عرض المشاركة وحيدة
  #21  
قديم 08/11/2006, 09:30 AM
ونيس الروح ونيس الروح غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 30/09/2006
الإقامة: الأرض
المشاركات: 114
الشيخ محمد بن محبوب الرحيلي

هو الشيخ العلامة محمد بن محبوب بن الرحيل بن سيف بن هبيرة المخزومي القرشي، أبو عبد الله، كهف من كهوف العلم، وأحد المجتهدين، انتهت إليه إمامة الإباضية العلمية في أيامه بالمشرق بعد أبيه، والظاهر أنه ولد في البصرة أو مكة، وليس في عُمان، وعاش في مكة فترة من الزمن، ثم قدم عمان، فتصدى لنشر العلم، من مشايخه: والده محبوب بن الرحيل، والشيخ موسى بن علي الإزكوي، وأخذ عنه العلم كثيرون منهم: ولداه بشير وعبد الله، وعزان بن الصقر، وأبو المؤثر الصلت بن خميس الخروصي، والفضل بن الحواري الإزكوي وغيرهم، وقد ترك ثروة علمية ضخمة، فمن مؤلفاته: (كتاب الجامع) في سبعين جزءا، وكان الشيخ أبو صالح بكر بن قاسم اليراسني من علماء المغرب يقول في (كتاب الجامع): " هذا كلام محقق، فقيه، أصولي"، وله كذلك كتاب آخر في السنة ومصطلح الحديث تحت عنوان (أبواب مختصرة من السنة) لا يزال مخطوطا، وله سير عديدة، وقد وعمل الشيخ محمد بن محبوب قاضيا على صحار بعُمان في عهد الإمام غسان بن عبد الله اليحمدي (حكم عُمان: 192هـ/807م-207هـ/822م)، وفي عهد الإمام الصلت بن مالك الخروصي (حكم عُمان: 237هـ/851م-275هـ/888م) كذلك، وقد توفي الشيخ محمد بن محبوب في صحار بعُمان سنة 260هـ/873مi.
هذه (السِّيرَة) التي نحن في صدد الحديث عنها موجهة من الشيخ محمد بن محبوب إلى الإمام أحمد بن سليمان بن عبد العزيز الحضرمي، من أئمة حضرموت في تلك الفترة، والذي يظهر من نسبه أنه ابن الإمام سليمان بن عبد العزيز الحضرمي، الذي تولى الإمامة بحضرموت في نهاية القرن 2هـ/8م وبداية القرن 3هـ/9م، والذي يظهر أن فترة إمامته كانت مواكبة لعهد الإمامين غسان بن عبدالله اليحمدي (حكم عُمان: 192هـ/807م-207هـ/822م)، وعبد الملك بن حميد (حكم عمان: 207هـ/822م-226هـ/840م)، وذلك أن الإمام سليمان الحضرمي كان من طلاب الشيخ هاشم بن غيلان، وهذا الأخير كان معاصرا للأئمة محمد بن أبي عفان والوارث بن كعب وغسان وعبد الملك، ومات في عهد هذا الأخير، وكان البروز الأكبر للشيخ هاشم بن غيلان في عهد الإمامين غسان وعبد الملك، حيث إنه كان مشاركا في الأحداث التي وقعت في عهد هاذين الإمامين، وكان مرجع الفتوى فنستنتج من ذلك أن الإمام سليمان قصد هاشم بن غيلان لأخذ العلم على يديه في عهد هاذين الإمامين أي بين سنتي 192هـ/807م و226هـ/840م، فنفترض أنه قضى خمس سنوات عند الشيخ هاشم، إذا سيكون غادر عُمان في 197هـ/812م تقريبا، إذا لعل دولته قامت بعد 197هـ/812م، أي أنها كانت معاصرة لدولتي الإمامين غسان وعبد الملك.
ولعل دولته استمرت إلى عهد الإمام المهنا بن جيفر اليحمدي (حكم عُمان: 226هـ/840م-237هـ/851م)، ومما يؤكد ذلك أنه ظهر في حضرموت بعد سنة 237هـ/851م إمام آخر وهو الإمام أحمد بن سليمان بن عبد العزيز الحضرمي، وكانت دولته معاصرة لدولة الإمام الصلت بن مالك الخروصي بعُمان (حكم عُمان: 237هـ/851م-275هـ/888م)، والذي يظهر أن هذا الإمام أحمد الحضرمي هو ابن الإمام سليمان بن عبد العزيز الحضرمي كما يظهر من نسبه، فلعله بويع بالإمامة بعد موت والده، وقد كانت دولة الإمام أحمد معاصرة لدولة الإمام الصلت بن مالك بعُمان (حكم عُمان: 237هـ/851م-275هـ/888م)، إذ إنه في عهده وقعت أحداث وانقسامات في صفوف أهل حضرموت، وأرادوا عزله وتقديم إمام آخر من غير علة، فأرسل إلى الإمام الصلت وعلماء عُمان وعلى رأسهم الشيخ محمد بن محبوب لفك النزاع وربئ الصدع، وللأسف فإن رسالة الإمام أحمد إلى الإمام الصلت مفقودة فعسى أن تكون لازالت موجودة في مكان ما، فيقيض الله تعالى لها من يكتشفها ويخرجها إلى النور.
أوكل الإمام الصلت إلى محمد بن محبوب النظر في أمر أهل حضرموت، والحكم بينهم، فحرر ابن محبوب رسالة جواب لرسالة الإمام أحمد، استهلها بقوله: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى الإمام أحمد بن سليمان المبتلى بأمور أهل حضرموت ومن قبله من المسلمين، من الإمام الصلت بن مالك المبتلى بأمور أهل عُمان، ومحمد بن محبوب ومن قبله من المسلمين سلام عليكم؛ فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو وصلى الله على محمد النبي وعليه السلام وعلى جميع النبيين، ونوصيكم بتقوى الله ولزوم طاعته بما فرض، والتوسل إليه بما استفرض قبل ولات حين مناص ولا يُقدر على خلاص.. وتقع الرسالة في 11 صفحة، ويظهر من خلال محتوى الرسالة أنه وقعت فتنة عظيمة في صفوف أهل حضرموت، فبغت فئة منهم على الإمام أحمد، وقاموا بمبايعة إمام آخر، وناصبوا الإمام أحمد القتال، وتبعهم بعض الجهال وسفهاء الأحلام.
وقد احتوت رسالة ابن محبوب على نصائح وإرشادات لكيفية التعامل مع هذه الفتنة والقضاء عليها، وتخللها التذكير بالله تعالى، والحث على الجهاد والالتزام بالدين، والرجوع إلى الحق المبين، وتضمنت الكثير من الشواهد القرآنية والأحاديث النبوية وآثار من سير الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وبعض الصحابة، وسير بعض الأئمة والعلماء السابقين...
ولا بأس من أن نعرض بعض المقتطفات من الرسالة، محاولين معرفة كنه هذه الفتنة، متصورين من خلالها بعض الأوضاع التي عايشتها دولة الإمام أحمد بن سليمان بحضرموت.
تقدم ذكر بعض ما جاء في مقدمة الرسالة، ومما جاء فيها بعد ذلك قوله: "... وقد ورد علينا من أخباركم، وحلول الفتنة بين أظهركم، حتى تفرّقَ الشّملُ، ونُزِفَ العقلُ، وطُفِيَ العدلُ، ونُقِضَت العُهود، وعُطِّلت الحدود، وأُطيعَ الشيطان، وقُطعَ الرَّحِمُii رَحِمُ الإسلام، وكُفِرَ الأنعام، وبدأ الناس من الفتن إلى دعوة الجاهلية، وأظهروا العصبية والحمية، فقتلوا عليها النفوس، وحادّوا العزيز القدوس، وأحرقوا الذِّمَار ونسوا الجنة والنار، ونهبوا الأموال، وقتلوا الأطفال، واختاروا على الهدى الضلال، واختاروا على الأمان الأغلال والأنكال، ونارا لا يفك منها الأسير، ولا يجبر الكسير، ولا يرحم فيها الكهل الكبير ولا الشاب النضير، وكلهم يصير إلى شر مصير، وإلى عذاب السعير..."
نستنتج من خلال النص السابق أن هذه الفتنة وقعت في صفوف أهل حضرموت أنفسهم، فتفرق بها شملهم وصفهم، واختلفت كلمتهم ووحدتهم، مما نجم عنه وقوع عدة حوادث من قتل للنفوس ونهب للأموال بل وحتى قتل الأطفال، وثارت بينهم حمية القبلية، فلعل التعصبات والنعرات القبلية كان لها دور في هذه الفتنة العظيمة التي اجتاحتهم.
والذي يظهر أن الفتنة كانت عظيمة حتى أن أهل عُمان تأثروا بها وبكوا للوضع الذي آل إليه إخوانهم من أهل حضرموت ويظهر ذلك من قول ابن محبوب: "... يا أيها الإمام ويا معاشر المسلمين قد أبكيتم منا العيون، وحركتم منا السكون، وتلاحمت علينا فيكم الغموم، وحمت الهموم، إذ كان حزب الشيطان أسرع إلى إجابته من حزب الرحمن إلى نصرته، فهدمت من الإسلام حصونه، وفقيت عيونه، وأنتم قعود أو قيام أو رقود، فإنا لله وإنا إليه راجعون....
ثم قال: "... يا معشر المسلمين من أهل حضرموت، ويا أهل المعروف والنهي عن المنكر، بايعتم إمامكم وأعطيتموه عهدكم وميثاقكم على السمع له والطاعة ما أطاع الله ورسوله، وأنتم تقرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان، وتقرون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلوب والأيدي والألسنة، وميتُ الأحياء هو الذي لم ينكر المنكر بقلبه ولا بيده ولا بلسانه...".
نلاحظ من خلال هذا النص ابن محبوب يخاطب أهل حضرموت، ويذكرهم بما اتصفوا به من صفات الخير من كونهم أهل أمر بمعروف ونهي عن المنكر، وذكرهم بالبيعة التي في أعناقهم تجاه الإمام أحمد بن سليمان، وأنهم عاهدوه على السمع والطاعة ما أطاع الله ورسوله، وذكرهم ببعض عقيدتهم من إقرارهم بكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان، ويكونان بالقلوب والأيدي والألسنة؛ والذي يظهر أن ابن محبوب تعمد هذا الأسلوب في الخطاب حتى يثير كوامن الغيرة على عقيدتهم، فيرفع بذلك من همهم ويشحذ قواهم ليلتفوا حول إمامهم، بل الملاحظ على غالب الرسالة هذا المنهج من تذكير بالله واستشهاد بآي القرآن الكريم والأحاديث النبوية وسيرة الصحابة والتابعين؛ ويلاحظ كذلك أسلوب التقريع في الخطاب، ومثال على ذلك النص السابق أعلاه.
والذي يظهر أن طائفة بغت على الإمام أحمد، وخرجت عن أمره، وناصبته القتال، ويظهر ذلك من قول ابن محبوب: "... إذ لم تقوموا بصفوتكم، ولم توفوا بعهدكم، ولم تنصروا المظلوم على الظالم، ولم تجاهدوا الباغي الآثم، والله يقول: ?فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ? (الحجرات: 9)، فما عذركم عند الله ولم تجاهدوا في سبيل الله، ولم تدفعوا عن حرم الله، ولم تكونوا مع من بغي عليهم، حتى ينصركم الله أو يتوفاكم إلى جنته...
ويظهر أن الإمام أحمد كان ينوي الخروج إلى اليمن لضمها إلى دولته بحضرموت، ويظهر ذلك من قول ابن محبوب مخاطبا الإمام أحمد: "... وأنت كنت تروم الخروج إلى اليمن لإظهار الحق وإخماد الجور، ولبس المعروف، ووضعه في موضعه، وكتبت إلى أبي عبد الله تستشيره في ذلك، فكتب إليك إذا كنت تخاف أن يخلفك السّباع في رعيتك التي تخرج من عندها فلا أرى لك أن تضيّع هذه الرعية، وتمكن منها الذياب والسّباع بحفظك لغيرها، وتركت رعيتك مقهورة محقورة، فإن قلت وقال من خذلك: أن الرعية التي أحدثت ونكثت، فذلك فعل الرجال، فما جرم الأرامل والأطفال؟ الذين أنت خليفة الأيامى واليتامى، وأصبحت وأمست الأرامل وذوات الخدور قد هتكت عنها الستور، وأنتم في الدور وفي الحبور، وقد أخرجن من الصَّيَاصِي وحسرن عن النواصي، وأنت عنهن نائي قاصي... والذي يظهر أن الإمام أحمد وقع في أخطاء أضعفت من قوة دولته، وذلك بسبب استشارته لبعض الجهّال ممن يتسربل بسربال العبادة، فمما قام به بيعه لخيل وسلاح بيت مال الدولة، وتفريق مالها على الفقراء، وترك صلاة الجمعة، فيقول ابن محبوب في ذلك: "... وقد بلغنا أنك بعت خيل بيت مال الله وسلاحكم، وفرّقت أثمان ذلك مع ما كان عندك من طعام مال الله وماله على الفقراء، وكان ذلك برأي من أشار عليك، مع تركك لصلاة الجمعة، فأبكى ذلك عيوننا، وأبكى قلوبنا، إذ انهزمت بغير قتال، وتركتم أمر الله ليس له وال، ولا هيبة لأهله ولا إجلال، وخلعت عنك جمال ذلك السربال، وأوهنت ركن أهل الإيمان، وأشمت أهل الشنان... فما كنّا نحب لك أن تكسر جناحك ولا تبيع خيلك وسلاحك، ولا تفرق مال الله على الفقراء، ولكن تبذله للنصر، أو تعدّه لغد سترا أو عذرا، فإن إقامة دين الله يوما واحدا أفضل من إنفاق ملء الأرض ذهبا صدقة على الفقراء، ولا نرى لك أن تترك صلاة الجمعات دون الجهاد والإثخان في الأرض...".
والذي يظهر من خلال الرسالة أن بعض من خرج على الإمام أحمد سعى إلى تنصيب إمام غيره، فيقول ابن محبوب: "... وقد بلغنا أنكم تذكرون أو يذكر منكم من ذكر عزل هذا الإمام وإقامة إمام غيره، فاتقوا الله ثم اتقوا الله، فإن هذا جور كبير إن عزلتم إمام عدل على غير حدث، وقد أعطيتموه بيعتكم وعهدكم وميثاقكم على أن تطيعوه ما أطاع الله ورسوله، فهذا عقد لا يحل لكم أن تحلوه إلا بحدث يكفر به الإمام ويحل به دمه، فيستتاب فيصر على حدثه ولا يتوب، فعند ذلك يجوز خلعه، وتحرم نصرته، ويستبدل به من هو أعدل منه.
ثم بعد ذلك بدأ ابن محبوب بتوجيه النصح والإرشاد للإمام أحمد كيف يتعامل مع هذه الفتنة ومع من خرج عليه؟ والمسلك الذي يسلكه؟ فغلب على خاتمة الرسالة أو السِّيرَة التوجيهات السياسية والحربية، وقد أخذت تلك التوجيهات السياسية والحربية ما يقارب من ثلاث ورقات في (م) من ورقة 232-235، وفي (ق) من ورقة 181-183.
والحقيقة إن رسالة محمد بن محبوب إلى الإمام أحمد بن سليمان الحضرمي لخير مثال لمن أراد التعرف على الفكر السياسي عند العُمانيين في تلك القرون الهجرية الأولى، وكذلك فإنها أعطتنا تصورا جيدا عن الوضع الحضاري والعلمي في كل من عُمان وحضرموت، والأوضاع التي عايشها أهل عُمان وأهل حضرموت -خاصة- في تلك الفترة، كذلك فإن هذه الرسالة أو (السِّيرَة) ساهمت في حفظ أعلام تمكنوا من إقامة دول لهم في حضرموت كالإمام أحمد ووالده سليمان بن عبد العزيز الحضرمي، ولولا هذه (السِّيرَة) لغاب عنا جانب مهم من تاريخ حضرموت والعلاقات بينها وبين عُمان في القرن 3هـ/9م.
وإلى لقاء مع سِيرَة جديدة...

i - الدرجيني ، الطبقات ، 2/357- الجيطالي ، القواعد ، 1/54 الهامش ، 1/55 - 56 الهامش - النامي ، دراسات عن الإباضية ، ص50 ، 79 ، 126- 127- الجعبيري ، البعد الحضاري ، ص107 الهامش - الجعبيري ، علاقة عمان بشمال إفريقيا ، ص30- الراشدي ، الإمام أبو عبيدة ، ص27 الهامش ، ص50 الهامش ، ص242- 243- السيابي ، عمان عبر التاريخ ، 2/37 ،69 ، 78 ، 102 ، 104 ، 113- السالمي ، تحفة الأعيان ، 1/107 ، 109 ، 112 ، 119 120، 124 ، 132 ، 133 ، 154 ، 155 ،160 ، 193، - البطاشي ، إتحاف الأعيان ، 1/217 - 219، 250-253- د/ إبراهيم بحاز و د/ حسن الملخ ، الملتقى العلمي حول تراث سلطنة عمان الشقيقة قديما وحديثا ، 1- بحث " تطور علم الأصول في المصادر العمانية ، د/ مصطفى باجو ، ص122 الهامش ، 2- بحث " العلاقات الثقافية بين عمان والجزائر ، محمد بوحجام ، ص235 الهامش ".
ii - " الرحم " لم ترد في ( م ) ، ووردت في ( ق ) ، ففي ( م ) : " ... وقطع رحم الإسلام ... " ، وفي ( ق ) كما أثبتناه أعلاه .