الاصلاحات السعودية ...رهينة اتجاهات متباينة وجيوب مقاومة يقودها الحرس القديم
2004/02/04
نواف التميمي
لايحتاج القارئ لتاريخ المنطقة العربية الي جهد استثنائي للتاكد من حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي التي ظلت الدولة السعودية الحديثة تتمتع بها منذ تاسيسها في منتصف القرن العشرين.كما ان الباحث لايحتاج ايضا لاي جهد استثنائي للتوصل الي حقيقة ان هذا الاستقرار انما كان يختزل في احشائه الكثير من التناقضات والاعتراضات ازاء السلطة ، ودور النخبة المثقفة والمتعلمة في المشاركة في الحياة العامة والمشاركة السياسية ،ودور المؤسسات الدينية في ادارة شؤون الدولة،وجمود مؤسسات الدولة ونظام الحكم في مجارات التطورات الدولية والاقليمية.
غير أن حرب الخليج الثانية وأنهيارالاتحاد السوفيتي وظهور نظام عالمي جديد يستند الي قطب واحد مركزه في واشنطن ثم احداث الحادي عشر من سبتمبر الفين وواحد وتشكل جبهة "الحرب علي الارهاب" بقيادة الولايات المتحدة خلقت مناخا مناسبا لتيارات واتجاهات سعودية متعددة الالوان والانتماءات والمارب لتحريك المياه الراكدة و لتكثيف ضغوطها علي النظام السعودي للاستجابة لمطالبها في الاصلاح والتغيير ، مستغلة حالة الاستياء العام والضغوط التي يتعرض لها النظام داخليا وخارجيا.
واذا كانت تداعيات حرب الخليج الثانية قد اسست لبروز مقولات حقوق الإنسان واصلاح وتطوير أنظمة الحكم في الخليج. فان تداعيات ما بعد أحداث 11 سبتمبر،و سعي التيار اليميني الأمريكي لزج السعودية ضمن محور الشر عبر سلسلة من الحملات الإعلامية تتضمن إلصاق تهمة الارهاب الدولي بالسعودية عزز هذه الدعوات واتجه بها نحو التأطير او علي الاقل اتخاذ اشكال تقارب التيارات او الاتجاهات السياسية.
ومن باب التعامل مع هذه المعطيات والافرازات الجديدة،استجاب النظام السعودي لبعض المطالب بادخال سلسلة من التغيرات والاصلاحات من قبيل استحداث مجلس للشوري ،ومجلس وطني للحوار،واجراء انتخابات بلدية ، وتأسيس بعض الادارات للمشاركة في ادارة شؤون الدولة. لكن هذه الاجراءات لم تسهم في تحقيق الكثير للنظام السعودي الساعي للحفاظ علي ضمان استقراره وتمتعه بالتاييد والدعم الذي ظل يتمتع به لعقود طويلة.ولم تكن تلك "التنازلات" او"الاصلاحات" "الدفاعية" او "الحمائية" مرضية لا للمعارضة السعودية ولا لدعاة التغيير والاصلاح من الليبراليين او العلمانيين.وبينما اعتبرها البعض مناورة من النظام،رأي فيها البعض الاخر دون المطلوب علي اهميتها.
وبينما كانت الضغوط الخارجية والداخلية تشتد علي مؤسسة الحكم في السعودية بات المشهد السياسي السعودي يتشكل علي نحو غير مسبوق.وظهرت خلف دعوات الاصلاح والتغيير والتكيف مع المتغيرات الاقليمية والعالمية اتجاهات او توجهات داخل الاسرة الحاكمة نفسها وداخل المجتمع السعودي بامتدادته،وشكلت شعارات التغيير والاصلاح القاسم المشترك الاعظم بين كل هذه الاتجاهات رغم ان اهداف ووسائل ورؤي كل اتجاه جاءت متباينة وتختلف عن الاخرين.
وان كان من الجائز الحديث عن تيارات وحركات اصلاحية او معارضة باتت تشغل حيزا هاما علي الخارطة السياسية السعودية،فانه لايمكن الحديث عن أكثر من وجهات نظر او توجهات متباينة داخل بيت "ال سعود"،احيانا تتلاشي المسافات فيما بينها واحيانا تبدو وكأن اصحابها ينتمون الي كواكب عدة.
وداخل الاسرة الحاكمة في السعودية يمكن تلمس ثلاثة توجهات او"اتجاهات" رئيسية تسعي الي صياغة او"فرض"صفحة جديدة في تاريخ الدولة السعودية الحديثة.الاتجاه الأول وهو ما يوصف ب "المحافظ" او "الحرس القديم" ويسعي الي تطوير قدرات العائلة المالكة علي استيعاب التمدد في حجمها،واستيعاب الطبقة السياسية والمثقفة في ادارة شؤون الدولة وتوزيع الثروة بين الدولة والافراد واعضاء الاسرة الحاكمة مما ينزع فتيل الاحتقان داخل المجتمع ويجرد المعارضة السياسة من شعارات ترفع من وتيرة السخط والنقمة علي ابناء الاسرة الحاكمة.
وبالتالي فان أصحاب هذا الاتجاه يميلون الي احداث تغييرات شكلية لاتمس الجوهر الذي بينت علي اساسه العلاقات سواء داخل الاسرة الحاكمة اوداخل مؤسسات الدولة او في علاقة كل منهما مع الاخري. ويجد اصحاب هؤلاء الاتجاه في القوي الدينية المحافظة والقوي العشائرية التقليدية سندا او علي الاقل قاعدة تتلقي وتتقبل طروحاتهم المحافظة والمتمسكة بالقيم والمبادئ المتوارثة.
اما الاتجاه الثاني فيسعي بكل جدية لاخراج الدولة من عزلتها وتخلفها الحضاري باتجاه مواكبة المدنية الحديثة والانفتاح علي العالم،ومشاركة قوي المجتمع المدني في ادارة شؤون الحكم والثروة،والتمتع بحق المشاركة السياسية.واهم ما يميز هذا التيار تمسكه ب"سعودة" الاصلاح والتغيير اي رفض اللجوء لادوات خارجية او الاستجابة لاملاءات اجنبية وخاصة من قبل الولايات المتحدة كما أن اصحاب هذا التوجه يتمسكون بضرورة "طبخ الاصلاحات" علي نار هادئة دون احداث هزات او صدمات سياسية او اجتماعية يصعب السيطرة علي تفاعلاتها.ويجد اصحاب هذا الاتجاه في القاعدة العريضة من الاكاديميين والمثقفيين ورجال الاعلام والاعمال سندا لهم خاصة وان اطروحاتهم تلتقي وتطلعات "الليبراليين المحافظين" والعلمانيين.كما ان تطلعاتهم تجد صدي واسع الانتشار في صفوف الشباب الذي يشكل السواد الاعظم من المجتمع السعودي.
الاتجاه الثالث وهو الذي يلتقي مع الاول في كونه يسعي الي تطوير قدرات العائلة المالكة،و ويلتقي مع التجاه الثاني في تبني ضرورة استيعاب الطبقة السياسية والمثقفة في ادارة شؤون الدولة وتوزيع الثروة بين الدولة والافراد واعضاء الاسرة الحاكمة. ولكن هذا الاتجاه لا يري حرجا من النزول عند الاملاءات والبرامج او الخطط المستوردة.اي بتعبير اكثر وضوحا هو الاتجاه الذي يعكس الرؤية الامريكية في "دمقرطة" الحياة السياسية السعودية ولا يري بديلا عن احداث هذه "الدمقرطة" بالسرعة والشكل المحددين في الخطاب الامريكي.ويبدو أن هذا الاتجاه يجد في المجتمع السعودي من الرافضين أكثر من المؤيدين. وبينما يقتصر انصار هذا الاتجاه علي "الليبراليين جدا" او المعجبين بالنموذج الامريكي،فان معارضي هذا الاتجاه ينتشرون علي امتداد الخارطة السياسية افقيا وعموديا،داخل الاسرة الحاكمة وخارجها، من العشائر الي القوي الدينية وانتهاء بالليبراليين المحافظين واليساريين التقليديين.
أما خارج دائرة الاسرة الحاكمة، فقد بدأت موجة المعارضة والمطالبة بالتغيير والاصلاح تتبلور منذ التحضيرات التي سبقت حرب الخليج الاولي ومجيء القوات الامريكية الي السعودية باعداد كبيرة حيث بدات الانتقادات في خطب الجمعة ودروس الوعظ وكتابات بعض المثقفين،ورغم انها بدت في وقتها كمبادرات او رؤي فردية،فانها بلا شك تراكمت وشكلت مقدمات تؤسس لولادة تيار معارض وقوي تدعو الي الاصلاح والي ادخال تغييرات بنيوية علي النظام الحاكم والانفتاح الحضاري والمشاركة السياسية.وكان من ابرز حركات هذا التيار تلك المسماة "حركة الاصلاح" التي تتخذ من لندن مقرا لها.
وان كانت قوي اخري معارضة اختارت مسارا مغايرا في مواجهتها مع السلطات السعودية عبر ضرب المصالح الاجنبية في المملكة للضغط علي الحكومة لابعاد هذه الدول من الاراضي السعودية لانها تقوم بدور الاستعمار والهيمنة في المملكة.فان الاغلبية من التيارات والقوي والشخصيات السياسية رفضت النهج العنفي وأشارت إلي ضرورة إيجاد سبل أخري لمعالجة الأوضاع غير المستقرة، وأهمها المضي فورا ودون إبطاء في وضع مشروع الإصلاح الشامل في المملكة وعلي كل الأصعدة موضع التطبيق.
وتمثل هذا التوجه بصورة جلية في الدعوات المتتالية للالتفاف حول مضمون "عريضة الـ104" الإصلاحية، والتي سبق أن قدمها قبل عدة أشهر مجموعة من المثقفين السعوديين -من كافة الاتجاهات- للأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد السعودي، موضحين أنهم ينتظرون تطبيقا عمليا وخطوات جادة وحازمة علي طريق الانفتاح السياسي وتوسيع المشاركة السياسية لفعاليات المجتمع المدني.
ورغم اختلاف هذا الفريق مع ذاك،اواعجابنا بهذا التوجه او ذاك،فمما لاشك هو هذه الحيوية غير المسبوقة في الحياة السياسية السعودية،والتي تشير الي جدية "التحول الحتمي" المنتظر بعد المخاض السياسي الجاري في رحم المجتمع المدني السعودي.
ولكن السؤال المطروح والذي يشغل المراقبين يتعلق بولادة "التحول الحتمي" وهل انه سيري النور عبر عملية طبيعية ميسرة أم انه سيحتاج لعملية قيصيرية؟.الواضح لغاية اللحظة الراهنة يشير الي وجود الكثير من "جيوب مقاومة" تحول دون تطوير النظام السياسي للحكم باتجاه الاصلاح الدستوري الذي يؤدي إلي إقامة دولة المؤسسات، و الفصل بين السلطات، وإقامة سلطة تشريعية منتخبة مباشرة من الشعب تكون لها سلطة رقابية علي السلطات الأخري. وبعيدا عن الخوض في العوائق والعراقيل المتعلقة بالبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في المملكة وما يرتبط بذلك من افرازات الطفرة النفطية في السبعينات وماتلاها من تأسيس لمجتمع ريعي نفطي.فان العوامل التالية تبقي هي العصي الاغلظ التي تحول دون دوران عجلة التغيير:
- غياب اي وجود مؤسساتي لفعاليات المجتمع المدني الضاغطة من قبيل الاحزاب السياسية أو النقابات أو الاتحادات أو حتي الجمعيات المهنية والأهلية والنسائية والتي بجانب دورها في تأطير وتنظيم قوي المجتمع الفاعلة تشكل الرافعة الحقيقية لتقدم الحياة السياسية وحمايتها من المتهورين او المتطرفين او العابثين.
- الحضور القوي للمؤسسة الدينية المتزمتة والتي تظل أقوي المؤسسات التي تعيق تنفيذ الاصلاحات لتناقض مصالحها ومفاهيمها الجامدة مع المطالب السياسية والحقوقية، ورفضها حتي للمفاهيم التي تقبل بها التيارات الإسلامية المتنورة ،كمفهوم الحريات العامة وحقوق الإنسان والديمقراطية والمشاركة الشعبية والتعددية.
- النفوذ القوي ل"الحرس القديم" او القوي التقليدية المحافظة في مقابل الاصوات "الليبرالية" أو المقتنعة بضرورة تغيير الواقع السعودي بما يخدم تخفيف الاحتقانات الداخلية الناتجة عن الأزمات الاقتصادية أو السياسية أو جمود الحراك المجتمعي وبما يخفف أيضاً من التدخلات السافرة للمؤسسة الدينية في الحياة الخاصة والعامة للأفراد.
- ويعد غياب هيئة مخولة تضم جميع التيـارات السياسيـة و الدينيـة و الاقتصادية وأطياف المجتمع المدني. تتمتع بصلاحيات واسعة قصد القيام بتنفيذ استراتيجية التغيير و الإصلاح،من العوامل الاهم خاصة وأن هذا الغياب يفتح الباب أما اصوات كثيرة تتشدق بالاصلاح ولا تسعي اليه،ويفتح الباب لخلط كلام الحق بالباطل واضاعة الجهود الحقيقية التي تعمل بصمت خلف الابواق التي ينطبق عليها مقولة"اسمع جرشا ولا اري طحينا".
- أما من العوامل الخارجية فهناك التدخل الامريكي في شؤون السعودية ومحاولة املاء مطالب وشروط لا تراعي الخصوصية السعودية.وهذا التدخل الامريكي يجد معارضة اولا من المؤسسة الدينية وثانيا من القوي الوطنية وحتي من الاتجاهات الليبرالية المحافظة وبالتالي هو يخدم معارضي الاصلاح الحقيقي بدلا من كونه عاملا مساعدا لاتجاه الاصلاح.
هذه المحاولة لتوصيف المشهد السياسي السعودي لا تدعي النضوج او امتلاك الحقيقة الكاملة وانما هي نظرة من خارج الدائرة وتوصيف لا يمكن ان تكتمل عناصره قبل نضوج المشهد السياسي في العربية السعودية وتبلور اطار تنتظم في داخلة الحياة السياسية السعودية وبالتالي تصير قابلة للقراءة بشكل اكثر دقة.
صحافي من فلسطين يقيم في لندن
جريدة القدس العربى
|