عرض المشاركة وحيدة
  #40  
قديم 06/05/2006, 01:10 PM
السيد2 السيد2 غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 28/10/2001
الإقامة: عمــــــــــــــــــــان
المشاركات: 188
الموضوع نقلا عن مقال بجريدة الوطن صفحة ثقافة وفنون بعنوان (كلمات جادت بها النفس في لحظة فقدنا فيها العلامة سالم بن حمد الحارثي ) :

في يوم حزين مبلل بالدموع فقدنا فيه أبا عطوفا ومعلما غيورا وشيخا كريما حمل راية العلم وعمل جادا مخلصا على إصلاح ذات البين وقضى حياته في خدمة الناس والوطن حتى أضحى سجله العلمي وآراؤه الفقهية وفلسفته في الحياة وجهوده في خدمة قضايا المجتمع وتاريخه الحافل في سلك القضاء مدرسة ثرية قائمة بذاتها تتطلب من الباحثين وطلبة العلم أن يشمروا سواعدهم لإبراز مضامينها واستجلاء دروسها والاستفادة من تجاربها الغنية بالمعارف والخبرة والدروس القيمة الدافعة إلى الصبر والمثابرة , وقد قدم فقيدنا الجليل للمكتبة العمانية والعربية العديد من المؤلفات التي أضحت مرجعا للمؤرخين وطلبة العلم والباحثين وحقق العشرات من المصنفات ونظم العديد من القصائد في شتى المجالات , وخلف مكتبة تزخر بأمهات الكتب والمراجع التي نأمل أن تبقى كما أراد لها الشيخ أن تكون زادا للباحثين ومرجعا لطلبة العلم وأن يعي أبناء الشيخ أهمية هذه المكتبة وقيمتها العلمية والبحثية , وما يخالطني شك في أنهم حريصون كل الحرص على مرضاة هذا العالم الجليل وهو في مماته كما كان في حياته. تميز الشيخ سالم بن حمد بن سليمان الحارثي بالسخاء وبمكارم الأخلاق وحسن المعاملة ورقة المشاعر وبالعطف الأبوي الذي شمل الناس بمختلف مشاربهم ومستوياتهم فحصد حب جميع من عرفوه وعاشروه والتقوا به , فكان فقده مر المذاق على كل هؤلاء فعبر كل منهم عن مشاعره بصدق لا يخالطه تصنع وان اختلفت صور هذا التعبير بين الدموع والصدمة والكتابة الشعرية والنثرية التي انهالت من هنا وهناك. ومن الطريق الذي مرت فيه الجنازة حيث حملتها الأكف في أجواء مهيبة إلى المسكن الجديد الذي وضع فيه جثمان الشيخ تاه الفكر وأصاب النفس الشرود ,وفي المكان الذي غص بالمعزين حيث أخذ كل موقعه إلا موقع الشيخ بقي خاليا لم يشغره أحد وهو اليوم الوحيد الذي يشهد هذا الحضور الكثيف والشيخ غائب عن موقعه , عبرت النفس عن حدث جلل لم ولن نوفيه حقه:
الدموع في المآقي كحبات البرد تخمش مفارش العين ورموشها لتضاعف من عذاب النفس ومن وحشتها ومن كمدها , ذهل العقل وشلت قواه وتبلدت حواسه وعجز عن الإتيان بأي نشاط حتى لم يبق بينه وبين الجنون إلا شعرة , تجمدت المشاعر والأحاسيس فلم تواتها القدرة على استنشاق نسمات هواء عليلة أو التجاوب مع الجلبة الصاخبة والحركة النشطة الصادرة من أولئك الجمع الذين ما كانوا ليتنادوا ويقدموا ويجتمعوا بهذا العدد وفي هذا الموقع بالذات إلا لأمر جلل , ما هذا الحدث الكبير الذي شل حركته وألغى مفردات الذاكرة لديه حتى بات حاله أشبه بجذع نخلة تشارف على الموت ؟ ما الذي جرى له حقا ؟ ماذا حدث لنفسه التي تتحول من حال إلى حال بسرعة البصر ؟ ما هذا الجفاف القاسي الذي ينتشر في ثنايا الجسم المتعطش إلى قطرات ماء باردة تبل ريقه ؟ بذل جهدا ووقتا لكي يستجدي ذاكرته عسى أن تسعفه بالإجابة الشافية على أسئلته وتساعده على تشخيص حالته , بدأت الذاكرة تسعفه تدريجيا ..... بدأ أولا في استكشاف ملامح المكان والزمان , وزع بصره بين القوم خطى خطوات ايجابية وإن كانت بطيئة في التعرف على الوجوه .... أخيراً اكتشف بأن الجثمان قد ووري الثرى ومرت مراسم الدفن وخطوات تقديم العزاء دون أن يشارك هو فيها إلا بجسمه . فمن هو الميت حقا , المدفون في هذه الحضرة ؟ أم الجمع الذين شاركوا في تلك المراسم ؟ .
عندما جمعتنا المناسبة والتقينا في حدود المكان الذي ألف استضافتنا وألفنا نحن موقعه وهيبته وأهميته وعرفنا امتداد ارتباطاته وحجم علاقاته وشبكة اتصالاته مع أجيال غبرت وبادت لم يكن جيلنا إلاَّ امتداداً وحلقة من تلك السلسلة ، أدركنا كم هو عزيز وقدسي ومهيب مكاننا هذا بحدوده الجغرافية وأثره العامر وتاريخه التليد ورمزيته المحفورة في الوجدان . أما المناسبة في يومنا هذا فهي تختلف عما عداها من المناسبات والأيام الغابرة فالحزن القاهر والألم الصامت والدموع المنهمرة جزء أساسي من طقوس مناسبتنا ونحن نرى موقعك شاغراً ، ومكانك خالياً تقصر الأنفس عن اعتلائه وهي تدرك أنها دون ذلك ، وصوتك الموسيقي المؤثر لا يطرب ، ووجهك البشوش غائب عن الساحة فماذا حدث لك ومن ذا الذي نقلك من موقعك ومكانك ؟ وأنى لأنفس عرفتك فنهلت من غزارة معارفك وعلومك واغتسلت من ينابيع كرمك وسماحتك ونبل أخلاقك , أن تواتيها القدرة وتسعفها الشجاعة فتقف موقفا كنت أنت فيه رمز وصدر ووجهة ؟ . لقد كنت تبادرنا بالسؤال عن آخر الأخبار والمستجدات ، ولم يكن سؤالك تقليداً اجتماعياً كالذي يصدر عن الآخرين بهدف رفع التكلفة , أو كطريقة ذكية لآلية البدء في الحديث بل هو الشوق والحرص على الإحاطة بأخبار وأوضاع العالمين العربي والإسلامي وتحليل المخاطر التي تحيط بالشئون العربية والإسلامية وقراءة المستقبل عسى أن تستشف منه ما يثلج الصدر . كانت الدعوة إلى الوحدة والتآلف شغلك الشاغل وهدفك السامي الذي لم تحد عنه قيد أنملة . لقد كنت فوق السقطات والترهات وأعلى من كل التفاهات والنزلات وأجلَّ من أن تنالك الخلافات والنزاعات ، وأشـرف من أن تسقط في الأوحال والمستنقعات ، وأسمى من أن توقف سيرتك الصالحة المعوقات والمشكلات وإنك حقاً لأنت الأوفى لكل الروابط الحميدة والصداقـات , فهنيئاً لك مجدك وموقعـك الذي صنعته. إن مكارم الأخلاق نهجك الذي يجري في الدم مجرى العروق لم تحل عنه ولم تلتفت إلى غيره ولم تصطف به فرداً عن آخر مهما كانت درجة القربى وحجم المصلحة وموقع الأشخاص منك وتفاوت أنسابهم وأحسابهم ومناصبهم وأعمارهم ، لأنك عرفت قيمة الأخلاق وتذوقت نتائجها وأدركت عظمتها فكنت ترقى وتسمو وترتفع بها. تأبى نفسك إلاَّ أن تكون دائماً وأبداً في منزلة المعلِّم الذي يتجدد علمه ويرقى أسلوب حواره وتسود مكارمه ولطائفه وتسمو عظمته وقدره ،لقد كانت المروءة من خصالك والكرم من فعالك وتقديم العون ومساعدة الآخرين مهما كان نوعها وزمنها وقيمتها من شيمك , لا يغلق باب من أبوابها إلاَّ ويتم فتحه على يديك ولا داءً إلاَّ وبلسم شفائه من خلالك فأنعم بك أباً وسيداً وشيخاً شمائله الحنان والشفقة والعطف والمحبة والرحمة التي لا تقف أمامها حدود وخطوط ، ولذلك هفت إليك الأرواح وألفتك النفوس .لقد كنت حارساً يقظاً لكل من أراد انتقاصـاً من مبادئ الإسلام بشكل أو بآخر ، وكنت مدافعاً فذاً عن قيمه ومبادئه وقدواته إذا ما شعرت بأن بيننا من يحمل ضغينة أو حقداً يحاول تسويقها للمس ركن من أركانه أو جزئية من جزئياته ، وكنت سدا منيعا يحمي التقاليد والعادات الأصيلة والمرتكزات الاجتماعية التي تمثل صمَّام أمان تحمي أخلاق وسلوك المجتمع من الضياع والانحلال وكنت لا تتساهل مع أقرب المقربين عندما تحس بأنه قد مسَّ حواشي هذا الصمَّام. لقد كنت تسوق الأمثلة تلوى الأمثلة والقصة بعد القصة والعبرة مع العبرة وتعرِّج للحديث عن الشخصيات والقدوات التي تمثل رموزاً يحتذى بها ، كل ذلك من أجل تكريس وغرس قيم الإسلام ومبادئ الخصال الحميدة التي يتصف بها العرب ، كان الخوف يملاْ قلبك كلما هفت إليك إشارة بعكس ذلك . أخيراً يا شيخنا الجليل رحلت عن دنيانا وتركت لنا غصَّة في النفوس ، وتركت لنا كنوزا علمية لا تنفد فقد كانت حياتك مثالا على المثابرة في طلب العلم وفي تسخيره لمريديه وانقضت سنوات عمرك في البحث والتحقيق والتأليف وتجميع المخطوطات والمصنفات من داخل وخارج السلطنة حتى باتت مكتبتك الضخمة المتنوعة مصدراً وزاداً وقبلة لطلاب العلم والباحثين في شتى العلوم فقد كنت أمة لا فرداً وكلاًّ لا جزءاً واستثنائياً لا عادياً ، إن مرثيتك درس أسوقه إلى المجتمع حتى نتمكن من التوقف لاستلهام بعض من مبادئك ومثلك الراقية قبل أن يجرفنا تيار المادة الذي يسلبنا أروع ما نملك وقبل أن نفقد شخصيتنا وخصائصنا وخصالنا الحميدة.

بقلم:
سعود بن علي الحارثي (كاتب عماني)

منقولة من جريدة الوطن