الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #80  
قديم 31/03/2004, 10:13 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
دورة المجتمع المدني والعنف السياسي.. في البلاد العربية


د. علي الطراح

كان للتغيرات التي حدثت على الساحة الدولية، تأثير كبير على إعادة طرح موضوع المجتمع المدني، فقد أدى انهيار الاتحاد السوفيتي سابقا وسقوط جدار برلين والنضال الذي لعبته المعارضة للنظام الشيوعي في بولندا وبقية الدول الاشتراكية، إلى الإسراع في طرحه من جديد.
أيا كان الأمر، فإن طرح هذا الموضوع من جديد يشير إلى فشل النظام السياسي العربي في تأطير المجتمع والسير به إلى بر الأمان، فسنوات الأحادية الحزبية والنظام السياسي الشمولي والقمع الذي مارسته السلطة الحاكمة ضد كل من يعارضها في التوجه وطمس المجتمع المدني وعدم تفعيله والحاقه قسرا بالنظام السياسي، كلها عوامل ساعدت على بروز الأزمات التي عرفتها بعض الدول العربية من عنف سياسي، الذي مهما كانت مبرراته فإنه يعتبر كمؤشر لفشل الدول الوطنية ما بعد الاستعمار في جميع الميادين: اقتصاديا فشل برامج التنمية، اجتماعيا غياب فعلي لمؤسسات المجتمع المدني، سياسيا فقدان للشرعية السياسية وما يتبعها من حرية التعبير وغياب الديمقراطية.
فقد بدأ بعض الباحثين في العالم العربي استخدام هذا المفهوم النسبي «المجتمع المدني»، عندما ساد الاقتناع بأن الدولة العربية القطرية الحديثة (أي دولة ما بعد الاستقلال) فشلت في إيجاد الحلول للتحديات الناتجة عن التطورات السكانية والاقتصادية والسياسية التي واجهها المجتمع العربي في النصف الثاني من هذا الفشل فسّره كثيرون بأنه نتج ـ جزئيا على الأقل ـ عن الطابع السلطوي الذي اتصفت به معظم الأنظمة العربية والذي لم يتح مجالا كافيا للمشاركة الشعبية.
وهكذا غدا مفهوم المجتمع المدني يقدم إجابة عن العديد من المسائل، فهو الرد عن سلطة الحزب الواحد في الدول الشيوعية بإيجاد مرجعية اجتماعية خارج الدولة، وهو الرد على بيروقراطية وتمركز عملية اتخاذ القرار في الدول الليبرالية، وهو الرد على سيطرة اقتصاد السوق على الحياة الاجتماعية، وهو الرد على دكتاتورية العالم الثالث من جهة، وعلى البنى العضوية والتقليدية من جهة أخرى.
يشير مفهوم المدني إذن إلى التحول الهائل والحاسم الذي حدث في الفكر السياسي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر بوجه خاص. ويعبر عن الإرادة التي أظهرها الفكر الغربي الحديث عامة في الانتهاء من أزمنة العصور الوسطى والتخلص منها، بل وفي إعلان القطيعة مع النظام القديم جملة وتفصيلا والقول بنظام جديد يقوم على أسس مختلفة ومخالفة.
إن مفهوم المجتمع المدني يتجاوز المصالح الآنية الضيقة، إذ ان هدفه هو الصالح العام ومنشأه ودافعه هو العمل الحر الطوعي لصالح المجتمع، بل هو صمام الأمان للدولة وهو بارومتر التوازنات التي تحدث في المجتمع وهو فوق هذا أداة للتوازن والتنظيم تقف بين الدولة بسلطتها القهرية والمادية وبين المجتمع وتطلعاته التي قد تتجاوز ما هو مسموح به قانونا والحد من هذه النزوعات الأنانية التي قد تتخذ أشكالا تعبيرية تتنافى مع فلسفة ومبادئ المجتمع المدني.
قد يبدو للوهلة الأولى أن مقولة العنف السياسي أو اقتران كلمة السياسي بكلمة العنف، تعني أن العامل السياسي هو الدافع الحقيقي للعنف، وهذا الطرح ليس سليماً ولا يعبّر عن حقيقة الظاهرة ـ العنف ـ إذ تتشابك عدة عوامل وتتضافر لتفسير ذلك، وإذا كان ظاهرياً أن العنف الذي ظهر في بعض الدول العربية ارتبط بالأصولية والإسلام السياسي في العقود الأخيرة. ومن المفارقات، أن ذلك ارتبط أيضاً بدخول مصطلح المجتمع المدني إلى قاموس علماء الاجتماع العرب ـ ومن بين هذه الأسباب ما هو اقتصادي، وما هو ثقافي، وما هو اجتماعي، اضافة إلى العامل السياسي.
ان العنف ليس ظاهرة خاصة بمجتمع دون غيره، وليس بزمان دون غيره، فهو ظاهرة تاريخية عالمية، من هنا، وانطلاقاً من التفكير المنهجي العلمي السليم الذي يقول إن لكل ظاهرة سببا أو أسبابا تؤدي إلى حدوثها، وأنه لا توجد ظاهرة اجتماعية تنشأ من فراغ، يمكننا القول إن هذه الظاهرة ليست ظاهرة ذاتية المولد، بل ان أسباباً عديدة ومتضافرة تؤدي إليه وإلى ممارسته.
ان أحد الأسباب المهمة لظهور ظاهرة العنف السياسي، هو غياب مجتمع مدني أو عدم فعاليته، ويكفي أن ندلل على ذلك اقتران ظهور هذا المصطلح على الساحة الفكرية والعملية بظهور بوادر فشل الدولة الوطنية في تحقيق مطالب شعوبها وعلى جميع الصعد سياسيا فقدان الشرعية وغياب الديمقراطية والمشاركة السياسية الفعالة، والتعددية السياسية.. الخ، التي أدت في النهاية إلى توفير الأرضية الخصبة التي ترعرع فيها العنف السياسي وعلى ما يقول المفكر المغربي «عبد الإله بلقزيز»، لا يحتاج المرء إلى كبير شرح لبيان درجة الانسداد التي بلغها النظام السياسي لـ «الدولة الوطنية» في الوطن العربي الحديث، وليس من دليل أبلغ على ذلك من عجزه عن تقديم أجوبة حقيقية عن المطالب التاريخية للمجتمع العربي: النهضة، التقدم، والديمقراطية، التي كان بعضها في أساس قيامه أو على الأصح ـ من مزاعم قيامه، وليس من شك في أن هذا الإخفاق السياسي الذي يعيشه النظام الحاكم في دول العرب المعاصرة مرده إلى فقدان الشرعية التي يقوم عليها كل نظام حديث: الشرعية الديمقراطية الدستورية: فهو إما نظام نخبات عسكرية نشأت خارج الحياة السياسية الليبرالية المتواضعة، أو اما نظام قبائل وعشائر وطوائف ينهل ثقافته من النظام السياسي العصبوي القروسطي أو من نظم الحكم المحلي في أوائل العهد الحديث، أو نظام ثيوقراطي يستعيد تقاليد الدولة السلطانية التقليدية.
إذن العنف السياسي التي تقوم به الحركات الأصولية المتطرفة في البلاد العربية، يترجم حقيقة ويعبر عن الأزمة العميقة التي تعيشها الدولة الوطنية التي احتكرت لسنوات طوال كل المجالات والمنابر، وألحقت مؤسسات المجتمع المدني، إن وجدت بها، لخدمة مصالحها ومشروعها الآيديولوجي الذي فشل في الأخير نتيجة لقوة القمع والقهر التي مارسها النظام الحاكم على المجتمع. وللتدليل على صحة ما نقول، نجد ان النظام السياسي هو نفسه الذي كان سباقا إلى استعمال هذا المصطلح ـ المجتمع المدني ـ وشجع على استعماله وهذا لمواجهة الأصولية الدينية. وهذا اعتراف صريح أن غياب مؤسسات المجتمع المدني كان يمكن أن يكون صمام الأمان للدولة لتجنبها العنف السياسي الذي تحول في الأخير إلى إرهاب أعمى.
ان وجود مؤسسات فعالة للمجتمع المدني كان يمكن أن ينشر الديمقراطية والحوار وثقافة التسامح بدل ثقافة العنف والإقصاء، فالمجتمع المدني هو فضاء للحرية والديمقراطية والمشاركة البناءة والمساهمة في تحقيق مشاريع التنمية وتجنب المجتمع والدولة التجاوزات التي قد تظهر نتيجة للإفراط في الذاتية والأنانية.
ان أهمية وجود مؤسسات فعالة للمجتمع المدني دفعت بالبعض إلى وصفه بـ «رأس مال اجتماعي» ففي كتاب صدر في السنوات الأخيرة للعالم الأمريكي «روبرت بونتام» أستاذ بجامعة هارفارد بعنوان «جعل الديمقراطية تعمل» يؤكد المؤلف عبر هذا الكتاب على العلاقة الوطيدة بين المجتمع المدني والديمقراطية، وبعد أن حاول كل التفسيرات الممكنة خلص إلى تفسير رئيس وهو ما أسماه رأس المال الاجتماعي.
ان تأكيدنا على أهمية المجتمع المدني وضرورة وجوده في مجتمعاتنا العربية، ينبع من التاريخ السياسي والاجتماعي للمجتمعات العربية أين غيبت مؤسسات المجتمع المدني وبدلاً من الحوار والمشاركة البناءة حل محلها القمع والإقصاء؟ وهكذا على مر السنين تراكمت الأخطاء والكبت ومع رياح الديمقراطية القادمة من الغرب، وجد المجتمع العربي نفسه مدفوعاً إلى الانتفاضة ضد الأشكال السابقة من التسيير السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وكان من بين مظاهر هذه الأزمة متشعبة الجوانب ما شهدناه من عنف سياسي كاد يعصف ببعض الأنظمة العربية.

أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية الدراسات الاجتماعية ـ جامعة الكويت

المصدر جريدة الشرق الاوسط