عرض المشاركة وحيدة
  #6  
قديم 28/08/2006, 12:35 PM
alhabsi2006 alhabsi2006 غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 05/02/2006
المشاركات: 59
{ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } * { بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ ٱللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ وَهُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }
قوله: { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللهِ } أي القرآن { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } أي: التوراة والإِنجيل { وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا } والاستفتاح الدعاء { فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }.

قال بعض المفسّرين: كانت اليهود تستنصر بمحمد صلى الله عليه وسلم على كفار العرب. كانوا يقولون: اللهم ايت بهذا النبي الذي يقتل العرب ويذلهم. فلما رأوا أنه من غيرهم حسدوه وكفروا به. قال الله: { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَافِرِينَ }.

قوله: { بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ } أي: باعوا به { أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ بَغْياً } كفروا به حسداً { أَن يُنَزِّلَ اللهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآؤوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ } أي: استوجبوا غضباً على غضب { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ }. قال بعض المفسرين: غضب على غضب: غضب عليهم بكفرهم بالإِنجيل، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن.

وقال الكلبي: تفسير اشتروا به أنفسهم، يعني أحبارهم أن جحدوا نبي الله مخافة أن تذهب مأكلتهم فباعوا أنفسهم بما يصيبون فأهلكوا أنفسهم فصاروا في النار.

قوله: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنزَلَ اللهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ } أي بما بعده. كفرت اليهود بالإِنجيل وبالقرآن. قال الله: { وَهُوَ الحَقُّ } ويعني القرآن { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } أي التوراة والإِنجيل، موافقاً للذي في كتبهم. قالوا: فإنك لم تأتنا بمثل الذي أتى به نبينا. ولم يكن لنا نبي إلا يأتينا بقربان تأكله النار. وكان أعداء الله يتولون آباءهم الذين قتلوا أنبياء الله من قبل، فلذلك يقول: { قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنبِيَاءَ اللهِ مِن قَبْلُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }.

قال الحسن: يعني به أوَّليهم: يقول إن كانوا يؤمنون بما أنزل الله عليهم فليس فيما أنزل الله عليهم قتل أنبيائهم. فكذَّبهم الله في قولهم: { نُؤْمِنُ بِمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا }.

{ وَلَقَدْ جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } * { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } * { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ }
قوله: { وَلَقَدْ جَاءَكُم مُّوسَى بِالبَيِّنَاتِ } يعني أوليهم { ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } قد فسَّرنا أمر العجل قبل هذا الموضع.

قوله: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا ءَاتَيْنَاكُم بَقُوَّةٍ } وقد فسّرناه قبل هذا الموضع.

قوله: { وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } سمعنا ما تقول، وعصينا أمرك. { وَأُشْرِبُوا فَِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ }. قال الحسن: ليس كلهم تاب وقَبِل ذلك: فمن لم يتب فهم الذين بقي حبُّ العجلِ في قلوبهم، وهم الذين قال الله فيهم:
{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا... }
[الأعراف:152].

قوله: { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }. أي لو كان الإِيمان في قلوبكم لحجزكم عن عبادة العجل. يقول: بيسما يأمركم به إيمانكم أن تعبدوا العجل. وهو مثل قوله:
{ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً }
[الأنفال:35] وأشباه ذلك يقول: إن كنتم مومنين فإن إيمانكم لا يأمركم بعبادة العجل. ثم رجع إليهم لقولهم:
{ لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى }
[البقرة:111]، ولقولهم:
{ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً }
[البقرة: 80]. فقال:

{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِندَ اللهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي أنكم من أهل الجنة حتى تدخلوا الجنة بزعمكم. قال: { وَلَن يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي: بما أسلفوا من الأعمال الخبيثة، لأنهم يعلمون أنهم معذَّبون، يعني به الخاصة الذين جحدوا وكفروا حسداً وبغياً من بعد ما تبيّن لهم. { وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ }.



{ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ ٱلنَّاسِ عَلَىٰ حَيَاةٍ وَمِنَ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ ٱلْعَذَابِ أَن يُعَمَّرَ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } * { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ ٱللَّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } * { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } * { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ ٱلْفَاسِقُونَ }
قال: { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ ِأَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ }. قال الحسن: يعني مشركي العرب. و[قال ابن عباس: الذين أشركوا هم المجوس، وذلك أن المجوس كانوا يلقون الملك بالتحية في النَّيْرُوزِ والمَهرجان فيقولون له: عش أيها الملك ألف سنة كلها مثل يومك هذا]. وذكر سعيد بن جبير عن ابن عباس: [هو قول أحدهم إذا عطس: " زه هزار سال " ].

قال: { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العَذَابِ أَن يُعَمَّرَ } أي: وما عمره بمزحزحه أي بمنجيه من العذاب { وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }.

قوله: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ } قال الحسن: إن اليهود قالوا: إن جبريل لا يأتينا إلا بالشتم والذمّ، وإنما يفعل ذلك لعداوة بيننا وبينه، وميكائيل ليِّن؛ فعادَوا جبريلَ. فأنزل الله: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ }. أي نزّل القرآن الذي فيه شتم اليهود وعيبهم بإذن الله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من كتب الله المتقدّمة.

وقال بعضهم: إن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: من صاحبك الذي يأتيك بالوحي؟ فقال: " جبريل " فقالت: ذلك عدوّنا من الملائكة، وإنه ينزل بالعذاب والنقمة، وإن ميكائيل ينزل باللّين والرحمة، أو كما قالوا.

وقال بعضهم: فإنه نزله على قلبك، أي نَزَّل القرآنَ على قلبك.

قال: وذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى نفراً من اليهود. فلما أبصروه رحّبوا به، فقال: أما والله ما جئتكم لحبّكم، ولا لرغبة فيكم، ولكن جئت لأسمع منكم. فسألهم وسألوه. فقالوا له: من صاحب صاحبكم؟ فقال: جبريل. قالوا: ذاك عدونا من أهل السماء، يطلع محمداً على سرنا، وهو إذا جاء جاء بالحرب والسنة. وكان صاحب صاحبنا ميكائيل، وكان إذا جاء جاء بالسلام وبالخصب. فقال لهم عمر: أفتعرفون جبريل وتنكرون محمداً. ففارقهم عند ذلك، وتوجه نحو النبي عليه السلام ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية: { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ... } إلى أخر الآية.

وقال بعضهم: جادلهم عمر حين قالوا إن جبريل عدوّنا من الملائكة وميكائيل وليُّنا. فقال لهم: حدثوني عن وليّكم من الملائكة، هل يتولّى عدوّكم من الملائكة. فإن كان يتولى وليُّكم من الملائكة عدوَّكم من الملائكة فلِمَ عاديتم من يتولاه وليّكم؟ فمن عادى جبريل فهو عدو الله والملائكة والمؤمنين. فأنزل الله مصداق عمر:

{ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّلَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } قال الكلبي: إنَّ اليهود قالت: إِنَّ جبريل عدوٌّ لنا. فلو أنَّ محمداً يزعم أنَّ ميكائيل هو الذي يأتيه صدَّقناه. وإن جبريل عدوٌّ لميكائيل؛ فقال عمر: فإني أشهد أن من كان عدوّاً لجبريل فإنه عدوٌّ لميكائيل؛ فأنزل الله هذه الآية.

قوله: { وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ءَايَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلاَّ الفَاسِقُونَ } يعني جميع من كفر بها.


{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } * { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } * { وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَاطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـٰكِنَّ ٱلشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحْرَ وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى ٱلْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }
قوله: { أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْداً نَّبَذَهُ } أي: نقضه { فَرِيقٌ مِّنْهُم } يعني اليهود. { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } كقوله:
{ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ }
[البقرة:88].

قوله: { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } يعني محمداً عليه السلام { نَبَذَ } أي نقض { فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كِتَابَ اللهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي كأنهم ليس عندهم من الله فيه عهد، وعندهم من الله فيه العهد، يعني من كفر منهم.

قوله: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }.

ذكر بعض المفسرين أن الشياطين ابتدعت كتاباً فكتبت فيه سحراً وأمراً عظيماً، ثم أفشته في الناس وعلَّموهم [إياه]. فبلغ ذلك سليمان فتتبع تلك الكتب، فدفنها تحت كرسيه كراهة أَن يتعلَّمها الناس. فلما قبض الله سليمان عمدت الشياطين فاستخرجوها من مكانها وعلّموها الناس، وقالت: هذا علم كان سليمان يستأثر به ويكتمه. فعذر الله سليمان، وأخبر أن الشياطين هي التي كتبت تلك الكتب. فقال: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ }. أي من الكهانة والسحر، { عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ }. أي: وما كان ذلك عن مشورته ولا عن أمره، ولا عن رضى منه، ولكنه شيء افتعلته الشياطين دونه، ولكن الشياطين الذين افتعلوا ذلك هم الذين كفروا يعلّمون الناس السحر.

قال الكلبي: إن سليمان كان أصاب ذنباً فأَحبّ الله أن يعجِّل عقوبتَه في الدينا. فابتلاه بما كان من أمر الشيطان الذي كان خَلَفَه، وذهب ملك سليمان. فلما انقضت المُدَّة ونزلت رحمة الله عليه ألقى الله في نفس الناس استنكار الشيطان، فمشوا إلى أصف، أحدِ الثلاثة خزان بيت المقدس، فقالوا: يا أصف، إنا قد أنكرنا قضاء الملك وعِلمَه، فلا ندري أنكرت ما أنكرنا أم لا. فقال نعم. ولكني سوف أدخل على نسائه، فإن كُنَّ أنكرن منه مثل الذي أنكرنا فذلك أمر عمّ الناس، فاصبروا حتى يكشف الله عنكم، وإن لم ينكرن منه مثل الذي أنكرنا فهو أمر خُصِصنا به، فادعوا الله لملكِكم بالصلاح والعافية. فانطلق أصف فدخل على نسائه، فسألهن عنه، فقلن: إن كان هذا سليمانَ فقد هلكنا وهلكتم. فخرج أصف إلى الناس فأخبرهم، فدعوا الله ربهم أن يكشف عنهم.

فلما رأت الشياطين الذي فيه الناس من الغفلة كتبوا سحراً كثيراً على لسان أصف، ثم دفنوه في مصلّى سليمان وفي بيت خزانته وتحت كرسيه وضربوا عنه.

وفشا الاستنكار من الناس للشيطان وانقضت أيامه، ونزلت الرحمة من الله لسليمان. فعمد الشيطان إلى الخاتم فألقاه في البحر. فأخذه حوت من حيتان البحر. وكان سليمان يؤاجر نفسه من أصحاب السفن، ينقل السمك من السفن إلى البَرِّ، على أن له سمكتين كل يوم.
فأخذ سليمان في أجرته يوماً سمكتين فباع إحداهما برغيفين، وشقَّ بطن الأخرى، فجعل يغسلها، فإذا هو بالخاتم. فأخذَه، والتفت إليه الملاّحون فعرفوه، فأقبلوا إليه فسجدوا له. وتفسير السجود في سورة يوسف. فقال: ما أحمدكم الآن على السجود، ولا ألومكم على ما كنتم تفعلون. وذلك أنه كان إذا أصابه الجهد استطعم وقال: أنا سليمان بن داود فيكذبونه ويستخِفّون به.

فأقبل سليمان إلى ملكه فعرفه الناس واستبشروا به، وأخبرهم أنه إنما فعله به الشيطان. فاستغفر سليمان ربه فقال:
{ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَِحَدٍ مِّن بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ }
[ص:35].

فسخَّر الله له الريح والشياطين، وسخّر له الشيطان الذي فعل به ذلك الفعل، واسمه صخر، فأخذه سليمان فجعله في تخت من رخام، ثم أطبق عليه، وسدّ عليه بالنحاس، ثم ألقاه في عرض البحر. فمكث سليمانُ في ملكه راضياً مطمئنّاً حتى قبضه الله إليه حميداً، صلّى الله عليه وسلم.

ثم أتت الشياطين إلى أوليائهم من الأنس فقالوا: ألا ندلكم على ما كان سليمان يملك به الأنس، وتدين له به الجن، وتُسخَّر له الرياح؟ فقالوا: بلى. قالوا: احفروا في مصلاّه وبيت خزائنه وتحت كرسيه. ففعلوا. فاستخرجوا كتباً كثيرة مكتوباً [عليها]: " هذا ما عمل آصف للملك سليمان. فلما قرأوها إذا هي الشرك بالله. وقال صلحاء بني إسرائيل: معاذ الله أن نتعلمه! ولئن كان سليمان يعمل بهذا ويدين الله به لقد هلك سليمان. فتعلَّمه سفلةُ الناس من بني إسرائيل وقالوا: الملك خير منا يتعلم ما كنا نتعلم. وفشت اللائمة والقالة السيئة لسليمان في بني إسرائيل حتى عذره الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فقال: { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ }.

قوله: { وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ }. وهذا الكلام موصول بما قبله. يقول: { وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ } واتبعوا { وَمَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ } يعني الفرقة بين المرء وزوجه.

قال بعض المفسرين: إن السحر سحران: سحر تعلِّمه الشياطين، وسحر يعلِّمه هاروت وماروت.

وقال الحسن: إن المَلَكَين ببابل إلى يوم القيامة. وإن من عزم على تعلُّم السحر ثم أتاهما سمع كلامهما من غير أن يراهما ويلقاهما بالنظر.

ذكر مجاهد أن الملائكة عجبت من ظلم بني آدم وقد جاءتهم الرسل بالكتب فقال لهم ربهم: اختاروا منكم اثنين أنزلهما يَحكُمَان في الأرض، فكانا هاروتَ وماروتَ. فحكما فعدلا حتى نزلت عليهما الزُّهرة في صورة أحسن امرأة تخاصم. فقالا لها: ائتينا في البيت. فكشفا لها عن عوراتهما وافتتنا بها. فطارت الزهرة فرجعت حيث كانت. ورجعا إلى السماء فزُجِرا فاستشفعا برجل من بني آدم، فقالا له: سمعنا ربَّك يذكرك بخير [فاشفع لنا]. فقال: كيف يشفع أهل الأرض لأهل السماء؟ ثم واعدهما يوماً يدعو لهما فيه.

فدعا لهما. فخيِّرا بين عذاب الدنيا وبين عذاب الآخرة. فنظر أحدهما إلى الآخر فقال: ألم تعلم أن أفواج عذاب الله في الآخرة كذا وكذا وفي الخلد أيضاً؟ فاختارا عذاب الدنيا. فهما يعذَّبان ببابل.

ذكروا عن علي بن أبي طالب أنه قال: كانت الزهرة امرأة جميلة معجبة؛ فخاصمت إلى الملكين فراوداها فقالت: لا أفعل حتى تعلِّماني الاسمَ الذي إذا تُكُلِّم به عُرِجَ إلى السماء. فعلَّماها إياه. فعرجت، فمسخها الله كوكباً.

ذكروا عن ابن عباس في هاروت وماروت أنه قال: أتتهما امرأة تخاصم إليهما، فافتتنا بها، فأراداها على نفسها، فقالت: لا أمكنكما من نفسي حتى تشربا هذا الخمر، وتعبدا هذا الصنم؛ وجاءهما رجل فقتلاه مخافة أن يقول عليهما.

ذكروا عن صفوان بن سليم أنه قال: ما نهض ملك من الأرض إلى السماء حتى يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ذكروا عن ابن عمر أنه كان يقول إذا رأى الزهرة: لا مرحباً بك ولا أهلاً.

ذكرواعن ابن عباس أنه قال: أتدرون ما كانت تسمّى هذه الكوكب الحمراء في قومها؟ يعني الزهرة، كانت تسمى بيدخت. ذكروا عن علي أنه قال: كان يقال لها أناهيذ.

قوله تعالى: { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ }.

قال بعض المفسرين: كان أخذ عليهما ألا يعلما أحداً حتى يقولا له: إنما نحن فتنة، أي بلاء، فلا تكفر.

قال: { فَيَتَعَلََّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } وهو أن يُؤَخَّذَ كل واحد منهما عن صاحبه، ويُبَغَّضَ كلُّ واحد منهما إلى صاحبه.

قوله: { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ } قال الحسن: من شاء الله سلّطهم عليه، ومن شاء مَنَعهم منه، وقال بعضهم: إلا بأمر الله.

قوله: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ } أي: لمن استحبه، أي اختاره على التوراة { مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ }.

قال بعض المفسرين: قد علم أهل الكتاب في عهد الله إليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة عند الله يوم القيامة. وقال الكلبي: ما له في الآخرة من خلاق، أي ما له من نصيب. قال وهو مثل قوله:
{ وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ }
[الشورى: 20] أي من الجنة. { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ } أي: باعوا به أنفسهم. وكل شيء في القرآن شروا وشروه فهو بيع. وكل شيء فيه اشترى واشتروا فهو الشراء إلا قوله:
{ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ }
[البقرة:90] فإنه يعني بيسما باعوا به أنفسهم.

قوله: { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } قال الحسن: لو كانوا علماء أتقياء ما اختاروا السحر.


{ وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ وٱتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } * { يَاأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ ٱنْظُرْنَا وَٱسْمَعُواْ وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
قوله: { وَلَوْ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللهِ } يعني الثواب يوم القيامة { خَيْرٌ لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي: لو كانوا علماء لآمنوا بعلمهم ذلك واتقوا؛ ولا يوصف الكفار بأنهم علماء.

قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا }. قال الحسن: راعناً: الهجر من القول، نهاهم الله أن يقولوا كما قالت اليهود، وهو قوله:
{ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ }
[النساء:46]. وقال بعضهم عن الحسن: وهو التحريف للوحي الذي يأتيهم من الله.

قال: { وَقُولُوا انظُرْنَا } أي انتظرنا نتفهّم. { وَاسْمَعُوا } ما يأمركم به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: { وَلِلْكَافِرينَ } الذين لا يقولون انظرنا ولا يسمعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي موجع.

وقال الكلبي: راعنا كلمة كانت العرب يتكلَّمون بها. يقول الرجل لصاحبه: ارعني سمعك. فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبي أعجبهم ذلك. وكان راعنا في كلام اليهود هو الشيءَ القبيحَ يَسُبُّ به بعضهم بعضاً. قالوا: كنّا نسبّ محمداً سرّاً؛ فالآن فأَعلِنوا له السَّبّ. فكانوا يأتونه ويقولونه: يا محمد راعنا ويضحكون. فعرفها رجل من الأنصار كان يعرف لغتهم، فقال: يا أعداء الله، عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لو سمعت رجلاً منكم بعد مجلسي هذا يعيدها لأضربَنَّ عنقه. فقالوا: أولستم تقولونها؟ فقال الله: { يَا أَيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا }. فقال المسلمون: الآن فمن سمعتموه من اليهود يقول لنبيّكم: راعنا فأوجعوه ضرباً. فانتهت عنها اليهود.

وقال بعضهم: انظرنا انظر إلينا واسمعوا ما يقول لكم.
{ مَّا يَوَدُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ وَلاَ ٱلْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ } * { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
قوله: { مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الِكَتَابِ وَلاَ المُشْرِكِينَ } أي: ولا من المشركين { أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي: الوحي الذي يأتي رسول الله، لا يسرّهم ذلك، حسداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين. { وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ } قال الحسن: يعني النبوّة. { وَاللهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ }.

قوله: { مَا نَنسَخْ مِنْ ءَايَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [قال بعضهم]: ينسها رسولَه فيرفعها. يقول: قد نُسِّيَ رسول الله بعض ما كان نزل من القرآن فلم يثبت في القرآن. وقد نسخ بعض ما أثبت في القرآن. قال: ألا تراه يقول:
{ سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ }
[الأعلى:6-7] أن ينسى منه. وبعضهم يقرأها: ما ننسخ من آية أو نَنْسَأْهَا. أي: نؤخرها فلم تثبت في القرآن. وبعضهم يقرأها: أو ننسها فنتركها ولا ننسخها.

وتفسير مجاهد: ما ننسخ أي: ما نمح من آية أو نبدل حكمها ناتِ بخير منها أو مثلها.

قوله: { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يقول: هذه الآية التي نسَخَت خير في زمانها هذا لأهلها، وتلك الأولى المنسوخة خير لأهلها في ذلك الزمان، وهي مثلها بعدُ في حقِّها وصدقها.

قوله: { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ وَالأَرْضِ } أي ذلك لتعلم أن الله له ملك السماوات والأرض يحكم في خلقه بما يريد. كقوله:
{ اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً }
[الطلاق:12].

قوله: { وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي يمنعكم إذا أراد بكم عذاباً.


{ أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ } * { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ ٱلْحَقُّ فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله: { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِن قَبْلُ } ذكر بعض المفسِّرين أنه قال: كان الذي سألوا موسى من قبل أن قالوا:
{ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً }
[النساء:153]. قال الحسن: وقد سألوا ذلك النبي عليه السلام فقالوا:
{ أَوْ تَأْتِي بِاللهِ والمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً }
[الإِسراء:92]، وقالوا:
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا المَلاَئِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا }
[الفرقان:21].

قوله: { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكُفْرَ بِالإِيمَانِ } أي: ومن يقل ذلك فقد بدّل الكفر بالإِيمان، يعني تبدّل اليهودية والنصرانية بالإِسلام. { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أي قصد الطريق.

قوله: { وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم } يعني من لم يؤمن منهم. { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ } أي: أن محمداً رسول الله وأن دينه الحق { فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْْءٍ قَدِيرٍ }.

قال بعض المفسرين: نزلت قبل أن يؤمر بقتال أهل الكتاب، ثم أنزل الله بعد ذلك سورة براءة فأتى بها بأمره فقال: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ }. وذلك أن أهل الكتاب لا يُقِرّون أن الناس يُبعثون في أجسادهم ويقولون: إنما تبعث الأرواح في غير أجساد. قال: { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ } ـ أي الإِسلام ـ
{ مِنَ الِّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
[التوبة:29]. قال بعض المفسرين: أمر الله فيها بقتال أهل الكتاب حتى يسلموا أو يقروا بالجزية.
{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } * { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ لَيْسَتِ ٱلنَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ ٱلنَّصَارَىٰ لَيْسَتِ ٱلْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَٱللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
قوله: { وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ } أي أنهما فريضتان واجبتان لا رخصة لأحد فيهما. قوله: { وَمَا تُقَدِّمُوا لأَِنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللهِ } أي تجدون ثوابه في الآخرة. { إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }.

قوله: { وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى } قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وقالت النصارى لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ }. قال الله: { قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } على ذلك. قال الحسن: هاتوا حجّتكم. وقال غيره من المفسّرين: هاتوا بيّنتكم { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي إن كنتم تدخلون الجنة كما زعمتم.

ثم كذّبهم وأخبرهم أن الجنة إنما هي للمؤمنين ولستم بمومنين فقال: { بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } أو وجهته في الدين { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي وهو مُكْمل العمل { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.

قوله: { وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ } يعني التوراة والإِنجيل، أي فكيف اختلفوا وتفرَّقوا والكتاب واحد جاء من عند الله، يصدّق بعضه بعضاً قال: { كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } يعني النصارى { مِثْلَ قَوْلِهِمْ } يعني مثل قول اليهود. قال الله: { فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } فيكون حكمه فيهم أن يكذبهم جميعاً ويدخلهم النار.


{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
قوله: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا } أي لا أحَدَ أَظلم مِمَّن فعل ذلك. { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ }. ذكر مجاهد أنهم النصارى أعانوا بختنصر على خراب بيت المقدس. وقال بعض المفسرين: هم النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس.

وذكر الكلبي أن الروم غزوا بني إسرائيل فحاصروهم، فظهروا عليهم، فقتلوا مقاتلتهم، وسبوا ذراريهم، وأحرقوا التوراة، وهدموا بيت المقدس وألقوا فيه الجيف، فلم يعمر حتى بناه أهل الإِسلام، فلم يدخله رومي بعدُ إلا خائفاً. يعني قوله: { أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } فقضى الله على الذين خرّبوه أن لهم الخزي في الدنيا.

قوله: { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } وهو فتح مدائنهم الرومية، وقتل مقاتلتهم، وسبي ذراريهم، فهذا خزيهم. { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي: جهنم؛ فلا شيء أعظم من عذابها. وإذا عظَّم الله شيئاً فهو عظيم.

قال بعض المفسرين: قوله: { أوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ } أي: لا يوجد نصراني في بيت المقدس إلى اليوم إلا أُنْهِكَ عقوبةً وأُخْرِجَ منه. وقال بعضهم: { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ } أي: الجزية يؤدّونها عن يد وهم صاغرون، فذلك خزيهم في الدنيا. { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.

قوله: { وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا } أي وجوهكم في الصلاة { فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ } أي: فثمَّ الله. وقال بعضهم: فثمَّ قِبلة الله. { إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }.

قال بعض المفسّرين: كانوا يصلون نحو بيت المقدس ورسول الله بمكة. وبعدما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى بالمدينة ستة عشر شهراً نحو بيت المقدس. ثم وجّهه الله بعد ذلك نحو الكعبة البيت الحرام. فقال في آية أخرى:
{ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ }
[البقرة:144] أي: تلقاءه. فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر القبلة في حديث بعضهم. وفي حديث بعضهم: ما كان قبلها من قبلة.

ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في سفر، ونزلوا منزلاً في لية ظلماء بجعل أحدهم يجمع الحصباء فيجعل مسجداً فيصلي [فلما أصبحوا إذا هم] لغير القبلة، فأنزل الله عز وجل: { وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا } أي: وجوهكم في الصلاة، { فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }.

ذكروا عن الكلبي عن ابن عباس أن النبي عليه السلام كان في سفر في يوم غائم فصلّوا الصلاة، صلى بعضهم نحو المشرق وصلّى بعضهم نحو المغرب، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية.

وقال بعضهم: إن رهطاً من أصحاب النبي عليه السلام انطلقوا في سفر، وذلك قبل أن تصرف القبلة إلى الكعبة، فتحيّروا، والقبلة يومئذ نحو بيت المقدس؛ فمنهم من صلّى قِبَل المشرق، ومنهم من صلّى قِبَل المغرب.

{ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ ٱللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ وَسَعَىٰ فِي خَرَابِهَآ أُوْلَـٰئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ لَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } * { وَللَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }
فلما طلعت الشمس استبان لهم. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فأنزل الله: { وَلِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }.

ذكروا عن الحسن أنه سئل عن رجل صلَّى، فلما فرغ من صلاته إذا هو لغير القبلة، فقال: جازت صلاته. قال الله: { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ }.

ذكروا عن بعض السلف أنه قال: إذا صلّى ثم استبان له أنه صلّى لغير القبلة مضت صلاته، وإن استبان له بعدما صلّى ركعة انحرف إلى القبلة فيما يستقبل.