الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #94  
قديم 26/04/2004, 04:39 PM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
Cool

ويحدثونك عن الغزو الثقافي ومفاتيح البيوت واقفالها من صنعهم!
2004/04/26

د. فيصل القاسم
ما أن تطلق أمريكا أو الغرب عموماً فيلماً أو وسيلة إعلام جديدة أو حتي شريطاًً كرتونياً حتي يبدأ بعض رجال الدين والقوميين العرب يحذرون من غزو ثقافي جديد يهدف إلي تدنيس القيم الإسلامية أو تقويض الثقافة القومية. وقد وصل الأمر ببعض الشيوخ في السعودية مثلا إلي إطلاق فتاوي عاجلة قبل أيام تحّرم مشاهدة هذه القناة الأمريكية أو تلك، كما لو كانت رجساً من عمل الشيطان. ولا شك أنكم تذكرون جيداً تلك الحملة الشعواء التي شنناها علي مسلسل بوكيمون الكرتوني وحذرنا من مخاطره الرهيبة المزعومة علي الأجيال العربية الصاعدة. لا أدري لماذا لدينا هذه الحساسية المفرطة مما يسمي بالغزو الثقافي. لا أدري لماذا نحب أن نظهر للعالم وكأننا جنس مطهر كامل الأوصاف لا يقبل أي تلاقح ثقافي مع أحد مع العلم أننا مخترقون من رأسنا حتي أخمص قدمينا سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً وحتي دينياً. ألا نعيّر الغرب دائماً بأنه سرق الكثير من منجزاتنا الحضارية والعلمية وحتي الثقافية واستغلها في بناء نهضته العملاقة؟ لماذا قبل الغربيون بكل ما أخذوه منا دون أن يعتبروه غزواً؟ لماذا نتباهي بتأثيراتنا الثقافية والحضارية علي الآخرين ثم نستنفر عندما يأتينا شيء من الخارج وكأنه تهديد لأمننا القومي أو الديني ؟ ألم نمل من لعبة التصدي الأجوف للمؤثرات الخارجية؟ ثم من قال إن أمريكا خصوصاً والغرب عموماً يريدان أن يدمرا حضارتنا وثقافتنا وديننا؟ إنها أسطوانة مشروخة يجب أن نتوقف عن تشغيلها لأنها باتت تخدش مسامعنا بصريرها المتكرر وجرش صوتها المنفر.
لا بد أن نعرف أولاً أن ليس لأمريكا ثقافة أو قيم خارقة للعادة تريد أن تفرضها علينا كي نتخلي عن ديننا وقوميتنا وثقافتنا. ولا أبالغ إذا قلت إن آخر شيء يفكر به الأمريكيون هو تدمير ديننا أو قيمنا. وإذا كانوا يستهدفوننا فعلاً فليس للقضاء علي ثقافتنا العربية أو الإسلامية، لأنها في كثير من الأحيان تخدم مصالحهم وأهدافهم أكثر بكثير مما تضرها. فماذا أنتجت ثقافتنا المزعومة علي مدي قرون غير التخلف السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعلمي كي ندافع عنها بأسناننا كلما هب عليها بعض النسيم العليل؟ دعوني أطمئنكم بأنه وبالرغم من كل ما يقال عن نفوذ اليمين المسيحي في الولايات المتحدة الأمريكية، إلا أنه لا يشكل أي خطر علينا من الناحية الثقافية أو الدينية. فالإدارات الأمريكية المتعاقبة لم يكن همها في يوم من الأيام تجريد هذا الشعب أو ذاك من ثقافته أو دينه ليصبح مسيحياً كاثوليكياً أو بروتستانتياً أو إنجيلياً . فالثقافة الأمريكية التي يحاولون تصديرها للخارج وتعميمها عالمياً ليست ثقافة دينية أو حتي ثقافية بالمفهوم العام، كي نخاف منها أو نخشي علي مجتمعاتنا من تأثيرها، فهي ثقافة مادية استهلاكية لا أكثر ولا أقل لا تستهدف العقول والوجدان بقدر ما تستهدف البطون والنزوات والاحتياجات البشرية. ولا يغرنكم شعار أمريكا المطبوع علي الدولار الأمريكيst In God We Tru نحن نؤمن بالله ، فهو للعرض فقط، بعبارة أخري فهو ليس شعارهم الحقيقي، فالشعار الأصلي لديهم هو نحن نؤمن بالدولار . وكان من الأفضل أن يزين هذا الشعار وسط العملة الأمريكية بدلاً من الشعار الديني الذي تحمله زوراً وبهتاناً. بعبارة أخري فإن كل ما يريده الأمريكيون منا هو أن نكون مستهلكين جيدين لمنتجاتهم وسلعهم وعملاء تجاريين لهم، وإذا كان لا بد من السجود فيفضـّل أن يكون لدولارهم الأخضر.
لا شك أن هناك حملات أمريكية قوية جداً لتغيير ثقافتنا، لكن ليس لاستبدالها بالثقافة الغربية المسيحية، لأن تلك الثقافة ذاتها لم يعد لها محل من الإعراب أصلاً في المجتمعات الغربية، فقد غدت مجرد كماليات. وهناك إحصائيات جديدة تشير إلي أن مرتادي الكنائس أيام الأحد في بريطانيا مثلاً في تناقص خطير. وبناء علي هذه المعطيات فإن المحاولات الغربية الرامية إلي تغيير ثقافتنا تهدف بالدرجة الأولي إلي تعويدنا علي استهلاك المزيد من البضائع الغربية. وإذا تطرفنا وسمينا تلك الحملات بغزو ثقافي أمريكي لنا فإنه بلا أدني شك غزو فريد من نوعه في التاريخ لأنه ليس روحياً ولا دينياً ولا ثقافياً حقيقياً، وبالتالي ليس تقليدياً. صحيح أن الأمريكيين يريدون منا أن نتأمرك ونصبح مستخدمين للغة الانكليزية وعاشقين لأفلام هوليوود وديزني ومسلسلات دالاس ولابسين للأزياء الأمريكية وغيرها من مظاهر الثقافة الغربية قاب قوسين، لكن ليس لنصبح تابعين للصليب الأمريكي بل لنكون مستهلكين نجيبين لما ينتجونه من طعام وشراب وملبس وألعاب وأجهزة الكترونية وغيرها من مستلزمات وضروريات وكماليات الحضارة الحديثة. فكلما تأثرنا بالثقافة الأمريكية زاد استهلاكنا للسلع الأمريكية والغربية عموماً. لهذا مثلاً نري المطاعم الأمريكية المنتشرة في بلداننا تقدم مع الوجبات أحياناً أشرطة فيديو للأطفال لأشهر أفلام الكرتون وأفلام الأكشن الأمريكية لإغرائهم بشراء المأكولات ثانية من المطعم. بعبارة أخري فهي تغرينا بالشريط (الثقافة) كي نستهلك بضاعتها، أي أن الثقافة الأمريكية هي في خدمة البضاعة. لاحظوا الربط بين أفلام الفيديو والوجبة الأمريكية! وإذا استخدمنا التحليل الماركسي سنجد أن شريط الفيديو هو بمثابة البناء الفوقي الهزيل للبناء التحتي الصلب المتمثل بالسلعة. إذن المستهدف من كل حملاتهم التي نسميها خطأًً غزواً ثقافياً هي جيوبنا أو بالأحري ما توفر لنا من نقود وثروات.
وهذا الغزو لو صحت تسميته كذلك لا يستهدف العرب والمسلمين دون غيرهم، بل يستهدف كل من لديه أي نوع من العملات يريد أن ينفقها. وقد يكون هذا الشخص في مجاهل أفريقيا أو في غابات البرازيل، فطالما لديه قدرة شرائية فهو مستهدف بالثقافة الأمريكية أو بالأحري بما يمكن أن نسميه مجازاً بالتنصير الاستهلاكي الأمريكي . والدليل علي ذلك أن المُـنتج الأمريكي غزا أوروبا واليابان وأمريكا الجنوبية بقدر ما غزا المجتمعات العربية والإسلامية. هل كان الأمريكيون يريدون تحويل اليابانيين من البوذية إلي المسيحية؟ بالطبع لا. هل كانوا يريدون تنصير أو إفساد الدين السائد في أوروبا وأمريكا اللاتينية؟ بالطبع لا أيضاً لأن سكان تلك القارتين يدينون بالمسيحية أصلاً. هل كانوا يريدون أن يحرفوا الهنود عن هندوسيتهم أو التايلنديين عن بوذيتهم؟ طبعاً لا. هل كان المتحكمون بمفاصل الاقتصاد والتجارة الأمريكية يريدون تنصير الشعب الأمريكي؟ بالطبع لا، فهو في معظمه خليط من الكاثوليك والبروتستانت وغيرهم من الطوائف المسيحية، فكل ما يبتغونه من الشعب الأمريكي أن يزيد من شهيته في استهلاك ما تنتجه المصانع الأمريكية من مأكل ومشرب وأجهزة. بعبارة أخري، فالعقلية الحاكمة والمتحكمة في الغرب عموماً ليست عقلية حضارية بمعاني دينية بل عقلية تجارية واقتصادية في المقام الأول، وكل ما يهمها من الشعوب الواقعة تحت سيطرتها هو أن تجود عليها بما توفر في جيوبها من نقود كي تبادله بسلع وبضائع. إنهم يتعاملون مع شعوبهم بنفس الطريقة التي يتعاملون بها مع بقية شعوب الأرض. إنه المنطق الرأسمالي القائم علي شريان الإنتاج والاستهلاك المتواصلين.
فهل يمكن أن نقول بعد كل ما تقدم إننا مستهدفون ثقافياً؟ بالطبع لا. وحتي لو قلنا ذلك، فالكلام لم يعد ينفع لأننا، كما أسلفت، أصبحنا مخترقين حتي أذنينا بهذا الغزو الثقافي الغربي إذا أصريتم وسميتموه غزواً. فكل ما في بيوتنا هو من إنتاج غربي تقريباً، التلفزيون، الراديو، الثلاجة، الكومبيوتر، الفاكس، الهاتف، الأضواء، النوافير، المكانس الكهربائية، إطارات الصور، الساعات والعطور، حتي مواد البناء ومفاتيح ومماسك الأبواب في بيوتنا ومساجدنا ليست من صنعنا. حتي أكلاتنا الشعبية بدأت تأتينا جاهزة ومعلبة من أمريكا مثل الفلافل والحمص والفول المدمس ناهيك عن مكونات المأكولات الأخري. ولا ننسي حتي أزياءنا التقليدية من غترة وعقال ودشداشة. ألا نتباهي بالإعلان عن وصول غترات من صنع سويسري وبريطاني وأمريكي وياباني إلي محلاتنا التجارية؟ ألا يتسابق أصحاب الماركات العالمية علي تصنيع ملابسنا الشعبية لنا، فهذه غترة من تصميم دانهيل وتلك صناعة انكليزية فاخرة. وحتي لو اتخذت ماركات بعض الغترات أسماء عربية أحياناً إلا أنها تكون مصنوعة في الغرب. وحدث ولا حرج عن ماركات الشماغ التي يتباري التجار الخليجيون في الإعلان عنها في وسائل الإعلام. فهي أكثر من الهم علي القلب ومصممة ومصنوعة أيضاً في سويسرا وبريطانيا وغيرهما. والأخطر من ذلك أن بعض أزيائنا التي كنا نعتقد أنها وطنية ليست وطنية أبداً، بل اخترعها لنا وفرضها علينا بعض المستعمرين، كالكوفية الأردنية الحمراء مثلا. فهذه الكوفية ليست الزي التقليدي لبدو شرق الأردن كما قد يتوهم البعض، بل استقدمها غلوب باشا الضابط البريطاني الذي كان قائداً للجيش الأردني أيام الانتداب، من مدينة مانشستر البريطانية وعممها علي الأردنيين لتصبح رمزاً وطنياً. ويقال أيضاً إنه وراء اختراع الكوفية الفلسطينية البيضاء والسوداء وجعلها رمزاً للهوية الفلسطينية. وحتي ملابسنا الداخلية فضلاً عن الخارجية ونعالنا مستوردة من الغرب. وهل نسينا أن كل أزيائنا باستثناء الزي الخليجي أصبحت غربية، بدءاً بالبنطالون وانتهاء بالكرافات. وحتي الزي الخليجي ليس صناعة خليجية، فالقماش المصنوع منه إما ياباني أو أوروبي وفي أسوأ الأحوال صيني!
وحدث ولا حرج عن المدارس الانكليزية والأمريكية، فكلنا نطمح إلي إرسال أولادنا إلي المدارس الأجنبية التي تنتشر في ديارنا كانتشار النار في الهشيم ونتسابق علي دخولها بأرجلنا. ألم تصبح أفلام ديزني ومنتجات هوليوود الترفيهية الزاد الترفيهي الأساسي لأطفالنا؟ هل يشاهدون غير سوبرمان وسبايدرمان وباتمان وسوبر زورو وبوكاهنتاس وتوم أند جيري وبوكيمون وغيرها؟ حتي ـ يا جماعة الخير ـ! الآليات التي تستخرج لنا النفط من باطن أرضنا لنبيعه ونقتات علي مداخيله ليست من صنعنا، ولو تـُرك الأمر لنا لتعفن البترول في قاع صحرائنا وحقولنا. زد علي ذلك أننا ما أن استلمنا ريع النفط حتي انطلقنا به لنودعه في بنوك أمريكية وأوروبية. ونري بعد كل ذلك شيوخنا الأكارم يصعدون المنابر ليصيحوا بأعلي أصواتهم: إننا نتعرض لغزو ثقافي، قاطعوا تلك القناة الأمريكية أو ذاك المسلسل الكرتوني! أرجو أن يجد أحد المستمعين لبعض المواعظ ذات مرة الشجاعة الكافية في نفسه ليقول لخطباء الجوامع: اخفضوا صوت الميكرفون الذي تعظوننا من خلاله كي لا يُصاب بعطل! لا. استمروا ودعوه يخرب، فبإمكاننا أن نشتري ميكروفوناً أمريكياً آخر! ويحدثونك عن الغزو الثقافي!


المصدر جريدة القدس العربى