الموضوع: اخــترت لـك
عرض المشاركة وحيدة
  #79  
قديم 30/03/2004, 10:04 AM
صورة عضوية صقر الخالدية
صقر الخالدية صقر الخالدية غير متواجد حالياً
عضو متميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 06/09/2000
الإقامة: مسقط
المشاركات: 3,253
ببغاوات تبحث عن مؤلف
2004/02/14


خيري منصور


اول ما خطر ببالي عندما نعت بريطانيا الصغري ببغائها العظمي، او المس تشارلي، التي عاشت اكثر من صاحبها بعقود، هو ما تردده الببغاء من عبارات انتهت صلاحيتها السياسية منذ الحرب العالمية الثانية، والمس تشارلي هي ببغاء ونستون تشرتشل، التي لم تكن طوال تلك العقود التي اعقبت رحيله مجرد يتيمة، فهي اقرب الي الأرملة، ولا بد انها كانت تهذي في لحظات الاحتضار الطويلة التي تليق بالببغاوات المعمرة في الامبراطوريات غير المعمّرة بكلمات تهجو هتلر، وتنذر النازية بالسقوط، ولعلها ايضا رددت في لحظة ما عبارة تشرشل الشهيرة وهي (بترلة) الاسطول البريطاني، والكلمة مشتقة من البترول.
واذا كان روائي الماني هو غراس قد كرّس نصا للبحث عن كلاب الفوهرر المدللة، والمصير الذي انتهت اليه بعد أفول الرايخ، فان ببغاء تشرشل او ارملته ذات الاجنحة ما تزال تبحث عن روائي من طراز داريل او اورويل او حتي غرين ليكتب حكايتها.
والتداعيات التي يثيرها نعي ببغاء انجلوساكسونية تجاوز عمرها القرن لا حدود لها، منها مثلا تلك الأوصاف النادرة، المفعمة بالرثاء الممزوج بالهجاء التي قدمها ماركيز في خريف الباتريارك، جيف ومومياوات، وهياكل عظمية، لأبقار وغزلان ونسور، وروائح عريقة، تلاشت مصادرها لكنها بقيت مبثوية في الهواء الفاسد داخل الغرف الموصدة في القصر المهجور!
أذكر ان الراوي، تساءل في خريف الباتريارك عن اعشاش غربان السلطة، وهو يملأ عينيه بالمرمر والرخام، والقفازات الحريرية البيضاء لخدم بالغي التهذيب، وذلك كله وسط روائح حريفة لقهوة طازجة وعطور برية تنبعث من عدة زوايا في المكان!
وتذكّرنا ببغاء تشرشل او أرملته المجنّحة بالكلب هول الذي طالما امتدحه اللورد راسل في ثلاثينات القرن الماضي، لأنه *** مدرب علي عض الثوار المصريين.
وقد يكون مدربا ايضا علي شم روائح نوايا الناس، فهو *** مسيّس، وله رتبة كولونيل، وقد يؤدي له الجنود او الضباط الانكليز من الرتب الادني التحية، وقد يرد عليها، لأنه كان يرتدي سترة عسكرية، ويمشي الخيلاء مثل صاحبه، ومن معه من الجنرالات!
لقد رحل الكلب هول ، مثلما نفقت كلاب الفوهرر، وتحوّلت الحيوانات والنسور المدللة للباتريارك الي جيف ناشفة بلا تحنيط في ممرات الرخام، وهذا ما حدث لمس تشارلي ببغاء الرئيس، الذي لا بد انه جعلها تدمن رائحة السيجار الكوبي الذي لم يكن يفارق شفتيه حتي وهو يداعب ببغاءه!
واذا كانت الوثائق السرية حسب التقاليد الدبلوماسية يمكن الافراح عنها في المتحف البريطاني او أطلال وزارة المستعمرات بعد ثلاثين سنة، فان اكثر من سبعين سنة تكفي لكي تستجوب الببغاء، فلعلها تعرف عن اسرار الحرب العالمية الثانية اكثر من جنرالات، لكن المشكلة هي ان الببغـاء حين تسمع ســـؤالا، تكرره، فهي تــــــردد الكـلام فقــــــط، ومن يدري لعلها كانت تعرف موعد نهاية الحرب الكونية الثانية اكثر من اقرب القـــــادة الي تشـــــــرشل، الذي سأله سائقـــــه ذات يوم ... متـــــي ستنتهي هذه الحـرب يا سيدي؟ فأجابه تشرشل: عندما تعرف ارجوك ان لا تتردد في ابلاغي بذلك الموعد!
ان طيور وحيوانات وزواحف الزعماء لها من المزايا ما لم ينعم به المقربون، فلا بد ان كلاب الفوهرر عاشت حياة أكثر سعادة واطمئنانا من غوبلز نفسه، مثلما عاش الكلب هول في مصر حياة اكرم من حياة من تعاونوا مع الاحتلال او حتي من كانوا من ضباط الاحتلال.
وثمة مشهد اقترن بسقوط بغداد في تلك الظهيرة الربيعية غير الخضراء، عندما شاهد الناس علي الشاشة مهرا عربيا رشيقا تائها كاليتيم بين السيارات، هو من خيول عدّي ابن الرئيس التي كانت تعيش حياة كريمة في مزرعته، ولأن فضولنا نحن العرب داجن، ومقتصر علي العناوين السياسية الكبري، فما من مقالة او تعليق كتب عن ذلك المهر.. الذي قد يكون انتهي الي حصان كسير، يجر عربة كاز في بغداد، او يحرث حقلا رغم انه لم يعرف مثل هذه المهنة من قبل!
لقد خشيت شاعرة ذات شأن هي ايديث سيتويل علي مصير قطتها المدللة لحظة الاحتضار اكثر مما خشيت علي نفسها من الموت، ويروي انها عندما جاء القس لتعترف امامه في لحظات الوداع، اغمضت عينيها وافتعلت النوم او الغيبوبة، لتفاجأ بأن القس مدّ يده واخذ حصة القطة من الحليب! واخذ يلعقه ببطء وثقة! مما دفعها الي طرده ورفض مواصلة الطقس الاعترافي، دفاعا عن القطط التي احبّتها!

ہہہ

ولأن الشيء بالشيء يذكر، والببغاء تذكر ببنات جنسها، فقد روي اندريه مالرو في اللامذكرات، حكاية طريفة عن ببغاء العائلة وكان اسمه كازيمير ، حصل عليه جد مالرو من سيرك اقيم في قريته، ثم لقّنه جملة واحدة كان يكررها كلما مر به الصبّي المتمرد اندريه... العبارة تقول: افعل ما ينبغي عليك .....
وذات يوم ارتكب الطفل اندريه مالرو خطأ عاقبته عليه العائلة، مما حفّز الببغاء الي الالحاح في تكرار تلك الموعظة ... افعل ما ينبغي عليك، وعندما ضاق الطفل المتمرد بتلك الببغاء التي وصفها بأنها شمطاء ثرثارة أحضر لها باقة من البقدونس، لأنه سمع من بعض اصحابه ان الببغاء تموت علي الفور اذا اكلت البقدونس، لكن حظ الطفل كان سيئا، فبعد ان القمها البقدونس كله، تحسنت صحتها، وازدادت عافية وثرثرة، ولعلها الببغاء الوحيدة في التاريخ التي شذّت عن القاعدة، وحوّلت اسباب الموت الي اسباب عافية، بالطبع تعلم اندريه مالرو من الببغاء كازيمير اكثر مما تعلّم من الموسوعيين الفرنسيين، او حتي جان جاك روسو، وعاش حياة علي الحافة من كل شيء، وأدمن المغامرة حتي المجازفة لكنه لم يمت كما ينبغي له ان يموت، وانتهي علي فراشه مشلولا، وان كانت الببغاء كازيمير لم تعمر مثل المس تشارلي ببغاء تشرشل، لأنها لو عاشت مئة عام، فلا ترددت في ترديد عبارات بعينها علي مسمع العجوز مالرو!

ہہہ

في ادبياتنا الشعبية، خصوصا تلك التي تتغذي من الفروسية، يطــــيب للراوي ان يقتل حصان او فرس الفارس بعد رحيله، لأنها تأبي ان يمتطيها رجل آخـر، وقد تذهب بعض الحكايات بعيدا، فتصور الفرس ارملة، تصهل طوال الوقت بعينين دامعتين، وهي تفتش عن فارسها!
لكن الببغاوات والكلاب والقطط ليست افراسا، والبعض منها يقترن اسمه بالخيانة، لأنه يدين فقط لمن يعلفه ويؤويه ويداعب فروته.
لم يقل لنا احد اين وكيف عاشت الببغاء تشارلي طوال تلك الاعوام بعد رحيل صاحبها وبقي مصير الكلب هول الذي عشقه اللورد رسل في مصر غامضا، تماما كمصير كلاب الفوهرر التي لم تكن معه وبصحبة طبيبه د . مايلر وعشيقته ايفا براون في الملجأ الذي شهد المصير التراجيدي.
ولا أظن ان الدعوة الي رحمة عزيز ذلك تشمل الحيوان او الطير، لأنها لا تشمل الناس انفسهم احيانا!
وقد يبدو افراغ الطاقة في تأمل مساحات صغيرة وهوامش صغري كهذه من قبيل البطر الثقافي، وذلك لأن بعض الثقافات في عالمنا ابتليت ونكبت بمن ضيّقوا الخناق عليها، وجعلوها حكرا علي العناوين، والكليات، لهذا فهي ثقافات يأسرها التجريد بمعناه السلبي، لا الموسيقي، فهي تمجّد الصنف او النوع لكنها تزدري الفرد المنتسب الي هذا الصنف، ولو شئنا ترجمة هذا الكلام العام الي ما هو محسوس ويومي، فلنتأمل خطاب ثقافتنا الذي يعلي من شأن العرب كقوم، لكنه ينكّل بالعربي، ويزدهي بالشّعر ويزعم انه صاحب ديوانه الأبدي، لكنه يصلب الشعراء ويتفنن في تعذيبهم، وانكارهم!

ہہہ

بين الببغاء تشارلي التي عاشت في كنف ونستون تشرشل وبين الببغاء كازيمير التي ادمنت البقدونس، ما بين سياسي محترف ومثقف وجودي، فونستون تشرشل رغم شغفه بالثقافة في بعدها القومي كاعتزازه ذات يوم بأنه من بلاد شكسبير، لم يكن مثقفا بالمعني التاريخي الدقيق، ورغم انه رسم العديد من اللوحات الا انه لم يندرج في قائمة الرسامين المهمين في اوروبا.
بعكس اندريه مالرو الذي فشل في ان يكون مجرد ظل للجنرال ديغول، كما فشل في أن يجعل دوره في الهند الصينية، او في الحرب الاهلية الاسبانية أهم من رواياته مثل الطريق الملكي، وقدر الانسان، واشجار الجوز في التنبورغ.
وكأن الببغاوات ايضا لها اقدار، تستمدها رغما عنها من اصحابها الذين عاشت معهم، فلو عمّرت ببغاء عائلة مالرو حتي اصبح الصبي كاتبا فاعلا في فرنسا، لرددت عبارات عدمية، واخري وجودية، من فرط ما تسمع من المؤلف المهجوس بأبطال عصرنا، هؤلاء الضائعون التائهون بين جحيمين.
وقد لا يكون ابطال روائي ما ينطقون باسمه لأنهم ليسوا ابواقا للمؤلف، لكن ما قاله ابطال مالرو عن المثقف العظيم في احدي رواياته، لا بد انه ترديد لما كان يدور في رأس المؤلف، وهو ان المثقف العظيم هو الذي يعتني بالفروق لكي يبعثا.
ومن يدري، لعل بعض شخصيات الروايات، هم ببغاوات ايضا، علفوا بالبقدونس ليموتوا لكنهم اخرجوا ألسنتهم للمؤلف، وسمنوا من السم بدلا من ان يموتوا به!
0

المصدر جريدة القدس العربى