الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #88  
قديم 18/04/2004, 04:01 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Thumbs up

من أجل إعادة بناء الفكر السياسي في الإسلام

د. محمد عابد الجابري
لم تكن الثغرات الدستورية التي برزت في أواخر عهد عثمان والتي كانت وراء "انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض" هي وحدها الدروس السياسية التي يمكن استخلاصها من التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية (انظر المقال السابق). هنا جوانب أخرى لابد من إبرازها، وبالخصوص منها الكيفية التي دأب الحكام في الإسلام على اعتمادها في إضفاء الشرعية على حكمهم ابتداء من معاوية أول ملك في دار في الإسلام.
لقد كان معاوية يعرف جيدا أنه اغتصب الحكم بالسيف، وأنه بالتالي يفتقد الشرعية التي تأسس عليها الحكم في الإسلام منذ أبي بكر، شرعية "الشورى"، فراح يلتمس الشرعية لحكمه من "القضاء والقدر" من جهة، ومن العمل، من جهة أخرى، على استرضاء الناس بالتلويح لهم بإشراكهم في ثمار الحكم، خصوصا المادية منها. وهكذا نجده من جهة يكرر في خطبه أن ما حدث من حرب بينه وبين علي بن أبي طالب، وما كان من انتصاره وانتزاعه الحكم، إنما كان "بقضاء الله وقدره"، وبالتالي فالله هو الذي قضى "بسابق علمه" أن يتولى الأمويون الحكم لأنهم أهل له وأكثر الناس خبرة بشؤونه. وقد ردد عماله هذه الفكرة نفسها، ومنهم زياد بن أبيه في خطبته المشهورة بـ"البتراء" التي قال فيها:"أيها الناس، إنا أصبحنا لكم ساسة وعنكم ذادَة نسوسكم بسلطان الله الذي أعطانا ونذود عنكم بفيء الله الذي خولنا". وخطب معاوية أمام معارضي تولية ابنه يزيد وليا للعهد فكان مما قاله:"وإن أمر يزيد قد كان به قضاء من الله وليس للعباد خيرة في أمرهم".

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، سلك معاوية سياسة "واقعية"، وعمل جهده على حمل الناس على النظر إلى مسألة الحكم بعين "الواقعية السياسية" التي تقوم على التسليم بالأمر الواقع. خطب في المدينة بعد تمام "البيعة" له "عام الجماعة" فقال:"أما بعد فإني ما وليتها بمحبة علمتها منكم ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة"، ثم قال إنه حاول أن يحمل نفسه على سيرة أبي بكر أو عمر أو عثمان، ولكنها أبت ذلك ولم تستطع، ثم أضاف:"فسلكت بها طريقا لي ولكم فيه منفعة: مواكلة حسنة ومشاربة جميلة". "فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم ولاية". وقد سار "الخلفاء" الأمويون من بعده على هذا النهج فاعتمدوا القول بالجبر كإيديولوجيا والعطاء كممارسة سياسية، فكان هذا وذاك هما أساس الشرعية التي بنوا عليها حكمهم.

وعندما نجحت الثورة العباسية في إقامة دولتها، لم يكن من الممكن أن يعتمد رجالها صيغة إيديولوجيا الجبر الأموي، وهم الذين كان في صفوفهم رجال قياديون عارضوا الأمويين وحاربوهم رافعين شعارات إيديولوجية مضادة، وفي مقدمتها القول بقدرة الإنسان على إتيان أفعاله بحريته واختياره، وبالتالي تحمله المسؤولية على أعماله. من أجل ذلك عمدوا إلى التماس الشرعية لحكمهم، لا من فكرة "القضاء والقدر"، كما فعل الأمويون بل من عبارة "إرادة الله ومشيئته"، مع أن المعنى واحد: قالوا إن الله هو الذي شاء أن يحكموا، وإنهم إنما يحكمون بإرادته ويتصرفون بمشيئته. خطب أبو جعفر المنصور، المؤسس الفعلي للدولة العباسية، فقال:"أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه". وهكذا أصبح "الخليفة" الذي كان زمن الخلفاء الراشدين خليفة للنبي (أبو بكر)، أو خليفة لخليفته (عمر)، أو خليفة لخليفة خليفته (عثمان)، أقول أصبح "الخليفة" العباسي "خليفة الله" و"سلطانه في أرضه"، وأصبح ذلك هو أساس الشرعية عنده. وقد تكرس هذا الأساس، البعيد عن الإسلام كل البعد، بما نقله ابن المقفع وغيره من "الكتاب" (كتاب السلاطين) من مقولات الإيديولوجيا السلطانية الفارسية وغيرها التي تقوم على المماثلة بين الحاكم الطاغية المستبد وبين الإله... وفي بعض الأحيان المطابقة بينهما باتخاذ الحاكم إلها.

أما "فقه السياسة"، فلم يظهر إلا في فترة متأخرة مع الماوردي بصورة خاصة. لقد كان قبل ذلك "كلاما في الإمامة"، يرد به متكلمو أهل السنة على آراء الشيعة "الروافض" الذين رفضوا الاعتراف بخلافة أبي بكر وعمر وعثمان، وقالوا إن النبي كان قد أوصى لعلي بن أبي طالب بالإمامة من بعده، فقام متكلمو أهل السنة يردون على ذلك بإثبات صحة خلافة كل من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، مستندين إلى الوقائع التاريخية، ثم بنوا على ذلك ما اعتبروه شروطا في الإمامة وكيفية تعيين الإمام الخ، محاولين الارتفاع بالكيفية التي جرت بها الأمور زمن الخلفاء الراشدين إلى مستوى "السوابق" "التشريعية". وكان ذلك كله بهدف مواجهة الباطنية والروافض من الشيعة، فكان "فقه السياسة"، في حقيقته وجوهره، تشريعا لماضي الحكم في الإسلام، وبالخصوص فترة الخلفاء الراشدين، ولم يكن تشريعا لا للحاضر ولا للمستقبل. نعم لقد حاول الماوردي إضفاء نوع من الشرعية على الحكم في عصره على مستوى "الأحكام السلطانية"، أي الوظائف الإدارية و"الولايات الدينية" من قضاء وغيره، ولكن "تشريعه " ذاك لم يكن سوى وصف لأمر واقع، ومحاولة لإضفاء نوع من الشرعية الفقهية عليه. وقد تطور "فقه السياسة" بعد الماوردي عبر سلسلة من التنازلات والتخلي عن الشروط، حتى انتهى به الأمر إلى الاعتراف بأن الحكم إنما يتم بالشوكة والغلبة (الغزالي ومن جاء بعده) ثم انتهى الأمر بالفقهاء إلى صياغة "مبدأ كلي" يلغي "فقه السياسة" إلغاء تاما. مبدأ يقول:"من اشتدت وطأته وجبت طاعته". وقد عبرت عنه "العامة" في المغرب بهذا الدعاء:"الله ينصر من أصبح!".

تلك هي الدروس السياسية التي تقدمها لنا التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية، الدروس المستخلصة من السياسة المطبقة، أولا قبيل "انقلاب الخلافة إلى ملك" (الثغرات الدستورية موضوع المقال السابق) ثم بعد انقلابها إلى نظام في الحكم يلتمس الشرعية لنفسه من التمويه الإيديولوجي والعطاء السياسي، وقبل ذلك وبعده: من الشوكة والغلبة.

ولكن التجربة التاريخية للأمة العربية الإسلامية ليست هي السياسة المطبقة وحدها، بل إنها أيضا ما نعبر عنه هنا بـ"الخلقية الإسلامية" في الحكم، تلك الخلقية التي بقيت تلهم الفكر الحر وتنعش الآمال في الإصلاح والتغيير. والعناصر الأساسية في هذه الخلقية، التي يجب التماسها في عهد النبوة، هي التالية:

ا- الشورى. لقد جعل القرآن الكريم من الشورى خصلة من الخصال الحميدة، جنبا إلى جنب مع الإيمان بالله والتوكل عليه وتجنب الكبائر وإقامة الصلاة... الخ، فقال تعالى:"فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى، للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون، والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون، والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون" (الشورى 36-39). ويؤكد القرآن الكريم هذا المعنى نفسه متوجها بالخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليجعل من الشورى صفة من الصفات الحميدة التي يجب أن تبنى عليها علاقته بأصحابه، فقال تعالى:"فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك، فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر"(آل عمران 159).

2- المسؤولية وتوزعها في جسم المجتمع. لقد كان الفكر السياسي في حضارات الشرق القديم، من فرعونية وبابلية وعبرانية وفارسية، يقوم على نموذج "الراعي" الذي يرعى قطيعا من الغنم. فالحاكم "راع" والباقي قطيع (أي رعية). ويقوم هذا النموذج على المطابقة بين "راعي الكون" (الله) وراعي "القطيع" من البشر (الرعية). أما في الإسلام- إسلام عصر النبوة، لا إسلام الإيديولوجيا السلطانية- فقد أصبح لمضمون "الراعي" معنى آخر، وذلك من خلال الحديث النبوي الشهير القائل:"ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته: فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه. ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". وواضح أن الرعاية هنا تعني حفظ الأمانة وتحمل المسؤولية، وهي ليست من اختصاص شخص بمفرده، بل هي موزعة في جسم المجتمع كله من أعلى الناس إلى أدناهم. والأهمية السياسية التي ينطوي عليها هذا المبدأ هي أنه ينص على توزيع المسؤولية، فلا استئثار بها ولا استبداد.

3- أما العنصر الثالث من العناصر المؤسسة للخلقية الإسلامية في ميدان الحكم والسياسة وغيرهما من شؤون الدنيا التي ليس فيها نص فهو قوله عليه الصلاة والسلام:"أنتم أدرى بشؤون دنياكم". لقد مر ذات يوم بأناس يلقحون النخل فسألهم عما يفعلون، فقالوا: نلقحه لينتج. فقال: هلا تركتموه! ولما تركوه ولم ينتج أخبروه بذلك، فقال لهم:"أنتم أدرى بشؤون دنياكم". وبما أنه توفي عليه السلام من دون أن يعين من يخلفه، ولا طريقة تعيينه، ولا نوع اختصاصاته، ولا غير ذلك من شؤون الحكم والسياسة، فإنه لا مناص من اعتبار هذه الشؤون من جملة ما يدخل في قوله:"أنتم أدرى بشؤون دنياكم".

تلك في نظرنا هي الأسس التي تقوم عليها "الخلقية الإسلامية" في شؤون الحكم والسياسة. ونحن نستعمل هنا كلمة "الخلقية" لأن النصوص التي تقرر تلك المبادئ ليست نصوصا تشريعية، أو على الأقل اعتبرت وتعتبر كذلك، وهذا ما يجعل مجال الاجتهاد في شؤون الحكم واسعا غير محدود إلا بحدود المثل العليا التي يقررها الإسلام... ومن هنا يتجلى بوضوح أن إعادة بناء الفكر السياسي في الإسلام يجب أن تنطلق من إعادة تأصيل المبادئ الثلاثة المنوه بها أعلاه، وذلك بالصورة التي تجعلها تستجيب لحاجات عصرنا ومتطلباته: إن تحديد طريقة ممارسة "الشورى" بالانتخاب الديمقراطي الحر، وإن تحديد مدة ولاية رئيس الدولة في حال النظام الجمهوري، وإسناد مهام السلطة التنفيذية لحكومة مسؤولة أمام البرلمان في حال النظام الملكي والجمهوري معا، كما أن تحديد اختصاصات كل من رئيس الدولة والحكومة والبرلمان المنتخب انتخابا نزيها حرا بصورة تجعل هذا الأخير هو وحده مصدر السلطة... تلك مبادئ لا يمكن ممارسة "الشورى" في العصر الحاضر من دون إقرارها والعمل بها. إنها المبادئ التي بها وحدها يمكن سد الثغرات الدستورية الثلاث التي برزت في أواخر عهد عثمان، فأدت إلى "انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض".