الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #56  
قديم 06/02/2004, 09:52 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
د· محمد عابد الجابري:

الأخلاق والأحكام في القرآن ومنهجية الاجتهاد:
الثلاثاء 03 فبراير 2004 05:45

أكاديمي ومفكر - المغرب

التجديد في الدين يتطلب أساسا -عندما يتعلق الأمر بالإسلام- تجديد الفهم للقرآن· ومنذ القديم ميز علماء الدين في الإسلام بين الأحكام ومكارم الأخلاق· أما الأحكام التي تشرع للعبادات والمعاملات وما يتصل بها من عقاب وثواب···إلخ، فهي لا تشكل إلا نسبة صغيرة من عدد آيات الذكر الحكيم· أما الباقي فكله في الأوامر والنواهي الأخلاقية أو تدور حولها· وفي الجملة فمن جميع آيات القرآن، المكية والمدنية، التي يبلغ عددها 6236 آية، ليس هناك في موضوع الأحكام سوى 634 آية حسب الفقيه ابن العربي و500 آية حسب الغزالي، من القدماء، بينما يحصرها بعض المحدثين في 300 أو 340 آية، وينزل بها آخرون إلى نحو 200 آية·
والسبب في هذا الاختلاف يرجع إلى المعنى الذي يعطيه كل منهم لكلمة الحكم في عبارة آيات الأحكام· فبينما يوسع بعضهم كابن العربي معنى الحكم ليشمل الآيات التي تعبر عن الإرادة الإلهية كـخلق السموات والأرض وتقرر سنة الله في الكون··· إلخ، يحصر آخرون معنى الحكم في الأوامر والنواهي الخاصة بالعبادات والأحوال الشخصية وشؤون المعاملات، كالبيع والرهن والتجارة···إلخ، والقضايا الجنائية· وليس في كل ما تقدم من عقوبات جنائية إلا فيما يعرف بـالحدود وهي أربعة، حد الزنا، وحد القذف، وحد السرقة، وحد الحرابة (قطاع الطرق)· أما الباقي فيدخل كله في مجال الأخلاق، مجال الحث على الفضائل والنهي عن الرذائل·
وبما أن القرآن الكريم (والسنة النبوية المبينة له) لم يشرع لجميع جزئيات الحياة، ما كان منها في عصر النبوة وما طرأ بعدها، وهو كثير، فإن تطبيق الأحكام الشرعية على المستجدات التي تكاثرت باتساع رقعة بلاد الإسلام وتنوع عادات أهلها وأعرافهم وخضوع ذلك كله لسنة التطور، يقتضي الاجتهاد لالتماس الحكم الشرعي من القرآن والسنة وإجماع الصحابة، وبذلك صار الاجتهاد أصلا من أصول التشريع· والاجتهاد بهذا المعنى يعني الرجوع بالأحكام المنصوص عليها إلى عللها أو مقاصدها لتعميمها على المستجدات التي لم يرد فيها نص· وهنا انقسم المجتهدون إلى قسمين: قسم يعتمد منهجية تقوم على اعتبار العلل، وقسم يعتمد منهجية مبنية على اعتبار المقاصد· واختلاف الفقهاء في كثير من المسائل في عصرنا كما في العصور السابقة، إنما يرجع إلى اختيارهم هذه المنهجية أو تلك·
وهكذا فالجدل الذي أثير مؤخرا حول مسألة الحجاب، وحول الفوائد البنكية وغيرها يرجع من الناحية المنهجية الأصولية إلى ما يسمى بـدوران الأحكام، بمعنى هل الأحكام الشرعية تدور مع عللها أو مع حكمتها·
والفرق بين العلة والحكمة في اصطلاح الفقهاء: أن العلة وصف في الشيء الذي صدر فيه الحكم، وبذلك الوصف يعرف وجود الحكم· فالإسكار وصفٌ في الخمر وبه عُرف تحريمُه فهو إذن علة التحريم· والسفر والمرض هما العلة في إباحة الإفطار في رمضان الخ، وهكذا· فإذا عرف المجتهد العلة التي استوجبت الحكم في شيء معين عمموا ذلك الحكم على كل ما فيه تلك العلة· وإذا انتفت العلة سقط الحكم· وهذا هو معنى القاعدة الفقهية التي تقول إن الأحكام تدور مع عللها وجودا وعدما·
هذا عن العلة، أما الحكمة فهي الباعث على الحكم وهو إما جلب مصلحة وإما دفع مضرة: فالحكمة من تحريم الخمر هي دفع مضرة ذهاب العقل بالسكر، والحكمة في إباحة الإفطار في رمضان للمسافر والمريض هي دفع مضرة المشقة وهكذا··· فالحكمة، في نهاية التحليل، هي المصلحة التي روعيت في إصدار الحكم·
وأغلبية الفقهاء، يقررون أن الحكم الشرعي يدور مع علته وليس مع حكمته بحجة أن الحكمة قد تكون خفية غير ظاهرة، في حين أن العلة من شروطها أنها وصف ظاهر منضبط· فالحكمة من إباحة الإفطار في رمضان للمسافر والمريض هي دفع المشقة عنه، كما قلنا، فلو جعلنا الحكم يدور مع المشقة وجودا وعدما لوقعنا -كما يقولون- في اختلاف كبير حول تقدير حجم المشقة التي يجوز فيها الإفطار أو لا يجوز، وقد يؤدي بنا ذلك إلى إباحة الإفطار في مشاق أخرى غير تلك التي تحصل بالسفر والمرض، مثل مشاق العمل في المصانع وغيرها، وهذا في نظرهم غير مقبول· ومن أجل تلافي كل ذلك قالوا إن الحكم يدور مع علته لا مع حكمته لأن العلة كما قلنا هي-باصطلاحهم- وصف ظاهر منضبط ينبني عليه الحكم ويربط به وجودا وعدما ويكون مناسبا لحكمته، بمعنى أن بناء الحكم عليه من شأنه أن يحققها· وهكذا يقولون إن الإفطار في رمضان يجب أن يبنى على العلة وهي السفر والمرض، وليس على المشقة·
لا شك أن هذا النوع من الاستدلال والمحاجة مبرر تماما ومعقول تماما داخل إطار نظام معرفي استدلالي مبني على القواعد الأصولية التي وضعها الفقهاء القدامى والتي من جملتها القواعد الخاصة بالتعليل والقياس والدوران وما إلى ذلك· ولكن القواعد الأصولية هذه ليست مما نص عليه الشرع، لا الكتاب ولا السنة، بل إنها من وضع الأصوليين· إنها قواعد للتفكير، قواعد منهجية، ولا شيء يمنع من اعتماد قواعد منهجية أخرى إذا كان من شأنها أن تحقق الحكمة من التشريع في زمن معين بطريقة أفضل· والمجتهدون إنما هم مجتهدون لأنهم يتميزون عن غيرهم بما يضعونه من أصول وقواعد يلتزمونها، وهي تختلف قليلا أو كثيرا من مجتهد إلى آخر· والمذاهب الفقهية من حنفية وشافعية ومالكية وحنبلية وظاهرية وغيرها إنما تختلف عن بعضها بكون كل منها يعتمد قواعد منهجية تختلف من بعض الوجوه، على الأقل، عن تلك التي تعتمدها المذاهب الأخرى: هناك من يعتمد التعليل وهناك من يرفضه· وهناك من يعمل بالقياس وهناك من ينكره· هناك من يقول بدوران الأحكام مع عللها وهناك من يرفض القول بالدوران (ومنهم الحنفية)· وهناك من يقول إن الدوران يؤدي إلى اليقين (المعتزلة) وهناك من يقول إنه إنما يفيد الظن (الأشاعرة عموما) وهناك من يرى أن الدوران شرط في صحة العلة ولكنه ليس دليلا على صحتها···إلخ·
وإذن فالقول بأن الأحكام إنما تدور مع عللها وليس مع حكمها (=جمع حكمة) قول لا معنى له إلا عند من يقول بالتعليل (بالعلة) وبالدوران· أما من لا يقول بهذا ولا بذاك فلا يلزمه ذلك القول· ونحن عندما نطرح هنا هذه المسألة في إطار الدعوة إلى إعادة بناء الأصول، إلى إعادة تأصيلها، إنما نريد أن يتجه تفكير المجتهدين الراغبين في التجديد حقا، والشاعرين بضرورته فعلا، إلى القواعد الأصولية نفسها، إلى إعادة بنائها بهدف الخروج بمنهجية جديدة تواكب التطور الحاصل، سواء على صعيد المناهج وطرق التفكير والاستدلال أو على صعيد الحياة الاجتماعية والمعاملات الجارية فيها التي تفرضها مستجدات العصر وضروراته وحاجاته الخ· إن القواعد الأصولية التي ينبني عليها الفقه الإسلامي لحد الآن ترجع إلى عصر التدوين، العصر العباسي الأول، وكثير منها يرجع إلى ما بعده· أما قبل عصر التدوين هذا فلم تكن هناك قواعد مرسمة تؤطر التفكير الاجتهادي بمثل ما حدث بعد· والفقهاء الذين وضعوا تلك القواعد قد صدروا في عملهم الاجتهادي ذاك عن النظام المعرفي السائد في عصرهم وعن الحاجات والضرورات والمصالح التي كانت تفرض نفسها في ذلك العصر· وبما أن عصرنا يختلف اختلافا جذريا عن عصر التدوين ذاك، سواء على مستوى المناهج أو المصالح، فإنه من الضروري مراعاة هذا الاختلاف والعمل على الاستجابة لما يطرحه ويفرضه·
وإذا كان عمر بن الخطاب قد عمل باجتهاده، واجتهاد الصحابة الذين استشارهم، في مسألة فيها نص صريح، فوضع الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة بدل تقسيمها بين المقاتلين، مراعيا في ذلك المصلحة، مصلحة الحاضر والمستقبل، وإذا كان قد عدل عن قسمة الغنائم بالسوية، كما كان يفعل النبي وأبو بكر، وارتأى أن العدل يقتضي قسمتها على أساس السبق في الاسلام والقرابة من الرسول (صلى الله عليه وسلم)، إذا كان عمر بن الخطاب- المشرع الأول في الاسلام بعد الكتاب والسنة- قد اعتبر المصلحة ومقاصد الشرع فوضعهما فوق كل اعتبار، فلماذا لا يقتدي المجتهدون والمجددون اليوم بهذا النوع من الاجتهاد والتفكير، بدل الاقتداء بفقهاء عصر التدوين والترسيم؟ لماذا نضيق على أنفسنا ونسجن اجتهادنا في قواعد كانت تفي بالمصلحة والمقاصد، قليلا أو كثيرا، في زمان مضى، إذا لم تعد تفي بنفس الغرض اليوم على أكمل وجه، والحال أنها قواعد مبنية على ظن المجتهد وليس فيها شيء من القطع واليقين باعتراف أصحابها أنفسهم؟
أما دوران الأحكام مع المصالح فشيء يفرض نفسه ما دمنا نقرر أن المصلحة هي الأصل في التشريع، واعتقد أن هذا المبدأ هو الذي صدر عنه الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب· وإذن فالاجتهاد يجب أن يكون لا في قبول هذا المبدأ أو عدم قبوله بل في نزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم الدوران والعمل من أجل الارتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تتحدد من منظور الخلقية الإسلامية· إنه بدون هذا النوع من التجديد سيبقى كل اجتهاد في إطار القواعد الأصولية القديمة اجتهاد تقليد وليس اجتهاد تجديد حتى ولو أتى بفتاوى جديدة، حتى ولو جاء بتخريجات من ذلك النوع المعروف عند الفقهاء القدامى بـالحيل الفقهية· إن التطور الذي يطبع عصرنا لا تفيد فيه مثل تلك الحيل مهما كان شأنها، إنه تطور في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، محليا ودوليا، لن يستوعبه إلا فكر يرتفع بالاجتهاد والتجديد إلى مستوى هذا التطور ذاته· إن الاتجاه الإسلامي في الفكر العربي المعاصر مطالب بإعادة البناء في هذا الأفق وعلى هذا الأساس إذا هو أراد أن يتجاوز الشعارات العامة، التي من قبيل الاسلام هو الحل، إلى حلول عملية للمشاكل العملية التي تطرحها الحياة المعاصرة، حلول إسلامية فعلا ولكن معاصرة أيضا·

الاتحاد الإماراتية