكا ؟ " ، تنفي السفيرة البريطانية في صنعاء فرانسيس جاي عن الحوثي تهمة الإرهاب ، مؤكدة "إنه لا يمكن القول بأن حسين الحوثي وجماعته هم عناصر إرهابية لأنهم لم يقوموا بأي أعمال عنف ضد أهداف مدنية، هم ربما يشكلون تهديدا للنظام وليس لأمريكا او إسرائيل" . واعتبرت الدبلوماسية البريطانية في حديث لصحيفة " الشرق الأوسط " نشرته مؤخرا أنه " ليس كل من يهتف ضد إسرائيل او أمريكا إرهابيا " ، معربة عن اعتقادها أن الشعارات التي ترفعها جماعة الحوثي في هذا الجانب هدفها كسب الرأي العام وتعاطف الجماهير. ويجري هذا كله ، في الوقت الذي تشير تقارير صحيفة نقلاً عن مصادر أمنية ، إلى قيام عدد من اليهود اليمنيين المقيمين في مديرية حيدان بمحافظة صعدة بتقديم المساندة للشيخ المتمرد. ووفقاً لما نسبته وكالة الأنباء اليمنية " سبأ " إلى مصدر أمني طلب عدم نشر اسمه : "فإن يهودا يمنيين ساندوا المدعو حسين بدر الدين الحوثي وتعاونوا معه في تمرده وخروجه على الدستور والنظام والقانون ". وأضاف المصدر أن المتعاونين مع الحوثي قاموا بتخريب مشاريع مياه الشرب وقطعها عن المواطنين وأفراد القوات المسلحة والأمن المتواجدين في المنطقة. لكن السر وراء تعاون سكان المنطقة من اليهود مع الحوثي ، تعزوه مصادر مطلعة إلى تعرض بعض اليهود للتهديد بالقتل من جانب مسلحي الحوثي في حال عدم تعاونهم معهم ضد القوات الحكومية. وتنقل صحيفة " الحياة " اللندنية عن هذه المصادر أن فئة من اليهود أبلغت القوات الحكومية بتهديدات أتباع الحوثي ، والتزامهم بعدم الخروج على القانون خصوصاً بعدما وفّرت لهم قوات الأمن الحماية الكاملة.والواقع إنه إذا كان ما تشهده " صعدة " من أحداث يلفه الغموض ، فقد بات واضحاً أن استمرار القتال بين الطرفين المتحاربين ينذر بعواقب وخيمة لن تقتصر على طرفي النزاع وحدهما ، وإنما ستطال بسلبياتها أهل اليمن جميعهم ، وبخاصة أولئك المواطنين الذين شاءت الأقدار أن تكون منطقتهم مسرحاً للاقتتال .
***



المصدر محيط
  #150  
قديم 30/08/2004, 01:09 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

المواطــــن المشبـــوه

د. حسن حنفي

علاقة المواطن بالدولة هي إحدى علامات النهضة. تسوء العلاقة إذا عادت الدولة المواطن لأنه ينازعها سلطانها، ويتحدى سلطتها فيحدث رد فعل عند المواطن بعدائه للدولة لأنها لا تعبر عن مصالحه، ولا تمثل هويته، ولا هي سلطة منتخبة انتخابا حرا بإرادته. صورة المواطن في ذهن الدولة أنه عدوها، وصورة الدولة في ذهن المواطن أيضا أنها عدوته. وهنا ينشأ عدم الولاء المزدوج بين المواطن والدولة. فتبحث الدولة عن أحلاف خارجية ضد المواطن، كما يبحث المواطن عن ولاءات خارجية ضد الدولة. فيتحول العدو الخارجي إلى صديق للدولة كما هو الحال في علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية وعند البعض إسرائيل أيضا. ويعبر المواطن عن ولائه لدول أخرى خارج الدولة- الوطن إلى القوم- الوطن أو إلى الأمة- الوطن أو إلى الإنسانية- الوطن.
وينعكس ذلك في وقوع الضرر المتبادل بين المواطن والدولة. إذ تسن الدولة عدة تشريعات ضد المواطن مثل إعلان الأحكام العرفية، وقوانين الطوارئ، وكل القوانين المقيدة للحريات مثل قانون العيب، وقانون الاشتباه، والقوانين الاستثنائية. وكلها تقوم على التحريم والمنع والتقييد. فأصبحت صورة الدولة هي "الممنوع"، "ممنوع الاقتراب والتصوير". وينتج عن ذلك عدم ولاء المواطن للدولة، وعدم طاعة قوانينها، ويضع آليات للتحايل عليها لتحقيق مصالحه بالرشوة والتملق والمداهنة وكل مظاهر الفساد من أجل التكيف الاجتماعي وتحقيق المصالح التي أصبحت لا تتم إلا بعصيان القانون. فتحولت القوانين إلى صورية خالصة. فتحت يافطة "ممنوع الوقوف قطعيا" تصطف عشرات العربات. كما ينتهز المواطن الفرصة لإلحاق الضرر بالدولة وبالممتلكات العامة. قطع كراسي قطار أو رميه بالحجارة في الريف أو خدش العربات العامة أو سرقة الممتلكات العامة أو إتلاف المكاتب أو العبث بالحدائق العامة. فأصبح العام مكانا لتفريغ شحنات الغضب عند المواطن. فالدولة في ذهن المواطن هو الشرطي، والمواطن في ذهن الدولة هو العاق أو الخائن أو العميل.

إذا تحرك المواطن ونشط ثقافيا أو سياسيا، واشتغل بالعمل العام، وناضل في سبيل وطن أفضل ونظام سياسي يعبر عنه ويحقق مصالح الناس فإنه يكون مشبوها مدفوعا بقوى خارجية وعضواً في تنظيم سري لقلب نظام الحكم. فلا تنشأ مظاهرة إلا بفعل "المندسين" العملاء، أما جسم الأمة فصحيح. لم ينجرف بفعل هذه الفئة المنحرفة الضالة. وكيف للخارج أن يحرك الداخل؟ وكيف لهذه الحفنة المعدودة من الشباب أن يسببوا كل هذا القلق للدولة بجيشها وشرطتها وقوات أمنها؟

فإذا تظاهر الإسلامي لأن الإسلام لا يرضى نظاما سياسيا تابعا للخارج وقاهراً للداخل "إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف طبقوا عليه الحد" فإنه عميل إيران أو أفغانستان أو الطالبان أو أسامة بن لادن أو الإخوان أو الجماعات الإسلامية المتعددة السرية أو العلنية مثل جماعة الجهاد. هو عميل للتنظيمات الإسلامية العالمية في لندن تحت غطاء مساعدة المسلمين في البوسنة أو الهرسك أو أفغانستان أو كشمير أو الشيشان.

وإذا تظاهر ناصري قومي عربي مازال يؤمن بالقومية العربية من ريح الخمسينات والستينات، ويرى مخاطر القطرية، وعزلة مصر، وتشتت العرب وتمزقهم لابتلاعهم قطعة قطعة كما تم أول مرة بعد الحرب العالمية الأولى 1914-1918 وهزيمة دولة الخلافة ثم القضاء عليها كلية بعد الثورة الكمالية

في 1923 فإنه بعثي قومي سوري عراقي، ولاؤه للقومية العربية وليس لمصر وكأن مصر قطر معزول عن محيطها العربي وشعبها العربي. وإذا تظاهر ماركسي ضد غلاء الأسعار والفساد دفاعا عن الفقراء والطبقات المحرومة فإنه شيوعي روسي أحمر، ولاؤه للأممية أو عميل لها، وخائن للوطن. وإذا تظاهر ليبرالي دفاعا عن الحرية والديموقراطية ضد صنوف القهر وتزييف الانتخابات والقوانين الاستثنائية والأحكام العرفية وسيطرة الدولة على أجهزة الإعلام وعدم تمثيل القوى السياسية في المجالس الدستورية، واستثناء الحزب الحاكم بالسلطة والثروة، فإنه وفدي إقطاعي من أنصار العهد البائد، راغب في العودة إلى الحكم، ومعادٍ لثورة 23 يوليو 1952، وضد مكاسب العمال والفلاحين الذين يمثلون نصف مقاعد مجلس الشعب. فكل نشط سياسي فهو إما عميل أو خائن أو موتور أو حاقد. به كل الأوصاف والنعوت إلا أنه وطني، ولاؤه للوطن. والوطن ليس هو النظام السياسي. إنما نقد النظام السياسي هو الولاء للوطن. النظام فان، والوطن خالد.

بل إن المظاهرات من أجل المطالب المهنية والفئوية وتحسين الأوضاع الوظيفية والمعيشية في مؤسسات الدولة أو في منظمات المجتمع المدني غير مسموح بها. فإنها تثير الشغب الاجتماعي. ويخشى أن تنقلب إلى تخريب المنشآت العامة بفعل المندسين وهي لا تطالب بأكثر من فرص للعمل أو تحسين المرتبات أو ظروف الدراسة أو الاعتراف بالشهادات. أما الهبات الشعبية العامة من أجل الخبز وضد غلاء الأسعار كما حدث في يناير 1977 فإنها انتفاضة "حرامية" مع أنها لم تثر إلا ضد مظاهر الفساد، علب الليل، ومراكز الشرطة التي يتعذب فيها المواطن، وصحف النظام التي تروّج للكذب، ووسائل المواصلات العامة، الفتات الذي تقدمه الدولة لحشر المواطنين وهم في الطريق إلى أعمالهم. ومظاهرات الأمن المركزي في 1986 فإنها أيضا عصيان ضد النظام والأمن. وكان مرتب أمين الشرطة لا يتجاوز الخمسة جنيهات يحرس الفنادق الضخمة حول آثار مصر ويرى مظاهر البذخ في الطعام والشراب من وراء الزجاج. الدولة مقدسة لا يمكن المساس بهيبتها. والنظام السياسي,وكأنه ظل الله في الأرض, من غير المسموح الخروج عليه. والمواطن به مس من الشيطان.

بل إن النظام السياسي لا يقبل أن يتظاهر المواطن حتى تدعيما لسياسة الدولة لأن الدولة هى التي تقرر دون الشعب. ولا تريد أن يكون الشعب صاحب قراره حتى لا يتعود على هذه الرذيلة ,اي أخذ زمام المبادرة فتفقد الدولة سلطانها. فإذا تظاهر المواطن ضد الغزو الأمريكي البريطاني للعراق كما حدث ليلة 20 مارس 2003 وخرجت الآلاف إلى الشوارع من الناشطين السياسيين من كل التيارات السياسية في البلاد، إسلاميين وناصريين وقوميين وماركسيين وليبراليين وحولهم جموع الشعب تباركهم وتؤيدهم وتعطيهم الماء والغذاء للاستمرار في الاعتصام في الميادين العامة تحاصرهم الشرطة ويقبض عليهم الأمن لعدم إحراج النظام "العين بصيرة، واليد قصيرة" و"حكم القوي على الضعيف" و"ما فيش قوي إلا الأقوى منه"، تفريطا في الاستقلال الوطني للشعوب، وتخليا عن الدفاع عن الأمة العربية، واستسلاما لمنطق القوة وشريعة الغاب.

وإذا تظاهر المواطن ضد العدوان الإسرائيلي على شعب فلسطين وتجريف الأراضي، وتدمير المنازل، والتصفيات الجسدية، والاغتيالات لقادة المقاومة، وقتل الأطفال والنساء والشيوخ فإنه مغامر يريد إعادة إسرائيل لاحتلال سيناء وأن يزج بمصر في حرب غير محسوبة العواقب. ومن يستطيع مقاومة الولايات المتحدة الأمريكية التي تقف وراء إسرائيل؟ "الكلام بتاع زمان" هو الذي أدى إلى هزائم مصر في حروب 1948 وعدوان 1956 ثم هزيمة 1967 والتي مازالت نتائجها باقية في احتلال فلسطين، وهضبة الجولان، ومزارع شبعا. ومن البنود السرية في معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في 1979 الكف عن معاداة إسرائيل بالكتابة أو الدعاية أو المظاهرات. مع أن سياسات الدولة المعلنة رسميا هي رفض العدوان الأمريكي البريطاني على شعب العراق، ورفض العدوان الإسرائيلي على شعب فلسطين. والدولة هي التي تحكم وتقرر وما على المواطن إلا الطاعة والولاء.

فإذا ما تخرج الطالب من الجامعة وانغمس في خضم الحياة سعيا وراء لقمة العيش، وكدّ في البحث عن وظيفة وسكن وزوجة أو هجرة إلى بلاد النفط أو إلى بلاد الوفرة، ونسى النشاط السياسي العام الذي أصبح من ذكريات الشباب وأيام الصبا التي لن تعود، وإذا تاب عن العمل لأنه أدرك أنه لا فائدة، فالقهر للداخل والتبعية للخارج في ازدياد يوما بعد يوم أو إذا مات وانقطعت أخباره عن آذان وعيون أجهزة الأمن التي تضم الملفات والسجلات، وما فيها لا يمحى كما هو الحال في اللوح المحفوظ فإنه يظل مشبوها، يُستدعى إلى الأمن العام ليُسئل.

لماذا توقف عن النشاط؟ هل ترك العمل العلني للانخراط في العمل السري؟ هل يدبر مؤامرة أكبر وعلى صلة بجهات أجنبية أقوى؟. فالمواطن مشبوه مشبوه، نشط أم لم ينشط، عمل بالشأن العام أم لم يعمل. هو متهم أمام أجهزة الأمن في حركاته وسكناته، في نشاطه وفي عزلته، في أمله ويأسه، في فرحه وحزنه، في انبساطه وقبضه، في صراخه وصمته، في كلامه وسكوته بل وفي حياته ومماته. هو مشبوه في كل الحالات، ومتهم في كل الاحتمالات. فالدولة تعلم مدى تبعيتها للخارج، وقهرها للداخل وفسادها. وتعلم أجهزة الأمن أن الحق مع المواطن ولكنها تعمل للحفاظ على النظام ضد كل من يحاول تغييره أو النيل منه.

وطالما أن هناك عداء متبادلا بين الدولة والمواطن فلا أمل في الإصلاح. هَمّ الدولة المحافظة على النظام وليس رعاية مصالح الناس، وهَمّ المواطن في الخلاص من نظام القهر والفساد وليس في الدفاع عن نظام لا يعبر عنه. الانتخابات مزيفة، والحزب الحاكم بتدخل أجهزة الدولة، يحصد معظم المقاعد، والقادة، وزراء ورؤساء باقون في السلطة ماداموا طويلي العمر. فلا تداول في السلطة إلا كي يحل أمير محل أمير. "مات الملك يحيا الملك"! وتتكاثر الشعارات لكل حكومة جديدة. فكما رفع شعار "الكترون في يد كل جندي" بعد حرب أكتوبر، وكما أطلق شعار "فيلا وعربة لكل مواطن" بعد عصر الانفتاح، يقال الآن "كمبيوتر لكل مواطن". فمتى يرفع شعار "سكن لكل مواطن"، "رغيف خبز لكل مواطن"، "حرية لكل مواطن"؟

وجهات
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى


جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 03:27 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
سبلة العرب :: السنة 25، اليوم 126
لا تتحمل إدارة سبلة العرب أي مسئولية حول المواضيع المنشورة لأنها تعبر عن رأي كاتبها.