عرض المشاركة وحيدة
  #15  
قديم 29/08/2006, 03:05 PM
alhabsi2006 alhabsi2006 غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 05/02/2006
المشاركات: 59
تفسير سورة ال عمران
{ الۤمۤ } * { ٱللَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَيُّ ٱلْقَيُّومُ } * { نَزَّلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } * { مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلْفُرْقَانَ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } * { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ } * { هُوَ ٱلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي ٱلأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ }
تفسير سورة آل عِمْرَانَ. وهي مدنية كلها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قوله: { الۤمۤ اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ } أي الحي الذي لا يموت. قوله: ألَمّ، قد فسّرناه في أول سورة البقرة. وقال بعضهم: القيّوم: القائم على كل شيء. وهو تفسير مجاهد. وقال الحسن: القائم على كل نفس بكسبها حتى يجازيها.

قوله: { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ } أي القرآن { بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من التوراة والإِنجيل. { وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ مِن قَبْلُ } أي من قبل القرآن. { هُدًى لِّلنَّاسِ } أي أنزل هذه الكتب جميعاً هدى للناس { وَأَنزَلَ الفُرْقَانَ } أي: أنزل الله الحلال والحرام، فرّق الله في الكتاب بين الحلال والحرام. وقال بعضهم: فرّق الله فيه بين الحق والباطل. وقال بعضهم: الفرقان: القرآن.

قوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ } قال الحسن: بدين الله { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ } في نقمته { ذُو انتِقَامٍ } من أعدائه.

قوله: { إِنَّ اللهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ } أي خلق الله كل إنسان على صورة واحدة، وصوّره كَيف يشاء. وهو كقوله:
{ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ }
[الانفطار:8] ذكر بعض المفسّرين قال: يشبه الرجل الرجلَ ليس بينهما قرابة إلا من قبل الأب الأكبر: آدم.

قوله: { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } أي العزيز في ملكه وفي نقمته، الحكيم في أمره.


{ هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ } * { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } * { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُخْلِفُ ٱلْمِيعَادَ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُولَـٰئِكَ هُمْ وَقُودُ ٱلنَّارِ } * { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }
قوله: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } قال بعضهم: المحكم هو الناسخ الذي يعمل به، فأحلّ الله فيه حلاله وحرّم وحرامه، والمتشابه هو المنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمَن به. وتفسير الكلبي: هو الۤمۤ، والۤر، الۤمۤر، والۤمۤصۤ، وأشباه ذلك.

وبلغنا عن أبي حازم عن ابن عباس قال: هو التقديم والتأخير، والمقطوع والموصول، والخاص والعام، وتفسير مجاهد: { هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ } ، يعني ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو المتشابه.

قوله: { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } والزيغ: الشك. وتفسير الكلبي أنها في النفر من اليهود الذين دخلوا على النبي عليه السلام: كعب بن الأشرف وأصحابه. وقد فسّرنا ذلك في سورة البقرة.

ذكروا عن عائشة أنها قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: " قد سمّاهم الله لكم؛ فإذا رأيتموهم فاحذروهم ".

ذكروا عن ابن عباس أنه قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية فقال: " أرأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين سمّى الله؛ فإذا رأيتموهم فلا تجالسوهم، أو قال: فاحذروهم ".

قوله: { ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }. كان الكلبي يقول: { ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ } أي: ابتغاء الشرك يعني أولئك اليهود. وقال الحسن: { ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ } أي: ابتغاء الضلالة، { وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ } ، أي ابتغاء الحرابة. وقال الكلبي: هو ما نظر فيه أولئك اليهود من ألم وأشباه ذلك، وكانوا حملوه على حساب الجمل، حساب بقاء هذه الأمة ـ زعموا ـ حين التبس عليهم، قال: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ } أي: تأويل ما كتب الله لهذه الأمة من الأكل، { إِلاَّ اللهُ } ، فقال عند ذلك عبد الله بن سلام والنفر الذين أسلموا من اليهود، وهم الراسخون في العلم: { ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا }. هذا تفسير الكلبي.

وبلغنا عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: أنزل القرآن على أربعة أوجه: حلال وحرام لا يسع الناسَ جهلُهُ، وتفسير يعلمه العلماء، وعربية يعرفها العرب، وتأويل لا يعمله إلا الله، يقول الراسخون في العلم: آمنا به كل من عند ربنا. ذكر بعض المفسّرين قال: نزل القرآن على ستّ آيات: آية مبشّرة، وآية منذرة، وآية فريضة، وآية تأمرك، وآية تنهاك، وآية قصص وأخبار.

قوله: { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } أي أولو العقول، وهم المؤمنون.

قوله: { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ }. قال الحسن: هذا دعاء أمر الله المؤمنين أن يدعوا به. وقال الكلبي: هم النفر الذين أسلموا من اليهود: عبد الله بن سلام وأصحابه.
وقد فسّرناه في الآية الأولى من تفسير الكلبي.

قوله: { رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَ رَيْبَ فِيهِ }. ذكروا عن ابن مسعود أنه قال: ليوم لا شك فيه، وهو يوم القيامة: { إنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ المِيعَادَ }.

قوله: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ } أي لن تنفعهم { أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللهِ شَيْئاً وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } أي: حطب النار. هو مثل قوله:
{ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ }
[الشعراء:88].

قوله: { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } الدأب: العادة والحال. { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ العِقَابِ } يعني ما أهلك به الأمم السالفة حين كذبوا رسلهم.

وقال بعضهم: { كَدَأْبِ ءَالِ فِرْعَوْنَ } ، أي: كفعل آل فرعون والذين من قبهلم. وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله لمشركي العرب؛ يقول: كفروا وصنعوا كصنيع آل فرعون { وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } من الكفار { كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ } ، وهو عذابه أتاهم حين كذبوا رسله.
{ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } * { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ ٱلْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ ٱلْعَيْنِ وَٱللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ }
قال: { قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المِهَادُ } أي: بيس الفراش. وقال في آية أخرى:
{ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ }
[الأعراف:41]: وقال في آية أخرى:
{ لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ }
[الزمر:16]؛ وهو واحد كله. وقال الحسن: فهزمهم الله يوم بدر وحشرهم إلى جهنم.

قوله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا } وهما فئتا بدر، فئة المؤمنين، وفئة مشركي العرب في تفسير الحسن ومجاهد وغيرهما. فقال: { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ } يعني النبي عليه السلام وأصحابه { وَأُخْرَى كَافِرَةٌ } يعني المشركين { يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العَيْنِ }. قال الحسن: يقول: قد كان لكم أيها المشركون آية في فئتكم وفئة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إذ ترونهم مثليهم رأى العين لمّا أراد الله أن يُرعب قلوبهم [ويخذلهم] ويخزيهم، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة وجبريل، لما أراد الله.

وقال الكلبي: لما هزم الله المشركين يوم بدر قالت اليهود: هو والله النبي الذي ذُكِر لنا؛ لا والله لا تُرفع له راية إلا أظفره الله عليها؛ فقال بعضهم لبعض: اتبعوه ترشدوا وتفلحوا. وتربّصوا به إلى يوم أحد؛ فلمّا نكب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شكّت اليهود وارتابوا. فأنزل الله: { قَدْ كَانَ لَكُمْ ءَايَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا... } إلى آخر الآية.

قال: { وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ } قال بعض المفسّرين: أي: ما أيّد به رسول الله من الملائكة ومن نصره. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُِوْلِي الأَبْصَارِ } أي مُتَفَكَّراً لأولي العقول، وهم المؤمنون.
{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ } * { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ }
قوله: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وَالخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا }.

ذكروا عن الحسن أنه قال: القنطار ألف دينار ومائتا دينار. وقال بعضهم: ثمانية آلاف مثقال من ذهب أو فضة. وقال بعضهم: القناطير المقنطرة المال الكثير، بعضه على بعض.

وقال بعضهم: الخيل المسوّمة، سيماها، يعني غرّها وتحجيلها. وقال الحسن: الراعية. قال وهي مثل قوله:
{ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ }
[النحل:10] أي: ترعون. وقال بعضهم: هي من السيما مثل قوله:
{ مُسَوِّمِينَ }
[سورة آل عمران: 125] أي معلمين. وقوله: { ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا } ، والمتاع ما يُستمتع به ثم يذهب. { وَاللهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ } أي: حسن المرجع، أي الجنة للمؤمنين.

قوله: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيرٍ مِّن ذَلِكُمْ } أي من هذا الذي ذكر من متاع الحياة الدنيا. { لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحتِهَا الأَنْهَارُ }. ذكروا عن أنس بن مالك قال: أنهار الجنة تجري في غير خدود: الماء واللبن والعسل والخمر؛ وهو أبيض كله؛ فطينة النهر مسك أذفر، ورضراضه الدر والياقوت، وحافاته قباب اللؤلؤ.

قوله: { خَالِدِينَ فِيهَا } أي لا يموتون ولا يخرجون منها.

قوله: { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي مطهّرة من الاثم والأذى. قال الحسن: ومن مساوىء الأخلاق.

ذكروا عن الحسن أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء أهل الجنة: " لا يحضن ولا يلدن ولا يمتخطن ولا يبلن ولا يقضين حاجة إلا حاجة ليس فيها قذر ".

قوله: { وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ }. ذكروا عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أدخل الله أهل الجنة الجنة ورأوا ما فيها قال لهم: لكم عندي أفضل من هذا. قالوا: ربنا ليس شيء أفضل من الجنة. قال: بلى، أُحِلّ عليكم رضواني ".
{ ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } * { ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ }
قوله: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا ءَامَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي: واصرف عنا عذاب النار.

قوله: { الصَّابِرِينَ } صبروا صبراً على طاعة الله وعن محارمه { وَالصَّادِقِينَ } قال بعضهم: صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وألسنتهم، فصدقوا في السر والعلانية. { وَالقَانِتِينَ } وهم المطيعون لله. { وَالمُنْفِقِينَ } وهم المنفقون أموالهم في حقها. { وَالمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } وهم أهل الصلاة.

قال الحسن: هل يستوي هؤلاء والكفار؟ أي أنهم لا يستوون عند الله، يعني الذين وصفهم الله في الآية الأولى في قوله: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ }... إلى آخر الآية. ثم قال { قُلْ أَوُْنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ } ، ثم ذكر هذه الأعمال الصالحة.
{ شَهِدَ ٱللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَٱلْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ ٱلْعِلْمِ قَآئِمَاً بِٱلْقِسْطِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } * { إِنَّ الدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلإِسْلاَمُ وَمَا ٱخْتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ وَٱلأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ ٱهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلاَغُ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ ٱلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِٱلْقِسْطِ مِنَ ٱلنَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ }
قوله: { شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ }. فيها تقديم وتأخير. يقول: شهد الله أنه لا إله إلا هو قائماً بالقسط، أي بالعدل، وشهد الملائكة وشهد أولو العلم، وهم المؤمنون. { لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الْحَكِيمُ } العزيز في ملكه، بعزته ذلّ من دونه. وبعضهم يقول: العزيز في نقمته، الحكيم في أمره.

قوله: { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَمُ } هو كقوله:
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ }
[آل عمران:85]. قال: { وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ } وكانوا على الإِسلام { إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً } أي حسداً { بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ } من بعدما جاءته، أي جاءهم ما عرفوا فكفروا به. { فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ } يعني عذابه؛ إذا أراد أن يعذبهم لم يؤخرهم عن ذلك الوقت؛ هذا في تفسير الحسن. وقال مجاهد: يعني إحصاءه عليهم.

قوله: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ } أي: أخلصت { وَجْهِيَ } أي ديني { لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ } أي من اتبعني أسلم وجهه لله. { وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ } يعني مشركي العرب، وكانت هذه الأمة أمية ليس لها كتاب من السماء تقرأه، حتى أنزل الله القرآن. { ءَأَسْلَمْتُمْ } يقول: أأخلصتم لله، أي أقررتم وأقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة؟ على الاستفهام. قال: { فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا } عن ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاَغُ } أي في الحجة تقيمها عليهم. { وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } أي بأعمال العباد، بصير بهم.

قوله: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ } يعني بدين الله في تفسير الحسن. وقال بعضهم يقول: بالقرآن. { وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ } أي بالعدل { مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي موجع.

ذكر بعض المفسّرين قال: ذكر لنا أن عيسى لما رفع انتخبت بنو إسرائيل أربعة من فقهائهم فقالوا للأول: ما تقول في أمر عيسى. فقال: هو الله، هبط إلى الارض، فخلق ما خلق، وأحيى ما أحيى، ثم صعد إلى السماء؛ فتابعه على ذلك أناس من الناس، فكانت اليعقوبية من النصارى. فقال الثلاثة الآخرون: نشهد إنك كاذب. فقالوا للثاني: ما تقول في أمر عيسى؟ قال: هو ابن الله؛ فتابعه على ذلك أناس من الناس، فكانت النسطورية من النصارى؛ فقال الاثنان: نشهد إنك كاذب. فقالوا للثالث: ما تقول في عيسى؟ فقال: هو إله وأمه إله، والله إله. فتابعه على ذلك أناس من الناس. فكانت الإِسرائيلية من النصارى؛ فقال الرابع: أشهد إنك كاذب، ولكنه عبد الله ورسوله، ومن كلمة الله وروحه، فاختصم القوم، فقال المسلم: أناشدكم الله، هل تعلمون أن عيسى كان يطعم الطعام. فقالوا: اللهم نعم. قال: فهل تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام؟ قالوا: اللهم نعم. فخصمهم المسلم فاقتتل القوم. وذكروا لنا أن اليعقوبية ظفرت يومئذ، وأصيب المسلمون، فأنزل الله: { إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بَعَذَابٍ أَلِيمٍ }.
{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ }
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ } وهذه الأصناف في كتاب الله في ثلاثة مواضع؛ قال الله:
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ }
[المائدة:17 و 72]. وقال:
{ وَقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللهِ }
[التوبة:30] وقال:
{ لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاََثَةٍ }
[المائدة: 73]. فهذه الأصناف الثلاثة موصوفة في هذه المواضع التي سمّينا من كتاب الله.
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَىٰ كِتَابِ ٱللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّىٰ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُمْ مُّعْرِضُونَ } * { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } * { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } * { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ }. يعني أهل الكتاب في تفسير الحسن. وقال غيره: هم اليهود خاصة. دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المحاكمة إلى كتاب الله، وأعلمهم أن الكتاب الذي أنزله الله عليه موافق لكتابهم الذي أنزل عليهم، فتولوا عن ذلك وأعرضوا عنه.

قوله: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } عدد الأيام التي عبدوا فيها العجل، يعني به أوليهم ـ وقد فسّرناه في سورة البقرة ـ، ثم رجع الكلام إليهم فقال: { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ } [أي يختلفون] على الله فيه الكذب. قال بعض المفسّرين: هو قولهم:
{ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ }
[المائدة:18].

قوله: { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه، وهو يوم القيامة، لا شك أنه كائن. { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ } أي جزيت كل نفس { مَا كَسَبَتْ } أي ما عملت من خير أو شر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ }. فأما المؤمن فيُوفَّى حسناته في الآخرة، وأما الكافر فيجازى بها في الدنيا وله في الآخرة عذاب النار. وهو كقوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } وهو الكافر لا يريد إلا الدنيا، لا يقرُّ بالآخرة. قال: { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ } أي حسناتهم { فِيهَا } أي في الدنيا { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي: لا ينقصون
{ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
[هود:15-16]. وكقوله: { مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ } يوم القيامة
{ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ }
[إبراهيم:18].

قوله: { قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ المُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }.

قال الحسن: أمر الله رسوله أن يدعوه فيعطيه ملك فارس والروم، ويرد ذلّ العرب عليهما؛ أمره بذلك وفي حكمه أن يستجيب له ويعطيه ذلك. وهكذا منازل الأنبياء عندهم؛ إذا أمرهم بالدعاء في شيء أو على قومهم استجاب دعاءهم.

وقال بعضهم: ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، فأنزل الله هذه الآية: { قُل اللَّهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَن تَشَاءُ }... إلى آخر الآية.

ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " تقاتلون جزيرة العرب فيفتح الله عليكم، وتقاتلون فارس فيفتح الله عليكم، وتقاتلون الروم فيفتح الله عليكم، وتقاتلون الدجال فيفتح الله عليكم " وكان عقبة بن نافع يحلف بالله لا يخرج الدّجّال حتى تفتح الروم.

ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا مات كسرى فلا كسرى بعده، وإذا مات قيصر فلا قيصر بعده ".
{ تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } * { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ }
قوله: { تُولِجُ الَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي الَّيْلِ } وهو أخذ كل واحد منهما من صاحبه. وقال بعضهم: نقصان الليل في زيادة النهار ونقصان النهار في زيادة الليل.

قوله: { وَتُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَتُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ }. قال مجاهد: هي النطفة والحبة؛ يخرج من النطفة الميتة الخلق الحي، ويخرج من النبات الحي الحبة اليابسة. وقال بعضهم: والبيضة مثل ذلك. وقال في آية أخرى:
{ إِنَّ اللهَ فَالِقُ الحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَمُخْرِجُ المَيِّتِ مِنَ الحَيِّ }
[الأنعام:95]. وهذا موافق لقول مجاهد. وقال الحسن وغيره: يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن. { وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي لا ينقص ما عند الله، أي بغير محاسبة منه لنفسه في تفسير الحسن.

قوله: { لاَّ يَتَّخِذِ المُؤْمِنُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ } [يعني في النصيحة] { مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْْسَهُ } أي عقوبته.

وقال بعضهم: ويحذركم الله نفسه، أي ويحذركم الله منه، ويحذركم الله إياه. { وَإِلَى اللهِ المَصِيرُ }.

قال بعضهم: تقيّة الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يصل الرجل رحماً له من المشركين.

وقال غيره: هذا رجل صار في أيدي المشركين فأعطاهم بلسانه ما ليس في قلبه حتى يجعل الله له مخرجاً.

ذكر أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يدعوه حتى سبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر آلهتَهُم بخير، [ثم تركوه] فلما أتى النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما وراءك؟ " قال: شر يا رسول الله، والله ما تُرِكتُ حتى نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير. " قال: فكيف تجد قلبك؟ " قال: أجده مطمئناً بالإِيمان ". قال: فإن عادوا فعد ".
{ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ } * { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } * { قُلْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْكَافِرِينَ } * { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰ ءَادَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } * { ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
قوله: { قُلْ إِن تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ } أي تظهروه { يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } هذا المؤمن. قال بعضهم: { مُّحْضَراً } أي: موفّراً مكَثَّراً. { وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَْو أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً } فلا يجتمعان أبداً { وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ } أي عقوبته { وَاللهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } أي رحيم. أما المؤمن فله رحمة الدنيا والآخرة، وأما الكافر فرحمته في الدنيا ما رزقه الله فيها، وليس له في الآخرة إلا النار.

قوله: { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ } قال الحسن: جعل محبةَ رسوله محبتَه، وطاعتَه طاعتَه؛ فقال:
{ مَّن يُّطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ }
[النساء:80] وقال:
{ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ }
[الفتح:10].

قوله: { قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا } أي عن دينه { فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الكَافِرِينَ }.

قوله: { إِنَّ اللهَ اصْطَفَى ءَادَمَ وَنُوحاً } أي: اختار آدم ونوحاً للبلاغ عن الله الرسالة. { وَءَالَ إِبْرَاهِيمَ } يعني إبراهيم وولده وولد ولده { وَءَالَ عِمْرَانَ عَلَى العَالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ } قال بعض المفسّرين: أي في النية والإِخلاص والعمل الصالح والتوجيه له. { وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.
{ إِذْ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } * { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ }
{ إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ }. قال مجاهد: محرراً للمسجد يقوم عليه.

قال الحسن: ألهمت ذلك حتى علمت أنه لله رِضاً، فنذرت وسألت الله أن يتقبل ذلك منها.

وقال بعضهم: كانت امرأة عمران حررت لله ما في بطنها. وكانوا يحررون الذكور. وكان المحرَّر إذا حُرِّر يكون في المسجد لا يبرحه، يقوم عليه ويكنسه. وكانت المرأة لا يُستطاع أن يُصنعَ ذلك بها لِما يصيبها من الأذى، يعني الحيض.

قوله: { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ } وهي تقرأ على وجه آخر: والله أعلم بما وضعتُ. فمن قرأها بالسكون، فهو من قول الله، ومن قرأها بالرفع، فهو من قولها. قال: { وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى }.

قال الكلبي: كانت امرأة عمران قد دخلت في السنّ، ولم يكن لها ولد، فحملت، فجعلت ما في بطنها محرّراً لبيت المقدس. ولم يكن يحرّر في ذلك الزمان إلا الغلمان، فحرّرته قبل أن تعلم ما هو، فقال لها زوجها: ويحك ما صنعت؟ أرأيت لو كان أنثى، وعورة المرأة ما قد علمت، ما تصنعين؟ فلم تزل في همّ مما قال لها زوجها حتى وضعت، فقالت: { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى }. فلفّتها في خرقة ثم أرسلت بها إلى المسجد، مسجد بيت المقدس، فوضعتها فيه، فتنافسَها الأحبار بنو هارون.

قال مجاهد: حين دخلت عليهم قال لهم زكرياء، وهو يومئذ رأس الأحبار: أنا أحقكم بها؛ عندي أختها، فذروها لي. فقالت الأحبار: لو تركت لأقرب الناس إليها لتركت لأمها التي ولدتها؛ ولكنا نقترع عليها، فهي لمن خرج سهمه. فاقترعوا عليها بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي، فقرعهم زكرياء فضمَّها إليه، واسترضع لها، حتى إذا شبت بنى لها محراباً في المسجد، فجعل بابه في وسطه، لا يرتقى إليها إلاّ بسلّم، ولا يأمن عليها أحداً غيره.

وقال الحسن: لم يسترضع لها ولم تلقم ثدياً قط، أنبتها الله بغير رضاع. قال الكلبي: وكانت امرأة زكريا أيضاً عاقراً قد دخلت في السّن، وزكرياء شيخ كبير، فهنالك طمع زكرياء في الولد.

قوله: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } أي أن يضلّها وإياهم.

ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل بني آدم يطعنه الشيطان في جنبه حين تلده أمه إلا عيسى بن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب " وقال بعضهم: أرأيتم هذه الصرخة التي يصرخها حين تلده أمه، فإنها منه. وذكروا عن بعضهم قال: كل آدمي طعن الشيطان في جنبه إلا عيسى وأمه، جعل بينهما وبينه حجاب، فأصابت الطعنة الحجاب، ولم ينفذ إليها بشيء.
{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } * { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ } * { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي ٱلْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَـىٰ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي ٱلْكِبَرُ وَٱمْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ }
قوله: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } أي: ضمّها زكرياء في تفسير من خَفّف قراءتها، ومن ثقّل قراءتها يقول: وكفّلها اللهُ زكريا، بنصب زكرياء.

قوله: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } ذكر بعضهم قال: كان يجد عندها فاكهة الصّيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف. { قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا } أي: من أين لك هذا. { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.

قال الله: { هُنَالِكَ َدَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [أي تقيّةً] { إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ } فاستجاب الله له { فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ } أي في المسجد. فبينما هو قائم يصلي إذا هو برجل قائم، عليه ثياب بيض، قائم مقابله، وهو جبريل عليه السلام؛ فناداه وهو قائم يصلي في المحراب: { أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىَ مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ }. والكلمة عيسى عليه السلام.

قوله: { يُبَشِّرُكَ بِيَحْيىَ } قال بعض المفسّرين: أحياه الله بالإِيمان. { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ } ، يعني عيسى على سنته ومنهاجه.

قال: { وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصَّالِحِينَ }. قال بعض المفسّرين: السيد الحسن الخلق، والحصور الذي لا يأتي النساء، يقول: حصر عنهن فلا يستطيعهن. وقال بعضهم: سيد بالعبادة والحلم والورع. والحصور الذي لا يأتي النساء. وقال مجاهد: السيد هو الكريم على الله.

{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ } أي كيف يكون { لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ } أي لا تلد. قال الحسن: أراد أن يعلم كيف وهب ذلك له وهو كبير، وامرأته كبيرة عاقر. وإنما ذلك بمنزلة قول إبراهيم:
{ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى }
[البقرة:260]. أراد أن يزداد علماً.
{ قَالَ رَبِّ ٱجْعَلْ لِّيۤ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَٱذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِٱلْعَشِيِّ وَٱلإِبْكَارِ } * { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَٱصْطَفَاكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَالَمِينَ }
{ قَالَ كَذَلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي ءَايَةً قَالَ ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } أي: إلا إيماء. فعوقب، فأخذ عليه بلسانه في تفسير الحسن. وقال غيره: فجعل لا يفيض الكلام إلا ما أومأ إيماء.

وقال بعضهم: إنما عوقب لأن الملائكة شافهته مشافهة، فبشّر ته بيحيى مشافهة، فسأل الآية بعدما شافتهه الملائكة. فقال الله: { ءَايَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } أي إلا إيماء. قال مجاهد: بالشفتين: وقال الكلبي: بالشفتين والحاجبين واليدين.

قوله: { وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالعَشِيِّ وَالإِْبْكَارِ } يعني الصلاة.

قوله: { وَإِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ } أي اختارك لدينه، { وَطَهَّرَكِ } من الكفر في تفسير الحسن. وقال مجاهد: جعلك طيبة إيماناً. { وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ }.

ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كفاك من نساء العالمين بأربع: مريم ابنة عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد ".
{ يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } * { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } * { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ }
قوله: { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ }. قال مجاهد: أطيلي الركوع في الصلاة، أي القيام في الصلاة. { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }. قال الحسن: هي الصلوات: فيها القنوت، وهو طول القيام، كما قال مجاهد، وفيها الركوع والسجود.

قوله: { ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الغَيْبِ } أي من أخبار الغيب، أي الوحي { نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي عندهم { إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ } أي يستهمون بها { أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي أيّهم يضمّها إليه.

قال بعض المفسّرين: كانت مريم بنت إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل فاقترعوا فيها بسهامهم أيّهم يضمّها إليه، فقرعهم زكرياء وكان زوج أختها.

قوله: { إِذْ قَالَتِ المَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ } قال الحسن: مُسِحَ بالبركة. { وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ } أي عند الله يوم القيامة.

بلغنا عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة ووضع الجسر على جهنم، جاء النبيّون على مراكزهم، فيكون أولهم مركز نوح، وآخرهم مركز محمد عليه السلام. فيجيء المنادي [فينادي]، أين محمد وأمته؟ فيقدمون حتى يأخذوا الجسر، فينجو النبي والصالحون، ويسقط من يسقط. فإذا جازوا تلقتهم الملائكة ينزلونهم منازلهم على يمينك ويسارك. ثم ينطلق بمحمد فيستأذن في دار الله، أي الجنة، فيؤذن له، فيوضع له كرسي عن يمينه. ثم يجيء المنادي فينادي: أين عيسى وأمته؟ فيقدمون حتى يأخذوا الجسر، فينجو النبي والصالحون، ويسقط من يسقط. فإذا جازوا تلقَّتهم الملائكة ينزلونهم منازلهم على يمينك وعلى يسارك. ثم يأتي عيسى فيستأذن فيؤذن له، ويوضع له كرسي عن يساره، ثم النبيّون كذلك حتى يكون آخرَهم نوح صلى الله عليهم أجمعين.
{ وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ } * { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } * { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } * { وَرَسُولاً إِلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِيۤ أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ ٱلطِّينِ كَهَيْئَةِ ٱلطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُبْرِىءُ ٱلأَكْمَهَ وٱلأَبْرَصَ وَأُحْيِ ٱلْمَوْتَىٰ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }
قوله: { وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ } أي في حجر أمه { وَكَهْلاً }. والكهل ما زاد على ثلاثين سنة في تفسير الكلبي. وقال بعضهم: الكهل منتهى الحلم. وقال الحسن وغيره. يكلّمهم صغيراً وكبيراً.

{ وَمِنَ الصَّالِحِينَ }. فعلمت بذلك أن الله رزقها إياه، فأرادت أن تعلم كيف ذلك فـ { قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ } أي كيف يكون لي ولد { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ }.

قال: { وَيُعَلِّمُهُ الكِتَابَ } يعني الخط { وَالحِكْمَةَ }. قال بعضهم: الحكمة السنة، وقال بعضهم: الفهم والعلم. { وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ } [أي أصور] { كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ } أي كشبه الطير { فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِىءُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ } ذكروا عن الحسن أنه قال: الأكمه هو الأعمى. وقال بعضهم: هو الأعمى الذي ولدته أمه مطموس العينين. { وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }.

قال الكلبي: كان يقول لبني إسرائيل: إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفح فيه فيكون طائراً بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله، فقالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحراً، فأرنا آية نعلم أنك صادق. قال: أرأيتم إن أخبرتكم بما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا، وما ادّخرتم من الليل، أتعلمون أني صادق؟ قالوا: نعم. فأخذ يقول للرجل: أكلت كذا وكذا، وشربت كذا وكذا، ورفعت كذا وكذا؛ فمنهم من يقبل ويؤمن، ومنهم من ينكر.

وقال مجاهد: وأنبئكم بما أكلتم البارحة، وبما خبأتم في بيوتكم.

وقال: بعضهم: كان القوم لما سألوا المائدة وكانت خواناً ينزل عليهم أينما كانوا ثمراً من ثمار الجنة، فأمروا أن لا يخونوا منه ولا يخبئوا ولا يدخروا لغد؛ فكانوا إذا فعلوا شيئاً من ذلك أنبأهم عيسى بما صنعوا.


{ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } * { إِنَّ ٱللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } * { فَلَمَّآ أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ ٱلْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَٱشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ }
قوله: { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُِحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ }.

قال بعض المفسّرين: كان الذي جاء به عيسى أيسر مما جاءَ به موسى؛ أحلّت لهم في الإِنجيل أشياء كانت عليهم في التوراة حراماً. كان حرم عليهم لحوم الإِبل والثروب، فأحلّها لهم عيسى، ومن السمك ما لا حرشفة له، ومن الطير ما لا صيصة له، في أشياء حرّمها الله عليهم، فجاء عيسى بتخفيف منه في الإِنجيل.

قال: { وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي: هذا طريق مستقيم إلى الجنة، وهو دين الإِسلام.

قوله: { فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الكُفْرَ } قال الحسن: لما علم أنهم قد أجمعوا على قتله { قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللهِ } [أي: مع الله] { قَالَ الحَوَارِيُّونَ } وهم أنصاره. وقال بعضهم: الحورايون أصفياء الأنبياء. { نَحْنُ أَنصَارُ اللهِ ءَامَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } فقاتلوهم فأظهره الله عليهم فأصبحوا ظاهرين.