عرض المشاركة وحيدة
  #12  
قديم 23/05/2006, 12:16 PM
myfrredom myfrredom غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 20/07/2005
المشاركات: 86
هل الأمية علامة على المعجزة؟
GMT 21:30:00 2006 الإثنين 22 مايو
الاتحاد الاماراتية



--------------------------------------------------------------------------------


الثلاثاء: 2006.05.23

د. محمد عابد الجابري

لماذا الإلحاح على أن النبي لم يكن يعرف القراءة والكتابة؟ لقد ربط كثير من المتكلمين والمفسرين والدعاة بين إعجاز القرآن وبين "أمية" الرسول عليه الصلاة والسلام، جاعلين من عدم معرفته للكتابة دليلاً على أن القرآن معجزة له، لم يستطع أن يأتي بمثلها من كان يقرأ ويكتب من خصوم دعوته رغم تحدي القرآن لهم. وهكذا صعب على من يذهب هذا المذهب التسليم بكونه كان عليه الصلاة والسلام يكتب ويقرأ، منذ طفولته حتى وفاته، فاضطربوا اضطراباً ملحوظاً أمام الأحاديث والأخبار التي أوردناها في المقال السابق، والتي تفيد صراحة أو ضمناً أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ ويكتب. ومن مظاهر هذا الاضطراب تقديمهم "بعض التنازلات" وكأن الأمر يتعلق بموضوع قابل للمفاوضة!
من جملة التنازلات ما ذكره الألوسي البغدادي في تفسيره، قال: "واختُلف في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان بعد النبوة يقرأ ويكتب أم لا؟ فقيل: إنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يحسن الكتابة، واختاره البغوي في "التهذيب"، وقال: إنه الأصح. وادعى بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها... فلما نزل القرآن واشتهر الإسلام وظهر أمر الارتياب تَعَرَّف الكتابة حينئذ". ويضيف الألوسي: "وروي ابن أبي شيبة وغيره: ما مات صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ". وقال: "وروى ابن ماجه عن أنس قال: قال صلى الله عليه وسلم: رأيت، ليلة أُسْرِي بي، مكتوباً على باب الجنة: "الصدقة بعشر أمثالها والقرض بثمانية عشر". وعلق الراوي قائلاً: "والقدرة على القراءة فرع عن الكتابة". وأضاف الألوسي: وممن ذهب إلى القول بأنه عليه الصلاة والسلام كان يعرف القراءة والكتابة أبو ذر الهروي، وأبو الفتح النيسابوري، وأبو الوليد الباجي (الفقيه الأندلسي الشهير، القرن الخامس الهجري)، وقد صنف فيه كتاباً، وسبقه إليه ابن منية. ولما قال أبو الوليد (الباجي) ذلك طُعن فيه ورمي بالزندقة وسُبَّ على المنابر، ثم عُقد له مجلس فأقام الحجة على ما ادعاه وكتب به إلى علماء الأطراف فأجابوا بما يوافقه".
ويعلق الألوسي على ما تقدم قائلاً: "ومعرفة الكتابة بعد أُمِّيَّتِه صلى الله عليه وسلم لا تنافي المعجزة، بل هي معجزة أخرى لكونها من غير تعليم... ولا يخفى أن قوله عليه الصلاة والسلام: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" ليس نصاً في استمرار نفي الكتابة عنه عليه الصلاة والسلام، ولعل ذلك باعتبار أنه بعث عليه الصلاة والسلام وهو، وكذا أكثر من بعث إليهم وهو بين ظهرانيهم من العرب، أميون لا يكتبون ولا يحسبون. فلا يضر عدم بقاء وصف الأمية في الأكثر بعد. وأما ما ذكر من تأويل فِعْل "كَتَبَ" (عبارة "كتب النبي": "في عقد الحديبية، حديث البراء، أنظر المقال السابق) بِـ"أَمَرَ" بالكتابة فخلاف الظاهر". ويضيف الألوسي: "وفي شرح "صحيح مسلم" للنووي عليه الرحمة، نقلاً عن القاضي عياض، أن قول الراوي في رواية البخاري (ذكرناها في المقال السابق): "ولا يحسن يكتب فكتب"، كالنص على أنه صلى الله عليه وسلم كتب بنفسه، فالعدول عنه إلى غيره مجاز لا ضرورة إليه". ثم قال: "وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنَّعت كل فرقة على الأخرى في هذا، والله تعالى أعلم".
وفي هذا الاتجاه علق القرطبي على رأي من ينكر القول بكون النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرف القراءة والكتابة، ناقلاً كلام شيخه فقال: "قال شيخنا أبو العباس أحمد بن عمر: وقد أنكر القول بأنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ ويكتب كثير من متفقهة الأندلس وغيرهم وشدّدوا النكير فيه، ونسبوا قائله إلى الكفر، وذلك دليل على عدم العلوم النظرية، وعدم التوقف في تكفير المسلمين، ولم يتفطنوا؛ لأن تكفير المسلم كقتله(...)، على أن المسألة ليست قطعية، بل مستندها ظواهر أخبار أحادٍ صحيحة، غير أن العقل لا يحيلها (لا يعتبرها محالاً) وليس في الشريعة قاطع يحيل وقوعها".
نأتي الآن إلى الآية التي يتمسك بها الكثيرون كدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعرف القراءة والكتابة، وهي قوله تعالى: "وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ" (العنكبوت 49).
لقد وردت هذه الآية بعد قوله تعالى "وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الْكَافِرُونَ" (47)، والمقصود كفار قريش. فهؤلاء قد اتهموا النبي بافتراء القرآن:"وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا" (الفرقان 4)، وقد جاء الرد عليهم في قوله تعالى: ""وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ". وواضح من السياق أن لفظ "كتاب" في هذه الآية ينصرف معناه إلى التوراة. فالآية ترد على الذين اتهموا النبي بالنقل من كتاب أهل الكتاب، بما معناه: كان يمكن أن يكون اتهام قريش لك يا محمد بافتراء القرآن مبرراً ومقبولاً لو كان حالك كحال الأساقفة والرهبان الذي يقرؤون التوراة أو الإنجيل وينسخونها. وهذا ما لم يحصل ولم يعرف عنك. وأكثر من هذا فهؤلاء الجاحدون يعرفون أن القرآن لم ينزل عليك مرة واحدة كتاباً جاهزاً، فهم يشاهدونه ينزل عليك مُنجَّماً مفرقاً، آيات، آيات: ذلك قوله تعالى في الآية التالية مباشرة للسابقة: "بَلْ هُوَ آيَاتٌ، بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ، وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَ" (49).
ليس في هذه الآيات، بل ليس في القرآن كله، ما ينفي عن النبي المعرفة بالقراءة والكتابة، وبالمقابل هناك آيات عديدة تنفي عنه افتراء القرآن واستنساخه من كتب أهل الكتاب، وتؤكد بالمقابل أن المصدر الوحيد للقرآن هو الوحي الذي يأتيه من الله بواسطة جبريل مُنجَّما، آيات، آيات، وليس على صورة كتاب.
هذا ومن المناسب هنا الإشارة إلى أن خصوم النبي من قريش لم يتهموه بكونه كتب القرآن. لقد اتهموه بأنه كان يتلقى ما ورد فيه، وخاصة القصص، من نصارى كانوا في مكة وكان يجلس إلى بعضهم، ولكن لم يذكر أحد من الرواة أن خصوم الدعوة المحمدية من قريش قد نسبوا إليه كتابة القرآن، ليس لأنهم كانوا يعرفون أنه لا يقرأ ولا يكتب، بل لأن المعرفة بالكتابة والقراءة عندهم، وعند جميع الأمم إلى اليوم، ليست شرطاً في الإتيان بالكلام البليغ. فالقول البليغ ليس مرهوناً بالمعرفة بالقراءة والكتابة، وقد كان شعراء العرب وخطباؤهم يقولون الشعر ويخطبون ارتجالا؛ دون إعداد، لا قولاً ولا كتابة. وفي هذا يقول الجاحظ عن العرب: "وكل شيء عند العرب فإنما هو بديهة وارتجال وكأنه إلهام، وليس هناك معاناة ولا مكابدة، ولا إجالة فكر ولا استعانة(...)، وليس هم كمن حفظ علم غيره واحتذى على كلام من كان قبله، فلم يحفظوا إلا ما علِق بقلوبهم والتحم بصدورهم واتصل بعقولهم، من غير تكلّف ولا قصد ولا تحفظ ولا طلب". وهذا إن كان يصدق على ما ينسب من سحر البيان إلى الفطرة والسليقة الإلهام، فكيف بما هو من قبيل الوحي!
القرآن معجز ليس لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يجهل القراءة والكتابة، بل هو معجز بذاته: "قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" (الإسراء 88). الإنس والجن! من كان منهم لا يعرف القراءة والكتابة ومن كان ضليعاً فيهما، لا يستطيعون الإتيان بمثل هذا القرآن حتى ولو تعاونوا عليه!
أما تأكيد الطابع المعجز للقرآن، بدعوى أن الذين يعرفون القراءة والكتابة من قريش لم يستطيعوا الإتيان بمثله، رغم تحديه لهم، وأن النبي كان لا يعرف القراءة والكتابة وأتى بهذا القرآن، وبالتالي فذاك دليل على أنه وحي من الله، أقول إن هذا النوع من الاحتجاج إن كان له مفعول –على صعيد الدعوة- في زمن كالعصور الوسطى، حيث كان الناس ينظرون إلى العارفين بالقراءة والكتابة بوصفهم أشخاصاً حاصلين على "امتياز خاص"، فإن الناس اليوم في عصر تعميم التعليم ونشر المعرفة لا يعطون للمعرفة بالقراءة والكتابة كل تلك الأهمية. إن مكمن الإعجاز في القرآن –على صعيد اللغة- هو ما عبر عنه المتكلمون المسلمون بـ"النظم"، أي انفراده بنوع خاص من الخطاب لم تعرفه العرب من قبل، ولم تستطع قريش إنكار فرادته ولا التقليل من تأثيره.