الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #67  
قديم 20/02/2004, 08:52 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
أحلام مستغانمي وكسر تابو الرجل
2004/02/19


د. نبيه القاسم

أعادتني المبدعة أحلام مستغانمي في لقائها في برنامج تلفزيوني استضافها اخيرا إلي ذلك اللقاء الصدفة الذي كان لي مع المؤرخ الفلسطيني ابن مدينة نابلس المرحوم إحسان النمر. فبينما كنت أقلب الكتب في إحدي مكتبات مدينة نابلس بعد احتلالها في حزيران (يونيو) 1967 وأسأل صاحب المكتبة عن ديوان لفدوي طوقان، اقترب مني عجوز نحيف البنية، وقور، طالبا التعرّف بي، وبعد التعارف السريع دعاني لزيارته. وفي طريقنا الي بيته وفي البيت اهتم أن يقنعني بأنّ فدوي طوقان لا تُبدع الشعر وإنّما تسرق قصائد أخيها المرحوم ابراهيم طوقان وتدّعيها. أنصتُ إليه ولم أناقشه لادراكي زيف قوله وجهله للشعر، واحتراما لسنوات عمره ولكونه صاحب كتاب تاريخ جبل النار .
وفي بداية عام 1989 وخلال أمسية شعرية في معرض القاهرة الدولي للكتاب كنت اجلس الي جانب الكاتب رجاء النقاش وبعض كتاب مصر من شعراء ونقاد وأدباء نستمع الي الشاعرة سعاد الصباح وهي تنشد علي المسرح أمامنا قصيدة تُهاجم بكلماتها عقلية الرجل الشرقي الذي لا يري في المرأة غير كونها لعبته الجنسية رافضا صداقتها أو التعامل معها بنديّة. وكانت سعاد الصباح وهي تقذف كلماتها المتّهمة تنظر الي جالسي الصف الأول من الكتاب والشعراء، فقلت لرجاء النقاش مازحا: إنها تخاطبك أنت ومن تتهمونها بمصداقية شعرها. وابتسم رجاء ولم يُعلّق. وفي تلك السنوات كانت سعاد الصباح تتعرّض لحملة تشهير واتّهام بأن الشاعر نزار قبّاني هو الذي يكتب لها القصائد، والبعض يقسم بأنّه رأي مسوّدات القصائد بخط يد نزار.
وتتعرض المبدعة أحلام مستغانمي في السنوات الأخيرة لهجمة محمومة تبغي التشكيك بمقدرتها الابداعية، فمنذ صدور روايتها ذاكرة الجسد عام 1993 وعلامات الاستفهام تلاحقها، مُشككة في كتابتها للرواية، فأحيانا يتّهمونها بسرقتها من الكاتب المرحوم مالك حداد الذي أهدته إيّاها في تقديمها. والبعض ينسب الرواية للشاعر العراقي سعدي يوسف، الذي كما يبدو فرح بهذه الضجة التي جعلت منه نجما فآثر الصمت واكتفي بالتلميح لخلق الهالة حوله. وهناك كرجاء النقاش من اجتهد لعقد مقارنة بين رواية ذاكرة الجسد ورواية وليمة لأعشاب البحر للكاتب حيدر حيدر، والهدف هو انكار إبداع أحلام مستغانمي للرواية.
النجاح اعتداء علي الآخرين، لأنّه يكشف فشلهم . هكذا ردّت أحلام مستغانمي علي اسئلة مقدم البرنامج الشاعر زاهي وهبي. ووصفت سعدي يوسف بالسلبية والغدر و بالمبدع الذي يقتات من المنفي ، واتهمت رجاء النقاش بعدم الموضوعية في نقده وبحثه. وقالت متحديّة: ليس ذنبي إذا نجحتُ . وأكدت أن هذه الحملة دليل نجاحها، وأن العمل الابداعي هو الذي يُحاكم النقّاد الموهومين فالشبهة مؤنّثة والخطيئة كذلك .
لقد اعتاد القارئ العربي علي أن الابداع مقتصر علي الرجل، امّا المرأة فمكانها في الابداع يتلخص في الانجاب والطبخ والكنس وبتدبير شؤون البيت. وإذا ما خرجت واحدة عن الطوق يُسارعون للتقليل من شأن ما قدّمت.
عرفنا مثل هذه النظرة الذكورية الاستعلائية قبل وزمن الخنساء، واستمرت في تهميش إبداع المرأة علي مرّ العصور. حيث يري الرجل المُبدع في إبداع المرأة محض تسليات لا تُؤخذ بالجدّ الكافي، حتي أنّ المرأة المبدعة نفسها كان يُلازمها الشعور بالوهن والخوف من تجربتها ومن عدم قدرتها علي الصمود أمام تجارب الرجال، فتنكفئ علي ذاتها وتنسحب من الساحة الأدبية كما تقول الكاتبة فاطمة المحسن.
وكما حصر النقد العربي القديم إبداع المرأة في موضوع الرثاء فقط كما عبّر عنه بروكلمان في قوله: علي أنّ إظهار الحزن لم يكن يُناسب رجال القبيلة، كما كان لائقا بنسائها وخاصة بالأخوات، ومن ثم بقي تعهد الرثاء الفني من مقاصدهن حتي عصر التسجيل التاريخي تاريخ الادب العربي 1/84 وكما اشارت إليه بنت الشاطي بأن النقاد العرب القدماء حصروا شاعرية المرأة في الرثاء فقط، متأثرين في ذلك بأوضاع مجتمعهم الذي وأد الانثي عاطفيا واجتماعيا ولم يعترف بالنساء غير راثيات الخنساء ص 59 هكذا نجد نقاد وأدباء العصر الحديث أطّروا المرأة في صورة الرجل ومثاله في الجمال، ولم يفصلوا بين المرأة والجسد، وأنّ المرأة تمثل طرفا في علاقة تقوم عل الحب والعواطف أوّلا، وحضورها لا بدّ ان يُصاحبه طقسه الخاص المتمثل بالرغبة الجنسية. كما تقول الكاتبة فاطمة المحسن.
الرجل العربي لم يعترف بقدرة المرأة علي الابداع، فبشار بن برد يقول: لم تقل امرأة شعرا إلا ظهر الضعف فيه . ومثله استخف الرجل، في عصرنا الحديث، بابداع المرأة واعتبره محض تسليات لا تُؤخَذ بالجد الكافي .
قد يعود هذا التقزيم لمكانة ودور المرأة في الابداع الادبي الي ما اتّسم به إبداعها من ضعف وركاكة لغوية. وهذا ما حاولت الكاتبة غادة السمّان أن تتحداه وتتخطّاه بقدرتها علي التلاعب بمفردات اللغة، واكسابها الدلالات العديدة، وأن تجمع في لغتها ما بين الشعر والنثر، فتأتي لغتها شاعرية هامسة مثيرة تأخذ بالقارئ وتأسره.
ورغم ان النقد ظلّ يتعامل مع أدب غادة السمّان بكونه فن التسلية والإمتاع إلاّ انّ غادة بكتاباتها الابداعية استطاعت أن تقدّم هوية لغويّة للكتابة النسائية تُضاهي بها الرجل وتزيد. ولم يستطع احد ان يتهم غادة السمّان في ابداعها أو ينقصها قدرتها أو يشكك في نسبة ما تكتب إليها.
هذا القبول لإبداع غادة السمان مع حصره في مجال محض التسلية سرعان ما انقلب الي رفض تام وعداء سافر مع أحلام مستغانمي، حيث استكثر الرجل عليها هذا الابداع المدهش الذي كسر تابو الرجل علي الابداع واللغة. وبينما استطاعت غادة السمّان في كتاباتها ان تتحدّي الرجل في تعاملها مع اللغة بجملها المصقولة ومنولوجياتها الشعرية الآسرة، وعملية التوتر والاسترخاء في اللغة مع الاثارة الأخّاذة. فانّ أحلام مستغانمي سحبت التابو علي اللغة نهائيا من الرجل، وعرّته وكشفت ضعفه امام امكانيات اللغة التي لا حدود لها. أحلام مستغانمي فجّرت مفردات اللغة وكسرت تركيبات جملها، وكتبت لغة تكاد لا تجد لها الوصف الملائم.
لغة تأخذ قارئها في رحلة خاصة لا يعرف كيف العودة منها، ولا يفكر بذلك حتي اذا ما وصل الي الكلمة الاخيرة من الرواية يُصاب بحالة من الذهول لا يخرج منها إلاّ وهو علي غير ما كان سابقا.
هذا التميز والتفوق للغة احلام مستغانمي هو الذي جعل الكثيرين من الرجال المبدعين يستنكرون اقتحامها اختصاصهم، ويرفضون التسليم بتفوقها، فراحوا يشككون بانتساب روايتها ذاكرة الجسد إليها، وكل يدّعي أو يوهم بنسبتها إليه ويجد من يساعده في إثارة الشك وإثبات تهمة التزوير. وكان جواب أحلام مستغانمي حاسما بقولها: المبدع يردّ علي كلّ فاجعة بكتاب وليس بمعارك .
وكان ردّ احلام مستغانمي الحاسم والقاطع والمسكت إصدارها لروايتيها فوضي الحواس عام 1998 و عابر سرير عام .2003 فأسكتت الألسن وكشفت العورات رغم أن الجرح الذي خلّفته تلك الاتهامات لم يندمل بعد.
أحلام مستغانمي هي المثال للمرأة المبدعة القادرة علي إثبات تفوّق المرأة علي الرجل وتعريته في حالة ضعفه واستسلامه.

كاتب من فلسطين