الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #78  
قديم 29/03/2004, 12:25 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
تحدي القراءة !


ثريا الشهري *

من حق القارئ أن يسأل عن بذور الثقافة التي نمت في حياة الكاتب أو المؤلف التي على أساس ثمارها الناضجة كان النتاج المقروء، ولكن الأصعب هو أن يتحدث المرء عن بستانه الذي قد لا يرى فيه ما يميزه عن غيره من البساتين الأثمر والأرحب.
مع هذا، وبالرغم من حساسية الطرح بكل ما فيه من تحدث عن النفس قد يُفهم على أنه تضخيم للذات، وبالرغم من تشابك عناصر أخرى مكونة لا تقف عند حدود عناوين الكتب المقروءة ونوعيتها، إضافة الى عامل البيئة العائلية والتعليمية المحيطة، ومشوار الحياة بطوله وما صاحبه من تفاعل مستمر بين الشخصية والظروف التي مرت بها، ما لا يستوعبه مقال موجز. لكن لابأس في المحاولة.
لكن لا يمكن إغفال تأثير العناصر السابقة في التكوين العام لشخصية الكاتب، لذا سأتجاوز المهم للأهم، والسؤال المطروح: كيف بدأ معي حب القراءة؟ وبم استعنت في ترجمة هذا الشغف الذي تملكني منذ الثامنة من عمري؟ إنه قدر جاء بهديته في يوم من أيام الدراسة وبالتحديد في فترة اختبارات الصف الثالث الابتدائي، حين اجتمعت مع زميلات لي لنقص على بعضنا الحكايات، فكانت زميلتنا (هدى) أقدرنا على السرد، مما دفعني لسؤالها عن مصدر ما جاءت به، لتجيبني بكلمة واحدة «قرأته». لم تكن في حاجة لتزيد عليها، فمنذ تلك اللحظة بدأت علاقتي «الفسيولوجية» بعالم الكتاب، جوع عقلي ينتظر الشبع، وظمأ نفسي يتوق إلى الارتواء، وهو عالم كان بسيطاً في بداياته، لا يزيد عن مجموعة قصص، كانت الصفحة الواحدة منها تأخذ مني وقتاً وجهداً لأنتهي من قراءتها، وقد يحدث وأسأل نفسي: بماذا خرجت! فلا أملك جواباً، فأستشيط غضباً من كاتب لم يراع قدراتي، ولا أغضب من إصراري على قراءة كتب لا أملك معاني مفرداتها! ولكن أبداً لم يثنني ذلك الشعور عن المضي في عالم القراءة، وما لم أكن أستوعبه، وجدتني أستمتع بقراءته فيما بعد، وكيف لا يكون وأنا أقرأ لأحمد أمين، فالحق أن هذا الكاتب الأزهري الموسوعي الذي استطاع المزج بين الثقافتين العربية والأوروبية، قد كان له الأثر الإيجابي في نفسي وفكري، فمن يقرأ ما كتبه من تاريخ للحياة العقلية في سلسلته عن «فجر الإسلام وضحاه وظهره»، ومن يهضم «فيض الخاطر» بأجزائه العشرة لا بد وأن يجتمع له من الثراء اللغوي والمعرفي ما يعينه على التمكن عند تأسيس بنائه الثقافي، ولا يفوتني في هذا السياق التنويه بدور والدي في متابعة قراءاتي، فلا أذكر أنه منعني يوماً واحدا من قراءاتي، وإنما كان الطلب المعتاد بأن آتيه بما لديّ من كتب لأسمع تعليقه عليها، وخاصة ما اشتريته منها أثناء العطل الصيفية للمدرسة، وكم نصحني باقتناء مؤلفات كانت مكتبتي المحدودة آنذاك تفتقر إليها. وأذكر ذات يوم أنه رافقني إلى المكتبة وطلب مني شراء ما أرغب، فكنت من فرط سروري وعلمي بميزانية الشراء المفتوحة أشتري بدون قراءة التعليق الذي ألفناه في نهاية الكتاب، وهي عادة ما زالت تلازمني حتى اللحظة، فكما تتفحص المرأة ثوباً لتشتريه، كذلك الحال عندي مع استبدال الثوب بالكتاب هذه المرة، فالمرء يبتدئ في الثقافة هاوياً، فإذا بها وقد تحولت إلى عادة تملك عليه لباب عقله، فيمضي الوقت معها، ويضن بها على غيرها، وهي صناعة ثقافية يعود نجاحها إلى التنشئة الابتداعية لا إلى تلك الإتبّاعية، ولم أر غير الكتاب، قراءة وتمحيصاً يتبعها النقد وعقد المقارنات، أكثر قدرة على غرس هذه النزعة الابتكارية في طريقة التفكير منذ الصغر، وهو أسلوب يأتي إلى صاحبه بالتعود والإصرار مع توقد الذهن والتدقيق أثناء القراءة.
فالكتاب الذي لا يحفز فينا روح التساؤل ولا يضيف إلى خزانة معلوماتنا ما يبعث على الرغبة والنشاط في الارتقاء، فهو إما أنه اختيار سيئ لكتاب مسطح، أو أن المتبع في تلقي المعلومة قد ركن عند درجة الجمود لا التغيير، إذ يجب على من ينشد الثقافة ألا يترك ما قرأه إلا وله عليه حكم، فلو علم المشتغلون بالحرف أن غاية قرائهم أن ينتفعوا ويرتقوا بما يقرأون، لعمدوا إلى التركيز الأكثر، وإلى البحث الأشمل قبل كتابة ما لا ينفع وما لا يرفع، وللإنصاف ينبغي الاتيان على ذكر الشق الآخر من المعادلة الذي يقرر أنه لو كانت النزعة الارتقائية عند القارئ، أو كما يسميها برناردشو «شهوة التطور» هي الهدف المرتجى دائماً من وراء القراءة، للسمو بالنفس إلى مستويات أرفع من المستوى المعاش، لكانت وطأة إرضاء جميع الأذواق أقل حدة عند اختيار الموضوعات المطروحة، لأن الذوق العام وقتها سيتحدد بكل ما هو راق، ولكن، وبما أن المطبوعة إنما يحددها طلب السوق، والمعتمد في رواجه على الشريحة الأكبر التي قد لا تعي إلا مستوى معين في اللغة والتناول، فإن قانون الاستمرارية أحياناً قد يفرض منطقه على حساب النوعية.
أعود لمحور المقال، أكثر ما أضاف إلى عقلي لم يكن مجرد دراستي الجامعية للغة العربية وما أرسته من قواعد لكتابتي، وإنما هي القراءة باللغة الإنجليزية، التي وصفها أحمد أمين عند تدوينه لسيرته الذاتية وكأنها العين الأخرى للإنسان، فتخصصي عند دراسة «الماجستير» الذي حتم عليّ الخوض في فروع لم أتعود التبحر في عوالمها، كان من ضمنها السياسة والاقتصاد، قد فرض عليّ التخصص في مجالات قد ينفر منها المرء أحياناً، ناهيك ممن دأبت أن تقرأ في الأدب القصصي والاجتماعيات، فكنت أقرأ الكتاب الواحد ثلاث مرات، الأولى لفهم اللغة وما استعصى من كلمات، والثانية لقصد المؤلف من تناوله، والثالثة للتلخيص والاستنتاج، وهي عملية متواصلة للاطلاع كانت تستحوذ على جزء كبير من ساعات المساء، باستثناء وقت المحاضرات، وما يتطلبه البحث والتنقيب في مكتبة الجامعة أثناء النهار.
وغاية القول ان القراءة تحتاج إلى الصبر، ثم الرغبة والحافز الذي ينشأ عنه ما يسمى بالعاطفة والميل نحو الكتاب، وهو أمر ينبغي أن تتخلق النفس به، بعيدا قدر الإمكان عن التأثير السلبي لمركب نقص في الشخصية أو لتجارب واقع أليم، حتى لا يقع المرء في دائرة الغرور والاحتقار للغير، اللذين قد يكونان النتاج الطبيعي لهذا النوع من الثقافة الاستعلائية، المغلفة بمنطق التميز الفوقي وليس التطوري.
إن القصد من الثقافة هو التعلم، أي نقل المعارف إلى حياتنا بحيث ننتفع بها في سلوكياتنا وميولنا وتصرفاتنا العامة والخاصة، فلا قيمة تذكر لثقافة لا تتفاعل مع الحياة، أي ليس لها من وظيفة عضوية في الكيان النفسي، ولئن وجد هذا الاستعداد، فلا ينبغي التعويل على مقدار الذكاء الفردي، فذكاء متوسط مع كثير من الرغبة في التحصيل، هما خير من ذكاء متوقد مع انعدام هذه العاطفة، وكم من ذكي انتهى بترهل ذهني وحياة منطفئة، وكم من آخر أقل في قدراته الذاتية وصل باجتهاده وتحديه إلى احترام الناس له وانبهارهم من قدرته على الإلمام الواسع بمختلف المعارف، خاصة إذا توجت بعمل ينتفع به المجتمع، فالمسألة برمتها خاضعة للإنسان وإرادته بقطع النظر عن امكاناته.
وبعد، هل أكون بحديثي هذا قد استوفيت الموضوع حقه! لا أبالغ إذا قلت أنني لم أبدأ بعد، ولكن لعلمي بتجربتي وما قد تعود بمضمونها من إضاءة ما عند بعض القراء والقارئات، فقد حملني هذا العلم على إلحاق مقالي بآخر أتحدث فيه عن جوانب أخرى لم تسعفني المساحة لتناولها! فإلى الأسبوع القادم إنشاء الله.

المصدر جريدة الشرق الاوسط