عرض المشاركة وحيدة
  #2  
قديم 10/11/2006, 01:26 PM
السفير الحزين السفير الحزين غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 20/06/2002
الإقامة: في قلوب الأوفياء
المشاركات: 2,678
تاااااااااااابع

وفي الليل الفائت أحس سعيرا في أحشائه .. وحاول أن يحرك ذراعه وإذا هي ثقيلة .. جسده كله أشبه بكيس من الرمل ... بعد مشقة وصلت يده إلى كأس من الماء كان بقربه , رفع الكأس إلى شفتيه وسقط أكثر الماء على صدره ... ولكن القليل وصل إلى فمه الذي أحس بأنه أطفأ الظمأ الذي كان يفترسه ... ومنحه ذلك القدرة على الالتقاط الأنفاس ... ووجد أن يستطيع أن يفكر في الموت بهدوء ... وأنه يقوى على النظر إلى الوراء ... إلى ماضيه ... وكيف عاش في دنياه من أول شبابه وحتى هذه اللحظات التي يحس أنه وصل إلى محطة الموت ... ودخل نسيم رقيق عبر النافذة المحطمة واختلط الأمر على المحتضر ... خيل إليه كأن أنامل رقيقه هي التي تلمس جبينه .. كانت الأنامل الرقيقة حلمه الذي اشتهى دائما أن يحصل عليه ... لكن الحلم كان يهرب منه ويراوغه ... إنه نشاء يتيما لا يذكر له أما قبلته ... ولا أبا ضمه إلى صدره .... وفي الدكان كان " المعلم " يضربه لأقل هفوة ولكنه كان يتحمل الضرب ... وكلما طرده المعلم كان يعود .. لأن المعلم كان يصلح الآلات الموسيقية ويشد أوتار العود التي تتراخى ... وكانت النغمات التي تنبعث في الدكان أثناء العمل تستهويه .. وتطربه وفي سبيلها يتحمل العنف والضرب ... ولكنه في الأخير قرر الإنتقام فسرق عودا وهرب من البلدة إلى المدينة ... ولم يشعر بالوحشة والعود معه كان يداعبه بأنامله ... وكانت تصدر منه نغمات تؤنسه ... وكانت نغماته تشبه في البداية تشبه صرخات طفل ... ولكن الفتى كان صبورا , وصار العود صديقه الذي يبادله الشجن . ومع السنين صار قادرا على التلحين ... وصار تلحينه مقبولا وقد اتاح له هذا القبول التنقل بين الصالات والمسارح والحانات والأرصفة وكان له على الدوام السيد الذي يسطر عليه ويؤذيه وهذا السيد كان كأس الخمر ؟؟!! كان يهرب من الخمر .. لكنه كان يعود إليها من جديد لأنها كانت تعطيه ما ينقصه !! ... تقربه من الحلم الذي ينأى عنه , أن يصبح فنانا مشهورا . ولكن لقنته الكأس أن نشوتها إلى حين ... أنها نقاب رقيق على وجهه الحقيقة سرعان ما يتمزق ... كان الملحن يفيق ويتذكر أنه مخمور وسيضل مخمور .

له رفاق عمل التقى بهم منذ أعوام نجح بعضهم وصعد سلم الشهرة ... منهم من يتجاهله إذا رآه , ومنهم من يعطف عليه ويدس في جيبه ويهبه بعض النقود .... أو يساعده في البحث عن عمل متواضع في الوسط الفني إذا عرف أنه عاطل عن العمل .
المرأة التي أعطته هذه الحجرة على السطح في بيتها المتداعي راقصه قديمة مخمورة أحالها الترهل وتآكل المفاصل إلى التقاعد , وقد منحت حجرة السطح للملحن صدقة .. لأنه من مضاليم الفن مثلها , وقد تدعوه ليجالسها ويؤنس وحشتها ... وتحكي هي بدورها له عن عشاقها من الممثلين والمشهورين في أعمال كبيرة . أحس الملحن وهو يجود بأنفاسه أنه يريد أن يستسلم لنوم طويل , وأطبق جفونه على دمعتين كبيرتين , وأذاب الموت في هاتين الدمعتين حبه للحياة ... ألحانه التي قوبلت بالتجاهل ... وشوقه الدائم إلى فتاة ترحم شبابه وتمنحه قبلة صادقة.

وعصرت الحسرة قلب البلبل وطار من غصنه مرة أخرى إلى الشجرة القريبة من غرفة المليونير المسجي على فراشه " ورآهم يلفونه في أكفان من حرير ورأى ساحة الفيلا قد ازدحمت من كثرة المشيعين من علية القوم ... وسمع البلبل شابا يتكلم وكان هذا الشاب هو ابن المتوفي من زواجه الأول وهو يتهم الزوجة الثانية بأنها إغتالت التركة ويكاد يلعن أباه لأنه توفى فجأة ... وترك البلبل الابن الخانق وأصغى إلى الرجل في الجهة الأخرى وهو يقول لصاحبه " المرحوم كان واثقا من نفسه وكان يعمل لدنياه ويغفل آخرته إن مظالمه ومخازيه لا تعد ولا تحصى "... ونهض الناس عند ظهور الجثمان .. وأجهش البعض بالبكاء .. والخلصاء يحملون الجثمان , وقال أحدهم للسائر إلى جواره وهو يرفع منديله على عينه " إن موته اليوم خسارة كبيرة , كنت اليوم على موعد معه لكي نوقع العقد .. لكن يا خسارة راحت الصفقة "؟؟.... وعندما وصلت الجنازة إلى المقبرة كان البلبل



في انتظارها .... فوق شجرة كبيرة , وملاء العجب قلبه لأن الرجل الذي سمعه قبل قليل وقف الآن وأخذ يلقي أبياتا من الشعر المؤثرة عدد فيها مآثر الفقيد؟!! .... وعجز البلبل عن الفهم والتفسير وأخذ يطير من شجرة إلى شجرة وهو شارد الذهن ... ثم تذكر الميت الفقير في حجرته الفقيرة وثار فضوله وأحب أن يعرف هل اكتشفت الراقصة العجوز التي تأويه ما حاق به , وطار إلى هناك وقص عليه عصفور كان يقف في حافة النافذة محطمة كل ما حدث في غيابه ... لقد صعدت صاحبة البيت إليه لتقدم له طبقا من الفطير جاءها هدية من أحد أصدقائها القدامى .... فاكتشفت أنه نائم إلى الأبد وعلا صراخها ... فقد فقدت المستمع الصبور لأمجادها وقصة حياتها , وبارك الله في جمعيات دفن الموتى والفقراء وفي أهل المروءة .... جادت عليه الجمعية بالكفن , وحمل الجيران الجثمان واشترك البلبل في تشييع الجنازة .... وأشفق على الجثة وهي تتأرجح في الخشبة ... لأنه لم يكن لحاملي النعش مزاج في السير المتمهل , كان احدهم فنانا من رفاقه القدامى .. وكان الثاني بائع نصيب اعتاد أن يشارك الفقيد ورقة من أوراق البخت يساهمان معا في ثمنها لشراء زجاجة خمر أو سيجارة .

وغرق البلبل في أفكاره وهو قابع في الشجرة الكبيرة وسال نفسه في حيرة : ما جدوى الحياة ؟؟.... ولم يشعر بالظلام وهو يهبط ويترك وراءه صمت رهيب في القبور .... وأخذته إغفاءة ثم أفاق مذعورا على صوت قريب , أنه شاعر آخر مصمم أن يلقي قصيدة , ووقف الشاعر عند قبر الموسيقي وألقى قصيدة كئيبة ... ثم انتقل إلى ناحية قبر المليونير وألقى نفس القصيدة .. فجادت قريحته برثاء لا ملق فيه ..... وعاد البلبل وقد ملاءة القصيدة قلبه حزنا وأتعبه الحزن , وكف عن التغريد , ومرض ولزم عشه ولكنه تذكر الصبي الصغير إبن المليونير الراحل .... وقرر أن يتحامل على نفسه ويطير إليه ليسليه ... وعندما وصل إلى الفيلا بحث عن الطفل ووجده في الشرفة ولكنه لم يجد في عينيه الدموع التي جاء البلبل ليجففها .. كان الطفل مرحا مشغولا بلعبته الجديدة , وحمد البلبل الأم أنها عرفت كيف تنسي صغيرها فجيعته في أبيه .. وطار البلبل إلى نافذة أخرى من نواحي الفيلا الضخمة , لكنه وقف مندهشا لأنه لم يجد الأم على حزنها !! بل وجدها مهتمة بمجموعة من الملابس السوداء كانت تجربها أمام المرآة وتروح فيها وتجي ... وسأل البلبل نفسه أهي ثياب حداد أم ثياب سهرة ؟؟؟؟ فقد كانت جميعها تفصح عن صدرها وتدل على روعة خصرها ..... وجاءت الوصيفة وهمست في أذنها " بأن المحامي وصل " وقبل أن تغادر السيدة الحزينة الحجرة للقائه مست شفتيها الحزينتين بأحمر الشفاه مسا خفيفا ... وكانت نافذة الصالون مفتوحة ورأى البلبل الأرملة المسكينة وهي تدخل واستبقى محاميها يدها في يده وهو يسألها في إشفاق : " ما كل هذا الشحوب ... وإلى متى الاستسلام للحزن "؟!!