الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #69  
قديم 23/02/2004, 10:41 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
ليست العلة في المفهوم.. ولكنها في قراءة المفهوم..!
تركي الحمد

يعيش المسلم المعاصر اليوم أزمة حضارية، بل هي أزمة معيشية يومية في كل الميادين، وتنعكس هذه الأزمة على العقل والسلوك والنفس منه، فتجعله في حالة من فقدان الوزن والتوازن بحيث لا يدري في النهاية من هو أو ماذا يريد في أحسن الأحوال، أو قد ينجرف نتيجة هذا الضياع نحو تدمير غير مفرق، كحل انتحاري أخير، نفسي أو بدني، لأزمته التي لا يجد له منها في النهاية مخرجاً. فالمسلم اليوم يعيش في عالم مختلف تمام الاختلاف عن ذاك العالم الذي يُعلم له في الكثير من المدارس ومؤسسات التنشئة على انه عالم المسلم الحقيقي، بل وعالم المثال بالنسبة للبعض، مع التركيز على مرحلة من ذلك العالم دون أخرى، أو اختزال مرحلة وتنقيتها من الشوائب العالقة على انها هي الفردوس المفقود الذي تجب اعادة بعثه أو احيائه من جديد. يخرج هذا المسلم الى العالم الحقيقي، أي العالم الذي يجب عليه ان يعيش فيه ويتحرك ويتعامل، فيجد ان كل ما فيه يتناقض مع كل ما رُبي عليه من مبادئ الهوية الصافية، وأسس الذات والذاتية النقية، فيكون الضياع، سواء من ناحية ازدواجية السلوك الشاطر للذات والمعيق لتفتحها في النهاية، كما هو حال الأكثرية، أو محاولة وضع حد لهذا العالم ان كان ذلك مستطاعاً، كشرط لعودة الفردوس المفقود، أو مغادرته الى حيث جنة لا صراع فيها ولا معاناة أو ألم، كما يعبر عن ذلك سلوك أقلية وصل لديها التوتر أقصاه، وفي ذلك راحة للنفس المأزومة والذات المتشظية.
أسباب عدة يمكن ان تفسر هذا الانشطار والتشظي في الذات المسلمة اليوم، منها ما هو اجتماعي ومنها ما هو سياسي ومنها ما هو نفسي، وكل هذه الأمور متداخلة بحيث لا يمكن معرفة أين تبدأ الحلقة وأين تنهي.
ولكن جزءاً من أسباب هذه الأزمة، ولا نقول كل الأسباب، يعود الى جذور معرفية وثقافية، قبل ان يكون ذلك في طبيعة الحياة والمجتمع. فالثقافة، بشكل عام، هي ذاك المنظار الذي من خلاله تتحدد معاني الأشياء، التي لا معنى محايداً لها من دون اطار من ثقافة معينة. والعقل المسلم، كما هو مُشكل اليوم، انما هو مقاد بمفاهيم يجد ان عليه الايمان بها، ولكنها في النهاية لا تصف له عالم الحال كما هو، ولا تلك الثقافة التي ينظر من خلالها بقية العالم ويسلك، وبالتالي لا تمنحه القدرة على التصرف السليم، أو حتى مجرد التصرف في أحوال كثيرة. مفاهيم مقدسة في أصلها وذاتها، ولكنها ليس بالضرورة ان تكون مقدسة في مقاربتها وقراءتها. ولكن المسلم البسيط لا يستطيع التفرقة بين ما هو مقدس بطبيعته وبين ما هو مقدس بالاضافة، فتختلط لديه الأمور وتضيع المعالم، ومن هنا ينشأ السلوك غير السوي، سواء بتلك الازدواجية الشاطرة للذات، أو بتلك الانتحارية القاضية على الذات.
مفاهيم تمر على المسلم كل يوم حين قراءته لقرآنه مثلاً، ومن حسن ايمان المرء الايمان بها على صفة الاطلاق، ولكن ذات هذه المفاهيم تبدو وكأنها غير مقبولة في العالم الذي يعيش فيه، ويجب عليه ان يعيش فيه، فيما هي من ضرورات مقدساته، أو انها مقبولة في عالمه الذي يعيش فيه، ولكنها تبدو مرفوضة في نصوصه المقدسة، الأصيل منها والمضاف، فتنشأ أزمة لا يستطيع لها حلاً، فيكون الشلل أو التدمير هو النتيجة في أحيان كثيرة. مفاهيم مثل الارهاب والحاكمية والأحزاب والولاء والبراء، تجد معاني مختلفة بين العالم المعيش وتلك النصوص المقدسة التي لا يستقيم الايمان الا بها، فتنشأ الأزمة حين لا يُحل التعارض، ويولد السلوك غير السوي. فهو يقرأ مثلاً: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف اليكم وانتم لا تُظلمون» (الانفال، 60). الارهاب هنا شيء محمود، ولكنه ظاهرة محاربة في كل انحاء العالم، فكيف يفسر الأمر؟ وكيف يتحدد سلوكه في هذه الحالة؟ وذات الشيء يمكن ان يُقال عن آيات أخرى، فهو يقرأ: «يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فانه منهم ان الله لا يهدي القوم الظالمين» (المائدة، 51). فالعلاقات الدولية بين الأمم والدول اليوم لا تقوم على أساس الدين والمعتقد، بقدر ما تقوم على المصالح ومنطق الدولة، وكذلك الأمر في العلاقة بين مواطني الدولة الواحدة، حيث المواطنة هي أساس العلاقة، فكيف يستطع العقل المسلم ان يوفق بين ما يقوله النص المقدس بعدم موالاة اليهود والنصارى والبراءة منهم، في ذات الوقت الذي يجد فيه الدولة التي يحمل جنسيتها تحاول ممارسة السياسة، في الداخل والخارج، وفقاً لمنطق الدولة ومنطق العصر، والذي يعني ان المعتقد لا دخل له في السياسة في مثل هذا العالم الذي نعيش فيه؟ وذات الشيء ينطبق على مفاهيم تبدو متناقضة في معناها المقدس مع المعاني الحديثة لها، مثل قضية الأحزاب والحاكمية ونحوها.
المشكلة هنا هي مشكلة قراءة ومقاربة، أكثر منها قضية تناقض نص وواقع. فهل المقاربة المتبناة مقاربة معرفية، أم انها مقاربة ايديولوجية؟ بحث عن المعرفة، أم بحث عن التبربر؟ هنا يكمن مربط الأزمة معرفياً، وهنا تكمن معضلة العقل المسلم في تعامله مع عالم اليوم. فعندما يكون المدخل لفهم النص معرفياً خالصاً، كما كان نهج كبار الفقهاء في تاريخنا، فان مثل هذا النص يؤخذ مرتبطاً بما قبله وما بعده من ناحية، وفي اطار النصوص المقدسة الأخرى التي يحتويها المرجع المعتمد.
ومن ناحية أخرى، فان المقاربة المعرفية الخالصة تعني محاولة استنطاق النص بشكل كامل، بمعنى معرفة أسباب النزول التاريخية، والمعنى الذي كان يُفهم من كلمة الارهاب مثلاً، وكيفية الممارسة في ظل هذا المفهوم، وعدم فصل المفهوم عن ظروفه المحيطة، بل وحتى استخدام اكتشافات العلوم الاجتماعية الحديثة لمثل هذا الاستنطاق، وهكذا.
وفق مثل هذه المقاربة، يتبين مثلاً ان الارهاب المذكور في النص المقدس يعني الى حد كبير ما يُسمى اليوم في عالم السياسة بـ«الردع»، كما كان الحال بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي حين كان «الردع» يعني نوعاً من توازن القوى المانع لبدء أحدهما بالحرب، ولا يعني المبادرة بالحرب. أما الارهاب في المعنى الحالي فهو شيء مختلف عن الردع، وبالتالي فان التشابه في الكلمات لا يعني توحد المعنى، ربما كان كل هذا الخلط الخطأ ناتجاً عن الترجمة مثلاً، ولو ان كلمة TERRORISM ترجمت مثلاً الى كلمة غير ارهاب، كالارعاب مثلاً، لربما ما كان مثل هذا الخلط ليحدث، ولكن مثل هذا القول فيه تبسيط للأمور أكثر مما يجب، اذ ان المسألة أبعد غوراً من ذلك بكثير.
ذات الشيء يمكن ان يُقال عن مفاهيم الحاكمية والأحزاب والولاء والبراء وغيرها من مفاهيم مختلطة في الذهن المسلم. فالحاكمية مثلاً جاءت من حكم وحكومة، وهي تعني في معناها العربي والقرآني القضاء، وليس الحكم بالمعنى السياسي المعاصر، المستمد من التجربة الغربية أساساً. حين تختلط المفاهيم، فتصبح الحاكمية التي يتحدث عنها القرآن الكريم هي ذات الحاكمية والحكم في المفهوم المعاصر، هنا يتشتت الذهن وينشطر. والأحزاب لم تُذكر في القرآن الا بمعنى الفرقة والتشتت والعصبية، أو في مجال المقارنة بين الخير والشر (حزب الله في مقابل حزب الشيطان)، ولكنها في الأدبيات السياسية المعاصرة لا تعني ذات الشيء. ونفس الشيء حين الحديث عن الدولة، والمعنى المختلف الذي يورده القرآن الكريم ومورس في تاريخنا، مقارنة بالمعنى السياسي المعاصر.
حين تختلط مثل هذه المفاهيم، وتتداخل المعاني المتناقضة، يكون انشطار العقل، ومن ثم تشظي الذات، وبالتالي شلل الحركة، سواء في عدم القدرة على الحركة ابتداء، أو في حركة هي الى تدمير الذات أقرب. جزء كبير من الخلل يكمن في القراءة ومقاربة النص، كما ذكر سابقاً. والعلة لا تكمن في تعدد القراءات، اذا كان المنطلق معرفياً صرفاً، ولكنه يكمن في طبيعة القراءة الايديولوجية، مهما تعددت هذه القراءات والمقاربات.
فالقراءة الايديولوجية قراءة ذات غرض، بمعنى انها تبحث عن التبرير لهدف محدد من الأساس، وذلك من خلال توظيف النص، أو جزء منه لهذا الهدف، وليس الهدف هو استنطاق النص بشكل معرفي. فالذين يستخدمون مفهوم الولاء والبراء لأغراض سياسية معينة مثلاً، ويقسمون العالم الى فسطاطي كفر وايمان، لا يهمهم ان تكون آية عدم موالاة اليهود والنصارى السابقة قد نزلت في عبادة بن الصامت، فالغرض ليس هو ذات المعرفة المتكاملة، بقدر ما انه بناء ايديولوجيا تخدم الهدف في النهاية.
وذات الشيء يمكن ان يُقال عن قول الحق: «ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون» (المائدة، 44)، والتي أقام منها الخوارج والمودودي وسيد قطب ومن سار على نهجهم، ايديولوجيا كاملة فيها تكفير للمؤسسات والأفراد، وتجهيل للمجتمعات، رغم ان الآية نزلت في عدم تحكيم اليهود لتوراتهم في قضية زنى معينة ومحددة، ولا علاقة لها بانظمة الحكم السياسية، ولكن الغرض الايديولوجي هو الغالب في هذه الحالة. مشكلة المسلم المعاصر تكمن هنا في المقام الأول، أي في تقديم القراءة الايديولوجية على انها قراءة معرفية، وبالتالي تختلط المقاصد العامة للدين بالأغراض الخاصة للايديولوجيا، وتكون الضحية ذات المسلم الذي يفقد بوصلة السلوك المناسبة، فلا هو الذي عاش دنياه من دون أزمات، ولا هو الذي عبد ربه من دون توترات.
أما لماذا ينحو الأفراد والجماعات الى القراءة الايديولوجية للنص المقدس، وغير المقدس، على اختلاف هذه القراءات، فتلك مسألة أخرى ولها نقاش آخر.







المصدر جريدة الشرق الاوسط