عرض المشاركة وحيدة
  #48  
قديم 05/06/2006, 12:32 PM
الزمن القادم الزمن القادم غير متواجد حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 27/03/2006
المشاركات: 242
الأمر العسكري الأمريكي 81: إعدام الزراعة العراقية النوعية كمقدمة لتصحير العراق!

علاء اللامي

القدس العربي

تثير المقالة المهمة التي حررها ونشرها جيريمي سميث مدير تحرير مجلة ذي إيكولوجست البريطانية تساؤلات خطيرة ومشاعر صعبة الوصف حقا لدي كل من يعنيهم حاضر ومستقبل العراق.. تناقش المقالة التي تحمل عنوان (الاحتلال وشركات البذور الأمريكية تهدد مئة قرن من الإبداع الزراعي العراقي) موضوعا خطيرا وأقرب إلي الفضيحة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية التي ارتكبتها سلطات الاحتلال الأمريكية في المراحل الأولي لاحتلالها العراق..
الأمر هنا لا يتعلق بإشاعات وأقاويل وتسريبات معينة بل حقائق دامغة معززة بوثائق وأرقام وإحصائيات..
من المعروف علي النطاق العالمي، وخصوصا في الدوائر السياسية والجماهيرية المناوئة للعولمة بوجهها ومضمونها الإمبرياليين، أن برامج كثيرة قد نفذت في العقود الثلاثة الماضية في ميادين الإنتاج الزراعي والحيواني والدوائي استهدفت تطويق ومن ثم إلغاء التقاليد الإنسانية العريقة التي توارثتها شعوب العالم جيلا بعد جيل حتي صارت خبرة وكنزا إنسانيا فريدا لا يمكن استبداله أو الاستغناء عنه..
لقد نجحت السياسات والاستراتيجيات العولمية في تدمير وامحاء نماذج موروثة وراقية في هذه الميادين، وهي ماضية قدما ـ وباستغلال وجودها العسكري الاحتلالي هذه المرة ـ في هذا الصنيع الإجرامي.
تكتسب الحالة العراقية فرادة خاصة، فالبلد يعاني من تدمير منهجي للدولة والمجتمع ضمن مشروع استلابي هدفه المعلن فرض دولة برانية، فوقية، متناقضة في الصميم مع الخصوصيات المجتمعية العراقية تقوم ـ هذه الدولة ـ علي مبادئ التشطير والتخندق الطائفي والعرقي في مجتمع حيوي ليس في تراثه القديم أو الحديث آثار مهمة وملموسة لظاهرة الطائفية السياسية. غير أن استهداف التراث الزراعي العراقي المتوارث يكتسب خطورته الفائقة من أنه غير لافت للعراقيين أنفسهم، ولكونه غير ملحوظ الخطورة حتي بلغ الأمر درجة أن الحكومات المحلية التي شكلت خلال سنوات الاحتلال راحت تساهم وبحماس أحمق أحيانا في هذا المشروع الكارثي..
سنحاول أن نلقي نظرة علي خلفيات وتطبيقات وأهداف هذا الموضوع مستعينين بما ورد في مقالة السيد جيريمي سميث ومصادر أخري:
قبل وبعد اكتشاف البترول ظل العراق بلدا زراعيا منتجا حتي حلت سنوات الحكم الشمولي في السبعينات من القرن الماضي حيث رسخ النظام الحاكم قواعد بناء مجتمع استهلاكي معتمد بالدرجة الأولي علي الريع النفطي الذي سحق العملية الإنتاجية الزراعية سحقا تدريجيا وبات غذاء المواطن العراقي مستوردا في أغلبه من الخارج..
وفي تلك السنوات، وكأنما هي محاولة لتوثيق الزراعة العراقية التليدة، بادرت الحكومة إلي جمع التراث العراقي من البذور المحلية والمنتجَة ضمن شروط البيئة والمجتمع العراقيين في ما سمي حينها البنك الوطني للبذور في مدينة أبو غريب والطريف أن منطقة أبو غريب رسمت كأحد أسماء البذور العراقية التي تشتهر بها. وقد استمر الفلاح العراقي يستعمل بذوره المحلية بنسبة تصل 97% مع انعدام ما يسمي حق الملكية الفكرية حيث دأب المجتمع العراقي علي اعتبار هذا الكنز المتنوع والغني من الخزين البذوري ملكية مشاعة بين الناس.. وبعد الاحتلال الأمريكي مباشرة تم تدمير وإنهاء البنك الوطني للبذور مع ما دمر من مؤسسات ومكونات البنية التحية والفوقية العراقية.
وفي أجواء الفوضي والخراب الشامل التي أعقبت احتلال العاصمة بغداد، وجدت سلطات الاحتلال الفرصة سانحة للبدء بتنفيذ مخططها لتأسيس وضع جديد في الميدان الزراعي يحل محل النظام الزراعي العراقي الأصيل والموروث.
يقوم المخطط الأمريكي الذي تولي الحاكم الأمريكي تنفيذه علي خطة شاملة لما دعاه إعادة هيكلة البذور والزراعة العراقية في خطة زراعية جديدة ومصرف وطني جديد للبذور بهدف القضاء علي حق الملكية الفكرية العامة للبذور المحلية وتتيح لشركات البذور الأمريكية احتكار إنتاج وتصدير بذورها وتعليم الفلاحين العراقيين إعادة اكتشاف زراعة القمح علي أسس حقوق الملكية التجارية!
تقول الإحصائيات المعتمدة بأن العراق أنتج في العام 1995 ما مقداره 1236 الف طن من القمح ثم تراجع الإنتاج إلي 348 الف طن العام 2000 وعزت منظمة الزراعة والأغذية (الفاو) سبب هذا التراجع إلي انعدام الاستقرار في العراق والحصار الطويل الذي تعرض له هذا البلد .
ولأغراض غدت معلنة الآن، خالفت وزارة الزراعة الأمريكية استنتاجات الفاو وخلصت إلي ان الزراعات العراقية قليلة الانتاجية وانها تحتاج إلي إعادة هيكلة جديدة .
ولتنفيذ هذا المخطط الإبادي أصدر بول بريمر وقبل مغادرته العراق مجموعة من الأوامر العسكرية بلغ عددها مائة أمر وفرمان ومن أخطرها الأمر العسكري المرقم 81 الخاص بحق الملكية الفكرية وحماية بذور القمح الآتية من وراء الأطلسي.
يضيف سميث أن هذا الأمر العسكري (ينص علي حماية تنوع المزروعات PUP ولكنه لا يعني، كما يدل اسمه، حماية التنوع الحيوي وتعدد التنويعات والبذور العراقية والمحلية بل يعني تماما القضاء عليها). بمعني معين يمكن لنا ان نتصور المآل الذي ستؤول إليه الأمور فالتراث البذوري الموروث في العراق سيختفي تماما وسيتم ربط الزراعة العراقية ربطا محكما بشركات إنتاج البذور الأمريكية صاحبة الحق الوحيد في الملكية الفكرية لتلك البذور وهذه البذور بدورها ستجعل الأراضي العراقية ساحة لعملية تلويث بيئي خطير.
لتوضيح الأساس القانوني اللصوصي الذي تقوم عليه الخطة الأمريكية يمكن لنا التذكير بالتعريف العالمي للبذور المحمية فالاتحاد الدولي لصيانة الأنواع النباتية UPOV حدد (مواصفات المزروعات المحمية بأنها بذور جديدة، متميزة، متماثلة، متسقة وهي مواصفات بذور الشركات المتعددة الجنسية دون غيرها. فالبذور الأخري ليست جديدة إنما شاخت في الأرض عراقة. وهي ليست متميزة إنما تداخلت مواصفاتها بمواصفات تنوعات محلية أخري، كما انها ليست متماثلة و متسقة بل علي العكس من ذلك تستمد أهميتها من التنقيح والتلقيح المتبادل في محيطها الطبيعي وتفضي إلي إنتاج بذور متنوعة التماثل ومختلفة الاتساق، وهو أمر تعول عليه الشركات المتعددة الجنسية أولا في حرمان المزارعين المحليين من إعادة استخدام بذور الموسم السابق وإجبارهم علي شراء بذور جديدة في كل موسم، وتعول عليه ثانيا في تلويث المزروعات الأخري بمواصفات تتمتع بـ حق الملكية الفكرية .
فالمزروعات تتلقح وتتنقح في ما بينها في الطبيعة من دون إذن بـ حق الاختيار وهو مبرر كاف لجر المزارعين إلي محاكم حق الملكية الفكرية إذا استخدموا بذورا ملقحة بمزروعات محمية. وهكذا سيكون الطوق قد أحكم علي مستقبل العملية الزراعية العراقية بعد أن تم القضاء علي التنوع الحيوي الطبيعي وأبيد التراث البذوري العراقي العريق وأصبحت الأراضي الزراعية في خطر داهم بسبب التلوث المتوقع والأكيد الذي ستحمله معها البذور المجينة (المعدلة وراثيا) لتنتهي الدورة بتصحير العراق تماما وتحويله إلي دولة نفطية قاحلة في غضون بضعة عقود.
ولتسريع عملية تنفيذ هذا المخطط الاحتلالي لجأت سلطات الاحتلال، بعد تشكيل الحكومة المحلية، إلي تنصيب مستشار أمريكي في كل وزارة عراقية يكون بمثابة الآمر الناهي في كل ما يخص ما أطلق عليه إعادة الإعمار لضبط وتسريع آليات الانتقال إلي اقتصاد السوق الرأسمالية.. وللمصادفة كما يتهكم سميث في مقالته فإن هؤلاء المستشارين يعملون في شركة بيرنغ باونت التي تقدم خبراتها العلمية بالتنسيق مع البيت الأبيض والبنتاغون والشركات الكبري في فلسفة إعادة الاعمار !! ويمكن لمن لا يصدق بوجود الأشباح والعفاريت الزرق أن يضرب صفحا عن هذه المصادفة!
وكما أدت سياسات تدمير الزراعات المحلية في عدد من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية إلي إفقار الفلاحين وهيمنة الشركات الأمريكية الكبري علي الميدان الزراعي في تلك البلدان شرعت سلطات الاحتلال في العراق بتكرار المجزرة البيئية ذاتها في العراق مستعينة بالقوات المسلحة المحتلة. في محافظة الموصل العراقية مثلا والتي تنتج كميات كبيرة من القمح العراقي رفيع النوعية في منطقة الجزيرة أخذت القوات الأمريكية بتوزيع البذور الأمريكية علي الفلاحين وتمت زراعة 320 هكتارا من تنويعات عالية الانتاجية من الحمص والشعير والعدس والقمح، وان هذه التجارب وصلت إلي 30 الف مزارع في السنة الأولي من سنوات الاحتلال. وكانت حصة الأسد في هذه العملية شركة للأبحاث الزراعية في اريزونا وقد وزعت حتي الآن ستة أنواع من البذور في العراق ثلاثة منها معدة لصناعة الخبز وثلاثة أخري معدة لصناعة المعجنات (المعكرونة)، ما يدل ان الأنواع الثلاثة الأخيرة مخططة للتصدير ولا تدخل في النطاق المحلي. وفي حالة العراق ذي الخصوصيات البيئية الفريدة والهشة فيما يتعلق بشدة حساسية التربة من مشكلة التسبيخ العريقة والتي تتحول بموجبها الأراضي الزراعية الخصبة إلي حقول من السباخ (الأراضي ذات الملوحة العالية) في حال تكرار استعمالها سنويا فإن الخطة الاحتلالية لأمركة الزراعة العراقية ستكون ماحقة وسريعة التأثير وستفضي إلي تسبيخ السهول المسقية سيحاً بل وحتي تلك المروية بعليا أي المعتمدة علي الري المطري في مناطق الجزيرة الشمالية..
من الجدير بالذكر أن إبداعات البيئة المحلية العراقية وجدت حلولا معقولة ولا مناص منها أحيانا لمواجهة مشكلة السباخ في طريقة الزراعة الدورية التي تدعي التبوير حيث يعمد الفلاح إلي ترك نصف حقله بورا مهملا لعام كامل ويزرع النصف الآخر ويعمد إلي زرع النصف البور في العام اللاحق ويترك النصف المزروع هذا العام، إضافة إلي استعمال طريقة شق المبازل وغيرها لامتصاص الأملاح المتراكمة في الحقول..
وبالعودة إلي المخطط الأمريكي الذي يجهل واضعوه كل هذه التفاصيل والخصوصيات، فإن تعليم الفلاح العراقي طريقة البذر المجَيَّن ذي الحقوق الفكرية المصانة ستعني استحالة العودة إلي الوراء فالزراعات ـ كما يوضح سميث ـ (تهجنت تلقائيا في الطبيعة والبذور الجديدة تنقل ملوثاتها إلي المزروعات الأخري حيث لا يحق للمزارعين إعادة استخدام البذور الملوثة بدون حيازة حق الملكية الفكرية فيضطرون لشراء بذور جديدة في كل موسم ويرغمون علي شراء المواد الكيميائية الملائمة لهذه البذور إلي ان تنهك الأرض خلال سنوات قليلة، وترغمهم علي شراء بذور اكثر مناعة ومبيدات أكثر فاعلية حيث يفضي بهم الأمر إلي التخلي عن زراعة الأرض نتيجة قلة العائدات في تغطية كلفة المنتوج والمحصول).
والنتيجة ستكون إنزال ضربة قاتلة بمصالح المزارعين الصغار والمتوسطين وتدمير البيئة العراقية كما انها في المقابل ستعود بأرباح خيالية لكبار الملاكين الذين هم الشركات المتعددة الجنسية المحمية بدبابات الاحتلال وطيرانه.
يختم سميث مقالته بالفقرة البليغة التالية والتي لا تحتاج إلي تعليق (تقول الحكومة العراقية الجديدة انها ستستغني عن خدمات القوات المتعددة الجنسية حالما تستطيع حماية الأمن. غير أن الحري بها ان تستغني عن خدمات شركات البذور والمبيدات الأمريكية قبل فوات الأوان وان تعيد بناء البنك الوطني للبذور وحماية الإرث التاريخي العراقي من التلوث والانقراض).
كيف يمكن لأي بديل وطني عراقي أن يواجه الكارثة المحدقة؟ ثمة رزمة من الاقتراحات والتوصيات والإجراءات المهمة التي يمكن التعويل عليها أورد بعضهــا السيد جيريمي سميث ونضيف لها بعضا آخر:
ـ جمع عينات بذور غير ملوثة من المزارعين العراقيين في بناء البنك الوطني للبذور ..
ـ الاستعانة بـCentre for Agricultural Research the Dry Area CARDA الموجود في سورية، حيث يضم عينات من البذور العراقية.
ـ يمكن الاستفادة من Focus on the Global South وهو مركز أبحاث في بانكوك تقول عنه منظمة غير حكومية GRAIN تعني بالتنوع الحيوي ونشر المعارف الزراعية المحلية.
ـ علما بأن هذا المركز يضم إرثا زراعيا يعود للمزارعين العراقيين وان هذا الإرث ينبغي ان يعود إلي بلده الأصلي.
ـ مبادرة الزراعيين العراقيين والمتخصصين في ميدان البذور والزراعات السقوية إلي عقد مؤتمرات علمية وجمع ومناقشة خبراتهم الغنيــة في هذا الصدد.
ـ القيام بحملات إعلامية واسعة النطاق لتنوير الرأي العراقي العام شديد الحساسية إزاء موضوع الزراعة وشرح مخاطر المخططات الأمريكية في هذا الصدد..
ـ تحريض الفلاحـــين العراقيين علي مقاطعة التعامل مع الشركات الأمريكية المنتجة للبذور المعدلة وراثيا وتبيان مخاطر هذا التعامل عليهم وعلي أراضيهم.
ـ الاستفادة من أنظمة حماية الحقوق الفكرية وتسجيل جميع أنواع البذور العراقية بأسمائها وصفاتها ضمن مسعي واسع النطاق لتكون مشمولة بهذه الأنظمة وتكون هذه الحقوق ملكا للشعب العراقي.

ہ كاتب من العراق يقيم في جنيف