عرض المشاركة وحيدة
  #7  
قديم 09/05/2006, 04:54 PM
myfrredom myfrredom غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 20/07/2005
المشاركات: 86
النبي الأمِّيُّ... والأمة الأمِّية
GMT 21:00:00 2006 الإثنين 8 مايو
الاتحاد الاماراتية



--------------------------------------------------------------------------------


الثلاثاء: 2006.05.09

د. محمد عابد الجابري


طرحنا في المقال السابق مسألة ما إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرف القراءة والكتابة؟ وبدأنا في مناقشة هذا الموضوع من خلال ما روي حول الظروف التي رافقت بدء الوحي وبالخصوص جواب النبي على طلب جبريل: "اقرأْ". وقد أبرزنا الاختلاف، بين عبارة "ما أقرأ"، أو "ماذا أقرأ" الواردة في جواب النبي حسب رواية ابن إسحق والطبري وغيرهما، وبين عبارة "ما أنا بقارئ" الواردة في البخاري وغيره. وبعد تحليل الروايتين تبيَّن لنا أن عبارة رواية ابن إسحاق أقرب إلى ما يفيده منطق النص، نص الحديث. وغني عن البيان القول إن منطق نص من النصوص، أياً كان راويه، لا يقوم بديلاً عن معطيات الواقع. وإذن فالجواب عن السؤال السابق يحتاج إلى مزيد من البحث والتقصي.

بدأنا –كما قلنا- بأول واقعة من السيرة النبوية تتصل بالموضوع، واقعة بدء الوحي. وعلينا الآن أن ننتقل إلى ما ورد بعد ذلك في الوحي نفسه، منذ ابتداء النزول إلى نهايته. أعني بذلك القرآن الكريم.

هناك آيات تصف الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه "أمي"، وتصف العرب بـ"الأميين". وقد وردت هذه الآيات متسلسلة كما يلي، حسب ترتيب النزول:

1- قوله تعالى: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنجِيلِ" (الأعراف 157)، والمقصود: النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

2- وقوله: "وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ" (البقرة 78). ومعنى الآية، حسب ما ذكره الطبري نقلا عن ابن عباس، كما يلي: "الأميون قوم لـم يصدّقوا رسولاً أرسله الله، ولا كتابـاً أنزله الله، فكتبوا كتابـاً بأيديهم، ثم قالوا لقوم سفلة جهال: هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ". ومعنى ذلك أن لفظ "الأميين" ليس معناه الذين يجهلون الكتابة والقراءة، بل معناه: الذين ليسوا من أهل الكتاب (اليهود والنصارى) وكتبوا كتاباً مزَّورا متمنين أن يصدقهم الناس وينسبوهم لأهل الكتاب.

3- وقوله: "وَقُلْ (يا محمد) لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدْ اهْتَدَوا" (آل عمران 20). الذين أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، وفي مقابلهم "الأميون" الذين ليس لديهم كتاب منزّل وهم العرب.

4- وقوله: "ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ (اليهود) قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ" (75 آل عمران). والمقصود بـ"الأميين" هنا هم الذين لا يدخلون في عداد أهل الكتاب وبالتحديد العرب. ومعنى العبارة: ليس علينا في غش العرب من حرج، لأنهم ليسوا من أهل الكتاب، لا يطبقون شريعة سماوية!

5- وقوله: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ..." (الجمعة 2). والمقصود العرب ككل، وليس فقط الذين لا يعرفون القراءة والكتابة منهم وحدهم.

واضح أن التقابل في هذه الآيات (3، 4، 5) هو بين طرف هو "الأمي" و"الأميون" من جهة، وبين طرف آخر هم "أهل الكتاب". وما به يفترق الطرفان هو أن الطرف الثاني لديه "كتاب" هو التوراة والإنجيل، والطرف الأول ليس لديه كتاب. فالأميون إذن هم الذين ليس لديهم كتاب سماوي. وقد جاء القرآن ليكون لهم كتاباً خاصاً بهم.

نعم هناك حديث نبوي مرفوع يروى بصيغة: "إنّا أُمَّةٌ أُمِّيةٌ لا نَكتُبُ ولا نَحسُبُ، الشهرُ هٰكذا وهٰكذا. يَعني مرَّةً تسعةً وعشرينَ ومرَّةً ثلاثين"، وفي حديث آخر: "صُوموا لِرُؤْيتهِ وأفطِروا لرُؤيته، فإن غُبِّيّ عليكم فأكملوا عِدَّةَ شَعبانَ ثلاثين". الموضوع إذن هو تحديد مدة الشهر، للصيام والإفطار في رمضان. ويتفق أصحاب الحديث على القول إن معنى "لا نكتب ولا نحسب" هو أننا لسنا ممن يستعمل حساب النجوم والأفلاك لتحديد وقت ظهور الهلال، فنحن أمة أمية، أي غير معنية بعلوم الحساب، ولذاك فالشهر يتحدد عندنا برؤية العين المجردة.

هل يكفي ما تقدم؟ كلا. إننا ما زلنا في بداية الطريق!

لنواصل إذن التماس الشواهد، ولنتجه هذه المرة إلى المعاجم.

تمدنا المعاجم العربية بما تعتبره المعنى الأولي الأصل للفظ "أمي"، فنقرأ فيها: "الأمي، الذي علـى خِلْقَة الأُمَّةِ، لم يَتَعَلَّم الكِتاب فهو على جِبِلَّة أمه، أَي لا يَكتُبُ... فكأَنه نُسِب إِلى ما يُولد عليه أَي على ما وَلَدتْه أُمُّهُ عليه". وبهذا الاعتبار: "قيل للعرب: "الأُمِّيُّون"، لأَنَ الكِتابة كانت فـيهم عَزيزة أَو عَدِيمة". وقيل أيضاً: والأُمِّيُّ: العَيِيّ الجِلْف الجافي القَلـيلُ الكلام؛ قيل له أُمِّيٌّ لأَنه على ما وَلَدَتْه أُمُّه عليه من قِلَّة الكلام وعُجْمَة اللِّسان" (لسان العرب).

واضح من هذا أن تعريف "الأمي" بـ"الذي لا يقرأ ولا يكتب" تعريف لا أصل له في العربية. أما نسبته إلى "الأم" فهو اجتهاد من علماء اللغة في إيجاد أصل لهذه الكلمة في لغة العرب. وهذا الاجتهاد فيه تكلف واضح: فلما ذا ننسب الجاهل بالقراءة والكتابة إلى "أمه"، وحده دون الذي يقرأ ويكتب؟ ولماذا نربط الأم، دون الأب، بـ"عجمة اللسان والعي والجفاء"؟ ثم هل تليق هذه الصفات بمقام النبي محمد عليه الصلاة والسلام ومقام أمه، خصوصاً وقد اختاره الله واصطفاه؟!

الواقع أن لفظ "أمي" لفظ مُعَرَّب، لا أصل له في اللغة العربية. فما أصله إذن؟

يرى كثير من اللغويين والمتكلمين والمفسرين أن لفظ "الأميين" يعني الذين ليس لهم كتاب ديني سماوي، فهم إذن في مقابل "أهل الكتاب"، وبالتحديد اليهود أصحاب التوراة والنصارى أصحاب الإنجيل. ذكر الراغب الإصبهاني نقلاً عن الفرا: الأميون: "هم العرب الذين لم يكن لهم كتاب"، وفي هذا المعنى يقول الشهرستاني: "وأهل الكتاب‏ كانوا ينصرون دين الأسباط ويذهبون مذهب بني إسرائيل، والأميون كانوا ينصرون دين القبائل ويذهبون مذهب بني إسماعيل".

ويرى كثير من المؤرخين الأوروبيين أن اليهود كانوا يطلقون لفظ "الأمم" على غيرهم من الشعوب، أي على "الوثنيين" من عبدة الأصنام وغيرهم، وأن "الأمي" بهذا الاعتبار منسوب إلى "الأمم". فكما كان الرومان ("المتحضرون") يطلقون على غيرهم من الأمم اسم "باربار" بمعنى: "المتوحشون"، وكما كان العرب ("أصحاب الفصاحة") يطلقون على غيرهم من الشعوب لفظ "العجم" لكون كلامهم (بالنسبة للعربي) فيه عجمة لا يفهم، فكذلك كان اليهود (أصحاب الكتاب) يطلقون على غيرهم من الشعوب لفظ: "الأميون"، أي المنسوبون إلى "الأمم" الأخرى التي ليس لها كتاب منزل.

بهذا المعنى الاصطلاحي يمكن فهم العبارات التي وردت فيها كلمة "أمي" و"أميين"، في الآيات السابقة: فـ"الأميون" في سياق الخطاب في تلك الآيات هم "العرب" وبالتحديد القبائل العربية في مكة. يشهد لهذا المعنى ما ورد في القرآن من آيات تربط "القرآن" بالعرب إلى جانب أخرى تربط "الكتاب" –والتوراة تحديداً- ببني إسرائيل، وذاك مثل قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا" (الشورى7)، وهم المقصودون بـ"الأميين" في الآيات السابقة. وقوله: "وَمِنْ قَبْلِهِ (القرآن) كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا (القرآن) كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ" (الأحقاف 12). والمقصود مشركو مكة من جهة، والمؤمنون من جهة أخرى، سواء كانوا يعرفون القراءة والكتابة أم لا!

هناك آيات أخرى تتحدث عن "المؤمنين" كطرف مقابل لـ"أهل الكتاب" أو"الذين أوتوا الكتاب" مثل قوله تعالى: "وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ (اليهود والنصارى) وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا (بمحمد) إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُون، وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ (مشركو مكة) مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا (المدثر 31).

تلك هي النصوص القرآنية التي لها علاقة بالسؤال الذي نحن بصدد البحث عن جواب له: "هل كان النبي عليه الصلاة والسلام يقرأ ويكتب"، ومن خلالها تبين لنا أن كونه صلى الله عليه وسلم "نبياً أمياً" معناه من أمة لا كتاب لها، لا يعني بالضرورة أنه لم يكن يعرف القراءة والكتابة، كما أن وصف القرآن للعرب بكونهم "أميين" لا يفيد بالضرورة أنهم كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون.

يبقى بعد ذلك قوله تعالى: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (العنكبوت 48)، وهي الآية التي يستدل بها جل المفسرين، إن لم نقل جميعهم، على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يكن يعرف القراءة والكتابة. وسنعود إلى هذه الآية بتفصيل في مقال لاحق.