الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #58  
قديم 07/02/2004, 11:49 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
من طيوب الذاكرة
بين المتنبي و أدونيس

د. رياض نعسان آغا


قد يستغرب كثيرون أن أجمع المتنبي وأدونيس في عنوان واحد يوحي بأن ثمة مقاربة أو مقارنة بين شاعرين أولهما رائد الكلاسيكية الأصيلة ، وثانيهما هادم الكلاسيكية الأصيلة ، ولكن هذا الحكم شكلاني متسرع ، وإن كان ثمة تضاد موضوعي ، فإنه بحد ذاته يشكل رابطاً هاماً بين شاعرين كبيرين في ثقافتنا القديمة والحديثة ، وهما على الرغم من هذا التضاد يلتقيان في جملة من الرؤى والهواجس والمواقف ، كما أنهما يفترقان في جملة أخرى ، فأما أماكن اللقاء فبوسعنا أن نتلمس أبرزها في :
كون الشاعرين شخصيتين إشكاليتين ، وقد شغلا الناس وأثارا معارك نقدية هامة في أدبنا وثقافتنا العربية .
كون الشاعرين يعتبران الشعر نبوءة ، حيث يقال إن أبا الطيب ادعى النبوءة في السماوة ، و كذلك فعل أدونيس حين اعتبر شعره نبوءة ،أو أعتبره مريدوه نبي شعر .
سجن المتنبي بسبب معتقده ، و كذلك سجن أدونيس بسبب معتقده في عام 1954 ، حين كان عضواً في الحزب القومي السوري .
رحل المتنبي عن بلده وتغرب ضارباً في الأرض باحثاً عن مبتغاه الذي لم يبح به ، بل جعله أجلّ من أن يسمى ، وكذلك رحل أدونيس وتغرب طامحاً إلى هدف قلق رافض لليقين .
وكلا الشاعرين مأزوم بالدين ورافض له .
وكلاهما متأثر بالحركة القرمطية.
وكلاهما مملوء بالغرور الفني والشعور بالعظمة .
***
فأما حكاية ادعاء المتنبي للنبوة فهي موضع شك وريبة وكذلك الأمر في نبوة أدونيس الشعرية ، فكلا الرجلين ينكر هذا الإدعاء ، وقد استبعد القدامى حكاية نبوة المتنبي لأسباب عديدة منها أنهم متمسكون بدينهم ، ولكنهم في الوقت ذاته يحبون المتنبي ويعجبون بعبقريته ، ولو أثبتوا ادعاءه للنبوة لحكموا عليه بالردة ، وبإنكار نبوة خاتم الأنبياء محمد عليه الصلاة والسلام ، ولكن هناك من يقدم حججاً على صحة هذا الاتهام متكلفاً الاستشهاد بقول أبي الطيب على سبيل المثال : ( ما مقامي بأرض نخلة إلا كمقام المسيح بين اليهود ) أو قوله ( أنا في أمة قد تداركها الله غريب كصالح في ثمود ) وأستبعد أن يكون الشراح كما يقول بعض الدارسين قد أغفلوا من شعره ما لا يقبله المسلمون فقد عاش المتنبي في عصر التدوين الشامل ، والانفتاح الفكري المطلق على الثقافات بما فيها تلك التي تعارض الإسلام والدين عامة ، وقد شهدت الكوفة في ذلك العصر نشاطاً فكرياً وسياسياً يصعب أن تقبل به العواصم العربية والإسلامية اليوم ، ولكني لا أستبعد أن يكون هو قد أزاح من ديوانه ما قد ينكره عليه المسلمون ، وقد حفظ التاريخ الأدبي للمتنبي صلته بالقرامطة الذين كانوا يملأون الكوفة في عصره ، وحفظ لنا رغبته بثورة دينية يتحالف فيها مع شيخ حدد مواصفاته بقوله ( شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة ، ويستبيح دم الحجاج في الحرم ) ولم ينكر أحد حتى من أنصار المتنبي أن الرجل كان مستخفاً بالدين ، ولكنني لا أجد تشبيهه لنفسه بالسيد المسيح بين اليهود ، أو بالنبي صالح في ثمود ، دلالة كافية على ادعائه النبوة ، ولا أعتقد بأنه حقاً ابن (عبدان السقاء الجعفي) ذي الصلة بالأئمة كما يقول الدارسون ، بل أميل إلى الظن بأن والده (الحسين) رجل ذو مكانة بين السادة العلويين، ولعله أخفى نسبه خوفاً على نفسه ، ولم يكن يعرف حقيقته غير الخاصة ، وأحسب أن منهم سيف الدولة الذي سمح للمتنبي أن يقول في مجلسه ( سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا ، بأنني خير من تسعى به قدم ) ولم يستغرب أحد من معاصريه أن يقول عن أبيه ( أنا ابن من بعضه يفوق أبا الباحث والبعض نجل من نجله ) وأن يعتز بأرومته في رثاء جدته ( ولو لم تكوني بنت أكرم والد ، لكان أباك الضخم كونك لي أما ) ولم تكن مطالبة المتنبي بالولاية كما أحسب لمجرد أنه يجد في نفسه الكفاءة للحكم ، ولو كان الأمر كذلك لاستهجن سيف الدولة مطلبه ، ولما تجرأ هو على طلب كهذا أمام كافور ( وغير كثير أن يزورك راجل فيرجع ملكاً للعراقين واليا ) فالدافع المعقول الممكن ديني محض .
وأما نبوءة أدونيس فهي مجاز إبداعي لا أكثر ، وقد سمعته ينكر ذلك ، ولكن الطريف أن كاتباً في النيويورك تايمز هو آدم شاتز ذكرنا بأن أدونيس تنبأ بما حدث في نيويورك في 11 سبتمبر، في قصيدته القديمة ( جنازة في نيويورك ) التي كتبها عام 1971 ويقول ( شاتز ) في مقالته عنه ( إن أدونيس كان يبحث عن شبح والت ويتمان، ويتخيل رياحاً شرقية تقتلع ناطحات السحاب . وكان يصور مدينة تحترق ) ولكن بوسع القارئ بالطبع أن يلمح في القصيدة روح إليوت في (الأرض اليباب) .
***
ويبدو لي أن الهاجس الديني هو موضع اللقاء الأوضح بين المتنبي وأدونيس ، رغم أنهما نافران من الدين ، ولكنهما يريان في حركة القرامطة وهجاً إبداعياً ( والرأي في رؤية أبي الطيب لإبداع القرامطة هو رأي أدونيس يفصله في كتابه (الكتاب - أمس المكان الآن ) ولكن أبا الطيب لم يتجرأ على نقد المؤسسة الدينية كما فعل أدونيس ، و ما بدأ به شغله الثقافي منذ أن سمى نفسه ( أدونيس ) مبتعداً عن اسمه الحقيقي ( علي ) و قد كتب الثابت والمتحول ، الذي وقف منه كثيرون من الدارسين موقفاً حذراً ورافضاً ( عدا مريديه وأتباعه ) لأنه كما قالوا يبحث فيه عن عثرات العرب وعن مساوئهم ويظهر الجانب السيء من تاريخهم ، ويقولون إنه ينتقد اتباعية الشريعة التي أصّلها الشافعي ، واتباعية السياسة التي أصّلها الخلفاء الراشدون( رضي الله عنهم جميعاً ) مبتدئاً باجتماع السقيفة ، واتباعية الشعر التي أصّلها الأصمعي ، ويعترض خصومه كذلك على موقفه من النبوة ومن إعجاز القرآن الكريم ، وعلى إشادته بثورة الزنج ، وبحركة الخوارج ، وعلى انبهاره بالرازي وابن الراوندي وسواهما من المتهمين بعقائدهم ، وبأبي نواس وغيره من الشعوبيين الداعين إلى نسف القيم الدينية و إطلاق حرية الغرائز ، ويتهمه خصومه بأنه منذ بداياته يحارب فكرة التوحيد ، ويرى أن التاريخ الأجدر بالعناية هو تاريخ ما قبل العروبة ، وهو في هذه الرؤية تلميذ في مدرسة سعيد عقل ، ورغم هذا الموقف من الدين عند أدونيس ، فإنني أظن أنه مسكون مأزوم بالدين ، فقد انغمس فيه طول حياته ، وجعله شغله الشاغل ، يحاوره ويطرح عليه الأسئلة الصعبة المقلقة التي لم تستقر روحه إلى جواب شاف لها ، وهو يرى أن الوجود الحقيقي لا يكون إلا في الباطن ، وهذا سر نزعته الصوفية كما أحسب ، على الرغم من أنه ينفي باستمرار أن تكون صوفيته دينية ، فهو يقول في حوار نشرته صحيفة ( الوطن العمانية ) أجراه معه مراسلها في دمشق ( إن القراءة الدينية للصوفية لا تشوه الصوفية فحسب وإنما تشوه تاريخ الفكر العربي ) ويقول( لقد نظرت إلى الصوفية بوصفها منهجاً وحاولت أن أقارن بينها وبين ما يسمى بالفرنسية السريانية التي هي في العمق صوفية ) وهذا الكلام ينسجم مع تعلقه بمرجعياته في حضارات وثقافات ما قبل العروبة والإسلام ، ولكنه يبدو لي غير مقنع ، وليعذرني إن لم أفهم كيف يمكن أن تكون الصوفية منهجاً في التفكير إذا ما فُرّغت من بعدها الوجودي الميتافيزيقي ، وأدونيس يرى الكتابة صناعة روحية تجسد صور الباطن بالحروف ، وقد أطلق الشك ورفض اليقين والحتمية ، ولكنه لم يقدم بديلاً فكرياً عن القلق الروحي المستمر الذي يذكرنا بقلق أبي الطيب ( على قلق كأن الريح تأخذني يميناً أو شمالاً ) لكن أدونيس يصرح بأن الإسلام ( رؤية للعالم وللإنسان وللذات وللآخر) في مقالته التي يهاجم فيها الحجاب التي نشرها في ( الحياة ) بعنوان ( حجاب على الرأس أم حجاب على العقل ؟) والطريف أنه في هذه المقالة يأخذ موقف المفتي الإسلامي فيرفض الحجاب من داخل الدين لا من خارجه ، فهو يقول إنه لا يوجد نص ديني يفرض الحجاب ، وبوسع المرء أن يسأله على سبيل الدعابة ، وماذا لو كان هناك نص ديني ؟ هل يتبدل شيء بالنسبة له ؟
*وعلى الرغم من كل ما يقال عن عداء أدونيس للإسلام من قبل خصومه ، فإنه في مقالته التي أشرت إليها عن الحجاب يعترف بمكانة الإسلام الفكرية يقول ( إن الإسلام كان منذ قرون عديدة رمزاً للإبداع والإشعاع ) ولكنه في هذه المقالة يدعو إلى أمر يرفضه المسلمون وهو أن يخفوا إسلامهم حتى في المجتمعات العربية ، وأن يمارسوه سراً في الجامع فقط ، كي يحافظوا -كما ينصح - على الخصوصية ، و كيلا يبدو دينهم استعراضاً وهو يقول (كل ممارسة خارج الجامع ، اجتماعية أو عامة، إنما هي عدوانٌ على القيم المشتركة. المؤسَّسة، وبخاصة التربوية، المدرسة والجامعة ، مكانٌ مدنيٌّ عامٌّ ومشترك. مكان لقاء. مكانٌ مفتوحٌ للناس جميعاً. مكانٌ يجب أن تزولَ فيه العلامات الدينية الخاصة، الفارقة ، أياً كانت) وهو يعتقد أن أساس التجربة الدينية هو قيامها على الحميمية ، على نوعٍ من الخفاء ، على البساطة ، وعلى الخَفَرِ والصّمتِ والانزواء ، بعيداً عن المظاهر بأشكالها جميعاً ) وأعتقد أن المسلمين في الشرق وفي الغرب لن يقبلوا بهذه الدعوة لأن أحدهم إذا حضرته الصلاة سيصلي حيث يكون ، وليس بالضرورة في الجامع ، وهو لا يعتدي بذلك على قيم أحد كما توهم أدونيس.

(0(0تتت
وأما موقف المتنبي الفكري والفلسفي من الإسلام فهو موقف غامض ، وهو لم يسئ إلى الإسلام بتشبيه أو كناية أو نقد أو سخرية ، ولم يعرف عنه أنه دعا إلى هتك للقيم أو أخذ بالملذات على النحو الذي كان شائعاً في عصره ، وقد انغمس في الهتك أبو نواس وبشار بن برد وسواهما ، بل إن أبا الطيب ترفع حتى على الغزل ، فلا تجد مكاناً ذا شأن للمرأة المحبوبة في شعره ، غير ما يلتمس له الباحثون تكلفاً من قصة حب غامضة لا دليل عليها غير أبيات قالها في رثائه الشهير لأخت سيف الدولة ، وقد تهكم أبو الطيب على الشعراء الغزليين حين قال ( إذا كان مدحاً فالنسيب المقدم ، أكلًّ فصيح قال شعراً متيم ؟ ) وما ندري أكان يمنع أبا الطيب من نقد الدين إيمان باطني أم خوف من ناموس المجتمع ؟ فقد يكون طموحه إلى السلطة والحكم قد أملى عليه ألا يخالف الرأي العام.
وأعتقد أن أدونيس والمتنبي يتماهيان عند جوهر الحداثة ، ولئن كان أبو الطيب قد حافظ على الشكل الكلاسيكي للقصيدة الجاهلية فإنه خرج عن سياقها المضموني ، واعتبر نفسه المبدع الفرد المؤسس ( ودع كل صوت غير صوتي فإنني أنا الطائر المحكي والآخر الصدى ) ولئن كان أبو الطيب في حداثته عبر الاستمرار مع الجوهر الثقافي للأمة ، فإن هذا ما يؤكد عليه أدونيس اليوم خلاف ما هو شائع في أدبيات الحداثة من دعوة إلى القطيعة ، فهو يقول إن القطيعة الفكرية والجوهرية مستحيلة ، فأما الممكن فهو قطيعة في الشكل وحده ، وقد قال في برنامج تلفزيوني ( على شاشة المستقبل في حوار مع زاهي وهبة سأله فيه عن المتنبي ) إنه مع شعرية أبي الطيب ولكنه ليس مع شكله ، وأعتقد أن هذا وعي مقبول لمفهوم الحداثة التي كان بعض منظريها يدعون إلى القطيعة الكاملة ، وهذا ما جعل الناس يخشون على تراثهم من عاصفة الحداثة .
يبقى الاختلاف بين الشاعرين أكبر بكثير من التشابه ، فأنت أمام أدونيس في حالة عجيبة خاصة ، وهي أن الكثرة من النقاد يعتبرونه أكبر شاعر عربي بين الأحياء بعد أن رحل الكبار من أمثال نزار قباني والجواهري وأبي ريشة وبدوي الجبل و البياتي ( وهو بالطبع مرشح عربياً منذ سنوات لجائزة نوبل ، وقد فاز أخيراً مع محمود درويش بجائزة العويس ) ولكنك لا تكاد تجد أحداً يحفظ له بيت شعر واحد ، بعكس المتنبي الذي لا تكاد تجد عربياً واحداً حتى لو كان أمياً لا يحفظ له بيت شعر على الأقل ، ولاسيما شعر الحكمة الذي أصبح جزءاً من الوجدان العربي يستشهد به المثقفون والأميون ، فضلاً عن كون الذاكرة العربية الشفاهية المثقفة ما تزال إلى اليوم تحفظ شعر أبي الطيب عن ظاهر قلب ، والأمر محزن مع أدونيس ، فحتى أنصاره وعشاق شعره لا يحفظون شيئاً منه في الذاكرة ، وهو يقول في تبرير ذلك إن عصر البداهة والشفاهية قد انتهى ، والحق أنه لم ينته تماماً ، بدليل أن شعر نزار قباني مطبوع في وجدان الناس ومحفوظ في الذاكرة الجمعية ، لكن المشكلة على ما أظن هي إخفاق الذاكرة في حفظ القصيدة النثرية والتغني بها لافتقارها إلى الموسيقى ، ولغموض معانيها على الأغلب ، كما أن المجتمع العربي لم يستسغ جيداً هذا النوع من الشعر ، ولا بد من الاعتراف بأن كثيرين من أنصار أدونيس يناصرونه فكرياً بوصفه ناقداً ، أكثر مما يناصرونه بوصفه شاعراً ، وبعضهم يحابونه ويؤخذون بشهرته ، وثمة من يحب فيه المشاكسة والتمرد أو التجديد ، مما يجعلنا نتساءل إلى أي مدى من الزمن سيبقى أدونيس الشاعر ، وإلى أي مدى سيبقى أدونيس الناقد ؟ في حين أن أبا الطيب باق بقاء العروبة ، وقد صدقت نبوءة قوله ( أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم ) وقد يسهر الخلق ويختصمون جراء الثابت والمتحول ، ولكن أتراهم يتطارحون أشعار أدونيس الذي ثار عليه حتى أتباعه الحداثيون أنفسهم حين شتم بيروت ، واكتشف المتابعون أن القلوب ملآنة ؟
على أن نقطة اللقاء التي يحسن أن أختم بها هذه المقاربة السريعة بين الشاعرين هي الغرور الشعري وتضخم الذات ، فلو أن أبا الطيب حي لهجاني هجاء مراً لمجرد أني أعقد مقارنة ما بينه وبين أدونيس ، وربما ذكّر الناس بقوله لسيف الدولة ( بأي حق تقول الشعر زعنفة ، تجوز عندك لا عرب ولا عجم ؟؟ ) وأحسب أنه وهو الكلاسي الأصيل سيعتبر الحداثيين اليوم لا يقولون شعراً ولكنهم يثرثرون ، ومصير ثرثرتهم إهمال واستهجان ، وأحسب أن الأمر ذاته مع أدونيس الذي وصفه صديقه الحداثي القديم بول شاؤول بأنه شخصية منهوشة بالغرور والانتفاخ والأحادية ، أنظر مقالته ( في المستقبل 8 نوفمبر 2003 ) ولكن المفارقة مرة أخرى هي في طموح أدونيس أن يصير كلاسيكياً بمعنى أن يترسخ مذهبه ، وتتضح قواعده ، وأن يتحول إلى ما يشبه الأصولية التي تهضمها الأجيال كي تتجاوزها .
ولست أنكر أنني أخالف أدونيس في كثير من آرائه ، ولكنني أجد معه أن تاريخنا بحاجة ماسة إلى قراءة نقدية موضوعية جديدة ولكنني أطمح أن تكون القراءة النقدية خارجة عن سلطة الموروثات الخلافية ، وعن الموقف المسبق ، فنحن بحاجة إلى الكف عن الخلط بين ما هو تاريخي وما هو ديني ، ولابد من الإشارة إلى إعلان أدونيس بأن العلمانية لا تعادي الدين ، وهذا ما ينبغي أن يتضح لأن ثمة فهماً سائداً بأن العلمانية تقتضي الإلحاد ، وهذا ليس صحيحاً بالضرورة ، وثمة فارق بين العالمانية وبين العِلمانية ( بكسر العين لابفتحها ) وهي التي تعلي شان العلم ، وتفصل الدين عن الدولة ولكنها لاتتدخل في حرية المجتمع عقائدياً .
ولا أنكر كذلك أنني لست مع أدونيس في جوابه على سؤال زاهي وهبه في نهاية حواره معه ( في برنامجه خليك في البيت الأسبوع الأول من يناير 2004 ) أن يوجه كلمة لأطفال العرب ،فقد قال أدونيس للأطفال ( ثوروا على آبائكم ) وقد ظن زاهي أن المفكر يقصد الآباء المعنويين من حكام ونقاد ومؤرخين ، فاستوضح من أدونيس ليؤكد له أنه يقصد حتى الآباء الحقيقيين ، وأنا أفهم البعد الفلسفي الذي قصده أدونيس ، ولكني أخشى من إطلاق الثورة على الآباء ، وأخشى أن يسمع أحد من الأطفال هذه النصيحة التربوية فيرمي أباه على الفور بأقرب ما تقع عليه يده ، فهو أمر مفزع أن يثور الأبناء على آبائهم ثورة فوضوية ، في جحود ينسف مفهوم الأبوة المقدس ، ويزدري ما قدم الآباء لأبنائهم من تضحيات ويرى أن كل ما في عقائدهم وتاريخهم وتراثهم باطل، وكان أولى أن يوضح أدونيس فكرته لا أن يجىء بأخطر ما قال في عجالة تستدعي سوء الفهم ، هذا على حسن ظن بما أراد .
إنني مع أن يتجاوز الأبناء آباءهم ، وأن يبنوا أفضل مما بنى الآباء ، وأن يصححوا أخطاءهم ، ولكنني لست مع الثورة المطلقة عليهم ، وأحسب أن الأطفال سيقرؤون تجربة آبائهم مع الثورات ولن يكرروها ، وأرجو من أطفالنا أن يوقروا آباءهم وألا يقولوا لهم ( أف ) وأن يحترموا التضحيات التي بذلها الآباء من أجلهم .
ولكن مهما يكن الموقف الفكري والنقدي عند كثيرين من أدونيس فإنه يبقى علماً من أعلام الثقافة العربية ورائد الحداثة في أدبنا الجديد ، ومن هذا المنطلق أهنئه بجائزة العويس ، و قد رأى فيها اعترافاً طالما تمناه من مؤسسات أدبية عربية تقليدية كانت تخشى مجرد الثناء عليه ، وعلى الرغم من مخالفتي الفكرية له ، في نظرته إلى التاريخ العربي و في محاولته الانتماء إلى الثقافة الغربية التي احتضنته ، فإنني أحترم دأبه واجتهاده وإبداعه وثقافته الفذة الكبيرة و كونه وهب نفسه للفكر عامة ، وتمكن من أن يحرك السواكن ، ومخالفتي له في الرأي النقدي لا تحجب عني رؤية مكانته الهامة في أدبياتنا العربية ، إنه حقاً ملأ دنياه وأثار الناس بفكره وشغلهم بشعره ، ولو أنه كتب شعراً كلاسياً لأدهش العرب ، ولطالما تمنيت لو أنه فعل مثل ما فعل أستاذه سعيد عقل الذي لم يمنعه نضاله من أجل تحطيم اللغة العربية من أن يتحف الأدب العربي بقصائد خالدات مثل قصيدته الشهيرة (سائليني ياشآم) وغيرها من القصائد التي غرسها في الوجدان صوت فيروز حين شدت بها وستبقى في الذاكرة وحدها تذكّر الناس بعبقرية سعيد عقل الذي رفض الناس فكره ونظرياته ، ولكنهم أحبوا شعره وحضوره.
إنني أرجو ألا يضيق صدر أدونيس بنقدي له ، وما أظن أنه يضيق فقد اعتاد أن يسمع أصوات معارضيه ، وليس له أن يعتب ، فقد تحملنا من نقده الكثير مما نخالفه فيه ، ولم يضق صدرنا به ، وقد التقيته في الصيف الماضي في دمشق على مائدة غداء دعته إليها وزيرة الثقافة السورية السابقة الدكتورة نجوى قصاب حسن ، وكان مدعواً من المفوضية الأوروبية لإحياء أمسية شعرية في بلده ، فعبرت له عن احترامي العميق لمكانته الثقافية وعن أسفي لأن يزور سوريا بدعوة من الاتحاد الأوروبي ، وودت أن تكرمه دمشق ، وأن تحتفي بعودة ابنها إليها بعد اغتراب أربعين عاماً ونيف ، وشعبنا في كل أقطار العرب ، صاحب رؤية حضارية ديموقراطية عريقة ، تدعوه إلى احترام المبدعين حتى ولو خالفهم آراءهم .





المصدر جريدة الوطن