سبلة العرب
سبلة عُمان الصحيفة الإلكترونية الأسئلة الشائعة التقويم البحث مواضيع اليوم جعل المنتديات كمقروءة

العودة   سبلة العرب > سبلة الثقافة والفكر

ملاحظات

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع تقييم الموضوع
  #1  
قديم 13/09/2006, 07:08 PM
البسيوي البسيوي غير متواجد حالياً
مـشــــــــرف
 
تاريخ الانضمام: 15/03/2001
الإقامة: مسقط / بسياء
المشاركات: 4,060
Lightbulb «شيطنات الطفلة الخبيثة»

«شيطنات الطفلة الخبيثة»، أحدث روايات الكاتب البيرويّ ماريو بارغاس يوسا، هي في جوهرها قصة حب رومانسية، هيام رجل – ريكاردو سوموكوريثو – بامرأة خبيثة، لعوب، لديها حساباتها الخاصة، ولا همّ لها إلا إرضاء طموحها. لكن قصة الحب هذه هي الخط العام للرواية التي تدور على خلفية يستعرض فيها المؤلف قرابة نصف قرن من التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية.

فقصة حب الفتى الطيب ريكاردو، وفتاة العنوان الخبيثة، تدور في أماكن شديدة التنوع - باريس هي نقطة الازدلاف الدائمة -، فمن ليما الخمسينات (من القرن العشرين) حيث تتأرجح بلدان أميركا اللاتينية بين الانقلابات العسكرية وحركات التمرد الثورية، إلى باريس الستينات وأدبائها ومفكريها الكبار (سارتر، كامو وسواهما)، إلى لندن المذهلة في السبعينات، حيث انتشار ثقافة الهيبيين والمخدرات وموسيقى البوب والحب الحر، إلى يابان المجتمع السفلي ومافيات الياكوزا اليابانية، وأخيراً مدريد ما بعد فرانكو وتحولاتها الثقافية في أواسط عقد الثمانينات.

نقطة انطلاق «شيطنات الطفلة الخبيثة» تبدأ في ليما، البيرو، في صيف 1950. مع انطلاق رقصة المامبو التي أطاحت بكل ما عداها، وجعلت رقصات الفالس، والكوريدو، والبوليرو، والهواراتشا، شيئاً من الماضي. ومع المامبو تظهر فتاتان تشيليتان (ليلي ولوكي)، جميلتان، جريئتان، ذكيتان؛ تفتنان الجميع في حي ميرافلوريس الارستقراطي، لكن ريكاردو، بطل الرواية الذي أكمل الخامسة عشرة من عمره، هو من يهيم إلى حدّ الجنون بحب لِيلي التي تتكشف عن مخادعة عندما يُرفع عنها قناع الزيف.

وفي ما بعد، بعد عقد من السنوات، يلتقيها في باريس، وقد صار اسمها الرفيقة أرليت، كمقاتلة حرب عصابات كاستروية، على رغم عدم اهتمامها المطلق بالسياسة أو الثورة، لكنها ببرودها العملي، لا تتورع عن استغلال تلك الأفكار الثورية للخروج من البيرو. ثم نجدها بعد ذلك تزدهي بملابس فاخرة ومجوهرات ثمينة كزوجة دبلوماسي فرنسي، وباسم مدام أرنو، لا تلبث أن تهجر ذلك الزوج لتتحول إلى زوجة مربي خيول انكليزي واسع الثراء، وباسم مسز رتشاردسون. وفي منتصف الرواية تقريباً، نجدها وقد استقرت في طوكيو، وصار اسمها كوريكو، كعشيقة لأحد زعماء المافيا اليابانية، تتولى القيام بمهمات خطرة لمصلحة عشيقها في أفريقيا.

وتتعرض البطلة لسلسلة تحولات أخرى، بينما حبيبها الأبله ريكاردو «الطفل الطيب»، يتمسك بحبه لها ولا يتخلى عنه أبداً. بل على العكس، أرقه يتعاظم كلما كانت تلك المرأة تلجأ إليه عندما تكون في حاجة الى مساعدته، لأهداف مصلحية وحسب.

كمٌّ هائل من المصادفات التي يمكنها أن تنسف أي رواية وتحولها مجرد ميلودراما عادية مملة، لكن المعلم الحاذق يوسا يمشي على شفير الهاوية، ويحول بمهارته دون الوقوع في الابتذال الميلودرامي، بتشريع الرواية على مدن ومشاهد وأحداث تاريخية، وظواهر ثقافية، واضطربات اجتماعية، لتتطور مسيرة البطلين في أوج حركات التمرد الثورية الأميركية اللاتينية (من كاسترو إلى حركات التوباك أمارو، والمير، والدرب المضيء)، إلى الانتفاضات الطالبية في الستينات والسبعينات، مع استعراض سريع للتوجهات الجمالية والأدبية والفكرية في النصف الثاني من القرن العشرين. ويرفق ذلك كله بغزارة في الشخصيات التي لولا وجودها لما أمكن الحكاية الأساسية أن تتماسك.

ويبدو أن التسلسل الزمني التقليدي في السرد كان وسيلة أيضاً للحفاظ على التماسك. ففي هذه الرواية يتخلى يوسا عن تعقيداته التقنية والأسلوبية التي كانت السبب في شهرته، فليس هناك تداخلات زمانية ومكانية كما في أعماله الأخرى، ولا وجود لأسلوب العلب الصينية أو المتريوشكا الروسية، أو المونولوغات، أو الفلاش باك، أو تداخل الحوار؛ لكنه يظل مع ذلك مخلصاً لأساليب المدرسة الواقعية الفرنسية (وبخاصة فلوبير) التي ميزت كل أعماله. والحقيقة أن القارئ، ما إن يبدأ بقراءة «شيطنات»، حتى يجد نفسه وقد وقع في شبكة عنكبوت لا يستطيع الإفلات منها، ويغرق في تلك «القراءة الطوفانية» التي تحدث عنها الناقد الإسباني خوان خوسيه أرماس مارثيلو في كتابه «ماريو بارغاس يوسا أو إدمان الكتابة».

ولا يمكن تجاهل السخرية الممتعة التي تتخلل الكتاب، وهي سخرية تذكرنا بأعمال أخرى للكاتب، مثل «الخالة خوليا والكويتب»، أو «بانتليون والزائرات». ويبقى الحب في الرواية هو المغامرة العظيمة التي يمكن أي شخص أن يعيشها مهما كانت حياته تافهة (حتى لو كان مترجماً، مثلما هو بطل الرواية). وقد سُئل الكاتب بارغاس يوسا الذي احتفل قبل شهور بعيد ميلاده السبعين، لماذا اختار قصة حب لكتابه، فرد ممازحاً: «ربما هو ضعف الشيخوخة». وعندما كشفتُ له عن خطأ كرونولجي «صغير» في روايته، فوجئ حقاً، وقال مستغرباً «أهو وارد هكذا في الكتاب؟». قلت: أجل. فابتسم، وقال ممازحاً أيضاً: «لا بأس، إنها سقطة الشاعر».

الحياة - 11/09/06
التقديم والترجمة: صالح علماني
  مادة إعلانية
  #2  
قديم 13/09/2006, 07:12 PM
السفير الحزين السفير الحزين غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 20/06/2002
الإقامة: في قلوب الأوفياء
المشاركات: 2,678
أشكرك مشرفنا على هذه النبذة عن هذه الرواية
  #3  
قديم 13/09/2006, 07:14 PM
البسيوي البسيوي غير متواجد حالياً
مـشــــــــرف
 
تاريخ الانضمام: 15/03/2001
الإقامة: مسقط / بسياء
المشاركات: 4,060
مقاطع

كان صيفاً خرافـياً. جاء بيريث برادو مع فرقته الموسيقية المؤلفة من اثني عشر معلم عزف لتنشيط حفلات الرقص فـي كرنفالات نادي تراثاس فـي ميرافلوريس ونادي لاون تنس دي ليما، وجرى تنظيم بطولة وطنية فـي رقصة المامبو فـي ساحة آتشو، وقد كانت نجاحاً عظيماً على الرغم من تهديدات الكردينال خوان غوالبيرتو غيفارا، مطران ليما، بالحرمان الكنسي لكل ثنائي يشارك فـي الرقص. وتنافست حارتنا «الباريو أليغري» المؤلفة من شوارع دييغو فـيري، خوان فانينغ، وكولون، على أولمبيادات فـي لعبة الفولبيتو، وسباق الدراجات، وألعاب القوى، والسباحة مع حي شارع سان مارتين، وقد فزنا عليهم بالطبع.

فـي صيف العام 1950 ذاك، حدثت أشياء استثنائية. فقد تودد كوخينوبا لايناس، لأول مرة، إلى فتاة ــ هي سيميناويل ذات الشعر الأحمر ــ، واستجابت له الفتاة أمام مفاجأة منطقة ميرافلوريس بأسرها. نسي كوخينوبا عرجه، وصار يمشي فـي الشوارع، منذ ذلك الحين، دافعاً صدره إلى الأمام مثل تشارلز أطلس. وقطع تيكو تيرافانتي علاقته بإيلسي وتودد إلى لاوريتا، وغازل فـيكتور أوخيدا إيلسي وقطع مع باغي، وتودد خوان باريتو إلى إنغي وقطع مع إيلسي. حدثت إعادة توزع عاطفـي واسعة النطاق فـي الحي جعلتنا نصاب بالذهول؛ فالغراميات تنحل وتنعقد، ولا تكون ثنائيات المحبين لدى الخروج من حفلات أيام السبت، هي نفسها التي دخلت إليها. «يا للتهتك!»، هكذا كانت تستنكر عمتي ألبيرتا التي كنتُ أعيش معها منذ وفاة أبويّ.

أمواج حمامات شاطئ ميرافلوريس تتكسر مرتين هناك فـي البعيد، المرة الأولى على مسافة مئتي متر عن الشاطئ، وإلى هناك كنا نذهب نحن الشجعان لنمتطيها على صدورنا نزولاً، ونتركها تسحبنا حوالي مئة متر، إلى حيث تموت الأمواج؛ ولكنها تموت من أجل أن تعيد بناء نفسها فـي ارتجاجات رشيقة، وتنطلق من جديد فـي اندفاع ثانٍ ينزلق بنا على أحزمة الأمواج حتى أحجار الشاطئ الصغيرة.

فـي ذلك الصيف الاستثنائي، تخلى الجميع فـي احتفالات ميرافلوريس عن رقصات الفالس، والكوريدو، والبلو، والبوليرو، والهواراتشا، لأن رقصة المامبو أطاحت بكل ما عداها. المامبو، زلزالٌ بعثَ الحركة، والقفز، والنط، وإيماءات الوجه، فـي كل أزواج الأطفال، والمراهقين، والبالغين، فـي احتفالات الحي. ولا بد أن الشيء نفسه كان يحدث خارج منطقة ميرافلوريس، فـي ما وراء العالم والحياة، فـي لينثي، وبرينيا، وتشورييّوس، أو حتى فـي أحياء منطقة لافكتوريا الأكثر إكزوتيكية، ومركز ليما، فـي الريماك والبوربينير، تلك الأحياء التي لم نطأها قط نحن أبناء ميرافلوريس، ولا نفكر فـي أن نطأها أبداً.

ومثلما انتقلنا من الفالس والهواراتشا، من السامبا والبولكا إلى المامبو، تحولنا كذلك من زلاجات القدمين والزحافات إلى الدراجات الهوائية، وحتى الدراجات النارية كما هي حال البعض، مثل تاتو مونخي وتني إسبيخو، بل إن واحداً أو اثنين تحولا إلى السيارة، مثل كبير صبيان الحي، لوتشين، الذي كان يسرق أحياناً شفروليه أبيه المكشوفة، ويأخذنا فـي جولة على الكورنيش، من تراثاس حتى وهدة أرمينداريث، بسرعة مئة فـي الساعة.

لكن الحدث الأبرز فـي ذلك الصيف كان الوصول المفاجئ لشقيقتين آتيتين من تشيلي، موطنهما النائي، إلى ميرافلوريس؛ فكان حضورهما الملفت وطريقتهما المتميزة فـي الكلام، بسرعة، وأكل أواخر الكلمات، وإنهاء الجملة بزفرة عالية ترن مثل «بوي»، يضعنا على «لفة ونصف»، نحن جميع أبناء ميرافلوريس الذين تحولنا للتو من ارتداء البنطال القصير إلى البنطال الطويل. ولي أنا أكثر من الآخرين.

كانت الصغرى تبدو هي الكبرى، والعكس بالعكس. وكان اسم الكبرى لِيلِي، وهي أقصر قامة بقليل من أختها لوكي وتكبرها بسنة. فعمر لِيلِي أربع عشرة أو خمس عشرة سنة على أكثر تقدير، وعمر لوكي ثلاث عشرة أو أربع عشرة. ويبدو أن النعت «جذابة» قد اختُرع من أجلهما؛ لكن لوكي التي لا يمكن القول إنها ليست جذابة، لم تكن بمثل جاذبية أختها، ليس فقط لأن شعرها كان أقل شقرة، وأقصر طولاً، وملابسها أكثر تحفظاً من لِيلِي، وإنما لأنها كانت أكثر صمتاً، وعند الرقص، بالرغم من أنها كانت تتلوى وتحرك وجهها أيضاً، وتحني خصرها بجسارة لا تجرؤ عليها أي واحدة من بنات ميرافلوريس، إلا أنها كانت تبدو فتاة رصينة، مكبوحة، وشبه تافهة بالمقارنة مع تلك الدوامة، تلك الشعلة فـي الريح، تلك النار الكاذبة التي هي لِيلِي عندما توضع الأسطوانات فـي البيك-آب، وينفجر المامبو ونبدأ الرقص.

كانت لِيلِي ترقص بإيقاع لذيذ وبكثير من الرشاقة، مبتسمة ومترنمة بكلمات الأغنية، رافعة ذراعيها، عارضة ركبتيها، ومحركة خصرها وكتفـيها بطريقة تجعل كل جسدها المقولب فـي التنانير والبلوزات التي ترتديها بكثير من الخبث وكثير من التكورات، يبدو متشنجاً، متوتراً ومشاركاً فـي الرقص من قمة الشعر حتى القدمين. من يرقص المامبو معها يكون مغبوناً على الدوام، إذ كيف يمكن له أن يجاري، دون ارتباك، التوربين الشيطاني لتلك السيقان والأرجل المتقافزة؟ مستحيل! من يراقصها يظل متخلفاً منذ البداية ومدركاً تماماً أن عيون جميع الراقصين الآخرين تتركز على مأثرة لِيلِي المامبوية. وكانت عمتي ألبيرتا تقول ساخطة: «يا لهذه الصغيرة! إنها ترقص مثل متبخترة مجنونة، مثل محترفة رومبا فـي فـيلم مكسيكي». ثم ترد بنفسها على نفسها: «حسن، يجب ألا ننسى أنها تشيلية، والفضيلة ليست نقطة القوة فـي نساء تلك البلاد».

وقعتُ أنا فـي حب لِيلِي مثل عجل، وهي أشد الطرق رومانسية للوقوع فـي الحب ــ إنها الطريقة التي يقال عنها أيضاً: الارتعاش بسرعة مئة ــ، وفـي ذلك الصيف الذي لا يُنسى، عرضتُ عليها ثلاث مرات أن تكون حبيبتي. المرة الأولى فـي بلكون سينما ريكاردو بالما، هذه السينما التي كانت تقوم فـي حديقة ميرافلوريس المركزية، فـي عرض بعد ظهر يوم الأحد؛ فقالت لي لا، وإنها مازالت صغيرة على أن يكون لها حبيب. والمرة الثانية فـي حلبة التزلج التي افتُتحت فـي ذلك الصيف تحديداً عند سفح متنزه سالازار، وقالت لي لا، وإنها بحاجة إلى التفكير فـي الأمر؛ فمع أنني أروقها قليلاً، إلا أن أبويها طلبا منها عدم الارتباط بحبيب قبل أن تنهي السنة الرابعة المتوسطة، وهي مازالت فـي السنة الثالثة. والمرة الأخيرة، قبل أيام قليلة من الفضيحة الكبرى، فـي الكريم ريكا فـي شارع لاركو، بينما كنا نتناول مثلجات ميلك شيك بطعم الفانيلية، وطبعاً، كان الرد مرة أخرى لا، ولماذا سأقول نعم ونحن على ما نحن عليه نبدو كحبيبين. ألا يجعلوننا على الدوام ثنائياً عند مارتا حين نلعب لعبة الحقائق؟ ألا نجلس معاً على شاطئ ميرافلوريس؟ ألا ترقص هي معي أكثر مما ترقص مع أي شخص آخر فـي الحفلات؟ لماذا إذاً ستقدم لي النعم الرسمية ما دام كل من فـي ميرافلوريس يعتبروننا حبيبين؟ بمظهرها الذي كهيئة موديل، وعينيها السوداوين الماكرتين، والفم ذي الشفتين الممتلئتين، كانت لِيلِي هي التغنج متحولاً إلى امرأة.

كنت أقول لها: «كل ما فـيكِ يعجبني. ولكن أكثر ما يعجبني فـيك هي طريقتك فـي الكلام». كانت ظريفة وأصيلة، بنبرتها وموسيقاها، شديدتي الاختلاف عن البيرويات، وكذلك ببعض التعابير والكلمات والأقوال التي تجعل الحيرة تلفنا نحن أبناء الحي، وكأننا فـي القمر، محاولين أن نخمن ما الذي تعنيه تلك الكلمات والأقوال، وإذا ما كانت تخفـي فـي طياتها سخرية ما. وكانت لِيلِي تمضي الوقت فـي قول أشياء مزدوجة المعنى، أو إطلاق الأحاجي، أو رواية نكات غير مهذبة إلى حدٍّ تجعل معه بنات الحي يفغرن أفواههن لتتسع لديك رومي. «هؤلاء التشيليات رهيبات»، تُصدر عمتي ألبيرتا حكمها، وهي تخلع نظارتها وتعيد وضعها بمزاج معلمة المدرسة الذي لها، قلقة من أن هاتين الغريبتين ستقوضان أخلاق حي ميرافلوريس.

لم تكن هناك عمارات بعد فـي ميرافلوريس فـي أوائل عقد الخمسينيات، كان حي بيوت من طبقة واحدة أو طبقتين على الأكثر، لها حدائق لا يغيب عنها الجيرانيو، وأشجار الليمون، والغار، والجهنمية، والعشب؛ وشرفات تتسلقها أزهار العسل واللبلاب، عليها كراس هزازة، يجلس عليها الجيران بانتظار حلول الليل وهم يثرثرون بالقال والقيل، ويستنشقون أريج الياسمين. وكانت هناك فـي بعض الحدائق أشجار ثيبو شوكية ذات أزهار حمراء ووردية. وعلى الريكتا، وهي أرصفة نظيفة، توجد شجيرات سوتشي، وجاكاراندا، وأشجار توت. أما لمسة اللون فتضفـيها، إلى جانب أزهار الحدائق، العربات الصفراء لباعة مثلجات دونوفريو الذين يرتدون أردية بيضاء وقبعات سوداء، ويجوبون الشوارع نهاراً وليلاً معلنين عن حضورهم ببوق يسبب لي نفـيره البطيء مفعول قرن همجي، وذكرى خرافـية مما قبل التاريخ. مازال يُسمع تغريد العصافـير فـي حي ميرافلوريس هذا، حيث تقطع الأسر أشجار الصنوبر عندما تصل البنات إلى سن الزواج، لأنهم إذا لم يفعلوا، فسوف تظل المسكينات عازبات مثل عمتي ألبيرتا.

لم تعطني لِيلِي موافقتها، لكننا فـي الحقيقة، باستثناء هذا الأمر الشكلي، كنا نبدو فـي نظر الجميع حبيبين. فقد كنتُ أمسك يدها فـي عروض بعد الظهر فـي صالات سينما ريكاردو بالما، وليورو، ومونتي كارلو، وكولينا، ومع أنه لا يمكن القول إننا، فـي عتمة صالات السينما، كنا ندبر برنامجاً كغيرنا من أزواج المحبين الأقدم عهداً ــ وتدبر برنامج هي الصيغة التي تشمل ابتداء من القبلات البسيطة حتى لحس الألسنة والمداعبات الخبيثة التي لا بد من الاعتراف بها للكاهن فـي أول يوم جمعة باعتبارها خطايا مميتة ــ، كان ليلي تتركني أقبّلها على خديها، على حافة أذنيها، عند زاوية فمها، وتضم أحياناً شفتيها، لثانية واحدة، إلى شفتي ثم تبعدهما بتكشيرة ميلودرامية: «لا، لا، لا تفعل هذا أيها النحيل». وكان أصدقائي فـي الحي يسخرون مني: «إنك تتحول إلى عجل أيها النحيل، إنك أزرق، نراك تذوب من شدة العشق أيها النحيل». ولم يكونوا ينادونني باسمي ــ ريكاردو سوموكورثيو ــ، وإنما ينادونني دوماً بلقبي. ولم يكونوا يبالغون أدنى مبالغة فـي أقوالهم تلك: فقد كنت مغرماً بلِيلِي حتى المئة.

ومن أجلها، تشاجرت فـي ذلك الصيف مع لوكين، أحد أفضل أصدقائي. ففـي أحد تلك اللقاءات التي نجتمع فـيها نحن صبيان الحي وبناته عند ناصية تقاطع شارعي كولون ودييغو فـييري، فـي حديقة تشاكالتانا، أراد لوكين أن يتظارف، فقال فجأة إن التشيليتين متصنعتان، لأنهما ليستا شقراوين فـي الحقيقة وإنما متأكسجنتان، وإن الناس فـي ميرافلوريس بدؤوا، من وراء ظهري، بتسميتهما الصرصارين. فوجهت لكمة مباشرة إلى ذقنه، فتفاداها، وذهبنا لتسوية الخلاف باللكمات عند ناصية كورنيش ريسيرفا، إلى جانب الوهدة. وظللنا لا نتبادل الكلام طوال أسبوع، إلى أن قام صبيان الحي وبناته بوساطة مصالحتنا فـي الحفلة التالية.

كان يروق للِيلِي الذهاب كل مساء إلى زاوية حديقة سالازار الهائجة بأشجار نخيل وفلوريبونديو وجُريس. ومن فوق سورها المبني من آجر أحمر، كنا نتأمل خليج ليما كله مثلما يتأمل البحرَ قبطانُ سفـينة من فوق برج القيادة. فإذا كانت السماء صافـية ــ وأقسم إن السماء فـي ذلك الصيف كانت بلا غيوم، وإن الشمس تلألأت فوق ميرافلوريس دون أن تتخلف عنا يوماً واحداً ــ يظهر هناك فـي البعيد، فـي أقاصي المحيط، القرص الأحمر، المتوهج، مودعاً بأشعة ولهيب بينما هو يغطس فـي مياه الهادي. كان وجه لِيلِي يركز بالحمية نفسها التي تذهب بها للمشاركة فـي قداس الثانية عشرة فـي كنيسة الحديقة المركزية، النظر ثابت على تلك الكرة النارية، بانتظار لحظة ابتلاع البحر لآخر شعاع من أجل صياغة الرغبة التي سوف يحققها النجم، أو الرب. وأنا أيضاً كنت أطلب رغبة، مع إيمان مزعزع فـي أنها ستتحول إلى واقع. وكانت الرغبة هي نفسها بالطبع: أن تقول لي أخيراً نعم، سنكون حبيبين، وسنتدبر برنامجاً، وسيتوطد حبنا، ونتحول إلى خطيبين، ونتزوج وننتهي إلى العيش فـي باريس، ثريين وسعيدين.

مذ وعيتُ على الدنيا، كنت أحلم بالعيش فـي باريس. ربما يقع الذنب فـي ذلك على أبي، بسبب كتب بول فافـيل وجول فـيرن، وألكسندر دوماس وآخرين كثيرين جعلني أقرؤها قبل أن يقتل نفسه فـي حادث سير خلّفني يتيماً. تلك الروايات ملأت رأسي بمغامرات وأقنعتني بأن الحياة فـي فرنسا أكثر غنى، وأكثر بهجة، وأكثر جمالاً، وأكثر كل شيء من أي مكان آخر. ولهذا، فضلاً عن دروس اللغة الإنكليزية فـي المعهد البيروي ــ الأمريكي، تمكنت من جعل عمتي إلبيرتا تسجلني فـي الألينس الفرنسي فـي شارع ويلسون، حيث كنت أذهب ثلاث مرات فـي الأسبوع لتعلم لغة الفرنسيس. وبالرغم من أنني كنت أحب اللهو مع رفاقي فـي الحي، إلا أنني كنت محظوظاً، أُحرز نتائج جيدة، ويروقني جداً تعلم اللغات.


Mario Vargas Llosa
Travesuras de la niña mala

تصدر الرواية قريباً عن دار المدى - دمشق
  #4  
قديم 13/09/2006, 09:39 PM
صورة عضوية سرب
سرب سرب غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 11/12/2001
الإقامة: عمان
المشاركات: 6,488
موضوع جميل جدا..

قرأته كاملا ..وبمتعة.

شاكرة للجميل البسيوي..
  #5  
قديم 14/09/2006, 08:37 AM
البسيوي البسيوي غير متواجد حالياً
مـشــــــــرف
 
تاريخ الانضمام: 15/03/2001
الإقامة: مسقط / بسياء
المشاركات: 4,060
السفير الحزين وسرب .. أشكركما على جميل المرور

طبعا لا يفوت الأخوة والأخوات القّراء معرفة أن ماريو بارغاس يوسا هو مؤلف الرواية التي نالت شهرة كبيرة في الوطن العربي "حفلة التيس".
  #6  
قديم 14/09/2006, 08:46 AM
البسيوي البسيوي غير متواجد حالياً
مـشــــــــرف
 
تاريخ الانضمام: 15/03/2001
الإقامة: مسقط / بسياء
المشاركات: 4,060
وهذه قراءة لرواية "حفلة التيس" عن النهار الثقافي للكاتب محمد الحجيري

رواية "حفلة التيس" التي تصنف ضمن قائمة "ادب الديكتاتور" في امريكا اللاتينية، استوحاها يوسا من زيارة قام بها منتصف السبعينات الى جمهورية الدومينيكان لحضور بعض مشاهد التصوير لفيلم مقتبس من احدى رواياته. بقي هناك ثمانية اشهر، حيث قرأ عددا كبيرا من المؤلفات عن حكم رافاييل تروجيللو الذي حكم من 1930 الى ان اغتيل في 30 أيار 1961. يوم الاغتيال هو العمود الفقري في الرواية التي تتحدث عن القمع والعنف الذي يمارسه الديكتاتور الذي وضع ثروات البلاد ومقدراتها في قبضته. فهو مالك كل شيء في الدومينيكان، ابتداء بمزارع قصب السكر والبن والنخيل وجوز الهند وتربية الابقار والخيول الاصيلة، وحتى احتكار الملح، مرورا بشركة الطيران وشركة التأمين ومصانع تكرير النفط وصناعة الخمور والتبغ والاسمنت والكبريت والدقيق والاحذية وتجارة المخدرات. "لم يكتف بمراقبة سلوك الجميع، وانما راقب ضمائرهم واحلامهم كذلك"، وما يفعله يوسا هو سرد جزء من التاريخ مع خلفية تتعمق في دراسة نفسية للديكتاتور والتي هي اساس كل تصرفاته.

الرواية موجهة الى جميع الديكتاتوريين والى عمق التمزق الاجتماعي، المصاحب لانظمتهم. يوسا لم يصور تروجيللو وحشا او مهرجا بل انسانا عاديا تحول طاغية لافتتان شعبه بالرجل القوي وتواطئه معه. كان تروجيللو، بوحشيته وفساده وهوسه وحياته المسرحية، وجها يرمز الى ظاهرة سائدة في القارة، والى الانظمة الديكتاتورية التي كانت تحكم اميركا اللاتينية، وكان في الوقت نفسه ديكتاتورا شرسا بهلواني النزعة، اذ انه حول حياته طوال فترة حكمه الى اوبرا هزلية من تأليفه واخراجه وبطولته بينما كان الشعب الدومينيكاني بأسره يلعب فيها دور الكومبارس.

لم ير يوسا القتلة ابطالا وشهداء بل بشرا لهم عيونهم مما اثار غضب اهلهم عليه لدى زيارته الدومينيكان قبل عامين. فهو يقدم من خلال تروجيللو شخصية انسانية يصير في ما بعد طاغية. مخلوق يستخدم السلطة المطلقة لصالح نزواته ويستفيد من عبودية الاخرين ليصير انسانا وحشي النزعة. فهو استخدم الجنس كأداة للحكم او للوصول الى السلطة، ولم يكن الجنس بالنسبة اليه مسألة لذة، فالآباء كانوا يقدمون بناتهم له وكأنهم يقدمون القربان للرب. وفي الرواية شخصية اورانيا، الابنة العذراء الصغيرة لرئيس مجلس الشيوخ المغضوب عليه، والتي يقدمها والدها الى الرئيس (الجنرال) الذي كان يغازل نساء معاونيه او وزرائه ليذلهم الى اقصى درجة في هذا البلد المازوشي. او هذه كانت احدى وسائل الجنرال للتأكد من استعدادهم للتضحية بشرفهم من أجله.

اراد يوسا ان يوضح ان الديكتاتورية ليست فقط الاذلال والتعذيب والقهر وانما ايضا الانهيار البطيء لمجتمع بأكمله. وهو يعود الى الكتابة عن الديكتاتورية، بعدما كتبها في رواية "حوار في الكتدرائية"، عام 1969، والسبب كرهه الشديد لها. وهذا يقود الى زمن طفولته في البيرو. فديكتاتورية الجنرال اودريا كانت بمثابة الكارثة على عائلته التي اصيبت بالافلاس. يوسا ليس الوحيد الذي يكتب عن الديكتاتوريات في اميركا اللاتينية، بل هو من جملة ادباء احتفوا بالموضوع نفسه، ولكن في اساليب مختلفة. فما كتبه استورياس في "سيدي الرئيس"، يختلف عما كتبه ماركيز في "خريف البطريرك"، وما كتبه يوسا ربما يختلف كثيرا عما كتبه اقرانه، فهو لا يصف الديكتاتور كوحش، بقدر ما يحاول تقديم شخصيته الانسانية التي تصبح في ما بعد طاغية.

ارتبط يوسا ارتباطا وثيقا بفيدل كاسترو، في ظل تأثير افكار جان بول سارتر عليه، بحيث يعتقد "ان الكلمات ليست سوى افعال" وبعد مرحلة من التدقيق في مزاعم سلطة هذا الادب، الذي اشتغل عليه في البدايات، قام بمراجعة لوجهة نظره تلك واقترح صيغة اقل تحريضا، ميدانها اكثر واقعية. وفي العام 1988، وفي قلب انشغالاته السياسية، فاجأ يوسا الجميع باصدار رواية تبتعد كثيرا عن اهتماماته في تلك الحقبة، وهي "مديح زوجة الاب".رواية ماجنة ايروسية، تشكل كتابا لجميع العقد الفرويدية. وقحة وربما لا تختلف عن حياة يوسا.

بين المجون وادب الديكتاتور، ترشح يوسا للانتخابات الرئاسية في البيرو عام 1990، لكنه خسر امام غريمه البرتو فوجيموري، الذي اطيح قبل عامين بتهمة الفساد وهرب الى اليابان، موطنه الاصلي. كان سارتريا الى حد ما، والسارترية توحد بين الدورين الثقافي والسياسي، والارجح انها تدفع بالمثقف الى ان ينزع عن جسمه "الرداء الثقافي" حين تلوح الهزيمة في افق السياسة. وتزامن خوض يوسا الانتخابات مع وصول الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل الى رئاسة الجمهورية في تشيكوسلوفاكيا (تشيكيا حاليا). والحق انه من خلال تجربة يوسا وتجربة هافل، يتبين لنا مدى الفسخ ما بين السياسة والثقافة. فالسياسة هي الى حد كبير لوثة أدب يوسا، وقد جعلته في لائحة اهل الوقاحة ليصل في النهاية الى خلاصة تقول "ان السياسة والادب لا يلتقيان، فالسياسة اشد امتصاصا من الادب".

يوسا كان عليه ان يزعل من بلاده بعد خسارته في السباق الرئاسي. وبعد خسارته هذه، قصد اسبانيا التي قبل جنسيتها، وهو يتنقل بين اوروبا والبيرو كــ"سمكة في الماء"، واتهم بالموافقة على كل ما تفعله الولايات المتحدة في اميركا اللاتينية. وهو نفسه يعترف بأنه يشارك الغزاة الاوروبيون التفكير، ويدعو الى التضحية بحضارة اميركا اللاتينية الاصلية لتحديث مجتمعاتها. ففي روايته، "موت في الانديز"، ثمة نفاذ صبر من الايمان بالغيب واللاعقلانية، ويرى بعضهم في ذلك عملا عنصريا ضد هنود الانديز الذين يصورهم يوسا غير صالحين للحياة لأنهم عاجزون عن احتضان الحضارة. الحضارة الغربية حصرا.
  #7  
قديم 14/09/2006, 11:07 AM
الذئـب الابيض الذئـب الابيض غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 12/03/2002
الإقامة: Mar 2002
المشاركات: 637
أختيار موفق سيدي
تقديم وقراءة لضالعين في علم التوثيق الكتابي
سيدي :
لا أعلم لماذا تراني أنجذب - أنجذاب الملتص اللامفارق - لكل ما هو ثوري
ما اجمل الكتابة التي تكتنفها ثورة على الروح والنفس ...
سالني احدهم يوما عن رقصة " المامبو " فضحكت ...

وبعفوية رددت :
المامبو دا سوداني

ودار حوار لم ينتهي عن اصول رقصة المامبو
محدثي كانت له خلفيه رائعة فيما يتعلق بالفنون الحركية
وصف لي عن بدايات تكون هذه الرقصة
وفجأة :

استوقفته !!!
بزعمك لماذا طغت هذه الرقصة على غيرها من الرقصات في حقبة من الزمن ؟
فأجاب بعفوية :
لانها رقصة ثائرة يا ....
هذه القراءات التي اوردت هنا احدثت ثوران داخلي رهيب لدي
فانا اتلذذ بسماع الالفاظ :
لاروكا ، لميكا ، انتبليكا ، ديرو فانا بيوتا ، ايستروبيكتانا ، فلتوستا مبيريوتا ، .....
لانك حتى وان لم تكن تفهم معانيها
تحس ان هناك وقع اخر مختلف لمداخل حروفها ومخارجها
وبامكانكم التجربة مع التركيز
على مخارج أخر حرف من احرف الكلمات
بحيث نمده بشكل متعمد
وسترون الفرق في التاثير الداخلي
للكلمة
سيدي :
لن اتطرق للتعقيب عن تاثير القراءة الاولى المختصرة للرواية ، فنهم قراءة الروايات الثائرة سيرشدني للبحث عن الرواية كاملة او انتظار صدورها ...
شكرا لطرحك الجميل
ممنون انا لاختيارك
الاجمل
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
تقييم هذا الموضوع
تقييم هذا الموضوع:

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى


جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 05:14 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.
سبلة العرب :: السنة 25، اليوم 126
لا تتحمل إدارة سبلة العرب أي مسئولية حول المواضيع المنشورة لأنها تعبر عن رأي كاتبها.