عرض المشاركة وحيدة
  #4  
قديم 28/08/2006, 12:33 PM
alhabsi2006 alhabsi2006 غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 05/02/2006
المشاركات: 59
{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي ٱلأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّيۤ أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }
قوله: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ }. في تفسير الحسن أن الله أخبر الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن من ولده من يسفك الدماء فيها، فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [أي: نصلي لك في تفسير بعضهم] { قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.

وفي تفسير بعض أهل العلم أن الملائكة قد علمت من علم الله أنه ليس شيء أكره إليه من سفك الدماء والفساد في الأرض والمعاصي، { قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }. قال علم الله أنه سيكون من تلك الخليفة أنبياء ورسل وقوم صالحون يسكنون الجنة. وقال مجاهد: علم من إبليس المعصية وخلقه لها.

وفي تفسير الكلبي قال: خلق الله كل شيء قبل ءادم عليه السلام؛ فجعل الملائكة هم عمارَ السماوات. وفي كل سماء ملائكة. ولكل أهل سماء دعاء وتسبيح وصلاة. وكل أهل سماء فوق سماء أشدُّ عبادة وأكثر دعاء وتسبيحاً وصلاة من الذين تحتهم. فكان إبليس في جند من الملائكة في السماء الدنيا. وفي تفسير بعضهم كان إبليس مع الخزنة في السماء الدينا: قال: وكانوا أهونَ أهل السماوات عملاً. وكان الجنّ بنو الجانّ الذي خلقه الله من مارج من نار عُمَّارَ الأرض؛ وهو عند الحسن إبليس.

وقال الكلبي فلما وقع بينهم التحاسد والفتن اقتتلوا. فبعث الله جنداً من السماء الدنيا فيهم إبليس، وهو رأسهم. فأمروا أن يهبطوا إلى الأرض فيُجلوا منها الجن بني الجان. فهبطوا فأجلوهم عن وجه الأرض، فألحقوهم بجزائر البحور. وسكن إبليس والجند الذين كانوا معه الأرض، فهان عليهم العمل فيها، وأحبّوا المكث فيها. ثم أحب الله تبارك وتعالى أن يخلق ءادم عليه السلام وذريته، فيكونوا هم عمّارَ الأرض، فقال للملائكة الذين كانوا في الأرض، يعني إبليس وأصحابه، إني جاعلٌ في الأرض خليفة ورافعُكم منها. فوَجَدوا من ذلك وقالوا: أتجعل فيها من يُفسد فيها كما أفسدت الجن، ويسفك الدماء كما سفكوا، ونحن نسبّح بحمدك ونقدس لك؟ قال: { إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }. وقد علم أنه سيكون من بني آدم من يسبح بحمده ويقدّس له ويطيع أمره. فخلق آدمَ وصوّره جسداً ينظرون إليه ويعجبون منه، ولم يكونوا رأوا فيما خلق الله شيئاً يُشبِهُه.

ذكروا أن إبليس جعل يطوف بآدم قبل أن يُنفخ فيه الروح، فلما رآه أجوف عرف أنه لا يتمالك. ذكر بعضهم أنه جعل يطوف به ويقول: إن كنت أجوف فلي إليك سبيل، وإن لم تكن أجوف فمالي إليك سبيل.


ذكر بعضهم قال: أوّل ما خلق الله في الأرض طير وحوت؛ فجعل الطير يخبر الحوتَ خبرَ السماء،وجعل الحوت يخبر الطيرَ خبرَ الأرض. فلما خلق الله آدم جاء الطير إلى الحوت فقال: لقد خلق الله اليوم خلقاً كذا وكذا. فقال الحوت للطير: فإن كنت صادقاً ليستَنْزِلنَّكَ من السَّماء وليستخرجَنِّي من الماء. قال الكلبي: فأشفق إبليس عدوُّ الله منه وقال: إني لأرى صورة مخلوق سيكون له نبأ. فقال لأصحابه: أرأيتم هذا الذي تروا على خلقه شيئاً من الخلق إن فضِّل عليكم ما تفعلون؟ قالوا: نطيع ربَّنا ونفعل ما يأمرنا به. قال إبليس في نفسه: إن فُضِّل عليَّ لا أطيعه، وإن فضِّلت عليه لأُهلكَنَّه. فلما نفخ الله الروح في آدم جلس فعطس فقال: الحمد لله رب العالمين. فكان أول شيء تكلَّم به. فردّ الله عليه عند ذلك: يرحمك الله، لهذا خلقتك؛ لكي تسبّح باسمي وتقدّس لي. ذكر بعضهم قال: لما نفخ في آدم الروح فعطس فحمد ربه قال الله له: يرحمك ربك، فكانت هي الرحمة التي سبقت لآدم عليه السلام.
{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى ٱلْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هَـٰؤُلاۤءِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْعَلِيمُ ٱلْحَكِيمُ } * { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إِنِيۤ أَعْلَمُ غَيْبَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } * { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ ٱسْجُدُواْ لأَدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَٱسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ ٱلْكَافِرِينَ }
قوله: { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }. [قال مجاهد]: خلق الله آدم آخر ساعة النهار، من يوم الجمعة، من بعد ما خلق الخلق كلَّهم. قال الكلبي: ثم علَّمه الأَسماء كلها، أَسماءَ الخلق. ثم إن الله حشر عليه الدوابَّ كلَّها والسِّباع والطيور وما ذرأ في الأرض ثم قال للملائكة: { أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }. قال بعضهم: إن كنتم صادقين أني أجعل فيها من يُفسد فيها؛ أي: إِن منهم من يعمل بطاعتي. علَّمه أسماءهم باللغة السريانية سرّاً من الملائكة.

{ قَالُوا سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } ثم { قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ } فقال آدم: هذا كذا وهذا كذا، فسمَّى كل نوع باسمه: هذا هكذا، وهذا هكذا. قال بعضهم: سمَّى كل شيء باسمه وألجأه إلى جنسه.

قال: { فَلَمَّا أَنبَأَهُم } آدم { بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ } الله للملائكة { أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } أما الذي أبدوا فحين قال إبليس لأصحابه: أرأيتم إن فضِّل عليكم ما أنتم فاعلون؟ قالوا: نطيع أمر ربنا. فهذا الذي أبدوا. وأما الذي كتموا فالذي أسرَّ إبليس في خاصة نفسه من المعصية.

وتفسير الحسن وغيره في هذا الحرف: { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ }: أنهم لما قال الله: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } قالوا فيما بينهم: ما الله بخالق خلقاً أكرم عليه منا ولا أعلمَ منا، فهو الذي كتموا. قال: فابتُلُوا بخلق آدم. وكل شيء مبتَلىً كما ابتُليت السماوات والأرض فقال:
{ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً }
[فصِّلت:11].

قوله: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لأَِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ }. يعني إن الطاعة كانت لله والسجدة كانت لآدم. [قال بعضهم]: أكرم الله آدم بأن أسجد له ملائكته فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين.

تفسير الحسن أنه لم يكن كافر قبله، كما أن آدم كان من الإِنس ولم يكن إنسي قبله. وقال بعضهم: خلق الله الخلق شقياً وسعيداً: فكان إبليس ممن خلق الله شقياً، فلما أمر بالسجود له أبى واستكبر وكان من الكافرين. أي كان ممن خلقه الله شقياً بفعله الذي شقي به إذ ترك السجود لآدم.

وقال بعضهم: تفسير كان في هذا الموضع صار؛ يقول: أبى إبليس واستكبر وصار بإبائه السجود واستكباره كافراً. وهذا أولى كل تأويل تأوّلوه بالحق.

وتفسير آدم أن الله خلقه من أديم الأرض. وتفسير المرأة أنها خلقت من المر.

ذكر عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " خلق الله آدم من طينة من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض؛ منهم الأبيض والأحمر والأسود، والسهل والحزن، والحسن والقبيح. والخبيث والطيب " ذكروا عن ابن عباس قال: خلق الله آدم من طينة بيضاء وحمراء وسوداء.
{ وَقُلْنَا يَآءَادَمُ ٱسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّالِمِينَ } * { فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا ٱهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ }
قوله: { وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا } أي لا حساب عليكما فيه. { وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ } لأنفسكما بخطيئتكما. وقال في آية أخرى:
{ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَّ يَبْلَى }
[طه: 120].

ذكروا عن ابن عباس أنه قال: الشَّجرة التي نهى عنها آدم وحواء هي السنبلة وقال بعضهم: هي التينة.

قوله: { فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ }. قال بعضهم: بلغنا أن إبليس دخل في الحية فكلّمهما منها. وكانت أحسن الدوابّ فمسخها الله، ورد قوائمها في جوفها وأمشاها على بطنها.

وقال الكلبي: دعا حواء من باب الجنة فناداها، فدعاها إلى أكل الشجرة، وقال: أيُّكما أكل منها قبل صاحبه كان هو المسلَّط على صاحبه.

وتفسير الحسن أنه وسوس إليهما من الأرض. قال: ولم يكن له أن يلبث فيها بعد قول الله:
{ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ }
[الحجر:34].

قال الكلبي: فابتدرا الشجرة، فسبقته حواء، وأعجبهما حسن الشجرة وثمرتها، فأكلت منها وأطعمت آدم. فلما أكلا منها بدت لهما سوءاتهما. وكانا كُسِيَا الظفَر، فبدت سوءاتهما وأبصر كل واحد منهما ما كان وُوري عنه من سوأته فاستحييا
{ وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجَنَّةِ }
[الأعراف:22] يرقعانه كهيئة الثوب ليُواريَا سوءاتهما. ثم
{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
[الأعراف:22] أي: بَيَّن العداوة. فاعتل آدم بحواء وقال: هي أطعمتني فأكلته.

ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لولا بنو إسرائيل ما خنز لحم وما أنتن طعام، ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها ".

ذكر بعضهم أن حواء هي التي كانت دلت الشيطان على ما كان نهى عنه آدم في الجنة.

ذكر الحسن عن النبي عليه السلام أن آدم كان رجلاً طويلاً كأنه نخلة سحوق، جعد الشعر. فلما وقع بما وقع بدت له عورته، وكان لا يراها قبل ذلك، فانطلق هارباً، فأخذت شجرة من الجنة برأسه، فقال لها: أرسليني. فقالت: لست بمرسلتك. فناداه ربه: يا آدم، أمني تفرّ؟ فقال رب إني استحييتك.

قوله: { وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ }. يعني آدم معه حواء وإبليس. والحية التي دخل فيها إبليس لا تقدر على ابن آدم في موضع إلا لدغته، ولا يقدر عليها في موضع إلا شدخها. وقال في رواية أخرى:
{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ }
[الكهف:50] قال بعضهم: من قتل حيّةً فقد قتل كافراً.

قوله: { وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ } المستقر من يوم يولد إلى يوم يموت. وهو مثل قوله:
{ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ }
[الأعراف:25] ويعني بالمتاع معايشهم في الدنيا، يستمتعون بها. وقوله: إلى حين، يعني الموت.
{ فَتَلَقَّىٰ ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } * { قُلْنَا ٱهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } * { وَٱلَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } * { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَٱرْهَبُونِ }
قوله: { فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } وعلى حواء. ذكروا عن ابن عباس قال: هو قولهما:
{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ }
[الأعراف:23]. وبعضهم يقول: قال آدم: يا رب أرأيت إن تُبتُ وأصلحتُ. قال: أرجعك إلى الجنة.

قوله: { قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعاً } قد فسّرناه في الآية الأولى. قال: { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى }. والهدى في هذا الموضع هو الرسل. وهو حجة الله عليهم في الآخرة حيث يقول:
{ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي }
[الأعراف:35]. قال: { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } في الآخرة من النار { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي على الدنيا.

ذكر بعض أهل العلم أنه ذكر هذه الآية فقال: ما زال لله في الأرض أولياء منذ هبط آدم، ما أخلى الله الأرض لإِبليس إلا وفيها أولياء لله يعملون بطاعته. وقال الكلبي: فعند ذلك أخذ عنهم الميثاق في صلب آدم.

قوله: { وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } أي أهل النار { هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }. لا يموتون ولا يخرجون منها.

قوله: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } يقول لمن بقي من بني إسرائيل ممن أدرك النبي عليه السلام: { اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } يذكرهم ما فعل بأوائلهم وما أنجاهم من آل فرعون؛ كانوا يذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم فلا يقتلونهن، وأنجاهم من الغرق، وظلّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وما أنزل عليهم من الآيات مع نعمته التي لا تحصى.

قوله: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }. قال [بعضهم]: هي التي في المائدة: { وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً }؛ من كل سبط رجل شاهد على سبطه، { وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ } في الميثاق { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاَةَ وَءَاتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَءَامَنتُم بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي ونصرتموهم { وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً } قال مجاهد: أي قرضاً حلالاً. وقال غيره: القرض الحسن أن يكونوا محتسبين في قرضهم:
{ لأُكَفِّرَنَّ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ }
[المائدة:12]. فهو كقوله: { وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ }.

وقال الكلبي: كان الله عهد إلى بني إسرائيل على لسان موسى عليه السلام وأنبياء بني إسرائيل أني باعث من بني إسماعيل نبيّاً أميّاً. فمن اتّبعه وصدّق به وبالنور الذي أنزل معه، أي الذي أتى به، أي الذي أنزل عليه، أغفر له ذنبه، وأدخله الجنة، وأجعل له أجرين اثنين: أجراً باتباعه ما جاء به موسى وأنبياء بني إسرائيل، وأجراً آخر بإيمانه بالنبيّ الأميّ. فلما بعث الله محمداً عليه السلام بما يعرفونه ذكَّرهم الله عهده فقال: أوفوا بعهدي في هذا النبي أوف بعهدكم الذي عهدت لكم من الجنة. { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } مثل قوله:
{ وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }
[البقرة:41].
{ وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُوۤاْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَٱتَّقُونِ } * { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } * { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَٱرْكَعُواْ مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } * { أَتَأْمُرُونَ ٱلنَّاسَ بِٱلْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ ٱلْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } * { وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَاشِعِينَ }
{ وَءَامِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ } [يعني القرآن] { مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } من الكتب. { وَلاَ تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } يعني قريظة والنضير، لأن نبي الله قدم عليهم المدينة، فعصوا الله، وكانوا أول من كفر به من اليهود، ثم كفرت خيبر وفدك، وتتابعت اليهود على ذلك من كل أرض.

قال: { وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ }. يعني الآيات التي وصف الله بها محمداً عليه السلام في كتابهم، فأخفوها من الأميين والجهال من اليهود. وكان الذين يفعلون ذلك الرهط الذين سمّيت في أول السورة: كعب بن الأشرف وأصحابه. وكانت لهم مأكلة من اليهود كل عام، فلذلك الثمن القليل. خافوا إن تابعوا محمداً عليه السلام أن تذهب مأكلتهم.

وقال الحسن: هو مثل قوله:
{ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً }
[البقرة: 79]، يعني عرضاً من الدنيا يسيراً، وهو ما أخذوه عليه من الثمن.

قوله: { وَلاَ تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالبَاطِلِ } أي لا تخلطوا الحق بالباطل. وقال بعضهم: ولا تلبسوا الإِسلام باليهودية والنصرانية. قوله: { وَتَكْتُمُوا الحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: وأنتم تعلمون أن محمداً رسول الله، وأن الإِسلام دين الله، يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل.

قوله: { وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَءَاتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي: مع المصلّين أهل الإِسلام، أمرهم أن يدخلوا في دين رسول الله.

قوله: { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ } أي: وتتركون العمل بما تأمرون به { وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الكِتَابَ } بخلاف ما تفعلون { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما تأمرون به. يعني أحبار اليهود والمنافقين.

قوله: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ }. قال الحسن: استعينوا بالصبر على الصلاة وعلى الدين كله، فخص الصلاة [لمكانها] من الدين. وقال بعضهم: الصبر هاهنا الصوم. وقال بعضهم: استعينوا على الدنيا بالصبر والصلاة.

قوله: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي: لثقيلة، يعني الصلاة. { إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } والخشوع هو الخوف الثابت في القلب. وقال بعضهم: { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ } أي: إلا على المتواضعين، وهو كقوله:
{ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ }
[الأنبياء:90] أي: متواضعين.
{ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } * { يَابَنِي إِسْرَائِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِي ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ }
{ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } يعني البعث.

قوله: { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } وهي مثل الأولى. { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ } يعني عالم زمانهم، ولكل زمان عالم.

قوله: { وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي: لا تفديها. { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } لأن الشفاعة لا تكون إلا للمؤمنين. { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي: فداء، كقوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً } أي: من فضة وذهب
{ وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ }
[المائدة:36]. وكقوله
{ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا }
[الأنعام:70] أي: وإن تفد بكل فدية ما تُقُبّل منها.

قال: { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي: لا أحد ينتصر لهم من بعد نقمة الله إياهم. هذا تفسير الحسن. وقال الحسن: الفدية يومئذ الإيمان، أي: أن يقبل منهم وهم يومئذ يؤمنون فلا يقبل منهم.
{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاۤءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } * { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ ٱلْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } * { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى ٱلْكِتَابَ وَٱلْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِٱتِّخَاذِكُمُ ٱلْعِجْلَ فَتُوبُوۤاْ إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ }
قوله: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ } أي: شدة العذاب، وتفسير يسومونكم أي: يذيقونكم سوء العذاب { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } فلا يقتلونهن { وَفِي ذَلِكُم بَلاَءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } أي نعمة من ربكم عظيمة إذ نجاكم منهم.

قوله: { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ } يَعني حين جازوا البحر { فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ } يعني أَوَّليهم. وقال بعضهم: وأنتم تنظرون كأنَّمَا عهدكم بهم أمس.

قوله: { وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ } أي لأنفسكم. { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: لكي تشكروا. يعني التوبة التي جعلها الله لهم، فقتل بعضهم بعضاً فغلَّظ عليهم في المتاب.

قوله: { وَإِذْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ } الكتاب التوراة، والفرقان حلالها وحرامها. { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }. يقول: لكي تهتدوا بالكتاب وبالحلال والحرام.

قوله: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ } أي: إلى خالقكم { فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ } أي خالقكم { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }.

ذكروا أن موسى عليه السلام لما قطع البحر ببني إسرائيل، وأغرق الله آل فرعون، قالت بنو إسرائيل لموسى: يا موسى، ايتنا بكتاب من عند ربنا كما وعدتنا، وزعمت أنك تأتينا به إلى شهر. فاختار موسى من قومه سبعين رجلاً لينطلقوا معه. فلما تجهّزوا قال الله لموسى: أخبر قومك أنك لن تأتيهم إلى أربعين ليلة، وذلك حين أتممت بعشر، وهي ثلاثون من ذي القعدة وعشر من ذي الحجة. قال الحسن: كانت أربعين من أوّل؛ يقول:
{ وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً }
[الأعراف: 142] وبعدها عشراً، كقوله:
{ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }
[البقرة: 196].

قال الكلبي: فلما خرج موسى بالسبعين أمرهم أن ينتظروا في أسفل الجبل. وصعد موسى الجبل فكلّمه ربه، وكتب له في الألواح. ثم إن بني إسرائيل عدّوا عشرين يوماً وعشرين ليلة فقالوا: قد أخلَفَنَا موسى الوعد. وجعل لهم السامري العجل
{ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى }
[طَهَ:88] فعبدوه.

قال الكلبي: فبلغنا ـ والله أعلم ـ أن الله قال عند ذلك: يا موسى إن قومك قد عبدوا من بعدك عجلاً جسداً له خوار. فرجع موسى إلى قومه ومعه السبعون، ولم يخبرهم موسى بالذي أحدثت بنو إسرائيل من بعده بالذي قال له ربه. فلما غشي موسى محلّة قومه سمع اللغط حوله العجل، فقال السبعون: هذا قتال في المحلَّة. فقال موسى ليس بقتال، ولكنه صوت الفتنة. فلما دخل موسى ونظر ما يصنع بنو إسرائيل حول العجل غضب، وألقى الألواح فانكسرت، فصعد عامة ما فيه من كلام الله.

{ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ }
[الأعراف:150] فقال له هارون:
{ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِيَ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي }
[طه:94]. فأرسله موسى وأقبل على السامري وقال: ما خطبك يا سامري؟ ولم صنعت ما أرى؟ قال: بصرت بما لم يبصروا به، يعني بني إسرائيل. قال: وما الذي بصرت به؟ قال: رأيت جبريل على فرس، فألقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة، فما ألقيت عليه من شيء كان له روح ودم. فحين رأيت قومك سألوك أن تجعل لهم إلهاً فكذلك سوّلت لي نفسي أن أصنع إلهاً، ثم ألقي عليه القبضة فيصير ربّاً لبني إسرائيل، فيعبدونه بين ظهرانيهم.

فغضب موسى فأمر بالسامري أن يخرج من محلّة بني إسرائيل ولا يخالطهم في شيء، فأمر بالعجل فذبح ثم أحرقه بالنار. فمن قرأ
{ لَّنُحَرِّقَنَّهُ }
[طه:97] فهو يريد لنبردنه ومن قرأها لنحرّقنه فهو يريد لنحرّقنه بالنار. وهي أعجب القراءتين إلي، لأن الحريق للذهب الذي لا تحرقه النار آية عجيبة لموسى. فسلّط الله عليه النار فأحرقته فلما أحرقته النار ذراه موسى في اليم، وهو البحر.

ثم أتاهم موسى بكتاب ربهم فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض. فلما نظروا إليه قالوا: لا حاجة لنا فيما أتيتنا به، فإن العجل الذي حرّقته كان أحبّ إلينا مما أتيتنا به، فلسنا قابليه ولا آخذين ما فيه. فقال موسى: يا رب، إن عبادك بني إسرائيل ردّوا كتابك، وكذّبوا نبيّك، وعصوا أمرك. فأمر الله الملائكة فرفعوا الجبل، فغشوا به بني إسرائيل، حتى أظلوا به عسكرهم، فحال بينهم وبين السماء. فقال موسى: إما أن تأخذوا هذا الكتاب بما فيه، وإما أن يلقى عليكم الجبل فيشدخكم. فقالوا: سمعنا وعصينا. أي: سمعنا الذي تخوّفنا به، وعصينا الذي تأمرنا به. ثم أخذوا الكتاب، ولم يجدوا بداً من أخذه. ورفع عنهم الجبل. فنظروا في الكتاب، فبين راض وكاره، ومؤمن وكافر. يقول الله: { ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي: لكي تشكروا. فندم القوم على ما صنعوا وعابتهم موسى وعيَّرهم بالذي صنعوا، وقال: يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتِّخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم، أي إلى خالقكم. فقالوا: كيف التوبة يا موسى؟ قال: فاقتلوا أنفسكم، يعني يقتل بعضكم بعضاً. ذلكم، أي: المتاب، خير لكم عند خَالِقكم. قالوا: قد فعلنا يا موسى. فأخذ عليهم العهد والميثاق: لتصبرنَّ للقتل ولترضَوُنَّ به. قالوا: نعم. قال: فأَصبِحوا في أفنية بيوتكم، كل بني أب على حدتهم، ففعلوا. فأمر موسى السبعين الذين لم يكونوا عبدوا العجل من بني إسرائيل أن يأخذوا السيوف ثم يقتلون من لقوا. ففعلوا، فمشوا في العكسر، فقتلوا من لقوا. فبلغنا ـ والله أعلم ـ أن الرجل من بني إسرائيل كان يأتي قومه في أفنية بيوتهم جلوساً فيقول: إن هؤلاء إخوانكم أتوكم شاهرين السيوف، فاتقوا الله واصبروا، فلعنة الله على رجل حل حبوته، أو قام من مجلسه، أو أحدَّ إليهم طرفاً، أو اتَّقاهم بيد أو رجل، فيقولون: آمين. فجعلوا يقتلون من لَقُوا. ثم نزلت الرحمة من الله فرفع عنهم السيف وتاب الله عليهم. [وذلك قوله: { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }. وكانت قتلاهم ـ فيما بلغنا، والله أعلم ـ سبعين ألفاً.

وقال بعض المفسرين: أمروا أن ينتحروا بالشِّفار. فلما بلغ الله فيهم نقمته سقطت الشفار من أيديهم، فكان للمقتول شهادة، وللحي توبة.
{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَامُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } * { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ ٱلْمَنَّ وَٱلسَّلْوَىٰ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
قوله: { وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } أي لن نصدّقك. { حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً } أي عياناً { فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ }. يعني أنهم أُميتوا عقوبة ثم بُعِثوا ليستكملوا بقية آجالهم.

وقال الكلبي: بلغني أنهم هم السبعون الذين اختار موسى من قومه فذهبوا معه إلى حيث كلمه ربه، فقالوا: يا موسى، لنا عليك حق؛ كنا أصحابك، لم نختلف ولم نصنع الذي صنع قومنا، فأرنا الله جهرة كما رأيته أنت. فقال لهم موسى: ما رأيته، ولا كانت مسألتي إياه أن أنظر إليه بالمجاهرة كما سألتم. وتجلَّى للجبل فصار دكّاً، وخررتُ صعِقاً. فلما أفقتُ سألت الله واعترفت بالخطيئة. فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم. فظن موسى أنما احترقوا بخطيئة أصحاب العجل فقال موسى لربه:
{ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ. أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ }
[الأعراف:155]. فبعثهم الله من بعد موتهم لعلهم يشكرون. أي: لكي يشكروا الله. فلما قدم نبي الله المدينة، فكلّمته اليهود، ودعاهم إلى الله وإلى كتابه، فكذّبوه وجحدوه، أنزل الله
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }
[البقرة:75]. قال الحسن: هو ما حرّفوا من كلام الله.

قوله: { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المَنَّ وَالسَّلْوَى }. ذكروا أن مجاهداً قال: الغمام غير السحاب.

قال الكلبي: لما سلكوا مع موسى أرض التيه والمفاز ظلّل الله عليهم الغمام بالنهار، يقيهم حر الشمس، وجعل لهم بالليل عموداً من النار يضيء لهم مكان القمر، وأنزل عليهم المنّ والسلوى.

قال بعضهم: المنّ صمغة تسقط عليهم من السماء. وكان ينزل عليهم المنُّ في محلّتهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. وكان أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل؛ فيأخذ أحدهم ما يكفيه يومه، وإن تعدّى ذلك فسد ولم يبق عنده. حتى إذا كان يوم سادسهم، يعني يوم الجمعة، أخذوا ما يكفيهم ذلك اليومَ ويومَ سابعهم، يعني السبت، فيبقى عندهم، لأن يوم السبت إنما كانوا يعبدون الله فيه، لا يشخصون لشيء من الدنيا ولا يطلبونه. قال: والسلوى السُّمَانَى، طير إلى الحمرة كانت تحشرها عليهم الجنوب، فيذبح الرجل ما يكفيه يومَه، فإن تعدّى ذلك فسد ولم يبق عنده، إلا يوم الجمعة فإنهم كانوا يذبحون ليومهم والسبت.

قوله: { كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } يعني بالطيبات المن والسلوى { وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي بمعصيتهم. وقال بعضهم يضرّون أنفسهم. وقال بعضهم ينقصون أنفسهم، وذلك تعدّيهم في المن والسلوى.


{ وَإِذْ قُلْنَا ٱدْخُلُواْ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ ٱلْمُحْسِنِينَ } * { فَبَدَّلَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ ٱلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ }
قوله: { وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ القَرْيَةَ } أي بيت المقدس { فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً } أي لا حساب عليكم فيه. { وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً } قال بعضهم: هو باب من أبواب بيت المقدس { وَقُولُوا حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ } فازدحموا على أوراكهم خلافاً لأمر الله.

وقال الحسن: رفع لهم باب، فأمروا أن يسجدوا لله، يضعوا جباههم ويقولوا حطّة، وهو كقولك: احطط عنا خطايانا. وإنما ارتفعت لأنها حكاية. قال: قولوا: كذا وكذا. قال الحسن: فدخلوا وقد حرفوا وجوههم، ولم يسجدوا وقالوا: حنطة. وقال بعضهم: بل قالوا حبة شعيرة.

قال الله: { فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً [أي: عذاباً] مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ }. قال بعضهم: بلغنا أن ذلك العذاب كان الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً.

ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الطاعون بقية رجز وعذاب عذِّب به من كان قبلكم، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإن وقع بأرض ولستم فيها فلا تقدموا عليها " وذكروا عن النبي عليه السلام أنه قال: " الطاعون رجز أرسل من قبلكم على بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض فلا تخرجوا فراراً منه، وإذا سمعتم به في أرض فلا تدخلوا عليه ".

وتفسير مجاهد: أمر موسى قومه أن يدخلوا سجداً ويقولوا حطة، وطؤطئ لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم فلم يسجدوا، وقالوا حنطة، فنتق فوقهم الجبل، أي: قطع؛ فجعل فوقهم وأشرف به عليهم. فدخلوا الباب سجداً على خوف وأعينهم إلى الجبل، فرفع عنهم.

وقال الكلبي: لما فصلت بنو إسرائيل من أرض التيه ودخلوا العمران، وكانوا بجبال أريحا من الأردن قيل لهم: ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغداً. وكانت بنو إسرائيل قد أخطأوا خطيئة، فأحبّ الله أن يستنقذهم منها إن تابوا، فقيل لهم: إذا انتهيتم إلى باب القرية فاسجدوا، وقولوا حطة تحط عنكم خطاياكم، وسنزيد المحسنين الذين لم يكونوا من أهل تلك الخطايا إحساناً إلى إحسانهم. فأما المحسنون ففعلوا ما أمروا به. وأما الذين ظلموا فبدّلوا قولاً غير الذي قيل لهم فقالوا: حطتا سمقتا بالسريانية: أي: حنطة حمراء استهزاءً وتبديلاً لقول الله. قوله: { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ }. أي: من كان محسناً زيد في إحسانه، ومن كان مخطئاً غفرت له خطيئته.