المساعد الشخصي الرقمي

عرض الإصدار الكامل : أمريكا والروح الفاوستية


البسيوي
09/05/2004, 03:26 PM
-أمريــكا والعقد الشيطاني

أليس من حقنا –كخاسرين- أن نحلل الظواهر المنحرفة في التاريخ البشري وأن لانقف بها عند حدها الظاهر المعلوم، أليس من واجبنا أن نقرأ الآخر -بالنهج الذي نريد- بعد أن أشبعنا هو قراءة ووضعنا تحت مجهر عينه الزرقاء وعقله الباهت منذ عقود... والآن، من يرشق الرعـب البدائي على شاشاتنا دون خجل ؟ من يُحيي المتحجر فينا ليُعيد الإنسان إلى بداياته المتوحشة ؟ من يحترف صناعة الموت ليجعل من الحروب وجودا ومن الدمار فرجة ؟ ؟
في كتابه – سقوط الحضارة الغربية- وفي تحليله لفترات الردة في التاريخ البشري قال "إ.اشبنغلر"
-إن ما حدث يندرج في باب السير وليس في باب الصيرورة، إنه يُدرج في باب المتحجر... وهو ينتمي دون شك إلى الماضي حيث تكمن ينابيع رعبنا من العالم– (1)

وفي الأسطورة تكمن الينابيع الأولى الأكثر عمقا للنزوع الإنساني ،تلك الينابيع الحرّة أو المتطلعة إلى التحرّر-ينابيع لازمانية- تجلب الماضي إلى الحاضر ،وترشق الحاضر على شاشة المستقبل،فينجلي الإنسان في أبعاده الكائنة والممكنة ... وإذا سلمنا بفرضية منطقية تصل المقدمات بالنتائج، نجد أن صلة المنشإ بين شخصية فاوست والشخصية الأمريكية تصلح أن تكون مدخلا لمقاربة أنتروبولوجية حديثة للإنسان الغربي ومن خلاله حضارة الغرب في مرحلتي تطورها: -الأوروبية الأولى أوالأمريكية الثانية- وفي تعاقد فاوست مع الشيطان -في الأسطورة أو في الأعمال الفنية- وعي بمصير قادم، مصير إمحاء الروح الإنسانية، التي ظلت إلى زمن قريب تصارع الروح الشيطانية تلك التي تجمع بين القوة والفراغ : قوة ظاهرة وفراغ باطن، روح "خذروفية" تتأسس على دوام الحركة الدائرية المدمرة ولا تتوازن إلا باستمرارها...

ومن عجيب المفارقات أن سيرة ".فاوست" في التاريخ أو في الأدب ،تحيل بشكل مباشرعلى سيرة أمريكا الحديثة سواء – في انبعاثها الجديد– على يد الغربيين ، كقارة مكتشفة وما رافقها من حروب إستيطانية أبادت السكان المحليين أو فيما تلا ذلك من حروب التحرير، وولادة الولايات المتحدة التي تجمعت فيها ملامح القوة الجديدة الفاعلة في مصير الكون الحديث.

ففي كتاب "جوهان سبيس" طبعة فرانكفورت -1587- محاولة جادة للبحث في الأصل التاريخي الواقعي لشخصية فاوست ،فيه نجد الملامح الأولى لشخص غريب الأطوار إسمه الكامل "جورجيوس جوهان فاوستوس" ولد حسب السجلات البلدية في مدينة 'ويتمبرغ' بألمانيا سنة 1480 (قبل سنوات قليلة من ولادة أمريكا الغربية على يد المستكشف كولمبس سنة 1492) ثم أتهم بالفجور وأُطرد من مدينة "ويتمبرغ" حرصا على النظام العام " لأنه يعتبر نفسه نصف إلاه، وهو في الحقيقة ليس سوى متبجح معتوه...يدعي أنه يمارس في آن واحد الطب وقراءة الكف ومناجاة الأرواح ويعرف نفسه أنه فيلسوف وأستاذ.." (2)
وسعى الباحث إلى تجميع الملامح العامة لهذه الشخصية: " الجامعة بين الخدع الغليظة والمآثر اللطيفة في وجه مرح ولسان لبق..." شخصية تعادي الإستقرار وتكره الحدود "محبوبة عند الشعب ومحتقرة عند المثقفين " جابت أرجاء أوروبا ولعنتها الكنيسة ثم في آخر حياتها تحُصل على "حماية كنيسة كولونيا"...
وبالنظر في تاريخ الإحتلال الغربي لأمريكا، نجد أن الروح الأولى لأمريكا الغرب نُسجت من إلتقاء بين المغامرة والتمرد،فالأوائل الذين حطوا رحالهم في الأرض الجديدة (لعنتهم الكنيسة وطاردهم القانون ) وهم –في معظمهم- من المعدمين والمغامرين والمحكومين الفارين من أحكام وجرائم ... شنوا حروبا إستيطانية أولى مع السكان الأصليين ثم تمردوا على أصولهم الغربية وشنوا حربين كبيرتين الأولى "حرب التحرير" ضد بريطانيا التي أدت إلى ولادة الولايات المتحدة،والثانية مشاركتهم الناجعة في الحرب العالمية ضد نزعتين قوميتين أوروبيتين :

فاشية إيطاليا ونازية ألمانيا، ومن خلال الحركتين تأكدت الروح الجديدة: نزعة الإستقلال وإعادة الشباب في الأولى، ونزعة الريادة والتسلط في الثانية، وما رافقهما من تواطيء بين الإغتراب والمعرفة من جانب وبين المعرفة والشيطان من جانب آخر، تجسد هذا التواطِؤ في حركة غير مسبوقة في –جرأتها وتصميمها-تمثلت في تطويرالذرة ثم، في إلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناغازاكي...و(ذاك ما حصل في تطور شخصية د.فاوست في تمردها الأول وقطعها مع الجذور القديمة وتعاقدها الأول مع الشيطان لأستعادة الشباب، ثم في تعاقدها الثاني من أجل المعرفة التي قادت إلى المتعة والتسلط...) و الروح الأمريكية الجديدة توجهها إرادتان :

إرادة القطع مع الماضي و إرادة الرسوخ في الحاضر عبر الحركة والسلطة والإمتداد...والحركتان لاتتأسسان على المبدإ بقدر ما تتأسسان على المصلحة، لأن الخليط الإتني لايستجيب في تركيبته إلا للمنظور القريب والواضح ففي إحصائيات عام 1990 نجد أن الولايات المتحدة تتكون من ثلاثة أصول: أوروبية وإفريقية وآسيوية، تتوزع على خمسة فروع تختلف في نسبها لتكون الغلبة للعنصر الأوروبي بفروعه المختلفة: الإنجليزية %29 ،ألمانية %23 ،إسبانية %9 ثم الزنوج %29 والآسيويين 3% .

أشرنا في البداية إلى الحركة "الخذروفية" التي تشد هذا الخليط الإتني ،لأن الخذروف يتوازن في السرعة ويختل في البطء، ونعتقد أن الإنشداد إلى الحاضر في مقابل القطع مع الماضي هو ما يفصل الآن بين تصورين إنبثقا معا ثم تقاطعا،التصور الغربي للوجود من خلال العقلية الكانطية والمنهج الديكارتي وما خالطهما من مثالية أخلاقية من جهة، وبين جدل هيجلي وتظخم نيتشوي- من جهة ثانية- تنشدّ فيهما الروح إلى الأقاصي،وتفتح سبل المغامرة والمقامرة من أجل إرادة حرة تحطم كل القيود في سبيل تجاوز ممكن ومجهول ،ويبدو أن أمريكا هي تجسيد للممكن المجهول من حيث الجمع بين المطلق والمحدود أو بين العبقرية والإنحراف...

ومن هذه الأبعاد المتحررة تطورت أسطورة فاوست تطورا تراجيديا يجمع بين الأقاصي فأضفى عليها"مالرو" في القرن السادس عشر نزعة ألوهية فيها تمثُل لأحلام عصر النهضة :"فهو بطل من الشعب ،يبحث عن الحلم والحرية ،مضارب في التجارة ،يتخذ أجنحة نسر...يتمنى أن يصبح إلاها ثم يكتفي بأن يصبح شيطانا ثم في النهاية يتحول إلى وحش...هبط إلى الجحيم ثم صعد إلى النجوم..." و في القرن التاسع عشر، إستطاع "غوته" بحسه الخلاق وبشاعريته الفذة أن يعبر من خلال شخصية فاوست عن الروح الكامنة في حضارة الغرب من خلال ثلاث مراحل تبدأ من اليأس والتغلب عليه،وتنتقل إلى الحوار مع الشيطان والإنضمام إليه، وتنتهي بالتعايش معه،وتنبني التراجيديا على رسم " الطريق الوعرة لرجل حرّ...من خلال المغامرة بكل شيء – بالروح- في سبيل المعرفة.ورغم تعاقده مع الشيطان ينال المغفرة الإلاهية جزاء طموحه..."إذ تنتهي المسرحية بالتأكيد التالي:"إن من يسعى جهده من أجل تحقيق طموحه يمكننا أن نضمن له الخلاص" (3)

وفي مجمل المقاربات الفنية لشخصية فاوست إلتقاء بين العظمة والتهور في شخصية عبقرية منذورة للشرّتنطلق من إقرار مفاده : "أن لدى الإنسان من الرغبات ما يعجز الله والشيطان عن تلبيتها"

وفي فلسفة التاريخ يتحدث –إشبنغلر- عن الإنسان الفاوستي الذي ينتقل من القلق إلى رؤية فردية عميقة، تدفعه إلى نمو ذاتي من خلال غزو المسافات المادية والروحية،فتنتقل الأنا من الضياع في اللانهائي إلى السيطرة المطلقة ،ويؤكد بوجه خاص على "الإحساس بالتوحد والعزلة ،لأن العزلة هي موطن النفس الفاوستية" ويرى "أن النفس الفاوستية تبحث عن الخلود وتترقبه أن يتّبع نهاية الجسد،والخلود في نظرها هو نوع من زواج يشدّها إلى الفراغ اللامتناهي..."(4)

وعندما إحتقر "نيتشة" أخلاق العبيد،وعندما رسم "هيجل" أبعاد الدوائر المغلقة في التاريخ كان لابدّ من مجيء "فوكوياما" بتفاؤله الساذج ليشدّ الحبل حول رقبة التاريخ ليعلن نهايته السعيدة على يد النظام العالمي الجديد،حيث تستبد السعادة بالأفراد فينعمون "بالنعيم المتطاول" بعبارة أبي العلاء ...

-هل يمكن أن يوجد الله وأمريكا معا ؟:

سؤال *** لكنه حقيقي،نتجنبه لكنه قطب الرحى في جراح وعينا...
ولحظة تكون الأجوبة مكرورة بلهاء تتقد الأسئلة،كيفما كانت، عساها ترجّ الوعي المرتبك والمرجوج والمدخول برياح شتى،رياح الـَسموم من ُسموم العولمة...وحينما تتغلب وقاحة الحياة على جرأة الفن، يُلجم المبدع خياله ليرد جماحه إلى الأسفل، إلى غرائبية الحياة التي تتجاوز كل غرائبية فيبدع من توصيف الواقع ومن لمّ شعْثه ما يتجاوز كل تخييل...

ففي رواية " مرافيء الجليد" إنتهى النص بالأسئلة التالية وبتاريخ كتابته 1998تحت عنوان "ماقبل النهاية":

–إن كانت الأساطير قد توقفت عند أسرار الخلق فإن بعض النصوص تتطلع إلى نهاية لايمكن أن تكون إلا كارثة تدك الكون دكا حيث تعجن الأشياء المتنافرة لتؤول إلى طينها الأول،حين قالت راقية: -لايمكن أن يوجد الله وأمريكا معا- فكر جون وقال: -لايمكن أن تتعايش قوتان في كون واحد- فتحمست راقية وأضافت :
-كان الله يمثل القدر ويبدو أن القدر لايصمد أمام القدرة -؟...
-.....
–عندما قالت راقية :- لايمكن أن يوجد الله وأمريكا معا –

أراد الكاتب أن يهذب قولها لكنه لم يجد صياغة أخرى تحمل وزر المعنى .عندما انفجرت الحرب اختل الكون فترنح الكاتب بين عواطف شتى وقال-"هي ذي العاصفة التي كنت أنوي أن تنتهي بها الرواية". إلا أن الكلام إستعصى، لأن العاصفة عبثت بكل شيء، بالداخل والخارج فتحطمت كل النوافذ وتمزقت كل الأشرعة وغدا الكون صفيرا مرعبا، فكان يكتب نهاية ثم يمزقها ومنذ سنوات وهو يبحث عن صياغة ما، قد تكون في زمن ما،لكنها ليست من زمننا لأن الصفير المرعب يتردد في كل حين ولأن الرعب يُربك القدرة ولآن القدرة تُربك القدر، فلا نهاية لما كان قد انتهى أو لما يبدأ بعــد ؟(5)

نهاية كهذه يمكن أن تُعد من جرأة الفن في أزمنة أخرى، لكنها في زمننا لا تعدو إلا أن تكون توصيفا يلهث خلف واقع كارثي سريع الوقائع، يدمّر كل ممكنات التطلع والحلم ،عند سيادة الروح الفاوستية يتجاوز الواقع الخيال، وتتعرّى نزعة الشرّ مندمجة مع القدرة الفاعلة،لتصبح البشرية مرعوبة مسلوبة : تنظر وتنتظر"صقور أمريكا" الذين إستعاروا"جناح النسر الفاوستي" كما ورد في الأسطورة وانقادوا إلى الشر المحض، فكانت حرب أفغانستان تعرية لتلك النزعة في أوضح خيباتها حيث كان الإنطلاق من القضاء على طالبان ليكون التوقف عند "جزّ لحي" الأفغان وانتهاك البلاد وتشريد العباد... والآن وفي بلاد الرافدين ينشدّ العالم إلى الشاشات، ينتظر فصلا جديدا مرعبا- وقد يكون الأخير- من المسرحية الفاوستية ...

وفي هذا الشرط السليب،ومن هذا الموقع الَمَعيب، لانملك غير تسمية الأشياء بأسمائها في السؤال الواضح الفاضح الجارح : "هل يمكن أن يوجد الله وأمريكا معا"؟

هل تستطيع الخرافة "الفاوستية" المجسدة تدمير كل المخزون الذي جاهدت حضارات في بنائه منذ آلاف السنين ؟ هل يمكن لتلك النزعة مصادرة روح الشرق وتطويع ما بقي من قيم الغرب في سبيل العقد الثاني مع الشيطان ؟
هل يمكن لقيم التاريخ أن تتلاشى بيسر أمام نزوع إنحرافي جديد ؟ ؟

محمد الجابليّ/كاتب وروائي من تونس
خاص لموقع مرايا بسياء

المراجع والهوامش:
1-تدهور الحضارة الغربية ج1ص203 -إسوالد اشبنغلر
2-أسطورة فاوست ص80 -أندريه دابيزيس
3-المصدر السابق ص96/131
4-تدهور الحضارة الغربية ج2ص 346
5 -مرافيء الجليد –ص155/159 -محمد جابليّ