عرض المشاركة وحيدة
  #26  
قديم 20/05/2006, 11:06 AM
الزمن القادم الزمن القادم غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 27/03/2006
المشاركات: 242
أ.د. محمد جابر الأنصاري: القومية لم تنقرض.. إلا في أوهامنا!
الوطن القطرية-19/5/2006م

لا تتأسس أية سياسة ناجحة ومجدية إلا على حقائق موضوعية يدعمها البحث العلمي المعرفي وتستطيع التمييز بين الصحيح والسقيم وعندما تضع الدول الأوروبية اليوم شعار الوحدة الأوروبية الجامعة، وهي الدول القائمة على قوميات تصارعت حتى العظم في الساحة الأوروبية ذاتها، وأكلت الأخضر واليابس، فإنما تتبنى هذه الدول شعارا جديدا تتجاوز به مرحلتها الصراعية تلك إلى مرحلة لا مفر منها في ساحة التنافس الدولي الراهن حيث لا وجود ولا أمان إلا للكبار الأقوياء - حضارة واقتصادا ودفاعا - ثم ان الوحدة الأوروبية تراكم طبيعي لمسارها التاريخي، وتطور مستقبلي لابد منه للبقاء في زمن «العولمة» ومواكبته.. والنظر عقلانيا بالتحليل والنقد لأبعاده ومعطياته ومغزاه التاريخي - وكما أشرنا في دراسة سابقة، فإن الوحدة الأوروبية هي فعل العقل في التاريخ - بلا رثاء وبكاء كما يفعل كتاب وضحايا الذهنية المستقيلة (المستقيلة من التدقيق والنـــــظر والدراسة المقارنة المســــــؤولة) في الحياة العربية!

وإذا كانت الماركسية بالنظر للجمود الفكري لدى سدنتها لم تستطع اللحاق بالتطورات والمتغيرات المستجدة مما أدى إلى تفكيك احدى أهم منظوماتها الجيوبولتيكية، وهي المنظمة السوفياتية، فإنها عندما بدأت كايدولوجيا تناضل لتصحيح المسار الرأسمالي في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فإنها جاءت نتيجة بحث علمي معمق أو يحاول أن يكون علميا قدر إمكان القائمين به، ولهذا السبب كان لها ذلك التأثير الكبير على المشهد الدولي، بما في ذلك الدول الرأسمالية الغربية، كبريطانيا وفرنسا في ثلاثينيات القرن المنصرم عندما غدت الماركسية التحدي الفكري لكل مثقف فيها.

واللافت للانتباه حتى يومنا أن قيادة الحزب الشيوعي في الصين الشعبية، إحدى أبرز القوى في عالم اليوم، تعمل على تطوير ماركسيتها الصينية، وهي ايدولوجية قومية في التحليل النهائي بإقرار كبار قادتها من «ماو» ورفاقه، وستبقى قدرتها على التطوير الفكري رهن الاختبار اليوم وغدا، ولكن نموها الاقتصادي شبه «الرأسمالي» في ظل الماركسية المستنبتة صينيا، قد يكون من أبرز النجاحات الفكرية في مواءمة المنطلق الماركسي مع انطلاقة عولمة الرأسمالية في القرن الحادي والعشرين.

وأيا كانت نتيجة ذلك، وحتى إذا قصرنا الرؤية على تفكك المنظومة السوفياتية وتخلي روسيا عن الايدولوجية الماركسية، فإنه يبقى منها (أعني الماركسية كعلم اجتماع وكرؤية علمية محدودة بزمنها وواقعها الأوروبي) كونها نبهت إلى دور العامل الاقتصادي في التاريخ وذلك ما لا يمكن اسقطاه في أي فكر عقلاني بما في ذلك الفكر الرأسمالي، وكذلك تحذيرها من مغبة ترك الحبل على غاربه في صراع الطبقات واستغلال الأقليات الثرية للأغلبيات الفقيرة، وذلك ما استفادت منه الرأسمالية الأوروبية الغربية في تطويرها الاقتصادي كما نرى في تجربة حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الفرنسي، والأحزاب الاشتراكية في الدول الاسكندنافية، وهي أحزاب مسؤولة تولت أو تتولى السلطة واستطاعت ببعد نظرها الفكري أن توائم الرأسمالية القائمة على اقتصاد السوق، وهو حقيقة لا مفر منها، مع الأخلاق الاشتراكية اللازمة إنسانيا في التكامل الاجتماعي، دون التقيد باقتصاديات الاشتراكية التي أتت بمردود عكسي في تجارب عدة وتبين انها غير قادرة على التنافسية والانتاج اللازم للنمو.

نعرض لهذ الظواهر والتجارب بشيء من الإسهاب، لنرى إن كانت «العروبة» في نطاقها تمتلك شيئا من مقوماتها وقدرتها على التموضع، أم أنها مجرد مرحلة عاطفية وايدولوجية اسقطتها تحديات الواقع وذهبت إلى غير رجعة. ولابد لنا - كعرب - من هذه «القسوة العلمية» مع الذات ولنسمها (المصارحة الجارحة مع النفس) لنصل إن أمكن إلى إعادة تأسيس حياتنا على أسس صلبة من هذا النوع. فلن تنجح لنا سياسة، عروبة أو غيرها، إذا لم نقمها على هذا النوع من التدقيق المعرفي الملتزم والمسؤول والذي لا يصاب بالانهيار لدى أول ضربة!

ومن كلمات ميشيل عفلق، منظر البعث، التي ضيعها تلامذته على أنفسهم وتجربتهم قوله: إن الحق فوق العروبة إلى أن تصل العروبة إلى مستوى الحق. ونقول اليوم إن الحق والحقيقة يجب أن يظلا فوق العروبة دائما لتصحح ذاتها بهما في كل حين.

ومن أجل هذا التدقيق فلنعلن تقبلنا بداية لفرضية نهاية العروبة إذا أثبتت الحقيقة والواقع مثل هذه النهاية. وعلى «العروبيين» ألا تخفيهم مثل هذه الفرضية، فالعروبة في العصر الطوراني التركي والصفوي الفارسي لم تبق منها إلا لهجات شعبية خجولة تحت السطوة الرسمية للغتين التركية والفارسية، كما لم يبق منها غير وجدان مبهم لدى «أولاد العرب» كما سماهم الغزاة الآسيويون المتسلطون باسم الإسلام، لكن العربية مدعومة بالقرآن الكريم وما ارتبط بها من وجدان وثقافة عربية انبعثت حية في فجر النهضة، وكان عليها أن تخوض معركة مصيرية أخرى ضد دعوات الحرف اللاتيني والتفرنج اللساني وسواها، وكانت الصرخة الشهيرة لشاعر النيل حافظ إبراهيم عام (1902) في نعي اللغة العربية من العلامات الفارقة والمعبرة في تجسيد هذا الاشفاق:

فلا تكلوني للزمان، فإنني

أخاف عليكم أن تحين وفاتي

أرى لرجال الغرب عزا ومنعة

وكم عز أقوام بعز لغات

أيطربكم من جانب الغرب ناعب

ينادي بوأدي في ربيع حياتي؟

هكذا تكلم حافظ عن العربية قبل أكثر من مائة سنة. ولأني عشت أجواء هذه القصيدة الولود في وجداني، فإني لم أجزع للمرثية النثرية التي كتبها في نعي العربية المعاصرة الشاعر المغربي محمد بنيس في صحيفة (الحياة) مؤخرا على ما فيها من تفجع.. فما أشبه الليلة بالبارحة وان اختلفت الظروف.

وأستغرب كيف أن مثقفا نابها كمحمد بنيس وقع في هذه الانفعالية بشأن مستقبل العربية متأثرا بظواهر الأشياء، دون أن يتعمق الأمر في الجوانب الموضوعية للمسألة، وأخشى أنه وباء «قصيدة النثر» التي لا تزدهر في عرف أصحابها إلا بمثل هذه السوريالية السوداء بمعزل عن المعطيات الموضوعية لمضمون اللوحة وليس خطوطها الخارجية الصارخة.

وكان رد الاستاذ عمرو موسى أمين عام الجامعة العربية على شاعرنا المتفجع بإخلاص في الصحيفة ذاتها فعل ايمان ببقاء العروبة ولغتها (والعربية اللسان).

سنعود الى اللغة كأساس للقومية وثقافتها ووجدان اهلها. الا اننا نريد في هذا الموضوع ان نتوقف لنشير الى اننا في مرحلة رفعنا الحقيقة القومية الى مصاف المطلق واسقطنا الحقيقة الدينية. واليوم كردة فعل نحمل الحقيقة الدينية اكثر مما تحتمل ونخرج بها عن نطاقها الطبيعي الذي اراده الله لها مسقطين بالمقابل الحقيقة القومية وكأنها لم تكن ولن تكون رغم اشارة القرآن الكريم اليها في نطاق السنن الكونية ورغم ما تقدمه الاوضاع العالمية الى يومنا من شواهد.

والواقع ان القومية لم تنقرض الا في اوهامنا وها هي خريطة العالم من اليابان والصين في الشرق، مرورا بروسيا وصولا الى اقاصي الاميركيتين تقول لنا بكل لسان ان الحدودالسياسية لعالم اليوم مازالت هي حدوده القومية واذ عادت الاممية السوفياتية الى حدودها القومية السابقة في «كومنولث الدول المستقلة» (مستقلة على اي اساس غير الاساس القومي؟) فإن الكتلة الاوروبية تلتحم على اساس حدودها القومية في اطار الوحدات التي كانت وما تزال دولا مستقلة شاءت بإرادتها القومية نكرر: بإرادتها القومية، ان تشكل تجمعا اكبر تتجانس قومياته بروابط الحضارة والثقافة المشتركة في امتداد جغرافي متقارب.

وبنظرة تاريخية مقارنة فإن القوميات كشخصيات جمعية عبر التاريخ ـ غيرت اديانها ونظمها وايديولوجياتها في ضوء تجارب النجاح والاخفاق ومتغيرات المراحل التاريخية لكنها لم تتغير في الجوهر ككيان انساني قائم بذاته.

كم مرت على اليونان ـ مثلا ـ من عصور وثنية وفلسفية ومسيحية وعلمانية لكن اليونان بلغتها وثقافتها ووجدانها وشخصيتها الجمعية الموحدة مازالت هي اليونان! وكذلك روسيا من وثنية الى ارثوذكسية وقيصرية الى شيوعية الى رأسمالية من جديد.. كل هذه المعتقدات والايديولوجيات تغيرت إلا .. روسيا كشخصية قومية!

ونظرا للهزائم المتوالية والمظالم المتتابعة التي تعرضت لها الامة الالمانية الحديثة وهي من ارقى أمم أوروبا ورائدتها في الفلسفة والموسيقى وثقافة العمل المنظم ـ استطاعت فكرة عنصرية كالنازية التحكم في وجدانها وواقعها فحاربت العالم كله تقريبا الى ان تحولت قصباتها الحضارية بفعل الحرب الى ركام وخرائب وتقسمت بين المعسكرين الغربي والشرقي. لكنها تحررت من عقدة النازية بعد مرارة التجربة دون ان تتحول قيد أنملة عن قوميتها الالمانية وحنينها الى استعادة وحدتها القومية رغم هول الكارثة. لم يخرج الالمان من جلدهم القومي ولم يتنكروا لملامحهم القومية وهم يعانون الذل تحت اعلام المنتصرين من الشرق والغرب .. الى ان جاءت لحظة الخلاص فسقط جدار برلين 1989 ومعه جدار التجزئة واستعادت ألمانيا وحدتها القومية بثمن اقتصادي باهظ دفعه الشطر الغربي من كده وعرقه من اجل المانيا الموحدة التي اصبحت اليوم اقوى الدول في الكتلة الاوروبية واحد الاعضاء الجدد المرشحين لدخول مجلس الامن في اطار العضوية الدائمة.

ولنا ان نتساءل ونحن نقارب موضوع (العروبة في الخريطة السياسية العربية) كيف كانت الخريطة السياسية الالمانية بين 1945 ـ 1989 هل سقطت منها، هكذا ببساطة الاعتبارات القومية؟ ام ان العمل القومي الدؤوب استمر لدى الالمان بصبر الى ان جاءت اللحظة المناسبة؟ فالقومية اذن لم تنقرض الا في اوهامنا وعلى من يساورهم هذا الوهم في عالمنا العربي ان يراجعوا انفسهم ويحتكموا الى الدراسات المقارنة في حياة الامم وليس الى وعاظ البؤس والفجيعة وما يصدق على المانيا يصدق على ايطاليا حليفتها في الحرب العالمية الثانية مع تجربة موسوليني الذي ضحى به المحررون الايطاليون رغم ما قدمه لايطاليا من انجازات قومية في بداية حكمه. حدثت هذه التضحية بالرجل من اجل ايطاليا.. ومن اجل بقائها موحدة في عالم ما بعد الفاشية التي رفضت ايطاليا الانحباس في بوتقتها والمشكلة في الفكر القومي العربي المعاصر انه يحبس مفهومه القومي في الوحدة السياسية وحدها وهذه نقطة الضعف الكبرى في بنائه القومية «وجود» قبل ان تكون وحدة سياسية «وجود» قد تحتاج الوحدة السياسية بعد حين وقد لا يحتاجها ايضا او لا يستطيعها في بعض المراحل دون ان يعني ذلك نهايته.

كان للعرب في الجاهلية وجود وصار لهم في ظل الاسلام وجود متغير آخر وتعددت دوائرهم السياسية مع بقائهم عربا ثم انكمش وجودهم في التاريخ لكنه لم ينعدم عندما سيطر عليهم الرعاة الآسيويون باسم الاسلام وحينها نبه الشاعر العربي المتشيع أبو الطيب المتنبي قومه العرب «وما تفلح عرب ملوكهم عجم» قصد بذلك سيطرة الاجانب كافة ولم يقصد عرقا بعينه فالعجمي في المصطلح العربي الاصلي من لم ينطق بالعربية بالسليقة وهذا يؤكد أن العروبة من حيث هي قومية لغوية في الاصل قبل أي اعتبار آخر وذلك ما سنعالجه فيما يتبع.