الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #60  
قديم 11/02/2004, 10:10 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
طارق سيف:
المتسكع المثقف
الأحد 18 يناير 2004 01:46
التسكع ظاهرة إنسانية فريدة لكونها تعبر عن شخصية غير مبالية وغير مسؤولة، ولكن عندما يدعي المتسكع الثقافة والفكر والخطابة فإنها تصبح كارثة إنسانية بكل المقاييس، لأن المعايير تختلط، وتزول الحدود والفواصل بين ما هو جد وما هو هزل، وتفقد كثير من القيم والاعتبارات الجوهرية للحكم على الأشياء قيمتها· ومن هنا تمثل ظاهرة التسكع الثقافي خطراً قد لا يلتفت إليه كثيرون، متصورين أن الأمر لا يتجاوز حدود الترويح عن النفس وانتزاع بعض الضحكات في وسط أصبحت سمته الأساسية هي العبوس والتجهم، أو على الأقل الجدية، وهو عالم الفكر والبحث العلمي والمعرفة والثقافة·
حاولت ألا أكتب عن هذه الظاهرة، ودائما كنت أعتقد أن هناك من الموضوعات الملحة في الواقع العربي ما هو أحق بالتناول، وأن هذه الشخصيات لا تستحق الكتابة عنها لكونها كائنات طفيلية تتسلق على مائدة السلطان، وتلتقط فتات الموائد وبقايا الطعام مقابل دور هزلي تؤديه يعتمد على قلة الحياء ونبذ اعتبارات الأدب والحشمة واحترام الذات، وكما يصفها البعض هي التمادي في الباطل والجهل والتخبط والتلون على حسب الموقف وعلى رغبات السلطان الذي يدفع ليستمتع بالنكات والحكايات والروايات المسلية·
المتسكع المثقف عبارة عن بائع متجول للكلام، وهو حكاء ماهر يجيد فنون القص وسرد الروايات والأخبار، ويمتلك سرعة الخاطر والبديهة الحاضرة واللفتة الذكية والعبث بالألفاظ وتحويرها· ويحتفظ هذا النوع من المهرجين في ذاكرته بعشرات النكات والحكايات - البذيئة غالباً- ليطلقها عند الضرورة منتزعاً ضحكات ساخرة تمثل مصدر رزقه· والمتسكع المثقف يغلف هذا الدور الدوني بقناع زائف من الثقافة والخبرة والمعرفة، ويقرأ عادة مجموعة من الكتب التاريخية والتراثية التي قد يكون أهمها كليلة ودمنة ، وحكايات الجواري والغلمان وشعراء الخلاعة والمجون في كتب مثل الأغاني و المستطرف في كل فن مستظرف وغيرها من الكتب المعنية بهذا النوع من الأخبار والقصص· وتتراكم لدى المتسكع المثقف بذلك مجموعة كبيرة من المعلومات العامة التي يبهر بها جالسيه في المرة الأولى، حيث يتنقل بين عصور التاريخ المختلفة مستعرضاً أسماء خلفاء ووزراء ومفكرين وشعراء وفلاسفة، مضيفاً إليها بعض ما التقطه عرضاً من النظريات والاصطلاحات الاجتماعية والثقافية والفلسفية المعاصرة، وبضع كلمات بلغات أجنبية يبثها في ثنايا كلماته لتزيد من قيمة الطبخة الثقافية الفكرية· ولكن إذا جالست المتسكع المثقف أكثر من مرة فستجده يكرر الأفكار والقصص نفسها، وقد يصلح في أحسن الأحوال للظهور كضيف في برنامج من سيربح المليون أو وزنك ذهب ·
وكل مهارات المتسكع المثقف تظهر فقط على مائدة السلطان الذي يمثل هدفه الرئيسي· ومن خصال المتسكع المثقف التنقل الدائم على حسب توافر الدولار أو الدرهم أو الريال، وإن كان الدفع بالجنيه الاسترليني أفضل، لأنه يدل على السخاء والكرم· وهذا التنقل الدائم حسب اتجاه هبوب الشيكات أو الكاش يجعله يبدل تحالفاته وأعداءه بشكل مستمر· فهو اليوم يأكل على مائدة شخص ويسب أعداءه ويروي عنهم الحكايات والنكات، لكنه في اليوم التالي مباشرة يأكل على مائدة أخرى وقد يسب ولي نعمته بالأمس، ويخترع بدوره الحكايات ويلفق القصص ويطلق النكات التي تنال منه· والحكايات المفضلة لدى هذه الفئة من الطفيليين تركز على العنصر النسائي والغرائز والشهوات ونهش الأعراض والافتراء على الشخصيات العامة وتشويهها باختراع حكايات وترويج شائعات حسب حالة الممول وحسب بورصة خصوماته وصداقاته وصراعاته ومصالحه·
لقد عرف بلاط السلاطين والحكام قديماً هذا النوع من البشر، وكانت وظيفة مهرج الملك أو مضحك الملك وظيفة رسمية يتولاها شخص معروف· وهناك مسرحية للكاتب علي أحمد باكثير بعنوان مضحك الخليفة · ولعل الوضع الرسمي لمضحك السلطان كان أفضل بكثير من الوضع الحالي الذي تختلط فيه الأوراق، فلم يكن مقبولاً من هذا المهرج أن يرتدي ثياب الحكماء أو مسوح العلماء إلا وهو يسري عن مليكه وولي نعمته ويغمز من وقار العالم أو الحكيم، كما يحدث في أحد مشاهد مسرحية مصرع كليوباترا لأمير الشعراء أحمد شوقي، حيث يقول المضحك للعالم الجليل معابثاً: وما الكتب قوتي ولا منزلي فما أنا سوس ولا أنا فار · أما الآن فإن المتسكع المثقف يدعي الثقافة ويقحم نفسه بين أصحاب الفكر والرأي دون أن يجد من يرده إلى الصواب، ويضعه في المكان الذي يستحقه، ويذكره بحقيقة نفسه· ولعل استحداث منصب مضحك الخليفة أو السلطان يكون خيراً، لأنه سيريحنا من ادعاءات المدعين ويسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، ويوقف الإساءة التي تنال من الفكر والثقافة بانتساب هذه النماذج إليها زوراً وبهتاناً· فالمتسكع المثقف ليس كاتباً مبتكراً أو عالماً شهيراً أو صحفياً مخضرما، بل بائع متجول للثقافة الرخيصة·
أما الجانب المظلم من شخصية المتسكع المثقف فهو ما يخفيه وراء سخرياته ونكاته الماجنة وتعليقاته المضحكة من حقد وحسد وكراهية للعالم ولنفسه، وهذا الجانب المظلم كفيل بأن يجعل منه شخصية درامية بامتياز بسبب ما تنطوي عليه نفسه من صراعات، وتباين بين الظاهر والباطن· المتسكع المثقف شخص مأزوم، يعاني إحساساً بالمهانة الداخلية والهزيمة النفسية العميقة، وهو في ذاته يحتقر وضعه ولا يرضى عن نفسه· إنه عادة شخصية فاشلة خارج موائد السلاطين، وهو يخدع نفسه فيلقي باللائمة في فشله على أسباب غير موضوعية، إذ يتصور أنه أفضل من الآخرين وأكثر معرفة ووعياً وفهماً وذكاء، وأنه لا ينال التقدير الكافي لما يمتلكه من مواهب وقدرات· وينسى المتسكع المثقف أن حفظ بعض الأبيات الطريفة من الشعر والإلمام بطرف من الحكايات التاريخية والمصطلحات العلمية لا يجعل منه مثقفاً أو مفكرا· وهذا الإحساس بالفشل يدفع المتسكع المثقف إلى كراهية كل الناجحين والمتفوقين، والرغبة في تشويه نجاحهم وتفريغه من مضمونه، لذلك يخصهم بكثير من افتراءاته وسخرياته وحكاياته البذيئة، ويسيء إليهم وإلى أعمالهم وانجازاتهم كلما وجد لذلك فرصة·
أما المهانة الداخلية التي تسيطر على نفسية المتسكع المثقف وإحساسه بأنه يريق ماء وجهه ويبيع كرامته من أجل الارتزاق فتجعله يحقد بشدة على كل من يحترم ذاته ويحرص على كرامته، لذلك يكون عنيفاً في محاولة هدمهم وتلويث سمعتهم· وهو يجد في المناخ الثقافي والسياسي العربي السائد فرصة مناسبة بسبب ما يشيع فيه من عشوائية وتخبط وصراعات·

الاتحاد الإماراتية