الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #71  
قديم 26/02/2004, 10:14 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
ساحرةُ مسفاة العَبريين







في الطريق من مسقط الى "نزوى" و"بهلا" و"مسفاة العبريين"، تلك القرية الخلابة بتدليها العنقودي المنحوت من ظلال الجبل الاخضر، رأيتُ ـ فيما يرى النائم ـ أيام "إمامة عُمان" في -الداخل- و"سلطنة مسقط وعُمان" في -الساحل-.
فيما يرى النائم، تراءت لي تلك الرحلة الصعبة للعمانيين بين -ساحلٍ وداخل- بآلامها وذكرياتها في لُموع سفوح الجبل الأخضر المائلة كشاشةٍ متحركة بالبطولات والهزائم التي مالت أقدار أبطالها دونما حتى ذكرى.
تلك الرحلة التي، عادةً، ما يصفها العائد من "البندر" آنذاك بجملةٍ لها دلالتها: "بكره رايحين عمان" ـ كما لو كان عائداً إلى المكسيك، لوعورة الطريق وصعوبة الرحلة التي تتطلب مهارةً وتوقيتاً جيداً وركوبةً قويةً وأدلاء يعرفون مراوغة بنادق "الصمعا" و"العماني" في أبراج الجبال.

***
حديثي ليس عن تلك الحقبة الخمسينية والستينية. ليس عن الحمير وقوافل الجمال، ولا عن شاحنات "البيد فورد" التي يتكدس على ظهورها من حظي "بإباحة مرور" للسفر إلى »مصادر الرزق« أو لزيارة الدكتور طومس في مستشفى "مطرح"، ولا عن تلك الأبراج العالية التي تغتال بنادقها الخصوم في قيعان الوديان، ولا عن تحالفات »المع ـ والضد« بين إمامةٍ وسلطنة.
ليس عن تلك الأيام حديثي. سأكون خفيفاً اكثر من أعناق الكلمات التي تشرأب من الحلق، خفيفاً وساحراً كحكايةٍ سمعتها تحت أذان المسجد المعلق فوق الممرات الظليلة لـ"المسفاة" حيث يتناهى خرير الوضوء بين الجدران الطينية المرصوصة على حجارة ضخمة يكاد المار أسفلها يظن أنها ساقطة عليه لا محالة، كما هي النخلات المائلة بدلال ضفائرها التي تحد من قسوة الصخر، كما تُضخّم هدير الماء في الوادي الجاري بعيداً في الهاوية، وبالصوت الأرق لمجرى "الفلج" الهابط من "العالي" بحركة لولبية تجعله يمرّ أسفل المسجد المعلق ليشرب الشارب ويتوضأ المتوضىء في جنة معلقة، كأنما بضربةٍ موسيقية ترددها طيور الوادي وماعزه وطُهرُه وصدى ثعالبه في الكهوف.
خفيفاً سأكون، لأروي حكايةً سمعتها هناك تحت خرير الوضوء من مُسنّ استدرجه اهتمامي بالمسفاة وحكاياتها القديمة.
يقول، أو تقول الحكاية: أن ساحراً مشهوراً من بهلا -الشهيرة بالسحر- أراد ان يباهي، بقوة سحره، ساحراً آخر من المسفاة التي وصلها على متن ديكٍ مُحمّلٍ بكيسين كبيرين من التمر، هديةً منهُ لساحر المسفاة. طرق باب صديقه وخصمه فلم يجده في البيت. ردّت عليه صبية في الخامسة عشرة قائلةً: أبي غير موجود، فقد سافر إلى البندر. ردّ عليها، وهو ممتط ديكهُ المثقل بكيسي التمر: "قولي لهُ، عندما يعود، أن فلان الفلاني من بهلا زاره للتسليم عليه، وهذان كيسان من خيرة تمر بهلا هدية له". ردت عليه الصبية: "هل لك، ياعم، أن تنتظر قليلا". خرجت من درفة الباب واقتادته الى مكان قريب من الوادي حيث مدّت أمام ناظريه شعرةً من خصلاتها بين نخلتين يفصل بينهما الوادي. كانت الشعرة أطول من توقع الساحر، لكن ما لم يخطر على باله -وهو الساحر!- أنها أمرت ثوراً يحرث في الجوار أن يعبر الوادي على متن تلك الشعرة. فعل الثور ذلك قاطعاً الفراغ بثقله دون ان يسقط من على تلك الشعرة، مستمراً في حرث حقل الضفة الاخرى، غافلاً عن انتقاله الفيزيقي الميتافيزيقي من حقل صاحبه إلى حقل آخر.
عندها، ودون أن ينبس ببنت شفة، قفل ساحر بهلا عائداً بعد أن فاقته الصبيةُ سحرا.

***
لستُ بحاجة لذكر شيوع السحر في عُمان، واشتهارها به بصرةً وكويتاً ودوحةً وزنجبارا. فهو سحر قديم ترعرعت أخباره فذاع وشاع. كما أنه سحرٌ ينقسم في الذاكرة الفقهية ـ الشعبية إلى مدرستين: "العُلاّم والظُلاّم". فقد اشتهر الشيخ العلامة جاعد بن خميس بقدراته الصوفية، وينسب اليه البعض قدرته أن يرسم خطاً على الأرض من يتخطاه يجد نفسه في زنجبار -ويا لها من وسيلة نقل مريحة جداً-، وهذا نموذج لسحر "العلام". أما سحر الظلاّم فأمثلته أكثر شيوعا.
وكما هو الحال في المغرب، مثلاً، بالنسبة لكثير من الأوروبيين والمغاربة الذين يدرسون تلك الظاهرة أنثروبولوجياً، أو الذين يستسلمون "لسحرها"، كما هو حال بعض الفرنسيين المقيمين في المغرب، وحتى الشباب الهيبيين في ساحة جامع الفنا بمراكش، نجد أن الكثيرين من الخليجيين يأتون خصيصاً إلى عُمان للتداوي بالسحر. مدفوعين بالاسطورة البهلانية القديمة لمعالجة أمراض لم تفلح فيها مصحات لندن وسويسرا. وعدا الزيارات السرية لسحرة معدودين متخصصين في مجالات سحرية لا نعرفها، تقام حفلات الزار في أماكن كثيرة، منها منطقة في رمال وهيبة اشتهرت بوجود مخيم صحراوي يحج إليه الموسرون من قطر والسعودية والكويت ينذرون النذور ويقيمون حفلات الزار لاخراج "شيطان ظالم" بقوة "شيطان خيّر".
ويذكر أبناء جيلي في طفولاتهم تحذير الأهل من السحرة و"المغايبة" -وهم الموتى المسحورون الذين يأتون في الليل لزيارة منازل ذويهم-. وكثيراً ما يقال عن فلان أنه لم يمت، وأنه حي يرزق في كهوف الجبال على هيئة "مُغّيب"، بل كثيراً ما يكون الساحر شخصاً معروفاً وذا اعتبار في القرية، لكن لا أحد يجرؤ على ذكر ذلك أمامه. وكثيراً ما وصف لنا سقاة الفلج الليليون مصادفتهم لفلان الفلاني الذي دفناه قبل اسبوعين. وعندما كنا، نحن الاطفال، نسأل عن جثة الميت يقال لنا: ذاك جذع نخلة، أما الميت فلم يمت، إنه الآن "مغّيب". وكم أثارت مخيلتي مفردة المغّيب تلك، فهي تعني أن المتوفى ليس حياً ولا ميتاً، وأن هناك أملا في استعادته ذات يوم.
أذكر، حدث هذا معي عندما توفي عزيز علي وأشيع أنه مغيب. وكم تمنيتُ أثناء عودتي من المسجد بعد صلاة العشاء أن ألتقي به "مغيبا" في ظلمة النخيل، وأشكو له افتقادي له. بل كم تماديتُ في أخيلتي تلك لأسألهُ عما حدث له بالضبط؟.. وهل صحيح أن ما رأيته قبل الدفن لم يكن هو، وإنما جذع نخلة؟.. وهل دخل القبر وأخرجه الساحر منه، أم أن الساحر فرّ به مباشرة بعد موته إلى الكهف؟ وهل المغيبون الآخرون ودودون معه؟.. وأحياناً أطيل الجلوس في الظلمة لأجد التأنيب على تأخري منتظراً في البيت، مفكراً في طريقة أخفي بها صديقي عن أعين الساحر، وأعيده، بمعجزتي، إلى الحياة. متخيلاً فرح الأهل بعودته حياً يرزق. ثم لا ألبث وأتراجع عن تلك الفكرة خوفاً من أن يعرف الساحر بخططي، ويحيلني إلى مغيّب أنا الآخر. لا سيما وأنني أعرفه شخصياً، ويصلي معنا في ذات المسجد. وكم كان فرحي كبيراً، بعد سنوات، عندما مات ذلك الساحر "الظالم".

***
أحببتُ تلك المفردة وما زلت أحبها حتى اليوم، ربما بوازع شعري يحاولُ ربطها بظلال المجاز وأقمار الأسطورة.




المقال للشاعر والكاتب مخمد الخارثى
المصدر موقع محمد الخارثى