الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #55  
قديم 05/02/2004, 09:52 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
:طالت فترة الانتظار العربي على إصلاح التعليم

الثلاثاء 03 فبراير 2004 05:12

د / محمد الرميحى

في آخر هذا الشهر فبراير 2004 سوف تعقد ندوة عربية واسعة تنظمها مؤسسة الفكر العربي في بيروت حول التعليم العربي العام، إصلاح ومناهج، في نفس فترة الإعداد أصدرت بالمصادفة مجلة الايكونومست البريطانية المعروفة في آخر عدد لشهر يناير تقريرا عن التعليم العربي نواقصه وتأثيراته، وهو واحد من التقارير العديدة التي تدفقت على العرب تصف ضحالة تعليمهم وهشاشة مؤسساتهم التعليمية، وكان أشدها نقدا هو تقرير التنمية بجزأيه لعام 2002 وعام 2003.وهو الذي أصبح اليوم أحد المراجع لكل من يريد أن يشير إلي تخلف العرب العلمي!
لا تنقصنا اليوم الحجج و الشواهد على وجود حقيقتين حولنا، الأولى أن العالم لم يتقدم ولا يتقدم دون المعرفة، تلك حقيقة أثبتها تاريخ البشرية الحديث منذ أكثر من قرنين على الأقل، منذ ثورة الميجي في اليابان في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، مرورا بالثورة الصناعية في أوروبا و ثورة المعلومات المعاصرة التي نشهدها الآن، أما الحقيقة الأخرى فان التعليم العربي لم ينهض لمواجهة التحدي الذي واجه العرب، وهو حتى اليوم مقصر في ذلك.
أما إذا بحثنا في الأسباب فهي كثيرة، ينظر اليها البعض من زوايا مختلفة، أما الحقيقة التي لا يستطيع عاقل أن يتجاوزها فهي أن القصور ما زال مستمرا، برغم كل التقارير و رغم كل الآراء النيرة التي قيلت من رجال التعليم العرب في السابق واللاحق، وغيرهم من المهتمين بضرورة تغيير هذا التعليم الشكلي الذي نمارس، إلي تعليم حقيقي يستجيب لمتطلبات العصر.
لعل أحد الأدلة الصارخة على قصور التعليم العربي، من حيث الكيف أن معظم المسئولين العرب عن التعليم إذا توفرت لهم الفرصة، واتيحت لهم الوسيلة، فإنهم لن يترددوا بإرسال أبنائهم إلي مدارس خاصة في الوطن أو خارجه من اجل التعليم!ومعرفتي بالبعض تؤكد ذلك.
في الوقت الذي تقول لنا كل الدراسات، أن تكلفة التعليم العام، في الدول العربية، اكبر بكثير من تكلفة التعليم الخاص، على الخواص! فالمشكلة هنا إذا ليست مالية بل مؤسسية.
تتنقل نكتة ثقيلة عن مواطن سوفيتي في الأيام الخوالي انه سئل ما هي أخبار العلاقة بأميركا قال انتظر حتى اقرأ البرفدا( الجريدة الرسمية) ثم سئل وماذا عن أخبار الاقتصاد قال انتظر حتى أقرا البرافدا، ثم سئل أخير وهو ينتفض من البرد، وما هي أخبار الجو هذا اليوم، قال لم أقرا البرافدا بعد!
لعل هذه النكتة المرة تتجلى من جديد في خريجي مدارسنا وجامعاتنا، فمعلوماتهم العامة ضئيلة إلي درجة تثير العاقل وتحير الحكيم، ومهاراتهم التقنية و الفنية معدومة، فأصبح تعليمنا في جله هو تعليم تلقيني لتخريج كتبة في الدولة أو مواطنين لا يملكون ممحية أبجديتهم، يجيدون النقل ولا يعرفو قيمة العقل، ولا غرو بعد ذلك أن يؤخذون حقا أو غير ذلك بالإيديولوجيات التي تعتبرهم أنفارا في قطيع وليس بشرا لهم عقول.
لقد خلط البعض كثيرا وطويلا بين تعليم وبين تجنيد، في الثاني المطلوب الطاعة وسماع الأوامر وفي الأول المطلوب المجادلة والنقاش والشك.
في تجربة جرت منذ أسابيع في الجامعة التي أدرسُ فيها، قررت أن اختبر قيمة مهمة في التنمية الحديثة وهي قيمة ( الثقة) فأعلنت لطلابي أن الامتحان الأخير لن يكون عليه رقيب منى أو من غيري، رقابتهم تنبع من أنفسهم، وبالفعل تم الامتحان، وعند الانتهاء منه، سئل زميل لي عددا كبيرا منهم، هل قمت بالغش، وكانت الإجابة صاعقة، لقد امتنعنا عن فعل ذلك لأننا نعتقد أن الجامعة و الأستاذ قد وضعوا (كاميرات) لمراقبتنا!
لا أفضل من مثل هذه التجربة التي تقدم لنا بوضوح كامل كيف استطاع التعليم الذي نقدمه في بلداننا من غرس رقابة افتراضية تنبع من الداخل، من الإنسان الذي يذكرك بإنسان البرافدا سابق الذكر.
تجربة ماليزيا التي نتحدث عنها كثيرا بدأت بقرار إصلاح التعليم، ومنها انطلقت إلي ما نعرفه اليوم من مساهمة عالمية في التنمية التي حققت لبلدها كل هذه الثروة و السمعة، وبلاد أخرى أيضا بدأت التغيير من التعليم، بل أن بلدانا غربية أخرى كلما واجهها تحد لجأت إلي التعليم، تنظر فيه وتقوم بتقويمه.
ولعل بعضنا يذكر التقرير الشهير الذي صدر في الولايات المتحدة بعد نجاح الاتحاد السوفيتي في وسط الستينيات من القرن الماضي لإرسال رجل إلي الفضاء، لقد كانت الصيحة وقتها انتبهوا إلي التعليم، ولا زالت بلاد مثل بريطانيا تتحدث برامجها السياسية عن نقلة نوعية في التعليم، وهي بلاد توصف على أنها متقدمة.
لقد أثقل التعليم العربي بأشكال من ( الادلجة) و ( القطعية) خلال سنوات طويلة، وتوارث العرب في بلادهم المختلفة وعلى درجات مختلفة هذه الادلجة و القطعية وسرعان ما تسربت إلي المناهج المدرسية، في الوقت الذي تؤكد كل تجارب العالم أن التعليم في أي موضوع هو نسبي وليس قطعي، فالتلميذ الذي كان يجيب عن إمكانية انشطار الذرة قبل أن يكتشف ذلك انيشتاين في العشرينيات من القرن الماضي، كان يسقط في الامتحان، بعد ذلك بسنوات من يقول أنها لا تنشطر يلاقي نفس المصير. اقصد أن العلم نسبي، منذ أن قال هيروقليطس قوله المشهور ( انك لا تستطيع أن تنزل النهر مرتين) أي أن الأصل في الأشياء هو الحركة لا الجمود.
وان أخذنا بعض الأمثلة نقول أن الخطوط العريضة للنظرية الاقتصادية الحديثة قد تغيرت وتبدلت منذ ادم سميث إلي روبرت سولو(الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد) فلو عاش الناس على نظرية ادم سميث لما وصلنا إلي ما وصلنا إليه من (عولمة)
إذا وضعنا الوعود و التأكيدات العامة الصادرة من الأجهزة الحكومية العربية جانبا فان إصلاح التعليم لم يتعد تلك الوعود العامة، ويبدو أن اصلاح المناهج هو في صلب إصلاح التعليم، إلا انه في الظروف و المعطيات الحالية، يكاد يكون شبه مستحيل، بالمعني الذي ينقل التعليم العربي إلي آفاق مرتجاة، فمن قمنا بتعليمهم شربناهم على طول السنين ( ينبغيات) يكاد لا يستطيعون منها فكاكا، فأصبحوا هم، لا غيرهم سدا منيعا للتطور!
لذا أصبح هناك اليوم في فضائنا العربي ما يمكن أن يسمي المناهج التعليمية الموازية، وهي أشكال من التعليم ظهرت أولا فيما سميناه ( المدارس الخاصة) وان كان على استحياء، ثم في الابتعاث إلى الخارج بعد ذلك، وهو اليوم يكاد أن يُوطن في أكثر من بلد عربي، واعني به ظهور الجامعات المشتركة بين بعض العرب وبعض الغرب، ربما مثل هذه الخطوات هي هروبية في أحسن أحوالها، لأنها تزيد من تقسيم المجتمع، وتترك التعليم العام نهبا للتردي و التصحر، إلا أنها للعاقل ربما خطوة قد تؤدي إلي الأفضل بعد حين.
هذا المنهج الموازي يقدم لشرائح في المجتمع العربي فرصة عدم الوقوع في تصادم مع القوى المحافظة التي ترغب، بسبب مصالح لها أو بسبب أفكار ومعتقدات، أن يظل الحال كما هو يراوح في مكانه، إلا أن السؤال هو هل تستطيع هذه المؤسسات ذات المنهج الموازي أن تقدم من المعرفة ما يعتقد القائمون عليها أنها تفعل؟ أم أن هناك بعض الخيوط المرئية وغير المرئية التي تربط بحبل سري مؤسسات المنهج الموازي بشؤون الدولة؟
لا زالت الجهود و الأموال المستثمرة في مؤسسات التعليم ذات المنهج الموازي محدودة، سواء أكانت الجامعة العربية المفتوحة أو الجامعات المشتركة التي تتكاثر.
سيظل أهل التعليم العرب في حيرة، ليس لنقص في أفكارهم وتطلعاتهم، إنما بسبب افتقاد المجتمعات العربية إلي ( إرادة التغيير) وهي في يد السياسيين أكثر منها في يد التربويين.

باحث كويتي

الوطن العمانية