الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #54  
قديم 05/02/2004, 09:48 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
وراء اليوميات البالية التي ضجرنا منها ونتسلى عنها بمتابعة ضجر الآخرين ثمة ما هو إيجابي
سوسن الأبطح



اعترض ما شئت على «ستار أكاديمي»، وصوّت وأولادك لطلابه في اليوم التالي فهذا حقك، لكن اعترف لهذا البرنامج ببعض الفضائل التي تسجل له، والتي يليق بالإيجابيين من الناس التقاط شراراتها.
والأجدى من النواح الإفادة من المتاح ولو كان قليلاً. وعملاً بمقولة إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، ليس أمامنا سوى تعداد فضائل الموجود. فنحن لا ننكر على برامج «تلفزيون الواقع» التي بدأت زحفها إلى العالم العربي، سلطتها، وقدرتها الجبارة على إغواء العموم بالتفاهة والإيحاء لهم بأنها تفعل العكس، فهذه فلسفتها ووظيفتها الأولى، التي يعترف بها ضمناً مبتكر البرنامج الأشهر في هذا المجال «بيج بروذر» الذي دوّخ مئات الملايين من المشاهدين حول العالم. فالفنان المبدع جون دو مول صاحب الفكرة الجهنمية التي يصعب إحصاء ما حصدته من ضخم الأرباح يقول: «لقد ابتكرنا صنفاً جديداً وأرينا بوضوح كيف ان الناس العاديين قد يكونون شخصيات مهمة، وان جارك في العتبة الذي لا تلقي له بالاً يمكنه ان يدهشك». ولا نعرف إن كان أبطال يومياتنا المتلفزون يدهشوننا أم يدخلوننا في خدر باهت. لكن الفاتحة العربية لهذا النمط التلفزيوني، ببرنامج «ستار أكاديمي»، الذي تمثلت فيه الأمة بأبنائها، وما يعتريهم من حماسة، تثبت لمرة جديدة ان الجسر الفضائي الثقافي المفتوح بين الشرق والغرب يوحد تدريجياً الأذواق والخيارات معاً، وان دلال الرافضين للعولمة الثقافية هو أشبه بصرخة تائهة في واد. وما هو معلوم عن الصورة بأنواعها، الجامدة منها والمتحركة، انها استطاعت بسرعة قياسية ان تتحول إلى المصدر المعرفي الأول للبشر وتشكل ثقافة العامة على وجه البسيطة. ويشرح دانيل بونو الباحث الفرنسي في علوم الاتصال ان ميكانيكية التعامل مع المشهد مختلفة عنها تماماً مع النص المكتوب، فإن كانت مع الثاني تفاعلية يقظة فهي مع الأول استسلامية كسلى. فأمام الشاشة يميل الإنسان للارتخاء، مما يفسر الشعور اللذيذ بالنعاس وكأنما هو دخول في الحلم. ففي الحلم قليل من الكلام كما يقول فرويد، وحين يكون ثمة كلام فإنه يختلط بالصور.
وبرنامج مدته طول الليل والنهار على طريقة «ستار أكاديمي» يفتح السؤال عربياً لا حول قدح القيمين على البرنامج أو مدحهم، فهم محكومون بحسابات الربح والخسارة، وإنما، وهذا الأهم: أي إنسان حضرنا لزمن كل نتاجاته ماكرة وحمّالة أوجه، تعطي الإنسان ما يريد، وتتركه أعمى أمام وجوهها الأخرى وحيلها الزئبقية الملتبسة. فأمام أبطال «ستار أكاديمي» بإمكانك ان تجلس طوال النهار وبيدك النرجيلة وإلى جانبك صحن ترمس ليحلو التلصص على الطلاب، وتعرف ما أكلوا، وكيف شربوا، ومن مازح من، وكيف تنام صوفيا، وما هي خصوصيات غفوة محمد عطية أو بشار، وأيتهما هي التي ستفوز بقلب هذا أو يفوز ذاك بقلبها. وكثيرون يتتبعون الجلسات الطويلة للطلاب لاختلاس لحظة حميمة ما بين أحد الشبان مع إحدى الفتيات. وهؤلاء غالباً ما يخيب ظنهم وبإمكانهم أن يفرحوا لأن التكنولوجيا ما تزال قاصرة عن نقل الروائح وإلا لابتلينا فوق الثرثرة بمن ينسى تغسيل قدميه أو يتأخر عن موعد حمّامه. وراء اليوميات البالية التي ضجرنا منها في حياتنا ونتسلى عنها بمتابعة ضجر الآخرين، وهنا لب الكارثة، ثمة ما هو ايجابي. دع جانباً النقد القاسي الذي وجه عالمياً لكل برامج «تلفزيون الواقع» وهي تكتسح البيوت وتسمر الناس أمام الشاشات، طوال السنوات الثلاث الماضية. وتخلص من الأفكار المسبقة، عن لعنة الصورة، وخبثها، وانظر كيف يدفع هؤلاء الشبان إلى نحت أجسادهم وأصواتهم وصبرهم ومقدرتهم التعبيرية لينتقلوا من حيز الجهل بالذات إلى إدراكها ووعي إمكاناتها المخبوءة. ولسنا هنا بوارد الحكم على أساتذتهم وما حققوه من نجاح أو إخفاق، وإنما مجرد اعتبار العمل والمثابرة هما الميزان الأول للبقاء او الخروج من اللعبة، يستحق من المتفرج نظرة نقدية لذاته الجالسة ببلادة استفزازية على كنبة مقابل شاشة. برنامج هدفه السطو على وقتك أكبر فترة ممكنة، لكنه أيضاً برنامج يضعك أمام اختبار ذكاء. فهل تريد ان ترى وجهه الثرثار وتترقب مشاهد كاميراته الوقحة المسلطة على حياة أناس قبلوا ان يكونوا في أنبوبة اختبار من خمسة نجوم، أم انك تفضل ان تتحول طالباً إضافيا يتعلم تقنيات نحت القدرات وأنت جالس في بيتك؟ أم تراك تكتفي بالسهرة الأسبوعية وضيوفها المحترفين من النجوم؟ هل تذوب بكليتك في حياة الأكاديمية أم تقتنص من تفاصيلها ما تريد؟ أم تراك تملك زمام أمورك وتدير ظهرك بالكامل لألاعيب «تلفزيون الواقع»؟ قل لي من أي زاوية تنظر إلى «ستار أكاديمي» أقل لك من أنت؟ وكيف تتعامل مع جهازك الكومبيوتر وأي الخدمات تستخدم أقرأ لك شخصيتك؟ وما هي طبيعة مكالماتك التلفونية أكشف لك المستقبل؟ وبكلام أوضح فليس في أدوات الحداثة ونتاجاتها من جيد ورديء. فكما يمكنك أن تقرأ كتاباً إباحياً بعيني محلل نفسي أو مخرج سينمائي أو زير نساء أو فضولي شمولي، والقراءة ليست في كل الأحوال واحدة، يمكنك كذلك ان ترى ما تشاء من البرامج ولن تكون حصيلتك منها مع الجالس بقربك بالضرورة ذاتها. فلقد راهنا طويلاً جداً على حماية الإنسان باعتباره قاصراً، واخترعنا لذلك أجهزة ومؤسسات ونظريات، ثم باغتنا العالم المتطور بمعداته وأجهزته المعدة للراشدين فقط، وصرنا في هلع وضياع صبي، كبير الهامة صغير السنّ، دخل بطريق الخطأ لحضور فيلم يناسبه حجماً ويتجاوزه عمراً. وهذا كله يذكّر بقصة الزاهد الصوفي الذي قعد أمام حبة فول وأخذ يتأملها بشغف فشعر بأن الكون كله يتكشف أمامه منها. والزاهد هذا لا يشبه في أي حالٍ رجلاً آخر قد يكون في نفس موضعه، لكنه لا يستطيع ان يرى في الحبة عينها غير الوضاعة والحقارة. ولله في خلقه شؤون


المصد جريدة الشرق الاوسط